الأحد، 27 ديسمبر 2009

النقود قبل أن تصبح ذكرى

النقود قبل أن تصبح ذكرى

جواتشيم كالكا

· تلح عليَّ طوال الوقت رؤيا غريبة للثروة والنصر والحرية. ومهما أقاومها، فإنني أعجز عن تخليص نفسي من أسر هذا الحلم: إذ أرى نفسي بغتة أسبح في بحر من الذهب.

ليون بلوي، يوميات، 19 يونيو 1902


· ألقِ علي دولارا، ممكن؟ ما إحساسك حين يلقى عليك مليون دولار؟

كارل باركس، رسالة إلى سانتا




ربما لم يكن ببريخت حاجة إلى القول بأن النقود تمنحنا اللذة، ولكن ليست هذه اللذة هي المقصودة هنا ـ ليست اللذة التي تفضي إليها النقود بسبب اشتهائنا للفرص اللامحدودة التي تعد بها. ولكننا سنفكر بالأحرى في شيء أكثر عادية وغموضا، سنفكر في حسية النقود في ذاتها، حسية تلك الأقراص المعدنية الصغيرة أو حسية تلك المستطيلات الورقية ذات الحفيف والخشخشة. هناك فنان، لدى بلزاك، يسعى إلى الزواج من عائلة برجوازية، ولكنه في غفلة يقول إن غاية النقود إنفاقها، فبما أنها مدورة، ينبغي أن تدور. غير أن الأب في تلك العائلة يجيبه في شك بالغ قائلا: "إنها، وإن تكن مدورة لدى المسرفين، مسطحة لدى الاقتصاديين ممن يكدسونها" هذان الموقفان المتناقضان ـ موقف البوهيمي وموقف العقلاني ـ يتلاقيان (ويمتزجان تماما في نهاية الحكاية) من خلال صور تبين اللذة المادية للنقود. فكلاهما يفكران في الأيدي إذ تلتف دونما وعي حول العملات ـ وهو إحساس مادي، ولكن بينهما رجلا يتركها تدور، فيما الآخر يرصها الواحدة فوق الأخرى، في دقة وجشع. أي أن كلا من المسرف والبخيل يشعران بالعملات بين أصابعهما.

موضوع المقطوعة الحرة التالية هو الأثر الأكيد والخفي لهذه الصلة المادية في حياتنا اليومية ـ واختفاؤه التدريجي. والشاغل الأساسي لهذا النص يكمن في تجربة التفطتها واحدة من أفضل قصص كارين بليكسن، إذ يقول فيها مستر كلاي: "قال لهم البحار إن في راحة يده قطعة بخمس جنيهات، وإنه يشعر ثمة بثقل الذهب وبرودته".

قد يحدث في المستقبل القريب أن ينطبق مفهوم بنيامين(1) على النقود، وأقصد مفهومه عن الإحساس الذي يعني في أبسط تعريف له أن تكون لشيء ما قوة وفتنة في لحظة اختفائه. ألسنا نحن المولودين قبل عام 1990 آخر الأجيال التي عرفت النقود حقا، وآخر من توشك ألفتهم بالنقود أن تمثل طبيعة أخرى لهم؟ ولست هنا أعني الاقتصاد النقدي بالعموم ـ فهذا ليس بالآفل قطعا، بل إنه مزدهر على نحو غير مسبوق ويحتفل أمام أعيننا طوال الوقت بأكثر انتصاراته كارثية ـ بل إنني أعني الصلة اليومية الحميمية مع العملة والنقد. لقد ألفنا النقود لوقت طويل بوصفها شيئا ملموسا، فمن الصادم لنا أن نتصور أنها سوف تختفي في سياق نظام نقدي لا مكان فيه للنقود: وأعني النقود (التي سنقول عنها قريبا) كما كنا نعرفها.

استباقا لهذا المستقبل: وخلافا لكل تكرار لعبارة non olet(2)، حدث في وقت ما أن كانت النقود توقع الاشمئزاز في النفس (يقول آرنو شميدت(3): بدون أي ضغينة، اغسل العملات جميعا قبل أن تمسها") بل إن نزلاء بعض الفنادق الراقية يحظون بميزة غسل نقودهم حرفيا أثناء الليل. بوسعك أيضا أن تلعب بها ـ لعبك بالمسبحة، أو تنقرها بإصبعك فتدور حول نفسها فوق منضدة. وكان الآباء يحذرون أبناءهم بأن "الفلوس ليست لعبة" فلا يزيدها ذلك إلا جاذبية لدى الأطفال الذين مارس أغلبهم في مرحلة من المراحل لعبة تعتمد على المهارة، ولكنهم لا يلعبونها فقط من أجل النقود بل باستخدام النقود، وتتمثل تلك اللعبة في إلقاء الأطفال للعملات باتجاه جدار والتنافس فيما بينهم أيهم يقرب عملته أكثر من الجدار. كانت العملة لعبة ومكافأة في الوقت نفسه، وسيكون في وسع ذرياتنا أن يروا أمثلة على ذلك إذ يدرسون أفلامنا القديمة من قبيل فيلم "ابن سينسيناتي" لـ ستيف مكوين وفيلم "زهرة القاهرة الأرجوانية" لـ داني آيلو. وكانت النقود حكما: ملك أم كتابة. وقد تكون النقود أساس إشارات درامية رهيبة، كأن يقوم كلود آكينز بدعوة دين مارتن السكران إلى التقاط دولاره الفضي من وعاء بصاقه في ريو برافو. وفي فيلم "في نهر اللاعودة" تغني مارلن مونرو "يا أيها الدولار الفضي" ... ولكن يحسن بنا التوقف هنا، فالغربيون لديهم شلال من الذكريات المماثلة التي لا شك أنها تذكر القراء أنفسهم بذكريات مماثلة تخصهم.

من بين أكثر العملات شهرة أو أسطورية ـ ابتداء من يهوذا والثلاثين فضة وحتى عملة الدبلون doubloon التي ثبتها أخاب بمسمار على السارية ـ إلى التي يستدعيها في قلق راوي قصة "الزهير" لبورخس، ومن بين أكثر العملات إدهاشا تلك التي فضحت هروب لويس الرابع عشر ، إذ كانت على كل عملة من عملات المملكة صورة للملك منقوشة كأنها إعلان "مطلوب للعدالة"، فيما الملك يحاول الفرار. وفي رجوع مئات آلاف العملات إلى منشأها الفردي شيء ما يبعث على الدوار. هو تأثير مشابه للذي تحدثه تلك المقايضات الغريبة في قصة لستيفنسن(4) عنوانها "عفريت الزجاجة" والتي تحتاج شخصياتها طوال الوقت إلى عملة أصغر تبيع بها الزجاجة الشيطانية، حيث ينبغي لكل من يمتلك الزجاجة أن يبيعها لمن يليه بسعر أقل من الذي اشتراها به، أو قصة مارك توين "الورقة ذات المليون جنيه استرليني" حيث العملة شديدة الضخامة بحيث يستحيل عليك أن تستخدمها، إذ لن يقدر أحد قط أن يعطيك الباقي، ولا يمكن لأحد أن يتوقع الحصول على قدر أكبر من المال من شخص مماثل لك في الثراء. غير أن غموض النقود لا يكمن كثيرا في هذه الحالات المتطرفة بقدر ما يكمن في مجرد وجودها المادي باعتبارها شيئا ملموسا. لقد عرض موظف محل تيري كيلي للرهونات "كراون" (قطعة بخمسة شلنات) ولكن الراهن أصر على ستة شلنات وفي النهاية حصل على الشلنات الستة. وخرج من محل الرهونات جذلا، راصا الشلنات على هيأة اسطوانة صغيرة بين إبهامه وسبابته. ذلك إذن هو الشيء الملموس سريع الزوال كما توضحه "أهل دبلن"(5). ترانا نقترب من "لغز فيتشية(6) النقود" الذي كم طنطن به ماركس؟

التداول بوصفه خطيئة

في الثاني عشر من ابريل عام 1904 كتب ليون بلوي(7) عن مالكة البيت الذي كان يسكن فيه قائلا "تلك الساحرة الشريرة، التي سوف تحين ساعتها الأخيرة قريبا، سوف تترك هذا العالم البائس في طريقها إلى يوم الحساب وسيكون خبز أطفالي الأبرياء لا يزال عالقا بين أسنانها المصفرة". نادرا ما نضحت الكراهية في تعبير مسموم كهذا الذي نجده في كتابات هذا الصوفي الكاثوليكي ابن العهد الجميل(8). أكان ينتمي إليه حقا؟ كلا، ففي مقته الفوضوي للنظام العالمي البرجوازي، نرى نوعا من الكراهية التي نشأت من حياة روحية أليمة. من غيره كان ليجرؤ أن يكتب بعد وقوع حادث إطلاق نار في متجر في باريس في مايو 1897 أسفر عن مصرع عدد من فاعلات الخير الأرستقراطيات:

"عندما طالعت التقارير الأولى التي تناولت تلك الكارثة المرعبة، انتابني إحساس واضح ومبهج بأن ثقلا انزاح عن روحي. بهجة لم ينتقصها إلا قلة عدد القتلى. ومع ذلك قلت لنفسي" أخيرا، أخيرا، أخيرا بدأت العدالة تسود".

إحراق المباني ـ بكل معنى له ـ يبدو لـ بلوي عملا يدويا بديع الصنع. هو الذي كان يسمي نفسه "الشحاذ ناكر المعروف" كتب عن نمط وجوده البرجوازي يقول "وهكذا أذهب للتسول كمن يذهب طالبا الصدقات على أبواب القصور الريفية لا لشيء إلا لكي يعود فيضرم فيها النار من بعد".

قليل من الناس فكروا في النقود بقدر ما فكر فيها بلوي. لقد كان لزاما عليه أن يفكر فيها كل يوم نظرا لأنه وزوجته وأبناءه كانوا في حالة فقر مدقع ودائم وهو ما لا يجعل من يومياته مجرد منصة لأكثر الأفكار إزعاجا، وسجلا لأشد الغضبات استعارا، بل يجعل منها تاريخا للخناقات الجروتسكية مع ملاك البيوت والجزارين. "بتنهدات عميقة نفرغ حصالات أطفالنا الصغيرة". "نقص النقود يسم حياتي إلى حد أن النقود تظل تتضاءل حتى وهي غير موجودة أصلا" علاوة على ذلك، وبجهد تأملي ملموس، استطاع بلوي في نهاية المطاف أن يجعل النقود مركزا للاهوت صوفي غريب بقي دائما موضع شك عميق من الكنيسة. الفكرة المركزية في هذا اللاهوت هي أن النقود ليست إلا أن المسيح صلب. وأن تداول النقود هو استمرار أبدي لمعاناة المسيح على الصليب. فمن كل قطعة عملة ملوثة ـ وكل النقود الممنوحة بلا شرط للفقراء ملعونة ـ يطل وجه المسيح مليئا بالكدمات والبصقات التي أنزلها به الدهماء. (علينا ألا ننسى أن بلوي كان ينظر إلى أوصاف الصوفية الكاثوليك ورؤى آنا كاترينا إيميرتش من دولمن Anna Katharina Emmerich of Dülmen لـ "عذابات سيدنا المسيح يسوع" بوصفها حقائق مطلقة لا يرقى إليها أي شك!) تجتمع في النقود في وقت واحد وفي كل وقت لعنة العالم وخلاصه. فحضور بضع عملات قليلة على طاولة متجر يفتح هاوية آخرها هو قلب الكون. فالنقود ـ التي دائما ما تغتصب من الفقراء ودائما تبعد عنهم ـ هي في حقيقتها المطلقة "معاناة المسيح": هي ذلك العذاب اللامنتهي وذلك الوعد الغامض بالخلاص في الوقت نفسه. وليس من الممكن في هذا المقام إلا الإلماح وحسب إلى عالم بلوي الذهني. ولكن يمكننا القول إنه ندر تماما أن يطور كاتب أشكالا من الفكر ينغمس من خلالها انغماسا في أكثر مظاهر الحياة اليومية بساطة وتفاهة، وينأى من خلالها بنفسه عن الحاضر المعيش بصورة لا مهادنة فيها.

تتناثر في كتابات بلوي ملاحظات ثاقبة بشأن النقود. ولكنه بضربة معلم وضع بحثه اللاهوتي النقدي الصوفي الشامل في آخر موضع قد نتوقعه، إذ وضعه في عمل يقدم عرضا وتحليلا للعالم البوجوازي وما يشيع فيه من ممارسات. حيث يقترب كتابه Exégèse des lieux communs من تكنيك الاقتباس التهكمي عند كارل ماركس. فبلوي يترك لكل أن يتكلم كيف يشاء بلا مقاطعة. وكل ما يفعله هو أنه يجمع الشعارات الكئيبة التي رفعتها الحياة البورجوازية ثم يخضعها لما قد يوصف بالمسخرة الصوفية ـ وإن كان البعض قد يرون الوصف غريبا بالنسبة لتكنيك. يقف بلوي عند أقوال من قبيل "يا لك من شخصية" أو "قلب من ذهب" أو "اللعب بالنار" و"عليك أن تهرب بالجراب" و"المرء لا يموت غير مرة" ثم يقوم بفك شفرة حقائقها الغامضة مستعينا على ذلك باللاهوت، رابطا هذه المعاني ربطا لا هوادة فيه بالكل ـ على أساس أنه لا بد أن تكون لها معان عميقة "شأن كل ما يخرج من البلهاء والأوغاد". أما فئة اللاوعي الاجتماعي فقد كان يمكن أن تغيب عن بلوي، لولا أنه أشار إلى شيء شبيه: هو صدى للحقيقة الترانسندنتالية يتردد كَرْها في خواء اللاوعي البرجوازي. في شبكة تلك العبارات ـ التي لا تكاد توجد لها مرادفات في اللغة الإنجليزية ـ تخيم النقود بظلها الهائل مثلما تخيم على فنتازيا بلوي الغيبية: "الوقت من ذهب"، "احكم على المرء من لون نقوده"، "ضع قليلا من المال على جنب"، "لا تتشامخ بأنفك على المال" وبالفرنسية on ne crache pas sur l’argent أي "لا أحد يبصق على الفلوس". وعن كثرة استخدام حرف الجر "على" onيكتب روي أنه "كلما يفتح بورجوازي فمه، تبدو هذه الـ on وكأنها كيس نقود انحط بقوة على الأرض في غرفة مجاورة لقي شخص للتو مصرعه فيها".

ومرة بعد أخرى، تتسامى لامادية النقود المجردة إلى مستوى الصوفية فيفضي هذا إلى تجسد مباغت وغير مسبوق لها كشيء حسي. ثمة فقرة ضمن تعليق بلوي على عبارة rentrer dans son argent ـ أن يدفن المرء نفسه في نقوده ـ تعني "على نحو مجنون أن على المرء أن يتخيل شيئا كأنه نهر من المال أو محيط منه يمكن للناس أن تسبح فيه في وقت محدد من كل عام. ويتكلمون حينئذ عن موسم المال حديثهم الآن عن موسم تروفيه أو إفيان". وقد يضع القارئ اليوم إلى جانب تلك الصورة صورة أخرى غريبة تماما على بلوي، وإن تكن مرتبطة ارتباطا غريبا وسريا بطريقته في النظر إلى العالم. فمن قد يقول "إنني أفتقد حمامي اليومي، حمامي في الفلوس" إذا لم يقلها العم دهب، أغنى بطة في العالم(9).

التقلب في الذهب

تقدم لنا قصص العم دهب الكارتونية لـ كارل باركس ـ التي حققت نجاحات ساحقة من خلال سلسلة ديزني الكارتونية ـ موسوعة شرعية لارتباط الشهوة والمال. ترتبط شخصية العم دهب ارتباطا واضحا بشخصية البخيل لدى ديكنز ومثيله النمطي topoi في الكوميديا الأوربيا من موليير إلى العصور القديمة، ولكنه يتجاوز كثيرا كل تلك التجسيدات الكلاسيكية للجشع. تحتوي خزانة العم دهب الشهيرة تلالا من العملات، موشاة بأوراق النقد، وفيها يقضي وقته، ويروق له أن يعلن في عبارات مكررة أن له برنامجا شعائريا يفرضه عليه شغفه بالمال: "إنني أغوص فيها كخنزير البحر، وأحفر فيها كالسنجاب، وألقي بها في الهواء تاركا إياها تسقط على جبهتي". يمكن بوضوح أن ندرك أن ثلاثي المسرات النقدية هذا عبارة عن ثلاث حركات يقوم بها أي طفل يلعب: القفز في البحيرة، الحفر تحت الغطاء وإيماءة الفرح الأولى وهي إلقاء العملة عاليا في الهواء. هضبة عم دهب النقدية المثيرة للإعجاب ـ التي كانت خلفية الكثير والكثير من قصص باركس ـ قد تخفي بحجمها الرهيب حقيقة أساسية بالنسبة للعم دهب (الذي كان وسوف يبقى طويلا أغنى بطة في "العالم") وهي أن جميع العملات ذات طبيعة فردية. ذلك الركام الهائل من "الدراهم" (إن نحن استخدمنا تعبير خصوم العم دهب الماجنين من أعضاء العصابة الشهيرة التي لا يهمها من النقود إلا كمها وهو ما ينتهي بهم بموجب قوانين تلك القصص السحرية إلى الحرمان من إتمام أي عملية سطو ناجحة) هو بالنسبة للعم دهب حميمية مركزة، حيث كل قطعة منها مشبعة بالذكريات. كل غطسة في هذه الكومة النقدية معدومة النظير التي يجلس عليها مجادلا أبناء أخيه تكشف عن ذكريات مختلفة: "هذا الدولار الفضي، 1989! أنا حصلت عليه في كلوندايك وهذا الدولار ـ 1882 حصلت عليه في مونتانا". وغالبا ما تتعلق الذكرى بامتناع عظيم: "ياه، ياه، أعرف هذه القطعة بعشرة. تلك هي القطعة التي لم أنفقها في المعرض العالمي سنة 1907" مهمة الذكرى دائما هي أن تضفي فرادة على كل قطعة عملة. فلكل أهميتها الأكيدة. ولو أن كارثة نزلت بثروته، فهي في العادة تنزل على عملة واحدة، ومن هذه على سبيل المثال قطعة بعشرة سنتات ألقاها بطوط في قبعة عمه دهب الذي خرج في الكريسماس ليجرب التسول في إحدى الحدائق، هذه القطعة الصغيرة تلقى في نور الشمس إلى السلة المكدسة بالعملات فتجعل الكم الهائل من العملات يغوص في الهاوية".

بسبب نهمه إلى كل عملة جديدة يقول العم دهب في غضب بالغ وهو يتمرغ على الهضبة دائمة النمو "إنني بحاجة إليها لأجعل الكومة أعمق وأعمق". ففي عالمه الذي لا يعرف إلا الأداء الصامت المحكوم بصرامة للغزل والغيرة، وليس الحب والجنس، يصبح شعوره هذا أقرب ما يكون إلى الفعل الجنسي. في حلقة من حلقات واحدة من القصص الكلاسيكية يذهب العم دهب إلى الطبيب شاكيا أنه ليس بخير. ويتبين من الفحص أن مسامه مسدودة بغبار الذهب. يسأله الطبيب غير مصدق إن كان يتقلب في الذهب. فيرد عم دهب وقد احمر وجهه قائلا إنه لا يريد أن يخوض في هذا الأمر. وكالصدى يتكرر السؤال في نهاية القصة، فيحمر وجه العم العظيم، كمن يوشك انحرافه السري على الانفضاح. والحقيقة أن علاقة العم دهب بالنقود هي في واقع الأمر ـ ومن وجهة نظر علاجية طبية ـ فاسدة من نواح عديدة، فجميع حواسه مشتركة في هذا الارتباط العارم ـ الصورة، الصوت (رنين المال)، والرائحة بصفة خاصة، بل والمذاق (على الأقل حينما يقبل ورقة نقدية) ناهيكم عن اللمس إذ يتقلب في ركام مئات الآلاف من عملاته، التي تبقى لكل منها ـ بصورة عجيبة ـ طبيعة "فردية".

من الطبيعي، أن تفضي هذه الفيتشية لكل قطعة عملة إلى منع تام للتداول. فالعم دهب لن يفلت من يده أي نقود، إذ يبلغ بغض هذا الأمر على نفسه حد أنه حينما يضطر إلى إنفاق بعض المال ـ تجنبا للدخول في شريحة ضريبية أعلى) فإنه يستأجر بطوط ويدفع له أجرا في مقابل قيامه بمهمة إنفاق النقود بدلا منه. هذا التعلق الحسي بالنقود في ذاته يقضي على التبادل، لأن العملة مرغوبة في ذاتها ولا ينافسها في ذلك شيء أي شيء. (في الناحية الأخرى من العالم، يلغي لاهوت الشحاذ ناكر المعروف أي مبدأ للتبادل: فالخلاص يكمن فقط في الصدقات، أي "شيء في مقابل لاشيء").

لقد تم التركيز في أكثر من مناسبة على أن قصص بطوط وعم دهب تدين بالكثير لحياة كارل باركس في بدايتها حين كان يسمها الفقر الشديد وغياب الاستقرار، وكارل باركس هو فنان الجرافيكس الأساسي المسئول عن تصميم عالم البط لدى شركة ديزني. ومن المؤكد أن السيناريو القائم على فقدان الشخصية الرئيسية ـ بطوط ـ لوظائفه بصورة منتظمة، وعجزه الدائم عن سداد النقود التي يقترضها وأيضا ـ كيف ننسى ذلك ـ اضطراره إلى فتح حصالة أبناء أخيه حين يواجه نفقات غير متوقعة ولكنها حتمية، من المؤكد أن في ذلك السيناريو انعكاسا مباشرا بصورة مدهشة لحياة وعالم قراء القصص المصورة في ذلك الوقت. وهكذا تشترك ملحمة البط في مع قصص مصورة هزلية أخرى تناولت حياة البسطاء كقصة مون مولينز(10) لـ ويلارد أكثر مما تشترك مع قصص "الحيوانات الظريفة" المصورة. فالكون المصور هنا بقسوته الجروتسكية هو كون تجري فيه التعاملات المالية بدون استثناء تقريبا في صورة نقدية (وهو ما يتسق مع حياة باركس البسيطة في زمن الأجور المدفوعة نقدا) والمدهش أن هذه التعاملات تتم نقدا كلما كان المبلغ المدفوع أضخم. ففي مدينة البط يوضع النقد دائما على طاولة البيع، ولو كانت عملية الشراء تتعلق بصفقة كبيرة ـ كشراء سيارة أو فندق أو حصان سباق ـ فإن كيسا كاملا من المال يوضع على الطاولة، أو أنك تسمع دبيب رزم النقد. لا معنى في المدينة للمعاملات غير النقدية. وإن ظهرت مثل هذه المعاملات أحيانا، فإن الصك ـ أي الشيك ـ يتحول على الفور إلى شيء ملموس، إلى ورقة نرى حبرها ـ حين يحترق الفندق مثلا ـ وهو يسيل بسبب اندفاع الماء من نظام مقاومة الحريق.

في مثل هذه الحلقات، يصبح الشيك أيضا دعامة الكوميديا، شأنه شأن إيصال الأمانة أو رزمة الأسهم المكتنزة في خزينة لا سبيل إلى فتحها: وتلك جميعا أشياء تتساوى في وظيفتها الميلودرامية مع الأوراق الغامضة في الروايات الفكتورية ـ كالوصايا والرسائل الغرامية، ووثائق الزيجات السرية أو المواليد غير الشرعيين ـ وهي جميعا ليست مجرد وثائق بل محركات غامضة للحدث. ولكن أهميتها في قصص باركس تبقى محدودة. فالمبالغ الضخمة تمثلها العملات، مصورة على هيأة هضبة براقة من العملات التي تبرز منها هنا وهناك أوراق نقدية خضراء كأنها ورقات نبتات الزينة في أطباق المطاعم ـ وهو قياس يمثل في حقيقة الأمر لب حبكة إحدى القصص (كم كانت نبتتي خضراء). وفي مدينة البط تجرى المسابقات على الفوز ببراميل من النقود. وحينما يعبر العم دهب الشارع دافعا أمامه عجلة يدوية مليئة النقود، فالمارة يشعرون بالإثارة أكثر مما يشعرون بالدهشة ("يا له من شخصية! و "انظروا ما الذي هنا! و"أهذا حقيقي؟")

إيماءات ضائعة

ما الذي يفترض أن يعنيه كل هذا؟ أعتقد أنه جزء من الماضي التاريخي للخبرة النقدية مثلما هو جزء من الماضي التاريخي النقدي الشخصي إذ يصبح في بؤرة العدسة الحارقة التي يستخدمها خيال القصص المصورة الجامح. فالإيماءات التي يقوم بها العم دهب ـ بل وسكان مدينة البط كلهم إلى حد ما ـ تمثل أنماطا سلوكية تنتمي إلى ماض قديم (العض على العملة لمعرفة إن كانت مزورة) وثري بذخيرة من ذكريات الطفولة. العملة الكبرى المميزة لدى العم دهب ـ وهي أول قطعة بعشرة في حياته وهي التي تجلب له الحظ ـ هي شيء ما شبيه بذكرى ثابتة، ذكرى جاذبية عجيبة تمثلها النقود لكل طفل حتى قبل أن يعرف ما النقود. هذه القطعة بعشرة هي الشيء الملموس المركزي في مجموعة دهب، وتبرز قواها السحرية من خلال محاولات الساحرة الشريرة طوال الوقت أن تحصل عليها. ولكن هذه القوى السحرية لم تتأت لتلك العملة إلا لأنها لولاها لما كانت مميزة بشيء، إذ هناك معروضات أخرى مثل "دولاري الأول" أو "مليوني الأول" وهي جميعا لا تتسم بتلك القوى. ولعل فقرة من "حكايات من أيام التلمذة" لماتشادو دي أسيس Machado de Assis أن تلقي الضوء على هذه القوة السحرية:

بحرص، أخرج (العملة الفضية) وأراني إياها من على البعد. كانت من أيام الملك، لعلها قطعة باثني عشر فينتنز vinténs أو ربما باثني توستوس tostões، لا أذكر بالضبط، ومع ذلك كانت عملة، وعملة جعلت قلبي يشرع في الدق بضراوة ... وددت أن أحتفظ بها في بيتي، مخبرا أمي بأنني عثرت عليها في الشارع. كنت أتحسسها طوال الوقت خشية أن تضيع، متلمسا بأصابعي سطحها المنقوش، موشكا أن أقرأ الكتابة عليها باللمس وحده، وكنت أتحرق شوقا إلى النظر إليها".

في عالم البط الوهمي المثالي الموازي والمناقض، يبدو أن حسية إيماءات الحياة اليومية وأساطير الطفولة تجتمع كلها تحت مظلة النقود. هي جميعا مرتبطة بطبيعة الحال بشخصية العم دهب الخرافية، ولكن بموازاة تلك الثورة الخيالية، ثمة أيضا الطرف الآخر والملفت للوجود المالي الواضح: ضيق ذات اليد الأبدي الذي يعانيه بطوط ("عم بطوط، هل لديك أية عملات نادرة؟" "أي عملة أحصل عليها أيها الأطفال هي عملة نادرة") الوفرة والندرة تظهران جنبا إلى جنب في هذه القصص. تندفع النقود قرب آذان الناس، تسيل على المنحدرات، تهطل من السماء، تختفي في المجاري، تختفي وتوجد، تتجمد وتذوب. صلصلة النقود على الطاولة، وميض عملة يخطفها طائر أو يدهسها قطار (مثلما حدث لبنسات أحد الأطفال حينما زرعت قرب شريط قطار في مخالفة واضحة للقانون)، قطعة بعشرة يبتلعها طفل صغير، ورقة نقد يقرضها فأر ـ نحن في عالم خبرتنا فيه بالنقود حسية تماما ومثيرة لشتى أنواع الأساطير والشائعات. فبعد كل ضربة حظ أو نجاح كبير نجد عائلة البط ـ بسذاجة محببة ـ تقوم بتقبيل عملة أو ورقة نقدية تأتي ببساطة أو حتى بمشقة (وإذا بقلوب حمراء صغيرة ومكتنزة تطير حول هذه اللمسة من الشفتين للورقة). مثل هذا الحماس لا يبديه الظافر المبتهج كرد فعل على القيمة النقدية، بل على حجم مغامرته مع هذه القطعة النقدية تحديدا، تلك الوحدة الخاصة من العملة.

هل من المنطقي تعليقُ جزئي هذه المقالة الغريبين جنبا إلى جنب؟ ربما يكون ثمة منطق. لقد قام كل من بلوي وباركس ـ فيما رأيي ـ بأكبر تخريب يشهده عالم الأدب للتبادل المجرد المتجسد في النقود. فبالنسبة لبلوي، كان كل دفع نقدي يظهر بمثابة فضيحة ميتافيزيقية مدوية، أو لغز كوني وحشي: فالمسيح يشعر بكل عملية شراء وكأنها لكمة في أنفه. أما لدى باركس، فأطنان الحواديت ـ ولا مغالاة في هذا ـ جعلت من استعراض العملات النقدية شيئا فيتشيا: إذ يعرف العم دهب كل عملة معرفة شخصية. ولئن تصورنا ـ بنوع من التجديف ـ خطا ممتدا بين هذين الموقفين المتطرفين، لوجدنا أنهما يتقاطعان في نقطة محيرة تبدو عندها كل معاملة مالية شيئا فريدا وخاصا وغير قابل للتكرار. قد يبدو هذا أمرا تافها، ولكنه في حقيقته أمر خارق. إذ إن وجودنا الاقتصادي كله قائم على المساواة بين جميع أفعال التبادل، بحيث توضع جميعها في زي موحد يضيع فيه تفرد كل شيء. أما بقية خصوصية النقود (كمزق في ورقة نقدية، أو كقطعة بخمسين نادرة ندرة لا مثيل لها بما عليها من أثر النعناع فلا يتكلم الأطفال عنها إلا همسا) التي كانت ذات يوم تترك مساحة عبثية ضئيلة للتأمل تظهر فيها هذه المساواة غائمة أو موضع تشكك ... هذه المساحة الآن سوف تنغلق.

ربما لا يزال بوسعكم مقارنة عملة بالقمر ـ وطالما فعل الشعراء هذا في أيام غابرة. العملة نفسها تبقى من بين الأشياء القليلة التي ندركها باستمرار من حولنا والتي تربط ـ عبر عادات وفنتازيات قديمة ومستقرة ـ بيننا في هذه الألفية وبين القرون الوسطى شأنها شأن الخبز والنبيذ، والحذاء، والسكين، والكلب، والقمر أيضا في واقع الأمر. لم يعد الشعر اليوم هو الطعام اليومي لكل الناس، وربما لا يتغير الأمر كثيرا إذا لم تعد الاستعارات المرتبطة بالعملات ـ في المستقبل القريب ـ توجهنا مباشرة إلى حياتنا اليومية بل إلى المتاحف التي تتدلى من جدرانها القيثارات والسيوف. ومع ذلك فهناك نوع من الشعر تزل به ألسننا في لاوعي تصرفاتنا اليومية. الذي سيتغير هو الإيماءات الصغيرة، خبرات التواصل العادية مع الآخر. وبوسع كل شخص أن يصف قائمته الصغيرة الخاصة. فلم يعد يشبعك وضع مبلغ من المال معدود بدقة على طاولة البيع وتلقي كلمات شكر من البائع. لم تعد تحصل على الباقي في راحة يدك. ولن يحدث أن تجد في جيبك قطعا من عملة أجنبية. وقديما كان المارة يسألون عن عملات صغيرة يتكلمون بها في الهواتف العمومية: ولعل هذا التفاعل الصغير للغاية كان أول ضحية لحقبة بطاقة الائتمان.

ستكون النتيجة شيئا تافها لكنه بالغ الأهمية: بعض الإيماءات لن يعود لها وجود . بوسعك أن تلقي مالا اقترضته من دائن وقح عند قدميه نقدا، ولكن لا يمكن أن تبدي هذا النوع من الاستخفاف وأنت ترد الدين من خلال التحويل المصرفي الإلكتروني. لا شك أن إيماءات لا حصر لها قد اختفت على مدار التاريخ، ولكن كانت غيرها في أغلب الحالات تحل بدلا منها ـ ربما هناك قدر أقل من "الحركات اليديوية الدالة" على رصيف القطار منها على رصيف الميناء، ولكن هناك على الأقل شيئا منها. ما الذي سيحل محل هذا المخزون الهائل من الإيماءات المتعلقة بالعملات والأوراق النقدية؟ قد يكون بوسعك أن تغازل مستخدما البطاقة الائتمانية كأداة وعد، أن تظهر النسخة البلاتينية وأنت تدفع في المطعم، ولكنها ليست إيماءة أصيلة بل هي مجرد اشتقاق، يمكنك أن تفعله أيضا ـ وبصورة أفضل ـ بورقة نقدية كبيرة جديدة أو بحافظة نقود متخمة (أو أنيقة في نحولها). لا يمكنني أن أتذكر إلا إيماءة وحيدة مميزة (أعتقد أنها تنتمي إلى أيام البطاقات الائتمانية الأولى وبالذات في الولايات المتحدة)، ولكنها إيماءة تنطوي على حماقة بائسة وسخرية من الذات لا سبيل لمداواتها: تقوم هذه الإيماءة على إسقاط كيس مليء بعشرة أو عشرين بطاقة ائتمانية مع القول "كلها عندي". وهناك، أيضا، إيماءة أخرى: إيماءة قلة الحيلة ومواجهة هوة العبث حين تصادر آلة الصرف الآلي بطاقة مفلسة. هذه إيماءة تقف بين زمنين: فمن ناحية هناك آلة النقد التي تأتي بطلب من البطاقة بتلك الأوراق النقدية البائدة. أنت تريد أن تضم أصابعك النقود، وبدلا من ذلك لا يأتي شيء. هذه الاستجابة الصامتة في منتهى القوة. (الاختفاء غير المتوقع للبطاقات أو التذاكر في تلك الآلات يجعل الناس فيما يبدو تجرب مكالمة الأجهزة نفسها). ومع ذلك فهذا المشهد يقف وحديدا بلا أنيس، فالبطاقة الائتمانية ليست بالشيء الذي يستنفر الإيماءات.

أتصور أن تلك الخطوة ـ التي تخطوها الرأسمالية الراسخة ـ نحو تجريد التبادل والقضاء العابث على كل أشكال مادية النقود سوف تيسر علينا أن نرى ما كان يعرف بال فربلندونجسزوسامنهانج Verblendungszusammenhang أو الوهم الكوني الأعمى الناشئ عن الاغتراب. كما ينطوي المزيد من التجريد المتطرف للنقود على سر آخر، هو سر اللغز الحقيقي للنقود، الذي سوف يزعم الناس أنهم اكتشفوه. وهذا من نافلة القول. ولكن الاختفاء الصغير للغز العملة ينطوي على مفارقة خاصة، أساسها التضافر بين الحسي والمجرد ـ دوام غزوات اللذة الصغيرة الحمقاء، والسحرية أيضا، في مجرى التداول الرهيب.

أرى شارون يطالب ببضع عملات مكافأة له، هو يطالب، ونحن نغمض، دون طلبه، عيون الموتى.


1 وولتر بنيامين

2 Pecunia non olet عبارة لاتيينية تعني "النقود ليست لها رائحة" وهي عبارة ارتبطت بما عرف بـ "فريضة البول" التي فرضها نيرو في القرن الأول الميلادي على البول حيث كان الناس في ذلك العهد يجمعون بولهم ويبيعونه كمصدر للأمونيا !! ـ عن ويكيبديا

3 آرنو شميدت (1914 ـ 1979) كاتب ومترجم ألماني

4 الكاتب الأسكتلندي روبرت لويس ستيفنسن (1850 ـ 1894)

5 مجموعة قصصية لجيمس جويس والمشهد المشار إليه هنا في قصة نظراء أو counterparts

6fetishism تقديس الأشياء في ذاتها والإيمان بأن لها قوى سحرية

7 Léon Bloy (1846 ـ 1917)كاتب فرنسي وناقد أدرج له بورخس بعض كتاباته القصصية القصيرة في موسوعة بابل biblioteca de Babel .

8 Belle Epoque مرحلة "العهد الجميل" وهي مرحلة في التاريخ الاجتماعي الأوربي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر واستمرت حتى الحرب العالمية الأولى وكانت تعتبر عهدا ذهبيا ساده السلام بين القوى الأوربية الكبرى وشهد ميلاد تكنولوجيات جديدة سهلت الحياة على أبناء الطبقات العليا

9 العم دهب هي الترجمة التي اعتمدتها مجلات الأطفال المصرية لشخصية "العم بخيل" أو Donald Duck’s Uncle Scrooge وستعتمد هذه الترجمة اسم العم دهب بدلا من العم سكرودج، واسم بطوط بدلا من دونالد لشخصية ابن أخي العم دهب

10 Moon Mullins سلسلة قصصية كاريكاتورية للرسام فرانك ويلارد (1893 ـ 1958) ظلت تنشر يوميا في الصحافة ألأمريكية منذ 19 يونيو 1923 وحتى 2 يونيو 1991 ـ عن ويكيبديا

نقلا، بتصرف قليل، عن نيو ليفت ريفيو
نشر المقال اليوم 27 ديسمبر 2009 في قراءات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق