الخميس، 11 أبريل 2019

محمد بطلا مناهضا للكهنوت في عصر التنوير


محمد بطلا مناهضا للكهنوت في عصر التنوير
جون تولان

كان نشر القرآن وإتاحته مترجما أمرا خطرا في القرن السادس عشر من شأنه أن يربك المسيحيين المخلصين أو يغويهم. أو أن ذلك على الأقل كان رأي مستشاري [حكام] مدينة بازل البروتستنتية سنة 1542 إذ سجنوا لفترة قصيرة صاحب مطبعة في المدنة لاعتزامه نشر الترجمة اللاتينية لكتاب المسلمين المقدس. وتدخل الإصلاحي البروتستنتي مارتن لوثر لإنقاذ المشروع إذ كتب أنه ما من وسيلة لمكافحة الأتراك خير من فضح "أكاذيب محمد" كي يراها الجميع.
ونشر القرآن إثر ذلك في عام 1543 ليتاح للمثقفين الأوربيين فدرسه أغلبهم ليزدادوا فهما للإسلام ويكافحوه. غير أن آخرين اتخذوا من قراءتهم للقرآن وسيلة لمساءلة العقيدة المسيحية. فوجد عالم اللاهوت الموسوعي القطالوني ميخائيل سرفيتوس Michael Servetus  حججا قرآنية كثيرة صالحة للتوظيف  في رسالته المناهضة للتثليث "استردد المسيحية" [Christianismi Restitutio] (1533)، التي وصف فيها محمدا بالمصلح الحق الداعي إلى الرجوع إلى التوحيد الكامل بعدما أفسده اللاهوتيون المسيحيون باختراعهم عقيدة التثليث الفاسدة المنافية للعقل. وبعد نشر تلك الأفكار الهرطقية، أدانت محكمة التفتيش الكاثوليكية في فيينا سرفيتوس وانتهى أمره بإحراقه وسط كتبه في جينيف على عهد كالفن Calvin.
في أثناء عصر التنوير الأوربي، قدم عدد من الكتّاب محمدا في السياق نفسه، بوصفه بطلا مناهضا للكهنوت،  ومنهم من رأى الإسلام شكلا نقيا من أشكال التوحيد Monotheism قريبا من التوحيد الفلسفي philosophic Deism  ورأوا القرآن تمجيدا عقلانيا لـ الخالق. في عام 1734، نشر جورج سال George Sale  ترجمة جديدة إنجليزية. وعرض في مقدمته تاريخا لفجر الإسلام قدم من خلاله النبي في صورة مثالية كمحطم أوثان وإصلاحي مناهض للكهنوت قضى على المعتقدات والممارسات الخرافية لدى أوائل المسيحيين ـ كالاعتقاد في القديسين والآثار المقدسة وأبطل سلطة الكهنة الفاسدين الجشعين.
قرئت ترجمة سال على نطاق واسع وحظيت بتقدير عظيم في إنجلترا، وأصبح محمد بالنسبة لكثير من قرائه رمزا لمناهضة الكهنوت. كما كان لها تأثير خارج إنجلترا أيضا. إذا اشترى توماس جيفرسن ـ وهو من آباء الولايات المتحدة المؤسسين ـ نسخة من بائع كتب في وليمسبرج في فرجينيا سنة 1765، وساعدته تلك النسخة في الوصول إلى تصور للتوحيد الفلسفي يجاوز الحدود الاعترافية. (ونسخة جيفرسن هذه هي الموجودة حاليا في مكتبة الكونجرس وتستعمل في أداء القسم للنواب المسلمين في الكونجرس ابتداء من كيث إيليسن سنة 2007). وفي ألمانيا قرأ يوهان فولفجانج جوته نسخة من ترجمة سال، ساعدته في رسم صورة مبدئية لمحمد باعتباره شاعرا ملهما ونبيا أصليا.
في فرنسا، أشار فولتير أيضا إلى ترجمة سال في إعجاب، ففي تاريخه للعالم [Essai sur les mœurs et l’esprit des nations] (1756)، صوَّر محمدا بوصفه إصلاحيا ملهَما قضى على الممارسات الخرافية واستأصل سلطة الكهنة الفاسدين. لكن بنهاية القرن، قدم اليميني الإنجليزي إدوارد جيبون Edward Gibbon  (القارئ النهم لكل من سال وفولتير) النبي محمدا في سياق ملتهب ضمن "تاريخ انهيار وسقوط الإمبراطورية الرومانية" (1776ـ89):
"إن عقيدة محمد تخلو من الارتياب أو الغموض، والقرآن شهادة مجيدة على وحدة الرب. لقد رفض نبي مكة عبادة التماثيل والبشر والنجوم والكواكب مقيما رفضه على مبدأ عقلاني هو أنه حتم على ما يشرق أن يغرب وحتم على ما يولد أن يموت، وحتم على كل قابل للفساد أن يتحلل ويبيد. لقد هامت حماسته العقلية بخالق الكون حبا في كيان أبدي لا نهائي، لا شكل له ولا مكان، ولا شبيه ولا ولد، مطلع على أدق أفكارنا، وموجود بالضرورة بطبيعته، وله من ذاته كل أشكال الكمال الفكري والمعنوي. فلعل مؤمنا بالتوحيد الفلسفي يقول في حق عقيدة المحمديين إنها عقيدة قد تكون أجلّ مما تحتمل سجايانا المعاصرة.
***
غير أن نابليون بونابرت ربما يكون الأكثر جدية في ولعه بالنبي، إذ صور نفسه "محمدا الجديد" بعد قراءته الترجمة الفرنسية للقرآن التي قدمها كلود إيتيان سافاري Claude-Étienne Savary  سنة 1783. ترجم سافاري القرآن وهو في مصر، محاطا بموسيقى اللغة العربية، فسعى إلى نقل جمال النص العربي في الفرنسية، وشأن سال كتب مقدمة طويلة قدم فيها محمدا بوصفه شخصا "عظيما" و"استثنائيا"، و"عبقريا" في ميدان القتال، ورجلا عرف كيف يبث الولاء في نفوس أتباعه. قرأ نابليون هذه الترجمة وهو على السفينة التي أقلته إلى مصر سنة 1798. واستلهم الصورة التي رسمها سافاري للنبي بوصفه جنرالا عبقريا ومشرعا حكيما، فسعى نابلون إلى أن يكون محمدا الجديد، ورجا أن يقبله علماء القاهرة ويقبلوا جنوده الفرنسيين أصدقاء للإسلام، جاؤوا لتحرير المصريين من استبداد العثمانيين. بل لقد زعم أن مجيئه إلى مصر مذكور في القرآن.
كانت لدى نابليون عن الإسلام صورة مثالية كتبية مستلهمة من نسخة عصر التنوير بوصفه توحيدا نقيا، والحق أن فشل حملته المصرية يرجع جزئيا إلى أن فكرته عن الإسلام كانت تختلف تماما عن دين علماء القاهرة. ولكن نابليون لم يكن الوحيد الذي رأى نفسه محمدا الجديد، فقد أعلن جوته في حماس أن الإمبراطور هو "محمد العالم" [Mahomet der Welt]، والكاتب الفرنسي فكتور هوجو صوره باعتباره "محمد الغرب" [Mahomet d’occident]. ونابليون نفسه في أخريات حياته ـ حين كان منفيا في سانت هيلانة يجتر هزيمته ـ كتب عن محمد ودافع عن إرثه بوصفه "رجلا عظيما غيَّر مسار التاريخ". محمد عند نابليون فاتح ومشرع، مقنع وذو كاريزما، شبيه بنابليون نفسه، ولكنه نابليون آخر، أكثر نجاحا، وهو بالقطع نابلون غير الذي نفي إلى جزيرة في جنوب الأطلنطي تعصف فيها الرياح.
دامت فكرة محمد بوصفه أحد عظماء مشرعي القوانين في العالم حتى وصلت إلى القرن العشرين. إذ صوَّر أدولف آيه فانمان ـ النحات الأمريكي ألماني المولد ـ محمدا في عمل له سنة 1935 في القاعة الرئيسية بالمحكمة العليا الأمريكية حيث يتخذ النبي مكانه وسط ثمانية عشرا من المشرعين. وطالب العديد من المسيحيين كنائسهم بالاعتراف بدور محمد الخاص كنبي للمسلمين. وبالنسبة لدارسي الإسلام من الكاثوليك من أمثال لويس ماسينيون Louis Massignon  أو هانز كونج Hans Küng ، أو البروتستنتي الأسكتلندي الباحث في الإسلام وليم مونتجمري واط William Montgomery Watt، كان مثل ذلك الاعتراف خير وسيلة لتعزيز الحوار السلمي البناء بين المسيحيين والمسلمين.
مثل هذا الحوار مستمر اليوم وإن طغى عليه إلى حد كبير ضجيج الصراع إذ يشيطن ساسة اليمين المتطرف في أوربا وغيرها محمدا لتبرير سياساتهم المعادية للمسلمين. فنعته السياسي الهولندي جيريت فيلدرز Geert Wilders  بالإرهابي، والمائل إلى الأطفال والمختل نفسيا. والمفارقة أن من يعززون صورة النبي السلبية هم الأصوليون المسلمون الذين يحبونه أشد الحب ويرفضون وضع حياته وتعاليمه في أي سياق تاريخي، في حين يزعم المتطرفون العنيفون أنهم يدافعون عن الإسلام ونبيه ضد "الإهانات" بالقتل والإرهاب. ومن هنا فالمنطق السليم هو أن نرجع خطوة إلى الوراء لنتأمل الصور الغربية العديدة المدهشة في أغلبها  لوجوه محمد الكثيرة.

كاب المقال: أستاذ التاريخ بجامعة تانت. أحدث كتبه هو "وجوه محمد: صور نبي الإسلام في الغرب منذ العصور الوسطى حتى اليوم" [Faces of Muhammad: Western Perceptions of the Prophet of Islam from the Middle Ages to Today].

نشر المقال في مجلة aeon ونشرت الترجمة في جريدة عمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق