الثلاثاء، 21 يونيو 2011

كتابات من إدواردو جليانو






اغتراب

يكتب ألاستير ريد Alastair Reid  لمجلة ذي نيويوركر[النيويوركي]، ولكنه نادرا ما يذهب إلى نيويورك.
يؤثر العيش في ساحل جمهورية الدومينيكان النائي. الذي رسا عليه كرستوفر كولومبس قبل قرون عديدة في رحلاته إلى اليابان، والذي لم يتغير فيه شيء منذ ذلك الحين.
من وقت لآخر، يظهر ساعي البريد بين الأشجار. يصل ساعي البريد مترنحا تحت أثقاله. يتلقى ألاستير جبالا من الرسائل.
تنهال عليه من الولايات المتحدة عروض تجارية، ومنشورات دعائية، وكتالوجات، وإغراءات من الحضارة الاستهلاكية تحثه على الشراء.
في مرة وجد بين فوضى هذه الأوراق إعلانا عن آلة تجديف [آلة تدريبات رياضية]. عرضها ألاستير على جيرانه، صيادي السمك.
"داخل البيوت؟ يستخدمونها داخل البيوت؟"
لم يستطع الصيادون أن يصدقوا ذلك.
"بلا ماء؟ يجدفون بلا ماء؟"
لم يستطيعوا أن يستوعبوا الأمر.
"وبلا سمك؟ وبلا شمس؟ وبلا سماء؟"
قال الصيادون لألاستير إنهم يستيقظون كل ليلة قبل الفجر ويطلعون إلى البحر فينشرون شباكهم والشمس تطلع في الأفق، وأن هذه هي حياتهم وأنهم بحياتهم هذه راضون، لولا التجديف، فهذا هو الجزء الشيطاني في الحكاية كلها.
قال الصيادون "لا نكره في حياتنا غير التجديف".
فأوضح لهم ألاستير أن آلة التجديف هذه آلة للتمرين.
"لأي شيء؟"
"التمرين"
"آآه، والتمرين هذا ـ ماذا يكون؟"



حياة مهنية

كبار مصرفيي العالم، إرهابيو المال، هؤلاء أكثر قوة من الملوك، ومن قادة الجيوش، بل ومن البابا نفسه في روما. وهم لا يوسخون أيديهم مطلقا. هم لا يقتلون أحدا: يكتفون دائما بالتصفيق للعرض.
موظفوهم، التكنوقراط الدوليون، هم حكام دولنا: هم لا رؤساء ولا وزراء، لم يجر انتخابهم، ولكنهم يحددون مستوى الرواتب والإنفاق العام، والاستثمار والضرائب، والأسعار، ومعدلات الفائدة، والدعم، وموعد شروق الشمس، ومعدل الإمطار.
وهم، مع ذلك، لا يشغلون أنفسهم بالسجون أو غرف التعذيب أو معسكرات الاعتقال، أو مراكز الإبادة، وإن تكن هذه جميعا تستضيف عواقب أعمالهم.
ولهؤلاء التكنوقراط ميزة عدم تحمل المسئولية، يقولون "نحن على الحياد".



النكِرات

تحلم البراغيث أن تشتري لنفسها كلبا، والنكراتُ أن تهرب من الفقر، أن يحدث ذات يوم مسحور أن يهطل الحظ السعيد عليهم ملء دلاء ودلاء. ولكن الحظ السعيد لا يهطل، لا الأمس ولا اليوم ولا الغد ولا إلى الأبد. بل ولا يتساقط الحظ السعيد زخات زخات، مهما نادته النكرات، حى لو وخزتهم اليد اليسرى، أو بأوا يومهم بالقدم اليمنى، أو بدأوا السنة الجديدة بمقشات جديدة. النكرات، أبناء نكرات، مُلَّاك العدم. النكرات، اللاناس، الجارون كالأرانب، الموتى في الحياة، المهتوكون بكل طريقة ممكنة، الذين لا هم كائنون، ولا هم بكائنين، غير الناطقين بلغات، بل بلهجات، الذين لا أديان لهم، بل خرافات، الذين لا يخلقون الفنون، بل المصنوعات اليدوية، الذين ما لهم من ثقافة، بل فلكلور، الذين ما هم بكائنات بشرية، بل هم موارد بشرية، الذين لا وجوه لهم، بل أذرع، الذين لا أسماء لهم، بل أرقام، الذين لا يظهرون في تاريخ العالم بل في صفحات الحوادث في الجرائد المحلية، النكرات الذين لا يستأهلون الرصاصة التي بها يموتون.


خريطة العالم 1

النظام

يسرق بيد ما يمنح بالأخرى.

ضحاياه

كلما دفعوا أكثر، استدانوا أكثر.
كلما أخذوا أكثر، امتلكوا أقل.
كلما باعوا أكثر، كسبوا أقل.


خريطة العالم 2

للجنوب فساده، للشمال كساده.

أكثر من مجرد قلة من مثقفي الشمال يتزوجون ثورات الجنوب فقط ليستمتعوا بإحساس الترمل. دلاء البكاء المتباهي، محيطات الدموع إثر موت كل وَهْم، وهُمْ لا يكفون عن تعلم أن الاشتراكية هي الطريق الطويل من الراسمالية إلى الرأسمالية.
من قبيل الموضة في الشمال، في شتى أرجاء العالم، أن يحتفى بالفن المحايد، ويهلل للثعبان الذي يعض ذيله ويجده طيب المذاق.
لقد أصبحت الثقافة والسياسة من جملة السلع الاستهلاكية. فالرؤساء يتم اختيارهم عبر التليفزيون شأن الصابون، والشعراء يلعبون دور حلية في الديكور، ولا سحر إلا سحر السوق، ولا أبطال إلا المصرفيون.
الديمقراطية رفاهية شمالية. وللجنوب عرضه، غير الممنوع على أحد، وفي نهاية الأمر، لن يضار أحد كثيرا إذا كانت السياسة ديمقراطية، طالما أن الاقتصاد ليس كذلك. وحين يسدل الستار، بعد أن توضع الأصوات في صناديق الاقتراع، يفرض الواقع قانونا للقوة، هو قانون المال، متعة النظام الطبيعي للأشياء. في النصف الجنوبي من العالم، كما يعلمنا النظام، لا ينتمي العنف والجوع للتاريخ بل للطبيعة، أما العدالة والحرية، فشيئان يشترك الجميع في كراهيتهما.

النظام

الموظفون غير موظفين.
الساسة يتكلمون ولا يقولون شيئا.
الناخبون يصوتون ولا يختارون.
الإعلام لا يقوم بالإعلام.
المدارس تدرّس الجهل.
القضاة يعاقبون الضحايا.
الجيش يحارب مواطنيه.
الشرطة لا تحارب الجريمة لأنها مشغولة بارتكابها.
الإفلاس يعم، وألأرباح تخص.
المال أكثر حرية من الناس.
الناس في خدمة الأشياء.



مملكة الصراصير

حينما زرت سدريك بلفريج Cedric Beifrage  في كورنافاكا Cuernavaca ، كانت لوس آنجلس تحتوي ستة عشر مليون شخصا متحركا، أشخاصا ذوي إطارات لا سيقان، فلم تكن المدينة إذن كتلك التي عرفها حينما حل بهوليود في زمن السينما الصامتة، ولم تكن أيضا كتلك التي وقع في غرامها حينما قام السناتور مكرثي بطرده في موسم صيد الساحرات الشريرات [إشرارة إلى تعقب الأمريكيين للشيوعيين فيما عرف بالمكارثية].
يعيش سدريك في كورنافاكا منذ طرده. وبين الحين والآخر يمر ببيته الواسع المشرق بعض الأصدقاء القدامى، ممن بقوا من اليام الخوالي، وأيضا، وبين الحين والآخر، تمر بالبيت فراشة بيضاء من شاربات التيكيلا.
كنت قادما من لوس آنجلس، بعدما زرت المنطقة التي كان يعيش فيها سدريك، ولكنه لم يكن مهتما بلوس آنجلس، أو هو لم يبد اهتمامه. وإنما سألني عن كندا ورحنا نتكلم عن المطر الحمضي. عن الغازات السامة التي تنبعث من المصانع، فتردها السحب إلى الأرض، حيث أفنت بالفعل أربع عشرة ألف بحيرة في كندا. تلك البحيرات الأربع عشرة ألف لم تعد فيها أي حياة على الإطلاق، لا نباتات، لا أسماك. وكنت قد ألقيت بنفسي نظرة على تلك الكارثة.
نظر إلي سدريك العجوز بعنيه الصافيتين الواسعتين وكلمني عمن يوشكون أن يرثوا الأرض وما عليها:
"نحن البشر تنازلنا عن هذا الكوكب، تنازلنا عنه للصراصير". ثم أخذ الزجاجة فملأ كأسينا.



الحضارة الاستهلاكية

يحدث أحيانا في نهاية الصيف، عندما يغادر السائحون كاليلا Calella أن تسمع عواء آتيا من أعماق الغابة. تلك صرخات الكلاب المقيدة إلى الشجر.
في إجازاتهم، يستخدم السائحون الكلاب لتهوِّن عليهم وحدتهم، ثم حينما يحين أوان الرحيل، يقيدونها في الشجر لكي لا تتبعهم.

تراثات المسقبل

هناك مكان واحد لا غير يلتقي فيه الأمس واليوم، فيعرف أحدهما الآخر، ذلك المكان هو الغد.
بعض أصوات ماضينا الأمريكي البعيد، الموغل في البعد، تبدو شديدة المستقبلية. من ذلك، الصوت العتيق الذي ينبئنا بأننا أبناء الأرض. وفي حين تمطر سماء المكسيك طيورا نافقة وتستحيل الأنهار مجارير والمحيطات مستنقعات والغابات صحارى، يأبى ذلك الصوت في عناد أن يموت، يأبى إلا أن يبشّر بعالم غير هذا الذي يسمم الماء والتراب والهواء والروح.
ذلك الصوت القديم الذي يكلمنا عن الجماعة يدعو إلى عالم آخر. الجماعة ـ ونمط الإنتاج الجمعي ـ أقدم تراث في أمريكا، والأكثر أمريكية من أي شيء سواه. الجماعة هي عالم أيامنا الأولى، وهي أيضا عالم أيامنا القادمة الواعدة بعالم جديد. فليس أقل غربة في بلادنا من الاشتراكية. أما الرأسمالية فأجنبية، شأن الجدري، والإنفلونزا، وفدت علينا من الخارج.



مشاهد من حياتي*

عندما كتبت "كرة القدم في الشمس والظل" كنت أريد أن يتخلص جماهير القراءة من خوفهم من كرة القدم وأن يتخلص جماهير كرة القدم من خوفهم من الكتب. ولم أتخيل قط أكثر من هذا.
ولكن عضوا سابقا في البرلمان المكسيكي، هو فكتور كونتانا، قال لي إن الكتاب أنقذ حياته. ففي منتصف 1997، اختطفه قاتل مأجور لعقابه على قيامه بفضح بعض الأعمال الفاحشة.
قيدوه، وطرحوه على الأرض مولين وجهه للتراب، وراحوا يركلونه حتى شارف على الموت، وقبل أن يطلقوا عليه الرصاصة  بدأوا يتناقشون في كرة القدم. فألقى فكتور ـ الذي كان أقرب إلى الموت منه إلى الحياة، بآخر ما في جعبته. راح يتلو عليهم قصصا من كتابي مقايضا بكل حكاية من ذلك الكتاب دقائق من الحياة. وراح الوقت وجاء، وراحت الحكايات وجاءت، وفي نهاية الأمر تركه القتلة، مضروبا مكسورا، ولكنه حي.
قالوا له "أنت لا بأس بك" وادخروا رصاصهم لغيره.
***
لا أعرف خورخري فنتوسيلا Jorge Ventocilla ، أو أنا لم أقابله مطلقا، ولكن كتبي أصحابه، فهكذا أنا أيضا.
حينما صدرت "مرايا" للمرة الأولى بالأسبانية السنة الماضية، قرر خورخي أن ذلك الكتاب ـ الذي لم يكن متاحا بعد في بنما ـ ينبغي أن يتنقل بين أيدي القراء.
وبرغم أن مدخراته لم تكن كثيرة، إلا أنه قرر في نوبة حماس أن يشتري بها نسخا من الكتاب، ووضع تلك النسخ في المقاهي، والمتاجر، ومحلات الحلاقة، والأكشاك، وفي كل موضع، وقد كتب على كل منها:
"هذا الكتاب مسافر، اقرأه وأعره".
وذلك ما كان.
***
في عام 1971، تقدمت بـ "شرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة" إلى جائزة كاسا دو لا أمريكاس الكوبية. وخسر. ربما لم تر لجنة التحكيم المخطوطة جادة بالقدر الكافي.
فيما بعد، صدر الكتاب. وربما رأت الدكتاتوريات العسكرية التي كانت منتشرة في أمريكا اللاتينية أنه أكثر خطورة [جدية] مما ينبغي. فأحرقوه.
أما في بلدي أورجواي، فكان المساجين السياسيون يتداولون كتاب "شرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة" بحرية أثناء الشهور الأولى من الحكم العسكري. إذ ظن الرقباء أنه كتاب في التشريح، ولم تكن الكتب الطبية ممنوعة.
***
قبل سنوات قليلة، في مدرسة بسالتا في الأرجنتين، كنت أقرأ قصصا لتلاميذ في الثامنة أو التاسعة من العمر.
بعد ذلك، طلب المعلم من التلاميذ أن يكتبوا لي تعليقات على ما قرأت لهم.
من النصائح التي وردت إلي: "استمر، وسوف تتحسن".
***
في مارس عام 2007، في يوكاتان Yucatan، منع كتاب "عناقات جنوبية" من دخول سجن  ميريدا Mérida  "لاحتوائه أمورا شيطانية".
 قبل ذلك ببعض الوقت، وفي سان خوسيه بكوستاريكا، قابلت فتاة تقرأ الكتاب في محطة الأتوبيس. قالت لي "أنا دائما أحمله معي في سفري. إنه حبيبي المحمول".
***
في "المرايا" أحكي قصصا شبه معروفة أو هي ببساطة قصص مسموعة.
إحداها وقعت في أسبانيا سنة 1942. بعد الانقلاب العسكري الذي أباد به فرانشسكو فرانكو الجمهورية الأسبانية، زفت الدكتاتورية نبأ مفاده أن السجينة ماتلدا لاندا سوف تقوم علنا بإعلان توبتها عن معتقداتها االشيطانية وسوف تتلقى العماد المقدس في ساحة السجن.
وما كان لتلك الطقوس أن تبدأ دون أن يحضر ضيف الشرف، ماتلدا نفسها، التي لم يعثر لها على أثر.
كانت على سطح السجن. وبغتة، رمت نفسها من أعلاه فانفجرت كالقنبلة فور أن مست الأرض.
واستمر العرض. قام الأسقف بعماد جثتها المتناثرة.
وبينما كان كتاب مرايا في دار النشر، تلقيت رسالة من محررة في الدار.
كانت تريد أن أعرف من أين جئت بتلك القصة. قالت إن وقائع القصة صحيحة، ولكنها لم تعرفها إلا من قبيل الأسرار العائلية.
كانت ماتلدا خالتها.
***
قبل شهور قليلة، قرأت بعض القصص في جامعة المكسيك.
من بينها، قصة منشورة في كتابي "أصوات الزمن"، تحكي عن فرقة من أورجواي تزور أسبانيا لعرض مسرحية لفدريكو جارثيا لوركا، الشاعر الذي أعدمته الدكتاتورية ومنعت كتبه من التداول. وكانت تلك أول مرة تعرض فيها المسرحية بعد عقود من المنع.
عند إسدال الستارة، صفق الجمهور، ولكن بأقدامهم، يضربون بها الأرض. ذهل الممثلون. أكان أداؤهم بهذه الرداءة؟ ولم تمض لحظة حتى نالوا من التصفيق ما طال وامتد.
أرجح في قصتي أن رعد الأقدام ذلك ربما كان المقصود به المؤلف المسرحي، الذي أطلق عليه الرصاص لأنه أحمر، مختلف، خارج. كأنما يقول الجمهور "أسمع يا فدريكو".
وحينما حكيت هذه القصة في جامعة المكسيك، حدث شيء لم يحدث من قبل في أي حالة أخرى. حكيتها، فإذا بأربعة آلاف طالب يدقون الأرض بأقدامهم بل بقلوبهم، وكأنما هم جميعا جلوس في ذلك المسرح في مدريد قبل سنوات كثيرة.
واستمع فدريكو.
***
في إحدى جلسات الحكي التي أعقدها، في بلدة أورنس Ourense الأسبانية، ظل رجل في الصف الأخير يحملق فيّ، لا تطرف له عين، كأنه قناع جامد. وحينما انتهيت من القراءة، اقترب مني ببطء، مثبتا نظرته عليّ كأنما يريد قتلي. لحسن الحظ، لم يفعل. بل قال "لا بد أنها شاقة جدا الكتابة بكل هذه البساطة".
وبعد تلك الملاحظة، وهي أثمن مديح كيل لي، استدار على عقبيه ومضى.
***
عاشت بلدة ليالجواLlallagua  البوليفية على منجم، وفي ذلك المنجم كان رجالها يموتون. في أعماق أحشاء الجبال كانوا يتعقبون شرايين القصدير ويفقدون في غضون سنوات قصيرة رئاتهم فحيواتهم.
هنالك قضيت بعض الوقت فكانت لي هناك صداقات طيبة.
في الليلة الأخيرة، أخذنا نشرب، أنا وأصحابي، مدندنين بالأغنيات الحزينة، مرددين النكات الجنسية إلى أن طلع الفجر.
وحينما لم يكن باقيا من الوقت على صيحة صافرة بدء العمل غير القليل، سكت أصحابي، جميعهم في لحظة واحدة. ثم طلب أحدهم مني، أو تضرع إليّ، أو هو أمرني: "والآن يا أخي، احك لنا عن البحر".
لم أحر نطقا.
أصروا: "احك لنا. احك لنا عن البحر".
كان ذلك أصعب تحد واجهته طوال حياتي مع الحكي. لم يكن أي من عمال المنجم هؤلاء قد عرف البحر، ولم يكن أحد منهم لينجو من الموت في شبابه. ولم يكن لي من خيار إلا أن أستحضر لهم البحر، البحر الذي كان بعيدا بعيدا، والذي كان علي أن أجد من الكلمات ما يغرقون فيه حتى عظامهم.

*نشرت "مشاهد من حياتي" في واشنطن بوست بتاريخ 14 يونيو 2009 تحت عنوان "مشاهد من حياة أسطورة من أساطير الأدب في أمريكا اللاتينية"


الزمان يقص*

نحن مصنوعون من زمن.
نحن أقدامه وصوته.
أقدام الزمن هي التي تنتعل أحذيتنا وتسير.
وكلنا نعلم، أن ريح الزمان مبددة، عاجلا أم آجلا، مواطئ الأقدام.
ممرات اللاشيء، خطى اللاأحد؟ أصوات الزمن تقص الرحلة.


الرحلة

يقول أوريول فال Oriol Vall الذي يعمل مع حديثي الولادة في مستشفى ببرشلونة إن أول إيماءة بشرية هي العناق. فبعد مجيئهم إلى العالم، وفي أولى أيامهم، يمد الصغار أذرعهم كأنما يطلبون أحدا.
أطباء آخرون، يعملون مع الذين انتهوا من حياتهم، يقولون إن الموغلين في العمر، في آخر أيامهم، يموتون وهم يريدون رفع أذرعهم.
وهذا هو الأمر، هذا كل ما فيه، مهما يكن نضالنا ومهما تكن الكلمات التي نراكمها أكداسا على أكداس. كل شيء ينتهي هذه النهاية، بين ارتعاشتين، بلا أي تفسير، تكون الرحلة.



شهادة

يسير البروفيسير والصحفي في الحديقة.
يتوقف البروفيسير، جون ماري بيلت Jean-Marie Pelt ، ويشير، ويقول: "اسمح لي أن أعرفك بأجدادنا".
يجثم الصحفي جاك جيراردون Jacques Girardon فيجد كرة من الزبد مطلة من بين أطراف العشب.
ما تلك الكرة سوى مدينة من الطحالب المكروسكوبية. في الأيام شديدة الرطوبة، تسمح الكرة الزرقاء للعيون البشرية برؤيتها. تبدو أشبه ببصقة. يضيّق الصحفي الفرنسي عينيه، فأصل الحياة ليس بالشيء الذي قد نصفه بالجاذبية، غير أنه من تلك البصقة، جئنا جميعا نحن ذوي السيقان أو الجذور أو الأجنحة.
قبل أن يكون هناك قبل، حينما كان العالم رضيعا صغيرا، لا لون له ولا صوت، كانت هناك الطحالب الزرقاء. نافثة الأوكسجين، منحت البحر والسماء لونهما. وحدث ذات يوم طيب، طال ملايين السنين، حدث أن قررت تلك الطحالب الزرقاء أن تصبح خضراء. وقليلا قليلا، بدأت الطحالب الزرقاء تنفرش فطرا وعفنا وهلاما وكل لون أو صوت مما قام بعد ذلك ـ مثلما نفعل نحن ـ بإزعاج البر والبحر.
طحالب زرقاء أخرى آثرت البقاء طحالب زرقاء.
ولا تزال كذلك.
ومن العالم القديم الذي كان، تراقب العالم الذي هو كائن.
أما رأيها فيه، فأنى لنا نحن أن نعرفه.



خضرة

حينما أصبح البحر بحرا، لم تكن الأرض أكثر من صخرة جرداء.
ومن البحر ولدت النباتات المنفرشة فكانت المروج، التي أخذت تغزو مملكة الصخر، تفتحها، تحيلها إلى الأخضر.
حدث ذلك في أمس كل أمس، ولم يزل يحدث. لا تزال النباتات المنفرشة تعيش حيث لا يعيش أحد، في السهول المتجمدة، وفي الصحاري الحارة، وفوق ذرى أعلى الجبال.
تعيش النباتات المنفرشة طالما الزيجة مستمرة بين الطحلب الأزرق وابنه الفطر. فإن انفصمت عروة الزواج، انهارت.
أحيانا، تفضي المشاجرات والاختلافات إلى أن يفترق الفطر عن الطحلب. فالطحلب أحيانا تشكو أن الفطر يحجب عنها النور. وهو يقول إنها تعييه، ولا تطعمه غير السكر ليل نهار.


مواطئ أقدام

كان زوجان سائرين في السافانا في شرق أفريقيا في مطلع موسم المطر. كان الرجل والمرأة، لو أردتم الحق، لا يزالان شبيهين كثيرا بزوج من القردة العليا، برغم أنهما كانا منتصبي القامة بغير ذيول.
كان بالقرب بركان، اسمه الآن ساديمان Sadiman ينفث رمادا. ذلك المطر الرمادي أبقى مواطئ قدمي الرجل والمرأة، منذ تلك اللحظة وعبر الزمان. بقيت المواطئ تحت ذلك اللحاف الرمادي مصونة لا تمس. تلك المواطئ تبين أن تلك الحواء وذلك الآدم كانا يسيران جنبا إلى جنب، وأنها عند نقطة معينة توقفت، وانعطفت، ومشت وحدها بضع خطوات. ثم عادت إلى طريقهما المشترك.
أقدم مواطئ البشر على الأرض أثارت الكثير من الشك. سنوات قليلة مضت. والشك لم يزل قائما.

*مقتطف من "أصوات الزمن: حياة في قصص"


اختراعات جديدة*

الباب الدوار

اخترع الباب الدوار في برلين سنة 1881 للوقاية من البرد، والجليد، والغبار، والضوضاء. وهو بعد أكثر من قرنين ينفع كذلك كنظام توزيع للموظفين بين التجارة والسياسة والحرب.

المظلة

اخترعت المظلة في القرن الثاني عشر في الصين. كانت في صورتها الأولى عبارة عن قمع من القماش مشدود على إطار خشبي، وبمرور الوقت بدأ استخدام مواد أرقى من هذا. في القرن الثامن عشر، وقع الاختيار على الحرير في تصنيع مطلات القفز. ولكن القرن العشرين هو الذي شهد دخول أغلى الخامات: إذ ظهرت المظلة الذهبية. وقد تمت هندسة هذه المظلة لوقاية رؤساء الشركات الكبرى من السقوط من النعيم.

المصعد

يقولون إن أول مصعد كان كرسيا مربوطا ببكرة اخترعه قبل قرون ملك انجلترا هنري الثامن الذي كان بدينا بدانة هائلة ليجنب نفسه مشقة صعود سلم القصر.
أما المصعد المعاصر فاستخدمه رئيس الوزراء الإيطالي سلفيو برلسكوني ليصل إلى السلطة الملطقة في إيطاليا. في سنة 1984 وقَّع بيتينو كراكسي، رئيس الوزراء الاشتراكي قرارا تنفيذيا ينعم على برلسكوني باحتكار التليفزيون الخاص.
في بطولة الحصانة العالمية، قام برلسكوني بعدد لانهاية له من المحاولات دون أن يتباطأ ولو ليوم واحد. استطاع أن يحول جميع رذائله إلى فضائل مثيرة للإعجاب، وجميع وقعاته إلى فتوحات جديرة بالتصفيق.

كبش الفداء

تنص بعض التراثات الدينية العتيقة على أن التيس هو الذي يتحمل جميع خطايا البشر، فيسوقونه إلى الصحراء عقابا له على هذه الخطايا. هذا الاختراع أتاح لنا أن نطرح عنا المسئولية عن خطايانا وسوءاتنا. ومن الناس من كانوا لوقت طويل، طويل للغاية، كباش فداء لنا، كاليهود والغجر.
في منتصف 2008، خرجت أسبوعية بانوراما الإخبارية ـ التي يملكها برلسكوني ـ بعدد عنوانه: "الذين ولدوا ليسرقوا". وكانت الإشارة إلى الغجر، وأشارت المجلة إلى استطلاعات للرأي أكدت أن الرأي العام يقر هذا التأكيد على الإجرام الجيني.

إشارة المرور

تعمل أقدم إشارة مرور في العالم منذ عام 1868، واقفة في مكانها أمام البرلمان البريطاني.
في زماننا، ثمة إشارات مرور أخرى أكثر قوة، هي التي تنظم مرور العالم.
ففي جميع دول الشمال تقريبا، هناك نور أحمر يوقف تداول الكثير من مبيدات الآفات، والحشرات، والأسمدة الكيميائية الضارة.
أما في أغلب دول الجنوب، فإن النور الأخضر يفتح الطريق أمام هذه المواد السامة للبشر، والتي تشترى من الشمال.
من الذي يدير إشارات المرور؟
 من الذي يحكم الحكومات؟

*مقتطف من عمود إدواردو جليانو في مجلة ذي بروسبكت.



نشر اليوم 21 يونيو 2011 في شرفات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق