تاريخ ثقافي جديد يرى أن معاداة
اليهودية جزء أساسي من الثقافة الغربية
عالم
بلا يهود
آدم كيرش
يأتي عنوان كتاب "ديفيد نايرنبرج" الجديد
وهو "معاداة اليهودية في التراث الغربيAnti-Judaism:
The Western Tradition" مستخدما مصطلحا
يختلف بوضوح عن المصطلح الذي ألفنا استخدامه. فالشعور بالكراهية تجاه اليهود
وممارسة القهر عليهم معروفان منذ أواخر القرن التاسع عشر بـ معاداة السامية anti-Semitism ـ التي كانت بمثابة لافتة علينا ألا ننسى أن رافعيها الأوائل هم
كارهو اليهود الألمان، وأنهم كانوا يرفعونها بافتخار. فما الفارق إذن بين معاداة
السامية ومعاداة اليهودية؟ يمكن تلخيص الإجابة ـ حسب ما يتكشف من تحفة نايرنبرج
البحثية ـ على النحو التالي: معاداة السامية تحتاج إلى يهود فعليين لاضطهادهم، أما
معاداة اليهودية فقادرة على الازدهار أتم الازدهار بغير اليهود، إذ أن هدفها ليس
مجموعة من الناس، بل فكرة.
نظرية نايرنبرج تقوم على أن فكرة معاداة اليهودية
هذه ـ وهي يهودية لا تحمل إلا شبها عابرا باليهودية التي يمارسها اليهود ويعيشونها
ـ تقع في مركز الحضارة الغربية منذ بدايتها. منذ عهد مصر البطلمية وحتى بداية
المسيحية ومنذ العصور الوسطى الكاثوليكية إلى الحركة الإصلاحية البروتستنتية، منذ
عصر التنوير وحتى عصر الفاشية، كلما كان الغرب يريد أن يعرف ما ليس إياه، كلما
أراد أن يطلق اسما على أعمق مخاوفه وأبغض الأشياء إليه، كانت اليهودية هي أول اسم يخطر على البال ويكون
في متناول اليد. ويقول نايرنبرج موجزا إنه "لا ينبغي فهم معاداة اليهودية
بوصفها حجيرة عتيقة تفتقر إلى العقلانية في صرح الفكر الغربي، بقدر ما ينبغي النظر
إليها بوصفها من الأدوات الأساسية التي أقيم بها هذا الصرح".
وتلك نتيجة مقبضة للغاية، لا سيما لمن قُدِّر له من
اليهود أن يعيش داخل هذا الصرح، ولكن الرحلة الفكرية التي يقوم بها نايرنبرج وصولا
إلى هذه النتيجة تبقى رحلة بديعة. فكل فصل في "معاداة اليهودية" مخصص
لحقبة معينة من التاريخ الغربي ولما أرسته هذه الحقبة من دعائم لمعاداة اليهودية.
وفي حين أن قليلا للغاية من الأمثلة هو الذي يعد بمثابة الكشف الجديد، إلا أن
أطروحة نايرنبرج إجمالا تذهب إلى أن هناك نوعيات محددة من معاداة اليهودية هي التي
تحظى بمركزية أكيدة في الثقافة الغربية حتى أننا نعتبرها من قبيل المسلمات. والذي
قام به نايرنبرج هو أنه ربط بين هذه التنويعات من معاداة اليهودية وضفرها في سردية
مقنعة مشتغلا على المصادر الأصلية مستخلصا منها المعاني التامة لمعاداة اليهودية
الكامنة في هذه الكتابات.
لقطة من "تاجر الندقية" لوليم شكسبير |
إن السبب الرئيسي لهذه المركزية التي تحتلها
اليهودية ـ ومعاداة اليهودية بالتبعية ـ في الثقافة الغربية ـ هو: المسيحية طبعا.
ولكن الفصل الأول من كتاب نايرنبرج يبين أن بعض تمثلات معاداة اليهودية أقدم عهدا
من يسوع بمئات السنين. فكتابات المؤرخ الإغريقي هيكاتيوس من أبديرا الذي عاش في نحو 320 ق م تسجل تراثا مصريا يحكي
قصة الخروج المعروفة، لكنه يحكيه من وجهة نظر مناقضة. ففي هذه النسخة لم يهرب
اليهود من مصر إنما اعتبروا عنصرا غير مرغوب فيه فطُردوا منها، [طرد المصريون] "أولئك
الأغراب الساكنين بينهم يمارسون طقوسهم المختلفة". واستقر أولئك المنفيون في
يهودا Judea بقيادة
موسى الذي أسس لهم "نمطا من الحياة لا يعرف التسامح ولا التواصل" .
يلاحظ نايرنبرج أن بوسعنا أن نتلمس هنا "ما سيتحول لاحقا إلى مفهوم أساسي من
مفاهيم معاداة اليهودية وهو نفور اليهود من البشر misanthropy ". وهذا العنصر أكده كاتب جاء في وقت لاحق بعض الشيء هو
الراهب المصري المدعو مانيتون Manetho
الذي وصف الخروج بأنه مروق جماعة عكرة من "المجذومين وغيرهم من
الأوساخ".
ومثلما سيكون دأبه في الكتاب كله، يصف نايرنبرج هذه
النصوص المعادية لليهودية لا بروح الغاضب الناقم أو حتى المستنكر، بل بروح الباحث
الفضولي. ومن ثم فالسؤال الذي يثيره هذا النص ليس سؤالا عما إذا كان الإسرائيليون
القدامى مجذومين حقا، بل عما دعا كاتبا مصريا متأخرا إلى وصفهم بهذا. أي نوع من
العمل الفكري كانت تقوم به معاداة اليهودية في هذه الثقافة المعينة؟ وإجابةً لهذا
السؤال، يدرس نايرنبرج تاريخ مصر العميق مبينا كيف أن التمزقات التي تسبب فيها
الأجنبي والتجديد الديني أصبحت ترتبط باليهود. ثم هو يناقش سياسات مصر الهللينية
التي كان يعيش فيها عدد ضخم من السكان اليهود محصورين بين النخبة من الإغريق
والعامة من المصريين. وفي نمط سوف يتكرر مرارا وتكرارا، تسببت هذه المكانة البينية
الوسطى التي احتلها اليهود في أن يصبحوا موضع بغض وعداء من كلا الجانبين، وهو ما
يتفجر في أحياة كثيرة على هيئة أعمال شغب أو مذابح. ويكتب نايرنمبرج أننا نرى على
المدى البعيد كيف أن "سمات النفور من البشر، وانعدام التقوى، والافتقار إلى
القانون، ومعاداة العالم التي وصم بها المصريون القدماء موسى وقومه سوف تبقى إلى
أن تدخل ألفية جديدة تراثا يضفي عليه القدم جلالا، يطويه النسيان، فيعاد اكتشافه،
ويجري استخدامه بطرق جديدة على أيدي أجيال جديدة من المدافعين والمؤرخين".
ابتداء من الفصول المخصصة للقديس بولس ونشأة
المسيحية يبدأ نايرنبرج في خوض منابع معاداة اليهودية في أوربا. لقد كانت تعاليم
بولس هداية لمجتمعات صغيرة من المسيحيين في الشرق الأوسط تتعلق في أغلبها بالسلوكيات
والعقيدة، وكان بولس يكتب تعاليمه تلك في وقت لم تكن فيه المسيحية أكثر من حركة
يهودية لم تزل في طور النشوء. ورغبة من بولس في التأكيد على جدة معتقده والقطيعة
مع اليهودية ـ التي كان يسوع المسيح يمثلها ـ عمد إلى تصوير الديانتين كمرحلتين
متناقضتين. وفي حين كان اليهود يقرأون الكتاب المقدس بـ "الحرف" ـ أي
بحسب المعنى الحرفي ـ بات المسيحيون يقرأونه بـ "الروح" على سبيل الاستعارة التي تصور مجيء المسيح.
وبالمثل، فيما كان اليهود يطيعون القوانين الموروثة، تحرر المسيحيون من هذه
القوانين بإيمانهم بالمسيح ـ وهذا ما يفسر لماذا لا يستتبع اعتناقُ غير اليهودي
للمسيحية القيام بطقوس يهودية مثل الختان. كان التهود to
“Judaize,” ـ وهذا من التعابير التي صاغها بولس ـ يعني
الوقوع في أسر هذا العالم، والإيمان بالظاهر بدلا من الخفي، بالجانب الاصطناعي لا
بالمعنى الحقيقي، بالقانون لا بالحب. لم تكن اليهودية إذن مجرد خطأ لاهوتي، بل هي خطأ
معرفي إدراكي، بل هي بالدرجة الأساسية طريقة خاطئة للوجود في العالم.
المشكلة ـ فيما يرى نايرنبرج في أثرى أجزاء كتابه ـ
هو أن هذه الغلطة بالذات هي أكثر غلطة يمكن تبينها لدي المسيحيين أنفسهم. فلقد كان
بولس والمسيحيون الأوائل في انتظار نهاية العالم الوشيكة، ورجوع المسيح، وبناء
أورشليم الجديدة. وبينما ظلت النهاية لا تجيء، بات من الضروري أن يقام نهج مسيحي
للحياة في هذا العالم. ولكن كان معنى ذلك أن يحتاج المسيحيون هم أيضا إلى قانون وحرف،
أي أنهم بحاجة إلى أن "يتهودوا" ولو إلى درجة ما.
ومن هنا كانت نقاشات في الكنيسة الأولى ـ وحتى
القديس أوغسطين ـ غالبا ما تعرض لحجج حول التهود.
ولقد اتبع مارسيون Marcion ـ وهو مهرطق من القرن الثاني الميلادي ـ نهج بولس في الاستهانة بالحرفية إلى حد تجاهل
العهد القديم (بحسب التسمية الجديدة لـ الإنجيل العبري) كله، بدعوى أن الاستمرار
في قراءة الكتب المقدسة اليهودية يحرف قارئه عن مغزى جدة المسيحية التامة. في
المقابل، كان جوستين الشهيد Justin
Martyr، وهو
خصم مارسيون الأرثوذكسي ـ يؤمن أن تقليص العهد القديم واختصاره في في مجرد فحواه
الحرفي هو بحد ذاته تكرار للغلطة "اليهودية". بعبارة أخرى، كان مارسيون
وجوستين يتهمان بعضهما البعض بالتهود، أي بمحاكاة اليهود في القراءة والتفكير.
وهذا بدوره سوف يتحول إلى نمط في التاريخ المسيحي التالي (وما بعد المسيحي): لو أن
اليهودية كانت غلطة، فمن الممكن النظر إلى كل غلطة بوصفها يهودية. يكتب نايرنبرج
أن "هذا النضال من أجل السيطرة على قوة ’اليهودية’ سوف يتبدى كثيمة من أقوى
الثيمات وأكثرها إلحاحا وتفجرا في اللاهوت السياسي المسيحي منذ العصور الوسطى وحتى
الحداثة".
مع صعود الدول الكاثوليكية في العصور الوسطى، تراجع
البعد الثيولوجي [اللاهوتي] لمعاداة اليهودية على حساب البعد المادي. ففي بلاد من
قبيل إنجلترا وفرنسا وألمانيا، احتل اليهود مكانة قانونية فريدة بوصفهم
"خدم" الملك أو "عبيد"ـه، الأمر الذي أوجدهم خارج تسلسل
العلاقات الإقطاعية المعتاد. وذلك أتاح لليهود أن يلعبوا دورا لازما للغاية وكريها
للغاية في مجال التمويل وجباية الضرائب، وهو أيضا الأمر الذي تتجلى من خلاله
السلطة الاستثنائية التي كانت تتمتع بها الملكيات. ويبين نايرنبرج أن أسرة كابيه
بنت استحقاقها حكم فرنسا ـ جزئيا ـ على تحكمها في وضع اليهود بوصفهم امتيازا ومصدر
ربح ملكيا، فلقد كان الملك تلو الملك منهم ينهب يهود"ـه" كلما أعوزه
النقد. في الوقت نفسه، أدت مكانة اليهود بوصفهم الوجه العام للسلطة الملكية إلى أن
أصبحوا مصب لعنات الجماهير عموما وموضع كراهيتهم. باتت الاحتجاجات على اليهود
والاتهامات لهم بممارسة طقوس التضحيات البشرية سبلا شائعة لإظهار السخط على
الحكومة. وعندما كان الرعايا في القرون الوسطى يريدون الاحتجاج على حكامهم، كانوا
غالبا ما يتهمون الملك بالتواطؤ مع اليهود، أو بأنه هو نفسه يهودي.
إن الخط الشائع في معاداة اليهودية هو أن مثل هذه
الاتهامات باليهودية لا علاقة لها باليهود الحقيقيين. فهي نتيجة خطاب الأغيار التي
يشتبك فيها مسيحيون مع مسيحيين آخرين فيرمون بعضهم البعض باليهودية. والمبدأ نفسه
يصح على فصول نايرنبرج الأخيرة الرائعة، فعندما ثار مارتن لوثر كينج على
الكاثوليكية هاجم "الطريقة التفصيلية التي تفهم بها الكنيسة عدالة الرب"
معتبرا إياه فهما يهوديا إذ قال إن "الكنيسة الرومانية بهذا المعنى تصبح أكثر
’يهودية’ من اليهود. أما الثوريون البيوريتانيون في الحرب الأهلية الإنجليزية
فعندما فكروا في التأسيس المثالي للدولة، نظروا إلى الرابطة الإسرائيلية كما يرد
وصفها في "قضاة" و"ملوك".
والمدهش ـ حسب ما يبين نايرنبرج ـ أن انحسار الدين
عن أوربا وصعود التنوير لم يحدث تغييرا يذكر في خطاب معاداة اليهودية. فـ فولتير
وكانط وهيجل جميعا استخدموا اليهودية تجسيدا لما كانوا يريدون القضاء عليه
كالخرافة والأخلاقيات التفصيلية والماضي الميت. وأخيرا، في فصل ختامي وجيز عن
القرن التاسع عشر وما يليه، يبين نايرنبرج كيف أن ماركس يلخص من جديد التمثلات القديمة
المعادية لليهودية حينما يتصور الثورة الشيوعية بوصفها "تحريرا للبشرية من
اليهودية" أي من المال والتجارة والاغتراب الاجتماعي. هذا ولم نشر إلى بعض
فصول نايرنبرج الصادمة ومن بينها دور اليهودية في مطلع الإسلام أو الفصل المخصص
لقراءة "تاجر البندقية" لوليم شكسبير.
من المؤكد أن نايرنبرج استوعب تشكيلة متنوعة وضخمة
من السياقات الثقافية والتاريخية، وهو يتميز ـ خلافا لكثير من المؤرخين ـ بالمقدرة
على الكتابة الجزلة الواضحة مهما بلغ تعقيد المواضيع التي يتناولها. وهو ينتظر إلى
آخر كتابه "معاداة اليهودية" ليتعرض على استحياء لما يعنيه هذا التراث
الثقافي العتيق بالنسبة لليهود اليوم. فيشير ـ برغم الاستحياء ـ إلى أن معاداة
الصهيونية المعاصرة ترتبط برباط واضح مع معاداة اليهودية التراثية: "إننا
نعيش في عصر يتعرض فيه ملايين البشر كل يوم لتنويعة أو أخرى من الحجة التي ترى أن
ما يعيشون فيه من تحديات لا يمكن إيضاحه إلا في ضوء شيء اسمه ’إسرائيل’".
وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزه العالم منذ الهولوكوست في طريقة تفكيره العقلانية في اليهود واليهودية، تبقى القصة
التي يحكيها نايرنبرج منقوصة. فكل من يريد أن يفهم تحديات التفكير والعيش في رحاب
ثقافة غير يهودية عليه أن يقرأ "معاداة اليهودية".
نشر المقال أصلا في تابلت مجازين [المعنيةباليهودية] في 13/2/2013 ونشرت الترجمة صباح اليوم في ملحق شرفات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق