الاثنين، 28 فبراير 2011

إنها 1848 العربية لولا أن السيادة الأمريكية اهتزت





طارق علي

برفض الشعوب أن تقبّل العصا التي جلدت بها عقودا طوالا، وبرفضها أيضا أن تغض عنها الطرف، ينفتح في تاريخ الأمة العربية فصل جديد من فصوله. وتختفي اختفاء الهشيم في النار نظرية المحافظين الجدد العبثية التي طالما تبجح بها القائلون بأن العرب والمسلمين رافضون للديمقراطية معادون لها.
يبدو أن من كانوا يروجون لهذه النوعية من الأفكار هم الأكثر شقاء الآن، وأعني بهؤلاء إسرائيل ولوبياتها اليوروأمريكية، وصناع السلاح، الذين يهرولون الآن لبيع أكبر كم ممكن من بضاعتهم (حتى ليتصرف رئيس الوزراء البريطاني تصرفات تجار الموت في معرض أبو ظبي للسلاح)، وحكام المملكة العربية السعودية المحاصَرين لا يعرفون هل ستنتشر العدوى إلى مملكتهم المستبدة أم لا. وهم حتى الآن يوفرون المأوى لأكثر من طاغية، ولكن ماذا سوف يحدث حينما يحين الأوان وتحتاج العائلة الملكية نفسها إلى مأوى؟ لا بد أن يعوا أن سادتهم وحماتهم سوف يعرضون عنهم ويزعمون أنهم كانوا طوال الوقت يناصرون الديمقراطية.
لو أن هناك مقارنة يمكن أن نقيمها مع أوربا سنة 1848، حينما انطلق المد الثوري الشرس فلم يسلم منه غير بريطانيا وأسبانيا، وإن بقيت الملكة فكتوريا خائفة ـ وفي ذهنها الوثائقيون [من دعاة التشارتية Chartism وهي حرمكة إصلاح سياسية اجتماعية شهدتها بريطانيا منتصف القرن التاسع عشر، المترجم]. حتى أنها كتبت رسالة إلى ابن أخيها المحاصَر على العرش البلجيكي معربة عن تعاطفها معه ومتسائلة في الوقت نفسه عما إذا "كانوا سوف يذبحوننا جميعا في أسرَّتنا". على قلق توضع الرءوس لا على الوسائد، الرءوس حاملات التيجان والخوذ المرصعة بالجواهر، الرءوس ذوات البلايين المكدسة في البنوك الأجنبية.
شأن الأوربيين في سنة 1848، تحارب الشعوب السيطرة الأجنبية (كشف استطلاع رأي حديث أن 82% من المصريين ينظرون "نظرة سلبية إلى الولايات المتحدة" [أجرت الاستطلاع مؤسسة بيو ونشرت نتائجه في يونيو 2010 ـ المترجم]) ويحاربون انتهاك حقوقهم الديمقراطية، ويحاربون نخبة أعمت أعينها الثروة الحرام، ويحاربون من أجل العدالة الاقتصادية. وذلك شكل مختلف من موجة القومية العربية الأولى التي كان همها في المقام الأول هو إجلاء بقايا الإمبراطورية البريطانية عن المنطقة. حينها، أمم المصريون في ظل حكم ناصر قناة السويس فتعرضوا لغزو بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ـ وإن تم ذلك بغير إذن من واشنطن مما أدى بعد ذلك إلى أن انسحب الثلاثة مكرهين.
انتصرت القاهرة. أطيحت بالملكية المدعومة بريطانيًّا بثورة 1958 في العراق، وصل الراديكاليون إلى الحكم في دمشق، حاول أمير سعودي القيام بانقلاب ثم فر إلى القاهرة عندما فشل، نشبت صراعات مسلحة في اليمن وفي عمان، وكثر الكلام عن أمة عربية ذات ثلاث عواصم متزامنة. وكان من الآثار الجانبية لتلك الحالة أن حدث انقلاب عجيب في ليبيا أتى إلى الحكم بضابط شاب نصف متعلم هو معمر القذافي الذي ظل أعداؤه السعوديون مصرين طوال الوقت على أن الانقلاب الذي جاء به إلى الحكم تم بتدبير من المخابرات البريطانية شأنه في ذلك شأن الانقلاب الذي جاء بعيدي أمين إلى الحكم في أوغندة. ولقد أعلن القذافي صراحة أن القومية والحداثة والراديكالية كلها جزء من العرض، شأنها شأن قصص الخيال العلمي الشبحية التي كتبها.
لم يمتد شيء من كل ذلك إلى شعبه. وبرغم الثورة النفطية رفض تعليم الليبيين، أو توفير الرعاية الصحية لهم، أو دعم الإسكان، وبقي يهدر المال على مشاريع عبثية بالخارج ـ فكان من بين هذه المشاريع تحويل مسار طائرة بريطانية كانت تقل اشتراكيين وشيوعيين ينتمون إلى المعارضة السودانية بهدف تسليمهم إلى الطاغية الشقيق جعفر نميري ليتم شنقهم، ومن ثم يتم إجهاض إمكانية أي تغيير ثوري في ذلك البلد، وتكون عواقب أليمة نشهدها كل يوم. أما على المستوى الداخلي فقد أبقى على نظام قبلي صارم، ظنا منه بأنه قادر أن يفرق القبائل ويشتريها فيبقى في الحكومة. لكن إلى حين.
كان انتصار إسرائيل في حرب عام 1967 الخاطفة ناقوس الموت للقومية العربية. أدت صراعات مميتة في سوريا والعراق إلى انتصار البعثيين اليمينيين بمباركة من واشنطن. وبعد موت ناصر والانتصار الباهظ  الذي حققه خليفته السادات على إسرائيل سنة 1973 قررت نخبة مصر العسكرية أن تضع حدا لخسائرها وقبلت ببليوني دولار سنويا دعما من الولايات المتحدة وبالتعامل مع تل أبيب. وفي المقابل تم تكريم دكتاتورها تكريما يوروأمريكيا وبات يعد رجل دولة، مثلما كان صدام حسين قبل وقت طويل. وليتهم كانوا تركوه لشعبه يطيح به بدلا من أن يطاح به بحرب واحتلال كلاهما قبيح وكلاهما مدمر، وكلاهما أثمر عن مليون من الموتى وخمسة ملايين من الأطفال اليتامى.
لقد قامت الثورات العربية ـ التي أوقدت الأزمة الاقتصادية شرارتها ـ بتعبئة الحركات الجماهيرية، ولكنها لم تطل جميع جوانب الحياة. فإذا كانت الحقوق الاجتماعية والسياسية والدينية موضع جدل محتدم في تونس، فهي ليست كذلك في أماكن أخرى. لم تظهر بعد أحزاب جديدة، وهو ما يؤشر إلى أن المعارك الانتخابية القادمة سوف تكون عبارة عن منافسات بين التيارين العربيين اللبرالي والمحافظ، والأخير يتمثل في الإخوان الممثلين الذين يحتذون حذو الإسلاميين الحاكمين في تركيا وإندونسيا، والذين يستكينون في أحضان الولايات المتحدة.
لقد تعرضت السيطرة الأمريكية في المنطقة لضربة ما، ولكنها لم تنته تماما. ومن المرجح أن تكون أنظمة الحكم في مرحلة ما بعد الطغاة أكثر استقلالا، وأن تؤسس أنظمة ديمقراطية طازجة ومسيطرة، وأن تضع فيما نتمنى دساتير جديدة تؤمِّن الاحتياجات السياسية والاجتماعية. ولكن الجيش في مصر وتونس سوف يعمل على ألا يحدث شيء بصورة طائشة. والقلق اليوروأمريكي الكبير الآن يتمثل في البحرين. فلو أطيح بحكامها سوف يصعب منع وصول المد الديمقراطي الشرس إلى المملكة العربية السعودية. فهل تملك أمريكا أن تسمح بحدوث هذا؟ أم تراها سوف تنشر قوات مسلحة للحفاظ على بقاء الفاسدين في الحكم؟
لقد حدث قبل عقود قليلة أن غضب الشاعر العراقي العظيم مظفر النواب من اجتماع للطغاة يوصف بأنه قمة عربية، ففقد دماثته وكتب:
مبارك .. مبارك
مبارك .. مبارك
وبالرفاه والبنين
أبرقوا لهيئة الأمم

أمّا قمم

كمب على كمب
أبا كمباتكم على أبيكم
جائفين, تُغْلِق الأنوفَ منكمُ الرِمم
...
يا قمة الأزياء
يا قمة الأزياء
سُوِّدت وجوهُكم
من قمة حفلة عري فضة
ما أقبح الكروش من أمامكم
وأقبح الكروش من ورائكم
ومن يشابه كرشه فما ظلم

قمم ... قمم .. قمم...
معزى على غنم
مضرطة لها نغم
لتنعقد القمة, لا تنعقد القمة
لا.تنعقد القمة

أي تفو على أول من فيها
إلى آخر من فيها
من الملوك .. والشيوخ .. والخدم
مهما يكن، لن تكون القمم العربية من بعد كما كانت. فالشعب الآن انضم إلى الشاعر.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق