كان أقرب أصدقائي قد تزوج من زميلة لنا بعد قصة حب عاصف. تزوجها مبكرا، فكانت ابنته منها أول من ولد لواحد من جيلنا. ابنته يمنى. وكنت للمرة الأولى أكتشف أن نفوري من العادات الاجتماعية ليس أصيلا في نفسي؛ فقد ذهبت إلى بيت صديقي ذلك، وحملت ابنته، ورحت أبحث في قسماتها عن أبيها وأمها. وعدت إلى البيت فكتبت لها قصيدة (وهو شيء لن أفعله عندما يولد لي بعد ذلك ولد فبنت).
كنت قبل ذلك بشهور طويلة، وبعد ذلك بشهور طويلة (حتى منتصف 2005) أنشر ترجمات بصفة شبه منتظمة في أسبوعية "أخبار الأدب"، وطوال تلك الفترة لم أفكر في نشر قصيدة لي فيها. ربما بدافع الخجل. فقد كان الذهاب بقصيدة إلى محرر، أو حتى إرسالها إليه، يبدو لي فعلا مخجلا. بينما كنت ولا أزال أعتبر نشري للترجمات (سواء كانت نصوصا أم مقالات أم أخبارا) خدمة للقارئ بقدر ما هي خدمة لي، ومهنة كذلك. كنت ـ ولعلي لا أزال ـ أعتبر أن الجلوس أمام ورقة بيضاء والإتيان بشيء جديد إلى العالم أمر يحتاج كثيرا من الجرأة، وأن نشر هذا الشيء على الناس والرغبة في أن يقرأوه أمر آخر، ينطوي على شيء من الوقاحة!! ثم إنني كنت أحصل على أجر لقاء ترجماتي تلك، وهو أمر لم يكن متوقعا في حالة النصوص المؤلفة.
غير أنها كانت قصيدة مهداة إلى "يمنى"، وكان اسم يمنى في عنوانها. وأردت ـ مثلما ينشر الصحفيون صور أعراس أصدقائهم ـ أن أنشر تلك القصيدة. ونشرت "أخبار الأدب" القصيدة بالفعل. وقررت ألا أنشر شعرا مرة أخرى في "أخبار الأدب".
كانت القصيدة مؤلفة من مقاطع كل منها عبارة عن سطر طويل أو سطور قليلة، وبين كل مقطع والتالي له مساحة من البياض، رأيت فيها ضرورة إيقاعية. غير أن القصيدة نشرت على عمود، أو ربما نصف عمود، وبدون فراغات بين مقاطعها، فجاءت مكسدة، محشورة، منبعجة، لا تصلح مطلقا كـ "هدية".
كان ذلك أول عهدي وآخره بنشر شعري في "أخبار الأدب" (أرسلت بعد سنين من تلك الواقعة قصيدة إلى الكاتب "عزت القمحاوي" مدير تحرير الجريدة ممهدا له بأنني أعرف جيدا أن من الصعب نشرها لما فيها من جرأة، وفعلا، لم تنشر إلى الآن في "أخبار الأدب" ولم أحاول نشرها في مكان آخر).
وتمر سنوات، وتولد جريدة حسنة الإخراج، جريئة، متخصصة في الشعر، ولبنانية أيضا كميزة إضافية. اسمها "الغاوون". وأرسل إليهم نصا طويلا، فيحتفون به، وينشرونه، ولكنهم يغيرون عنوانه، هكذا من تلقاء أنفسهم. صحيح أن بعض من حكيت لهم الحكاية قالوا لي إن العنوان الذي اختاره المحرر لقصيدتي أجمل من عنواني، ولكن ذلك لم يبد لي قط مبررا كافيا لتغيير عنوان قصيدة.
ربما لا يحق لأحد أن يعترض على تغيير عنوان مقال مثلا. ربما لا يحق لي حتى أن أندهش لوأن عنوان هذا المقال تغير عند نشره في جريدة أو مجلة فأصبح مثلا: "من اللواء إلى المقطم يا قلب لا تحزن". ولكن من حقي وربما من واجبي عندما يغير محرر عنوان قصيدة لي بدون الرجوع إلي في ذلك أن أرسل إليه معبرا عن استيائي، وأن أقرر عدم التعامل مع جريدته مرة أخرى. وهذا بطبيعة الحال ليس عقابا للجريدة، بل مجرد تعبير هادئ للغاية عن الغضب مما حدث.
وأخيرا "الكتابة الأخرى". حلم الماضي الذي يتحقق من جديد، وبعد طول انتظار. المجلة الجريئة التي صدر في تسعينيات القرن الماضي لتنشر الأجرأ والأكثر تجريبية في الكتابة المصرية آنذاك، قبل أن تتوقف لمدة عقد كامل.
أتلقى رسالة من الشاعر "علي منصور" يطلب مني فيها المشاركة بقصائد في محور عن الشعر الجديد، وبشهادة عن "قضايا الشعر المعاصر". ومع أنني لست بالقادر مطلقا على الكتابة في "قضايا الشعر المعاصر" إلا أنني أجتهد، وأقضي أسابيع باحثا عن منفذ إلى ذلك، وأكتب مقالا رديئا، وأرسله. وتصلني من الشاعر "ياسر عبد اللطيف" رسالة رقيقة ينبئني فيها بأن المشاركة المطلوبة ينبغي أن تتضمن شهادة إبداعية، شهادة عن علاقتي بالكتابة، أو بكتابة قصيدة النثر، لا عن حالة الشعر الراهنة. كان الوقت المتبقي قبل صدور العدد ضيقا، ولكن الرغبة في التواجد في "الكتابة الأخرى" كبيرة، والعون الذي قدمه لي ياسر كبيرا ومحبا، فصعب علي الاعتذار، وكتبت، وأرسلت، ونشرت الشهادة كاملة، والنصوص جميعا (وكنت أتوقع اعتراضا على نص فيه سخرية عابرة من جيل التسعينيات الشعري).
وقررت ألا أعاود النشر في "الكتابة الأخرى" من جديد.
ففي تقديم المجلة للمحور (صفحة 274)، جعلني المحرر مثالا على الذهاب "إلى أقصى درجة ـ وربما الاستلاب الكلي ـ تحت وطأة المفهوم الغربي لقصيدة النثر".
لقد سبق لي أن كتبت في مقدمتي لديواني "وقصائد أخرى" ـ أو "أحمد شافعي وقصائد أخرى" إن شئتم ـ أن جميع قصائد ديواني ذلك "رد فعل لتفاعلي مع قصيدة النثر الغربية، الأمريكية تحديدا". وما قلت ذلك من قبيل الاعتراف بذنب، بل لأعطي قارئ الكتاب سياقا ربما يبدد له شيئا من الإحساس بغرابة قصائد الكتاب واختلافها، وهي قصائد غريبة ومختلفة، وكنت أعي غرابتها واختلافها وأنا أختار للكتاب عنوانه، مشيرا إلى أنها "قصائد أخرى".
لا أعتقد أننا نرسل نصوصنا إلى المجلات باحثين عن "تقييم" منها، ولا أحسب من حق المجلات أن تمارس دور النقاد، ولا أتصور من النزاهة أن تصادر مجلة على قرائها، ولا أقبل وفقا لأي مبرر أن أوصف بالاستلاب، ولا أملك إلا أن أرى في هذا الوصف إهانة أرفضها. كما لا أملك ـ والعدد الأخير من "الكتابة الأخرى" متاح للجميع ـ إلا أن أعلن موقفي هذا، برغم ثقتي فيما قاله له الأصدقاء "ياسر عبد اللطيف" و"هشام قشطة" و"علي منصور" عن ذلك الارتباك الذي أدى إلى نشر مسودة المقدمة بدلا من نسخة منقحة منها حلت فيها مفردة "الانحياز" محل "الاستلاب".
ويا مدونتي العزيزة: كم فرطت في حقك
(نشر هذا الإدراج لا يشير إلى أي تغيير في طبيعة المدونة، هي مدونة مخصصة للترجمات وحسب، وهذا مجرد استثناء يؤكد القاعدة)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق