الثلاثاء، 8 أبريل 2008

سيميك عن كافافي


عن كفافي

تشارلز سيميك


كان شاعر َعالمٍ لم يعد له وجود. منذ مائة عام، كانت هناك جاليات يونانية متناثرة على طول ساحل المتوسط في آسيا الصغرى، وفي جنوب شرق أوربا، ولكنها توزعت أو اندثرت. أنا شخصيا أعرف النزر اليسير عن تلك الجاليات، إذ إن جزءا من عائلة أمي ينحدر من تجار يونانيين سمح لهم العثمانيون أن يقيموا في بلجراد في أواخر القرن الثامن عشر، فطاب لهم المقام، وأثْروا، وبمرور الزمن تزاوجوا مع الصرب حتى فقدوا خصوصيتم العرقية. ولكن أمي في شبابها كانت تسمع حوارات باليونانية في بيوت بعض من أفراد العائلة. وذلك وإن لم يحدث لي إلا أنني أذكر كم كان هؤلاء الأقارب من الخالات وأبناء الخئولة يبدون لي أجانب، وكم كانت شققهم الصغيرة المعتمة تبدو مكدسة بالأثاث، وجدرانهم مكسوة بالسجاد التركي، والأيقونات، وصور القساوسة والرجال السمان ذوي الشوارب الكثة الذين كانوا يحملقون فيّ بينما أنا أعبث هنا وهناك. وكانت هناك كتب ومجلات قديمة بلغات كثيرة. كانوا قوما متعلمين، درسوا بالخارج، ولكن أسرهم تفككت منذ زمن وصاروا على شفا الاندثار. تذكرت تلك الشقق المتخمة وأنا أقرأ عن بيت كفافي المزدحم بأثاث أمه في الحي اليوناني القديم من الإسكندرية. كان أسفل البيت ماخور من مواخير عديدة في الشارع الذي كانت فيه أيضا كنيسة ومستشفى. وليس بعسير على المرء أن يتصوره جالسا سهران بالليل في غرفة نومه، التي كان يتخذ منها مكتبا أيضا، يحملق عبر نظارته الضخمة في قصيدة ملقاة على المنضدة غير مكتملة، أو ينظر عابرا المصباح الزيتي تجاه الشباك الذي تأتيه منه جلبة الشارع.
"ضرعت إليك يا ذكرى فكوني خير عون لي" هكذا كتب كفافي في إحدى قصائده وإن لم يكن بحاجة إلى الضراعة، فلم يكن له من خيار آخر، ولا حديث لأسرته في أغلب الحالات إلا عن الماضي، والأماكن العديدة التي عاشوا فيها، وغرابة ما آلت إليه أحوالهم. ولد قسطنطين كفافي في التاسع والعشرين من ابريل عام 1863 في الإسكندرية، فكان تاسع تسعة أبناء لبطرس كفافي وتشاريكليا فوتيادس وكان كلاهما ينحدران من أسرتين ميسورتي الحال في القسطنطينية. سافر بطرس في عام 1836 إلى إنجلترا ليلحق بشقيقه الأكبر، فيعملا في شركات يونانية في مانشستر وليفربول ولندن حتى عام 1849، وفيه قررا أن يعودا إلى الوطن ويؤسسا شركة الأخوين كفافي، وظلت الشركة تعمل على نحو طيب لعدد من السنوات في تصدير القطن المصري واستيراد المنسوجات الإنجليزية إلى الإسكندرية حيث كان يوجد مقر الشركة الرئيسي. ولسوء الحظ، مات بطرس في عام 1870، عن ستة وخمسين عاما تاركا للعوز زوجته وأبناءه. وتولى أكبر شابين من أبنائه العمل ولكن انعدام الخبرة لديهما أدى إلى مصاعب مالية فأرغم الأسرة على ترك بيتها ذي الطابقين، بل وحي اليونانيين كله الذي لم يكن يحتوي أسرتهم الكبيرة فقط، بل والشركة نفسها. في عام 1872، وإثر مجابهة أول أزمة حقيقية، سافرت الأسرة إلى إنجلترا، وبقيت فيها ست سنوات، بدأت في لندن ثم في لندن، وحصل أفراد الأسرة على الجنسية البريطانية. وبعد أن انفضت شركة الأسرة، عاد أفرادها إلى الإسكندرية عام 1877، ليتركوها بعد خمس سنوات إثر اندلاع مظاهرات مناهضة للمسيحيين تسببت في موت كثير من الأوربيين وأسفرت عن قصف بريطاني للمدينة أتى على البيت الذي كانوا يستأجرونه.
أقام قسطنطين ووالدته مع أبيها في القسطنطينية ثلاث سنوات. وبعد عودتهما إلى الإسكندرية عام 1885، تنازل قسطنطين عن جنسيته البريطانية وحصل على الجنسية اليونانية. وعمل صحفيا، ووسيطا ماليا وموظفا في سوق الأوراق المالية المصرية، قبل أن يصبح في التاسعة والعشرين من عمره موظفا في شئون الهجرة ليبقى كذلك حتى تقاعده بعد ثلاثين عاما. عاش مع أمه، وبعد موتها عام 1899 عاش مع أحد إخوته، ثم عاش وحده لآخر خمسة وعشرين عاما من حياته. ولكنه برغم ذلك لم يكن يعزل نفسه عن العالم كما يحلو للبعض أن يتصوروا. فقد قد كان يقضي أمسياته في المقاهي مع الأصدقاء ويستقبل في بيته الضيوف. ويروي الناس عنه أنه كان ثرثارا مسليا. ولأن كفافي لم يسع قط لأن يكون لقصائده ناشر تجاري، فقد كان بحاجة دائمة إلى حلقته الصغيرة من الأصدقاء الذين لم يكن له من قراء سواهم، والذين كان يرسل إليهم ما يطبع في بيته بين الحين والآخر من مناشير وكتابات.
برغم كونه رجلا واسع الثقافة، إلا أن كفافي لم يكد ينال حظا من التعليم الرسمي. فقد درس لفترة وجيزة في مدرسة تجارية بالإسكندرية، فكانت ذلك فيما يبدو غاية ما تلقاه من التعليم المدرسي. غير أنه درس في صباه على يد أستاذ للفرنسية، كما يفترض أنه درس على يد أستاذ للإنجليزية أيضا وذلك لأنه خلال السنوات التي قضاها في إنجلترا بين التاسعة والرابعة عشرة من عمره لم يتقن الإنجليزية وحسب، بل وألف تقاليدها الشعرية إلى حد أنه كتب أشعاره الأولى بها. بل إن بعضا ممن عرفوه يقولون إنه كان ينطق اليونانية بلكنة إنجليزية خفيفة. في بيت جده بالقسطنطينية واصل دراسته للغات وقرأ دانتي بلغته الأصلية, والأهم من ذلك أنه بدأ يقرأ الشعر اليوناني المعاصر وينشئ في نفسه الاهتمام الذي سيلازمه طوال حياته بالتاريخ البيزنطي والهيليني الذي استلهمت منه أكثر قصائده، ومن بين شعراء هذا التراث اللذين راقوا له على نحو خاص كتَّاب الإبجرام Epigrammatists القدامى والشاعر الغنائي سيمونيديس السيوسي (556 ـ 468 ق م)، والشاعر الأثيني كاليماخوس والشاعر لوسيان. وقد ساقه اهتمامه باللغات إلى قراءة ييانيس سيهاريس الذي اشتهر ألسنيا وداعية من دعاة القومية، والذي كان يسخر من الشعراء الذين يستخدمون معجما مهجنا من اليونانيتين المعاصرة والقديمة ويقول إن الأحرى بهم أن يستخدموا ما يتكلمه الناس بالفعل من لغة. ودام مران كفافي قرابة واحد وعشرين عاما بين عامي 1882 و1903، تعرض فيها بين الحين والآخر لتأثيرات من شيلي وكيتس وهوجو والرمزيين الفرنسيين والبارناسيين وكذلك شعراء الرومانتيكية اليونانيين.
كان في الحادية والأربعين عام 1905 حين ظهرت أربع عشرة قصيدة له في منشور، عمل على توسعته بعد ذلك في عام 1910 بإضافة سبع قصائد أخرى. وأضيف المزيد في السنوات التالية في كراسات وكتيبات كان يرتبها موضوعيا أو زمنيا. ومع أنه يقال عن كفافي إنه كان يكتب سبعين قصيدة في العام، إلا أنه لم يكن يحتفظ بغير أربع أو خمس منها ويتخلص من البقية. كان يكتب الشعر المرسل في البحر الأيامبي، إما مقفى أو حرا، وإن لم توجد لديه قصيدة بغير بنية. وبمرور السنوات، بدأ شعره يظهر في مجلات، سواء في الإسكندرية أو اليونان. وكان يلقى في وطنه مزيدا من التقدير، فهناك أصيب كثير من النقاد بالهلع لما رأوه في أعماله من مزج بين الأدبي الرصين واليومي المبتذل. وكان من تصاريف القدر، أن التقى في عام 1915 بـ إي إم فورستر وكان في ذلك الوقت قد تطوع في الصليب الأحمر وتم توزيعه على الإسكندرية خلال الحرب العالمية الأولى، فرتب فورستر للترجمات الأولى لأعمال كفافي إلى اللغة الإنجليزية وعمل على تقديمها لشخصيات من أمثال تي إس إليوت ودي إتش لورنس وإليكم وصف فورستر لكفافي:
جنتلمان يوناني، يعتمر قبعة من القش، ويقف بلا حراك مطلقا، منزويا قليلا عن الكون. ذراعاه مفرودان، أيكون ... نعم، إنه مستر كفافي، وهو ذاهب إما من الشقة إلى المكتب، أو من المكتب إلى الشقة. فلو أنها الأولى، فإنه يختفي بمجرد أن يلمحه أحد، وبإيماءة رهيفة من القنوط. وإن كانت الثانية فلعلك تقنعه بأن يبدأ جملة ... وإن تكن جملة ضخمة معقدة أنيقة الشكل، حافلة بما بين أقواس لا تنفض، وبتحفظات لا تنطوي حقيقة على تحفظات، جملة تمضي بمنطقها إلى غايته المرئية، غير أنها غاية دائما ما تكون أكثر حيوية وإدهاشا مما يمكن للمرء أن يستشرف.
في ذلك الوقت، كان حتى أولئك الذين يعرفون كفافي شاعرا قديرا، لا يعرفون أنه كتب كما كبيرا من الشعر وأنه كتب بعضا من أفضل القصائد في زمانه. إليكم على سبيل المثال أشهر قصيدة له وهي قصيدة "في النتظار البرابرة" التي كتبها في نوفمبر من عام 1998 وإن لم يطبعها إلا في عام 1904 بترجمة جديدة [إلى الإنجليزية] قام بها إفانجيلو ساتشبيروجلو والتي أفضلها قليلا عن ترجمة ستراتيس هفياراس:
ـ ما الذي ننتظره، مجتمعين هكذا في الساحة؟
البرابرة قادمون اليوم
ـ وما سر هذا السكون الذي يخيم على مجلس الشيوخ؟
وفيم جلوس الشيوخ كذلك لا يشْرِعون؟
لأن البرابرة سيصلون اليوم.
فأي نفع في قوانين يشرعها الشيوخ
والبرابرة اليوم قادمون، وسوف يشرعون؟
ـ وفيم نهوض الإمبراطور مبكرا هكذا
وفيما جلوسه لدى البوابة الكبرى لمدينتنا
معتليا العرش
مرتديا التاج
ساكنا مثل هذا السكون؟
لأن البرابرة سوف يصلون اليوم.
ويحسب الإمبراطور أنه ملاق زعيمهم.
وقد تهيأ بالفعل ليقدم له رسالة على أنفس الورق،
خلع عليه فيها الكثير من الألقاب والأسماء.
ـ ما الذي أخرج قنصلانا، والقضاة، اليوم
في عباءاتهم القرمزية المطرزة
وفيم ارتداؤهم هذه الأساور المرصعة بالجَمَشْت
والخواتم ذات الزمرد البراق،
وفيم يحملون عصيهم النفيسة المشغولة من ذهب وفضة؟
لأن البرابرة سيصلون اليوم
وتلك أشياء تزيغ لها أعين البرابرة.
ـ وما الذي أسكت اليوم وعاظنا
فلا يعيدون علينا ما يقولون في خطبهم؟

لأن البرابرة سيصلون اليوم
وهم يضيقون بالبلاغة والخطابة.
ـ وما سر هذا التخبط الفجائي والهياج؟
(يا للكدر المرتسم على وجوه الناس)
وما سر هذا الخواء
الذي ألم بالشوارع والميادين
والناسُ فيم يعودون للبيوت سراعا
غارقين في الوجوم؟
لأن الليل حل، ولم يصل البرابرة.
ولأن قوما أتوا من الحدود وقالوا:
لم يعد ثم برابرة كي يجيئوا.
ـ والآن، ماذا يكون من أمرنا نحن دون برابرة
وقد كان في هؤلاء لنا
حل من نوع ما.
قرأ كفافي كتاب جيبون "قيام وانهيار الإمبراطورية الرومانية" بين عامي 1893 و1899، مدونا ملاحظات بما اختلف فيه مع المؤرخ الذي أثار حفيظته بتهوينه من شأن بيزنطة والمسيحية. ولكنه في الوقت نفسه اعتنق رؤية جيبون التهكمية للتاريخ، فكان في التهكم براؤه من التأريخ الرومانتيكي للذات، ومن الصوفية الرمزية، وهذا التهكم هو الذي جعل منه شاعرا حديثا. حيث نرى في قصيدته "في انتظار البرابرة" ـ التي لم تزل صالحة لوصف كل دولة تحتاج إلى أعداء، وهميين كانوا أم حقيقيين ليكونوا مسوغا أبديا ـ كيف يستسلم المدافعون حتى قبل ظهور العدو. لقد كان كفافي يصف نفسه قائلا "إنني شاعر تاريخي، أو شاعر مؤرخ" [يرد قول كفافي باليونانية بجانب الإنجليزية في الأصل]. وما يلحظه الشاعر ـ وتزيغ عنه عينا المؤرخ ـ هو مدى سيادة السلطة المطلقة الطفولية الحمقاء على الأحداث، أو العالم الذي يصاحبنا فيه طول الوقت وهم ذاتي مهلك فيه من الملهاة مثل ما فيه من المأساة.
تتألف أعمال كفافي من مائة وأربع وخمسين قصيدة. وفي هذين الكتابين الجديدين ـ كتاب ساتشبروجلو "القصائد الكاملة" وكتاب هفياريس "الأعمال الكاملة" ـ ترجمة لكل هذه القصائد مجتمعة. إضافة إلى ثلاثين قصيدة غير مكتملة، صدرت بعد وفاته، وهي الأخرى جديرة بالقراءة. لقد قال كفافي إن قصائده تأتي في ثلاث فئات: قصائد ليست "فلسفية" بمعنى الكلمة ولكنها تدفع إلى التفكير، وقصائد تاريخية، وقصائد لذائذية أو جمالية استطيقية. تنزع أغلب قصائد الفئة الأولى إلى الوعظ، بينما أغلب قصائد الفئة الثانية مونولجات درامية، وقصائد الثالثة غنائية. كما أن هناك قصائد لا تلائمها أي من هذه الفئات مثل قصيدته البديعة "صلاة" التي تذهب فيها أم أحد البحارة إلى الكنيسة فتجثو عند قدمي العذراء داعية أن يعود ولدها سالما، بينما الأيقونة تصغي لها في جلال وهي تعرف أن ابنها لن يعود. لو لم يكن كفافي شاعرا لكان ـ حسب ما قال ـ مؤرخا.
لكي أزجي الوقت ربما
أو أدرس العهد
أخذت ليلة أمس أطالع بعض كتابات البطالمة

هكذا يستهل كفافي إحدى قصائده. أما المراحل التاريخية التي كانت تثير اهتمامه فهي العصر الهلليني (بين القرنين الرابع والأول قبل الميلاد) وعهد الرومان (من القرن الأول ق م إلى القرن الرابع الميلادي) وأواخر العصر البيزنطي (بين القرنين الحادي عشر والرابع عشر) بما شهدته تلك العصور من أنماط حياة كوزموبوليتاني (عالمي) وحضارات رفيعة واضطرابات دينية وسياسية أدت في النهاية إلى هلاكها جميعا. وكان كفافي يجد موضوعاته في النوازل والأحداث التي حلت بالقدامى من السكندريين والأنطاكيين والصقليين أو بالهلينيين من أهل مصر وسوريا وميديا. يجتمع في قصائد كفافي التاريخية النوستالجيا والواقعية. قد ينساق في حالة حلمية ـ وغالبا ما كان يحدث ذلك ـ فيفكر في طرف من الحياة التاريخية لشاب شاب جميل وموته المبكر، لكنه لا يغفل عما في يومه المعاصر من صراعات القوى الساخرة. فكفافي "يفتش أكثر مما يعلق، كما أنه ينفر من إلقاء اللوم ومن الإفادة من شكوكه" حسب ما يقول شيموس هيني في تمهيده لترجمة هفياراس. وكان كفافي مفتونا بالطغاة الذين لا تستحوذ على عقولهم غير فكرة واحدة مجنونة، فقد كتب ست قصائد على سبيل المثال تناول فيها جميعا جوليان الملحد، وهو امبراطور روماني فاسد عاش في القرن الرابع وحاول أن يمحو المسيحية ويعيد الوثنية في صورتها المتعصبة. كما كان يكتب عن أناس يقعون بين الاثنتين، أي المسيحية والوثنية، كما يقول في قصيدة "كاهن معبد سيرابيس" التي أحسن هفياراس ترجمتها [إلى الإنجليزية] وفيها يبكي قس مسيحي والده الميت، الذي كان كاهنا في معبد سيرابيس بالإسكندرية:

على أبي الشيخ، العطوف،
على الذي أحبني على الدوام
عليه أبكي،
على أبي الشيخ العطوف
وقد قضى قبيل فجر أمس الأول.

يا يسوع الحبيب
في كل فعل وقول وخاطر
أحاول ما استطعت
ألا أحيد عن صراط كنيستك الشريفة.
وألا أوالي من ينكرونك.
لكنني الآن أبكي وأجزع يا يسوعي الحبيب
لموت أبي الطيب
حتى وإن كان
ـ وما أبشعها على لساني ـ
كاهنا في معبد سيرابيس اللعين.
أما القصائد الموسومة باللذائذية أو الجمالية فتتعامل أساسا مع الحب الأيروتيكي المثلي. لم يكن كفافي يعنى بإخفاء حقيقة كون ميله الجنسي ـ كما كتب في قصيدة ـ موضع ازدراء ومنع، وإن يكن غريزيا. وتكشف مذكراته أن مثليته لم تكن تعذبه بقدر ما كانت يعذبه الإحساس بالذنب من الاستمناء. لم تكن لكفافي حسب ما نعلم غير علاقة واحدة طويلة مع رجل اتخذ منه كفافي وصيا أدبيا قبل عشر سنوات من موته في عام 1933 بسرطان الحلق. وتبين لنا القصائد أن حياة كفافي شهدت العديد من العلاقات العابرة وربما القليل من العلاقات الأكثر جوهرية. ويكاد يكون الموضوع الدائم لهذه القصائد هو تلاشي ذكرى شاب ما من الطبقة العاملة، والوقت القصير الذي قضياه معا، واللذة الحسية التي نالها، أو لم ينلها قط، ولحظات النشوة العابرة التي يتوق إلى المرور بها من جديد. وتوشك هذه القصائد أن تضعف بسبب من سنتمنتاليتها، لكنها حينما تنجح، تكون فيها صلابة واستقلالية، كأنما الفعل الذي تحتويها يعرض على شاشة سينما. هذه قصيدة "جاءت ليرتاح"، وهي من ترجمة هفارياس.
لا بد أنها كانت الواحدة ليلا،
ولعلها الواحدة والنصف.

في ركن من الحانة
خلف الحاجز الخشبي
كانت الحانة خاوية إلا من كلينا.
ولم يكن إلا بصيص من النور
يلقيه مصباح كيروسين.
وفي المدخل، النادلُ، المجهدُ، منكفئ الرأس.
لم يكن أحد يرانا
ولكننا كنا أثرنا نفسنا إلى حد أنا
عجزنا عن التوقف.

حرمتنا ثيابنا شبه المفتوحة من البداية،
في شهر يوليو شديد الحرارة ذلك.
بهجة الجسم إذ يرى عبر تلك الثياب
بهجة الجسم العاري،
صورة تدوم ستة وعشرين عاما،
وها هي الآن جاءت لترتاح في هذه الأبيات.
بالنسبة لشخص كان هاجسه في أكثر ما كتبه هو الأيروتيكا، فإن كفافي كان عفيفا على نحو بالغ الغرابة. كان حسيا، ولكنه أغفل ذكر أكثر ما كان مهتما به. فوصفه الحب يخلو من التفاصيل. ومن ثم فالقارئ مخير في ملء هذه الفجوات بخياله. وذلك قد ينجح في قصائد كالتي أوردتها للتو، لكنه لا يفلح مع جميع القصائد. كان كفافي يجتنب التصوير والتشبيه والثراء اللفظي في أكثر قصائده. وكان يستخدم الكلمات بمعانيها، ويرضى كل الرضا حين يصف جسدا شابا جميلا بأنه كذلك وكفى. ويذكرنا بيتر مكريدج في مقدمته الوافية لترجمة ساتشبروجلو أن هذا الأمر لم يكن يشغل كفافي. فالفن ليس تمثيلا للواقع أو محاكاة للحياة، أو نسخا للطبيعة. والتجربة بصورة أساسية مسألة جمالية. وهي تفرض إرادتها على الموضوع، مزيلة عنه تدخلات العالمين الطبيعي والاجتماعي. والأمر لا يقتصر على خلو قصائد كفافي من الجنس، بل إن عشاقه أنفسهم غير مشخصين. فهل هم يونانيون أم عرب؟ لا يقول. أما المدهش بحق فهو خلو اسكندريته من المصريين.
وبغض النظر عن رأي المرء في رؤية كهذه، فإنها تزيد من صعوبة عمل المترجمين الذين يواجهون في الغالب قصائد تتألف من أقوال عامة ليس فيها من الشعر إلا القليل. ها هي ترجمة ساتشبرجولو لقصيدة "إلى اللذة الحسية":
بهجة حياتي وبلسمها
في ذكرى الساعات التي
وجدت فيها اللذة الحسية وأمسكت بها.
بهجة حياتي ولذتها
لي أنا الذي تعاليت عن فرحة الهوى المألوف.
والقصيدة في ترجمة هفياراس ليست أفضل من ذلك، وهي أيضا بائسة بالقدر نفسه في ترجمة إدموند كيلي وفيليب شيرارد، وترجمة راي دالفن أيضا. فمع أن كفافي كان شاعرا عظيما، إلا أنه كان يستخدم الكليشيهات. وذلك يصدق بصورة خاصة على القصائد التي يحاول فيها تحليل حياته العاطفية، حيث نقع على عبارات مثل "وجودي كله أفرز/العاطفة الحسية المكبوتة" وكثير غيرها من التوافه التي لا يملك مترجم تحسينا لها. وذلك يجعل من الصعب على المرء أن يوصي بترجمة معينة له ويفضلها على الأخريات. ومن ثم فليس للقارئ المحب لكفافي إلا أن يقتني العديد من هذه الترجمات إذ غالبا ما يحدث أن يوجز مترجم حيث يسهب آخر، أو يتفوق مترجم على آخر. غير أنني معجب بالقيم الشعرية في ترجمة هفيارس (فقد تمكن حتى من المحافظة على التقفية في ترجمته لبعض القصائد المبكرة)، وأتذكر قصيدة ترجمها ساتشبيرلوجو ببراعة، هي قصيدة إيثاكا:
حين تبدأ رحلتَك إلى إيثاكا،
ادع ربك أن يطول الطريق ويحفل ويغص
بالمغامرات والمعرفة.
ولا تخش جبابرة ليستروجيا أو المردة السيكلوبات
بل ولا تخش بوسيدون الثائر:
فلست ملاقيهم في طريقك
ما سما فيك عقلك
ومستك في الروح والجسم عاطفةٌ نادرة.
أما الليستريجونيون والسيكلوبات
وحتى بوسيدون الغاضب
فلست ملاقيهم
ما لم تكن حاملا إياهم في روحك أنت
وما لم تقمهم أمامك روحُك أنت.

ادع ربك أن يطول الطريق
وأن تكثر صباحات الصيف
كلما دخلت، في فرحة وابتهاج،
مرافئ ما كنت تعرفها قبل ذلك،
وأن تحل بالأسواق الفينيقية
فتبتاع أطيب البضائع
من صدف ولآلئ، إلى عنبر وأبنوس،
إلى ما استطعت من أشهى العطور،
وأن تنزل من مصر في مدن بعد مدن
تقابل فيها رجال العلوم
فتأخذ عنهم ومنهم.

ولتبق إيثاكا بعقلك لا تغيب.
لأن الوصول لها منتهاك.
وإياك والعجلة في الرحلة
فالخير كله أن تستمر السنين الطوال
إلى أن تشيخ
وتلقي بمرساتك عند الجزيرة
ثريا بكل الذي نلته في الطريق
وغير مؤمل في ثراء تمنحك إياه إيثاكا.

إيثاكا منحتك بالفعل رحلة بديعة،
ولولاها لما كنت رحلت.
ولم يعد معها بعد ما تمنحك.

فإن بدت لك إيثاكا حينئذ فقيرة،
اعلم أنها لم تخدعك.
فها أنت عدت، وقد صرت إلى هذه الحكمة
والتجربة
وإذا أنت تعرف كنه الإيثاكات.
هذه قصيدة ساحرة، وفي كثير من قصائده، مثلما في هذه القصيدة، تحقق اللغة ـ برغم استوائها ونثريتها ـ جزالة وأناقة. إيثاكا هي نسخة كفافي من "الرحلة" لبودلير، و"المركب السكران" لرامبو، إلا أنها تنطوي على نبرة الراضي بقدره لا الثائر عليه. وفي حين نجد أن الشاعرين الفرنسيين يهربان من رتابة حياتيهما ويفردان الشراع صوب أراضي نائية حيث تنتظرهما مغامرات وإثارة لم تخطر لهما حتى في الحلم، فإن ما يهتم به اليوناني هو الرحلة نفسها وليس الوصول. فأي عزاء لمنفي، جرفته الظروف بعيدا عن منبته، وأدرك التعارض بين الفعل وبين معرفة الذات، إلا أن ينشد الحكمة فيما تلقيه، عرضا، إليه الحياة؟


كاتب المقال هو الشاعر الأمريكي يوغسلافي المولد تشارلز سيميك، أمير الشعراء الأمريكيين حاليا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق