أشياء تتهاوى
بوب طومسن
تخيلوا لو أن أحدا قال لـ تشينوا آتشيبي منذ خمسين عاما إن روايته الأولى ستشتهر عما قريب في شتى أنحاء العالم، إن روايته "أشياء تتهاوى" الصادرة عام 1958 سوف تفعلها وتبيع أحد عشر مليون نسخة في نحو خمس وأربعين لغة، وإن ابنته في فجر القرن الحادي والعشرين سوف تقوم بتدريسها للطلبة في الجامعات الأمريكية.
ترى ما الذي كان ليقوله؟
يجيب "لا أحسب أن الظن كان يمكن أن يذهب بأحد إلى ذلك، ولو حدث لقلت إنه مجنون".
وهنا، إذا بالكاتب الذي غير نظرة العالم إلى أفريقيا يميل برأسه إلى الوراء وينفجر في الضحك.
يجلس أتشيبي في غرفة المعيشة على مقعده المتحرك البسيط، في بيته الأليف في حرم كلية براد. رجل فضي الشعر، خفيفه، في السابعة والسبعين من عمره، نجا منذ ثمانية عشر عاما من حادثة سير في نيجيريا، ولكنها تركته مشلولا في نصفه السفلي، يتكلم بصوت خفيض صَعُب على المسجلة التقاطه في بعض الأحيان.
لكن ضحكته ـ المعدية المشفوعة بابتسامة عريضة ـ ظلت تتردد كل حين.
في غضون أيام قليلة سوف يقطع مائة وعشرة ميلا إلى هدسن، حيث يحضر حفلا يقام في قاعة بلدية منهاتن للاحتفال بخمسينية روايته "أشياء تتهاوى". ستكون توني موريسن واحدة من المتحدثين ومعها كتاب من أصل نيجيري من بينهم كريس آباني وتشيماماندا نيجوزي آديتشي. سوف يذكّر آباني المجتمعين أنهم اجتمعوا " لفرط خوفهم من مقدرة خيال كائن بشري واحد على النفاذ إلى حياة كل واحد فينا"
ولكن صاحب هذا الخيال القادر على صوغ الحياة يحاول الآن ما استطاع أن يبين لنا أنه لا يعرف من الأساس كيف تهيأ لـ "أشياء تتهاوى" أن تأتي إلى العالم.
يقول إن "الأمر غامض نوعا ما" فالكتاب "استولى علي، ولي أن أقول إنه الذي كتبني، فلست على يقين أنني الذي كتبته".
ولكي يبين ما ذهب إليه، يستفز آتشيبي الـ "تشي"، وهي الحارس الروحي الداخلي حسب معتقدات أهل أتشيبي من الإيجبو Igbo في جنوبي نيجريا، فهم يعتقدون أن التشي يرافق الفرد من المهد إلى اللحد، ولأن من الصعب شرح مفهوم الـ تشي، فمن الممكن القول إنه تجسيد عملي لقدر الإنسان.
يقول أتشيبي "بدا لي كما لو أن التشي يصنع مني ما ينبغي أن أكونه، أي كاتبا، كاتبا لقصتنا".
نوع جديد من الكتابة
يرى الكثير والكثير من الكتاب والباحثين والمعجبين أن ما كان مقدورا لأتشيبي أن يكونه هو أن يصبح أبا للأدب الأفريقي المعاصر، والكاتب الذي سيبرز طبيعة أفريقيا الحقيقية سواء أمام العالم أو أمام الأفارقة أنفسهم. فحينما يقول آتشيبي إنه "كاتب قصتنا" فهو يعني حسب ما يوضح بنفسه "قصة لقائنا مع أوربا، لا سيما المعاناة التي مر بها شعبنا نتيجة للقاء، والخسائر".
يقول إرنست إمنيونو رئيس قسم الدراسات الأفريقية في جامعة ميشيجن إنه "ما كان لكاتب أوربي أن يقدر على كتابة أشياء تتهاوى" لقد كانت "نوعا جديدا من الكتابة" وذلك لسببين:
الأول أن آتشيبي اتخذ من لغة المستعمر لغة لنفسه، ولكنها حفلت بأنماط الإجبو في الكلام، بأمثالهم، وحكاياتهم الفولكلورية ومعتقداتهم، فابتكر بذك لونا من الإنجليزية قادرا على "إبراز الجمالية والشعرية الأفريقية". والثاني أنه "اكتشف سيكولوجيا الغازي الإمبريالي" وتحدى الرؤى الأوربية.
أي أن جزءا مما عاناه الأفارقة على أيدي الأوربيين يتمثل في فقدانهم السيطرة على حكايتهم.
إلى أن جاء آتشيبي فاسترد الحكاية.
في الحوارات التي أجريت معه بعد سنوات قليلة من صدور "أشياء تتهاوى"، أشار آتشيبي إلى عامل من العوامل التي حفزته على كتابة الرواية، ويتمثل في الغضب الذي اعتراه بعد مطالعة "مستر جونسن" وهي رواية للكاتب الأيرلندي الإنجليزي جويس كراي. فالشخصية النيجيرية الأساسية في الرواية بدت ـ كما قال آتشيبي ـ مجرد "أحمق يثير الحرج" بينما يرقى تصوير كراي لأفريقيا بحسب آتشيبي إلى حد "نشر عدوى الاشمئزاز والكراهية والسخرية".
قال آتشيبي لزميليه الكاتبين وول شوانكا ولويس نكوسي في حوار أجرياه معه عام 1963 "لقد قلت لنفسي إن هذا عبث. ولئن كان شخص قد استطاع أن يمرر عملا بدون أي معرفة عميقة للناس الذين يكتب عنهم في هذا العمل، فربما يجدر بي أن أجرب يدي في الأمر".
قصة مستر جونسن جزء من أسطورة آتشيبي، ولكنه يتمنى أحيانا لو أنه لم يقصصها، فبرغم أنها حقيقية تماما، إلا أنها تبين أيضا مدى بساطة الداعي الذي دعاه إلى الكتابة. يقول آتشيبي "حتى إذا كان جويس كاري لم يولد من الأساس، أظن أن ما فعلته كان سيحدث أيضا".
تبدأ القصة الكاملة بصبي حيي يتفقد بلدته مدونا معلومات فيما يطلق عليها "الكراسة الذهنية".
الذين ليسوا على شيء
حط آتشيبي رحاله في بلدة أوجيدي وهو في الخامسة من عمره بعد أن عاد أبوه ـ المعتنق المتشدد للمسيحية ـ إلى وطنه بعد ثلاثين عاما قضاها ينشر كلمة الإنجيل في أنحاء نيجريا. ومثل "أهل الكنيسة" كانت أسرة آتشيبي تنظر من علٍ إلى الباقين على ديانة الإجبو التقليدية، ناعتة إياهم بـ "الوثنيين" أو "الذين ليسوا على شيء".
ولكن ذلك لم يمنع الصبي ألبرت تشِنْوَالوموجو آتشيبي من التنقيب بدافع من فضوله في عقائدهم.
كان "شغوفا بمعرفة بداية الأمر كله، معرفة ما الذي كنا نفعله قبل مجيء المسيح" كان يسأل ويستقي معلومات عن عادات الإجبو وتصوراتهم عن الكون من أحاديث يسترق السمع إليها. وأصبحت تعبئة كراسته الذهنية "استعدادا أساسيا لمهمتي، التي لم أكن أعرف بعد أنها مهمة".
في الوقت نفسه كان يكرس نفسه للتعليم الرسمي لدرجة أن أطلق عليه زملاؤه لقب "القاموس". وكانت ثمرة جهوده أن التحق بمدرسة داخلية ذات إدارة بريطانية ومكتبة ممتازة. وهناك دخل آتشيبي ـ الذي فتنته من قبل حكايات الإجبو إذ تحكيها له أمه وشقيقته ـ إلى نوع جديد من القصص: جزيرة الكنز، رحلات جلفر، إفانهو.
عند انتقاله إلى جامعة إبادان، بدأ يدرس الطب. وثبت خطأه في ذلك. "فقد كنت أتخلى عن عالم القصص، وما كانت القصص لتسمح لي بالذهاب". فغير دراسته من الطب إلى اللغة الإنجليزية، والتاريخ، والدين.
لم تمكن دراسة اللغة الإنجليزية في تلك الأيام تتضمن دراسة الكتابة الإبداعية. غير أن القسم أعلن في لحظة ما عن مسابقة في القصة. واشترك آتشيبي، ولم تحصل قصته على جائزة، وإن اعتبرت جهدا مشكورا.
يقول آتشيبي "كنت أريد بالفعل أن أعرف ماذا ينبغي أن أفعل" فذهب إلى أستاذته طالبا معرفة رأيها. فقالت له إنه خرق تقاليد قالب القصة القصيرة. وحاول أن يستوضح منها المزيد، بلا جدوى. وأخيرا قالت له إنها قرأت قصته مرة أخرى ورأت أنها تخلو من أي إخلال بالقالب.
النتيجة: إذا كان يريد أن يكتب، فليس عليه من غيره شيء.
تخرج في عام 1953، وقام لفترة قصيرة بالتدريس في المدرسة، ثم التحق بهيئة الإذاعة النيجيرية كمقدم برامج. وهنا تخلى عن اسمه الأول، ألبرت، الأوربي، وبدأ يفكر في رواية عن التصادم بين أوربا وأفريقيا.
عندما راودته "أشياء تتهاوى" للمرة الأولى كانت عبارة عن تتبع عائلة من الإجبو عبر ثلاثة أجيال: جيل ما قبل الاستعمار وهو الجيل الذي قابله البريطانيون عندما وصلوا إلى نيجريا في القرن التاسع عشر، والجيل الذي كانت منه الموجة الأولى من معتنقي المسيحية، ثم جيل آتشيبي نفسه المتلهف على استقلال لن يتحقق إلا في عام 1960.
في عام 1956، سافر آتشيبي إلى إنجلترا ضمن برنامج تدريبي في هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، مصطحبا معه مخطوطة روايته المكتوبة بخط اليد. عرض المخطوطة على المحاضر ـ وكان روائيا ـ فأعجبته وعرض على آتشيبي أن يعرفه بناشره.
ليس الآن. هكذا قال آتشيبي. فلم تصل بعد إلى ما أردته لها.
كان قد قرأها وأدرك أنها "أكثر نحولا مما ينبغي". فقد كان تكديسه لثلاثة أجيال يعني "التخلي عن أشياء كثيرة للغاية".
كان يريد على وجه التحديد أن يسهب في القسم الافتتاحي الذي يبين "كيف كان الناس يعيشون" قبل أن يأتي المستعمرون. وأخذ المخطوطة وعاد إلى نيجريا.
وتبين أن قراره ذلك كان حاسما.
فالمشهد الافتتاحي أصبح ـ بعد الإسهاب ـ ثلثي الرواية كما نشرت. وفي هذا المشهد يناضل أوكونكو ليحظى بالاحترام والسلطة في بلدته. وتجذب حكايته القارئ ـ شأن أي سرد آسر ـ إلى أعماق شبكة إجبو المعقدة بجوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، وبذلك عندما يظهر المستعمرون في الصورة في نهاية المطاف فيقطعون أوصال عالم الإجبو، يفهم القراء ـ حتى غير الأفارقة منهم ـ ما الذي ضاع.
يوضح أوبيريكا ـ صديق أوكونكو ـ هذا الذي ضاع حينما يقول إن الرجل الأبيض "مر بالسكين على ما كان يربط بيننا فتهاوينا".
أوشك آتشيبي أن يقتطع الجيلين الثاني والثالث من نسخته الأصلية. ولكن، قبيل نشر "أشياء تتهاوى" حلت بآتشيبي كارثة أو ما هو قريب من ذلك حتى أنه يعجب كيف خرج منها سالما.
عندما تهيأ آتشيبي لتسليم مخطوطته المنقحة، أدرك أنها بحاجة إلى طباعة على الآلة الكاتبة أولا. وبحماقة وضع نسخته الوحيدة في البريد، مشفوعة بشيك مقبول الدفع، وأرسلها إلى شركة في إنجلترا لتقوم بطباعتها له.
مرت شهور، دون أن يرد أحد من الشركة على استفساراته.
يقول آتشيبي "فقدت نصف وزني".
وأخيرا، قررت رئيسته الإنجليزية في هيئة الإذاعة البريطانية أن تقضي إجازة في انجلترا وتطوعت للاستفسار.
ولسنوات بعد ذلك عاش ناشر آتشيبي البريطاني آلن هيل على قصة المخطوطة التي عثر عليها منزوية في ركن يعلوها الغبار.
كان آتشيبي معجبا بهيل، فتركه يحكي القصة بطريقته. ولكنه ـ أي آتشيبي ـ يستخدم هذه القصة الآن ليبرز الفارق بين المستعمِر والمستعمَر. وذلك لأن المرأة التي ذهبت إلى شركة الطباعة وحصلت منها على المخطوطة لم تحك لآتشيبي ـ كما يقول ـ أي شيء عن تكدس الغبار، أو الانزواء في ذلك الركن البريء.
تلك تفصيلت ألفَّها ـ حسب ما يظن آتشيبي ـ رجل لا يستوعب عقله احتمال أن تتعمد شركة بريطانية خداع أفريقي.
كان أوكنكو شهيرا
كولم مكَّان واحد من الكتاب المدعوين لإلقاء كلمة في حفل قاعة البلدية الذي اشترك في إقامته فرع نادي القلم في أمريكا، وكلية براد، والناشر الأمريكي لآتشيبي. تذكر كولم مكان الشاعر وليم بتلر ييتس بأبياته هذه:
يدور يدور مع الدوامة
والدوامة تكبر
وإذا أذن الصقر تصم عن الصقار
وإذا أشياء تتهاوى
عندما كان طالبا، قرأ آتشيبي ذلك الشاعر الأيرلندي ووقع في غرامه، وأخذ عنوان روايته من قصيدته "المجيء اثاني".
يقول مكّان إن "الأدب الجيد مترابط، نحن مترابطون أينما نحن من العالم، ييتس وآتشيبي، لكل منهما كلمة تخلقنا خلقا جديدا".
يقول إدودج دنتيكات للحضور الذين بلغ عددهم نحو ألف وخمسمائة في قاعة البلدية إنه "من أول وأكثر الأشياء التي أحببتها في تشينوا آتشيبي هو اسمه. فبالنسبة لشخص له اسم مثل اسمي يشبه أسماء العائلات، بدا لي اسم آتشيبي غير معتاد مثلي، فكنت أقول هذا لأصحابي في المدرسة الثانوية ونحن نقرأ أشياء تتهاوى". بعد ذلك يقرأ دنتيكات الفصل الأول من رواية آتشيبي، بادئا بجملة البداية الشهيرة: "كان أوكنكو شهيرا في عموم القرى التسع بل وجاوزت شهرته حدودها".
ولدى كريس آباني قصة يحكيها. ففي صباه، كان شغوفا باجتذاب البنات محاكاة لأخيه الذي كان فيما يبدو يجتذبهن إليه بسهولة شديدة. ولكي يحقق هذه الغاية، نسخ رسالة غرامية مزركشة من أحد الكتب وقدمها لواحدة ممن شغفوهن حبا.
فقالت له الفتاة "إنك كاتب جيد جدا. تكاد تكون مثل أخيك. ينبغي أن تقرأ الرواية التي يكتبها". فتسلل آباني إلى غرفة أخيه، و"وجدت دفترا مليئا بالسطور المكتوبة بخط اليد، فسرقته، وأسرني ما قرأت ابتداء من أول جملة: كان أوكنكو شهيرا في عموم القرى التسع ...".
ويعلو هدير الحاضرين.
تشيماماندا نجوزي آديتشي لديها قصة تحكيها هي الأخرى. نشأت آديتشي ـ البالغة من العمر ثلاثين عاما ـ في حرم جامعة نيجريا بمدينة نسوكّا في بيت كان يسكنه من قبل آتشيبي وأسرته. ولأنها كانت تقرأ منذ فترة مبكرة، فقد كانت تستوعب "معظم كتب الأطفال البريطانية التي كان أغلب شخصياتها بيض البشرة يأكلون التفاح ويلعبون في الجليد". وحين بدأت تكتب قصصها الخاصة، وكان ذلك أيضا في فترة مبكرة، كانت تكتب عن هذه الشخصيات الآكلة للتفاح نفسها، والسر في ذلك "هو أنني لم أكن أعرف أن أمثالي يمكن أن يكون لهم مكان داخل الكتب".
ثم قرأت "أشياء تتهاوى".
فكانت صدمة، وفرحة، بكتاب "التقط بدقة عالمي مزدوج اللغة" وظلت تعاود قراءته المرة تلو الأخرى. تقول "لقد تعلمت وفقا لنظام لم يلقنّي أي شيء عن تاريخي فيما قبل الاستعمار" ثم جاءت رواية آتشيبي "فأصبحت رواية شخصية على نحو مدهش. أصبحت تمثل لي الحياة التي عاشها جدي".
وفيما بعد، عندما قرأت كتبا تتناول أفريقيا في مرحلة ما قبل الاستعمار بوصفها "مكانا للعتمة والفوضى" وتنظر إلى حاضرها "في ضوء ما ليس فيها" تلك الكتب التي "حركت بداخلها إحساسا أفريقيا بالضعف والانهزام اللذين يصاحبان اضطرار المرء إلى إثبات بشريته للآخرين" عادت آديتشي مجددا إلى أشياء تتهاوى.
تقول آديتشي إن هذه الرواية "كانت بالنسبة لي توبيخا رقيقا: إياكِ إياكِ أن تتصوري أنه ليس لك ماض معقد وباذخ".
أود الآن أن أصرخ
خذوا تجربة آديتشي، واضربوها في آلاف المرات، وعندئذ يكون بوسعكم أن تدركوا أثر رواية أتشيبي عندما بدأ التلاميذ يقرأونها في مدارس أفريقيا كلها.
لم يحدث الأمر بصورة فورية. فالشركة البريطانية التي أصدرت أشياء تهاوى، لم تطبع منها إلا ألفي نسخة فقط لم تخرج نسخة منها خارج حدود أوربا. ففي عام 1958، لم يكن للروايات سوق في نيجريا.
ويثق آتشيبي أن هيل ـ وهو محرر التفاصيل المختلقة ـ سوف يغير هذا الوضع.
وظل هيل يحافظ على توفر الرواية بإصدار طبعات رخيصة، وهي استراتيجية غير معهودة في سوق النشر في تلك الأيام. وقد جعل هيل من الرواية فاتحة الروايات في سلسلة غير مسبوقة لنشر روايات الأفارقة، وكان لآتشيبي إسهام ملموس في تحريرها.
ينظر آتشيبي إلى الانفجارة الأدبية التي شهدتها الأيام التالية لصدور أشياء تتهاوى، فيرى في آموس توتولا وسِبريانإكونسي ومونجو بتي وشيخ حميدو كين وغيرهم كثيرين كأنداد مشاركين له في الريادة. غير أنه لا يوجد أدنى شك حول الكتاب الأشد تأثيرا.
لقد تحولت رواية آتشيبي في واقع الأمر إلى أيقونة ألقت بظلها على كل ما عداها من كتابات آتشيبي نفسه.
في عام 1960، أصدر الروائي النيجيري روايته "مضى زمان الارتياح" مستخدما مواد مقتطعة من أشياء تتهاوى، متخذا منها سبيلا إلى اكتناه طبيعة دور جيله في مرحلة ما بعد الاستقلال في نيجريا. وفي عام 1964 أصدر "سهم الرب" ليعود بالقراء إلى التاريخ كما تبينه قصة كبير الكهنة في إحدى الديانات التقليدية ومحاولاته الفاشلة للتفاهم مع المستعمرين.
ثم جاءت روايته "رَجل الشعب" وكانت ذات حبكة معاصرة أوشكت أن تفضي إلى قتل آتشيبي.
ولا عجب، فالرواية تدور حول سياسي فاسد وتنتهي بانقلاب عسكري. ففي عام 1965، أي بمجرد صدور هذه الرواية، شهدت نيجريا محاولة انقلاب عسكري، ورأى البعض في رواية آتشيبي الخياليةإشارة إلى أن الكاتب ـ الذي كان لا يزال يعمل في الإذاعة ـ واحدا من المتآمرين.
وذات صباح، وفيما كان آتشيبي في بيته في مدينة لاجوس، "جاءتني مكالمة هاتفية من دار الإذاعة"، وقال له زملاؤه "إن جنودا مسلحين ذهبوا منذ قليل للإذاعة بحثا عنه، وقالوا إنهم يريدونأ نيختبروا أيهما الأكثر قوة، القلم الذي في يده أم البنادق التي في أيديهم". فجمع آتشيبي وزوجته كريستي أطفالهما واختفوا.
في العام التالي، أعلنت المنطقة الشرقية من نيجريا من نفسها جمهوريا بيافرا Biafra. وفي أعقاب ذلك نشبت حرب أهلية مريرة استمرت ثلاث سنوات. ووجد آتشيبي نفسه يسافر إلى الخارج للدفاع عن قضية بيافرا. ووجد نفسه أيضا عاجزا عن كتابة الروايات في زمن الحرب، بينما كان قادرا على كتابة الشعر والقصص القصيرة.
وضعت الحرب أوزارها، وبقي قحط الكتابة الروائية مستمرا مع استمرار تنقل آتشيبي من هذه الوظيفة الأكاديمية إلى تلك سواء في نيجريا أو في الولايات المتحدة. يقول آتشيبي على سبيل التوضيح "انا لا أكتب لمجرد أن أوان الكتابة قد حان". وعل الكارثة التي حلت ببلاده كانت قد حطت به هو الآخر.
في عام 1983 أصدر "مشكلة نيجريا" وكان كتابا تحليليا دقيقا بين فيه أن بلاده سلكت الطريق الخطأ منذ الاستقلال. ولعل من الممكن اختصار الكتاب كله في أن زعماء انشغلوا بأنفسهم عن تحقيق ما هو في صالح الشعب النيجيري. ولعل كتابة ذلك الكتاب هي التي حررته وجعلته يحاول من جديد مع الرواية.
أصدر "نمل السفاناه" في عام 1987، وفيها يقدم نموذجا روائيا للقيادة حينما تكون تجسيدا دقيقا للفشل. وفي هذه الرواية أيضا تصوير لشخصية نسائية قوية، يرى البعض أنه كتبها كرد فعل على النقد النسوي لروايته الأولى التي كان بطلها يقوم بضرب زوجاته ويتصرف عموما بصورة عنيفة.
وعند سؤاله عن ذلك، بدا الضيق على وجه آتشيبي للمرة الأولى في حوارناالذي استغرق ساعتين.
"أود الآن أن أصرخ. اشياء تتهاوى رواية تناصر المرأة. ثم أن أوكونكو يدفع ثمن طريقته في التعامل مع المرأة، من خلال كل المشكلات التي يواجهها، وكل الأخطاء التي ارتكبها، والتي يمكن النظر إليها كإساءة إلى النسوية".
ويضيف إن النظر إلى ضرب أوكونكو لزوجاته باعتباره تصرفا من تصرفاتي أنا لا يمثل طريقة صحيحة لقراءة الرواية.
وفي هذا توافقه الرأي ابنته نواندو آتشيبي Nwando Achebe التي تقوم بتدريس أشياء تتهاوى لطلبة الدراسات الأفريقية في ولاية ميشيجن. تقول نواندو إن الشخصية الأقرب إلى تمثيل وجهة نظر أبيها في المرأة هي شخصية أوبيريكا Obierika الذي يوبخ أوكونكو بشأن تصرفاته الذكورية.
وهكذا يجوز بالفعل السؤال الذي يوجهه البعض لآتشيب عما إذا كان وضع بعضا من ملامح شخصيته في شخصية أوبيريكا صديق أوونكو.
"نعم، نعم" يقول آتشيبي "أظن أن قراءة ابنتي صحيحة، ولكن من المهم أن تلاحظوا أن أوبيريكا ـ كأداة روائية ـ فيه عيب قاتل.
وما العيب؟
"أنه ممل" هكذا يقول ضاحكا، ثم يضيف "وهذا قدر الشخصيات السوية في الكتب، أليس كذلك؟"
كأنه حلم
وأخيرا يظهر ضيف الشرف في قاعة البلدية ليقف له الحضور يرحبون به من خلال موجة ممتدة من لتصفيق. يقول آتشيبي:
"هذه أمسية مدهشة بالنسبة لي، كأنني في حلم، حلم لذيذ، لمجرد أنني أرى استقبالكم هذا لروايتي أشياء تتهاوى بعد خمسين عاما"
بعد ذلك يوجه الشكر لرئيس براد، ليون بوتْسْيَن Leon Botstein الذي وفر له السكن عند إصابته بالشللعام 1990 ولم يكن يدري على أي شاكلة سوف يكون مستقبله.
ويتذكر آتشيبي "النشوة المجنونةالتي شعر بها وهو يبتكر لغة لنفسه" أثناء كتابته تلك الرائعة الروائية.
ويحكي حكايته الخاصة عن ضياع المخطوطة، فيقول "أوشك ذلك الأمر أن يقتلني، ولكن الحظ كان موجودا، لقد جلبت تلك الرواية علي الكثير من الحظ الطيب".
وقال آتشيبي "إنه لشرف عظيم، عظيم، ذلك الذي أوليتموني إياه" وهنا علت صيحات التهليل من الحاضرين احتراما منهم للرجل الذي جعلته التشي أو روحه كاتبا عظيما عظيما، ممن كتبوا قصة الإنسان. وكانت الصيحات تتعالى فيما يغادر آتشيبي خشبة المسرح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق