الاثنين، 31 ديسمبر 2007

عن عبد القدير خان وثابو مبيكي

"الجهادي النووي .. القصة الحقيقية للرجل الذي باع أخطر أسرار العالم ... وكيف كان بوسعنا أن نمنعه". يا له من عنوان طويل لكتاب مهما يكن فحواه. هو كتاب صدر حديثا في الولايات المتحدة، يتناول حكاية "عبد القادر خان"، الأب الروحي للمشروع النووي الباكستاني.


من الواضح أن هذا العنوان الطويل يريد أن يجذب مختلف أنواع القراء: فكلمة "الجهادي" وحدها كفيلة بلفت أنظار كارهي الجهاد ومناصريه، من يخشونه ومن يعلقون عليه آمالهم، وعبارة "القصة الحقيقية" كفيلة باجتذاب الباحثين عن المعرفة ذوي الفضول الحميد، و"أخطر أسرار العالم" تبدو عبارة مصممة لهواة قراءة الروايات البوليسية، أما العبارة الأخيرة "كيف كان بوسعنا أن نمنعه" فهي التي تجذبنا نحن، لا لأننا من هواة البكاء على اللبن المسكوب.


يقول كثير من كتاب الغرب ـ ناهيكم عن الشرق أو العرب ـ إن الدرس الوحيد المستخلص من المقارنة بين العراق وكوريا الشمالية، بين الدولة التي احتلت لأنها لا تمتلك أسلحة نووية، والدولة التي صولحت لأنها تمتلك هذه الأسلحة، هو أن ثمة سبيلا وحيدا اليوم أمام كل دولة تطمح إلى السيادة على أرضها: أن تمتلك القنبلة النووية. فهل كان ينبغي منع عبد القادر خان من نقل معرفته إلى وطنه؟


هل يعد عبد القادر خان بطلا قوميا أم جاسوسا؟ هل للباكستانيين ـ وربما المسلمين ـ أن يجعلوا منه قديسا بمعنى ما؟ أم عليهم جميعا ـ بوصفهم بشرا ـ أن يلعنوا رجلا اقتربت البشرية بسببه خطوة أخرى من نهاية العالم.


بالطبع، لن تجرؤ هذه السطور أن تدعو إلى أي من الموقفين، ليس لأننا لا نتبنى موقفا يستحق منا أن ندعو إليه، ولكن لأن الهدف من "قراءات" هو أن تزعج القارئ بالسؤال، لا أن تقدم له جوابا يمنحه راحة وهمية.


في رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، تتعجب عاهرة اسمها "ياسمينة" من الناس الذين كرهوها وأحبوها لنفس السبب. جملة تبدو للوهلة الأولى منطوية على حقيقة صادمة. فنحن هؤلاء الناس، وليس غيرنا. نحن الذين نتوله بتلك المرأة، ونكرهها كراهية التحريم. ونحن في الوله والكراهية ننطلق من سبب واحد! فما أبعدنا عن المنطق.


ولكن "ياسمينة" تتجاهل أن الناس ليسوا نسخة واحدة، وأن لكل منطقه، ووجهة نظره، تتجاهل أن الناس مختلفون باختلاف عددهم. أليس طبيعيا من ثم أن يكون عبد القادر خان ـ وكل إنسان ـ محبوبا ومكروها، قديسا وشيطانا، بطلا قوميا وجاسوسا، ودائما للسبب نفسه؟


لو كان ذلك ما يقوله محفوظ عبر ياسمينة، فثمة ما يقوله أيضا عبر "عرفة" الساحر (رمز العلم في روايته المثيرة للجدل والإعجاب). فعرفة هذا هو الذي منح لـ "ناظر الوقف" (الحاكم المستبد) أولى قنابل البشرية، فازداد بها قهرا لأهل الحارة، ولم تزدد الحارة بسحر عرفة (أو العلم) عزا وقوة.




المبتسم


دوجلاس فرانتس و كاثرين كولينز


في صباح دافئ في أواخر الربيع، سطع نور الشمس على قنوات الماء الشهيرة في أمستردام. بدا الرجل الواقف في مدخل المكتب الملحق بالمعمل واثقا في نفسه. كان باكستانيا في السادسة والثلاثين من عمره، يبلغ طوله أكثر قليلا من ستة أقدام، عريض الجبهة، لحيم الوجه، مكتنزه، أسود الشعر. يرتدي بذلة غربية، ولكنه كان يحشر ربطة عنقه خلف حزام بنطاله فبدا غير معتاد بالمرة على ما يرتديه. كان يتكلم الهولندية جيدا، والألمانية بطلاقة، وإن شابت كليهما لكنة من لغته الأم. لقد وصل للتو إلى معمل أبحاث الديناميكا الفيزيائية في الأول من مايو عام 1972 ليبدأ وظيفته الجديدة كمتخصص في علم المعادن، وهناك أرشدوه إلى هذا المكتب الملحق بقسم العلوم الميكانيكية، حيث كان مقدورا له أن يقضي فيه السنوات الثلاث التالية.


لم تكن ابتسامة الرجل موجهة لأحد بعينه، ولكنه كان يدرك، وقد قضى في أوربا عقدا من الزمن، أن ابتسامة بسيطة تفتح الطرق. ولكن هذه الابتسامة ازدادت اتساعا حينما نظر إليه زميله الجديد من خلف الطاولة الضخمة.


اندهش فريتس فيرمن، المصور الفوتوغرافي الشاب العامل في المعمل. كانوا قد أخبروه أن شريكه الجديد في الغرفة سيكون شخصا لطيفا، أجنبيا حاصلا على درجة الدكتوراه ولديه قائمة طويلة من المنشورات الأكاديمية. ولكنهم لم يخبروه شيئا عن الابتسامة العريضة والأسنان البيضاء البراقة، ناهيكم عن البشرة الداكنة. وقف المصور الشاب، وسار باتجاه زميله الجديد، مادا له يده ليصافحه قائلا بالهولندية "فريتس فيرمن أهلا بك في إف دي أو".


فرد الزميل الجديد "عبد القادر خان. مسرور بمقابلتك".


كانت لدى كثير ممن عمل معهم فيرمن من قبل درجات علمية رفيعة، ولكنهم ـ وفقا للهيكل التراتبي في المعمل وفي المجتمع الهولندي بعامة ـ لم يكونوا يحفلون كثيرا بأمثال فيرمن الذي لم يكن يحمل غير درجة علمية تقنية والذي كان عمله كمصور فوتوغرافي يعتبر أقل أهمية بكثير من أعمالهم. ومن ثم فقد وطد فيرمن نفسه على البرود، إلا أن عبد القادر خان بدا مختلفا. رأى فيه فيرمن منذ الوهلة الأولى شخصا ودودا متواضعا مهتما بكل العاملين وجميع الأعمال التي يؤدونها داخل المجمع المعروف اختصال بـ إف دي أو.


ومنذ اليوم الأول، ظل الرجلان يجلسان متقابلين بارتياح على الطاولة الضخمة. وكلما كان فيرمن يخرج ليلتقط صورة لتغير بسيط طرأ على تصميم معقد لجهاز تقني حساس، كان خان يصحبه طارحا عليه الكثير من الأسئلة. وبدأ خان يثني على صور فيرمن، ويقول له إنها في نسختها المطبوعة أشبه بأعمال فنية لا تضحي بوضوح أي من التفاصيل، ويسأله إن كان من الممكن أن يحصل على نسخ منها. ورأى الهولندي الشاب في الطلب أمرا غير معتاد، ولكن الثناء أطربه وجعله يوافق على الطلب في سرور. ثم بدأ خان يطلب أن يلتقط بنفسه بعض الصور، فساعده فيرمن على شراء كاميرا عالية الجودة. وبدا كل شيء متسقا مع فضول خان ونهمه إلى المعرفة.


التحق خان بالمعمل البحثي بناء على اقتراح من زميل له. وكان قبل التحاقه بعام قد انتهى من أطروحته للدكتوراه من جامعة ليوفن الكاثوليكية في بلجيكا وعمل في عدد من الوظائف في عدد من البلدان، ومن بينها باكستان. كان يراسل أي شركة تطلب خبيرا في تحليل وتطوير السبائك المعدنية. كما كان جادا في تفكيره في العودة إلى وطنه للتدريس، إكراما لأبيه الراحل الذي كان يشتغل بالتعليم.


ولكن المكان الذي انتهت إليه جولته لم يكن مجرد شركة. ففقد كان "إف دي أو" معملا تابعا لشركة فرينيدج ماشين فابريكن، وهي مؤسسة هولندية ضخمة تعمل قريبا من اليورنكو، واليورنكو هو اتحاد شكلته حكومات بريطانيا وألمانيا الغربية وهولندا بهدف تصنيع أجهزة الطرد المركزي. وفي ذلك الوقت، كانت الشركات القوية مثل وستنجهاوس وجنرال إلكتريك تسيطر على المنشآت وتمد المفاعلات المدنية في شتى أنحاء العالم الغربي باليورانيوم المخصب. وبهدف حماية الصناعة النووية التجارية الناشئة في الولايات المتحدة، أمر الرئيس ريتشارد نيكسن في عام 1971 بعدم الإفصاح عن تكنولوجيا التخصيب المحمية لأي دولة أخرى، حتى الحلفاء. فدفع هذا القرار الدول الأخرى إلى البدء في إنشاء تقنيات التخصيب الخاصة بها لضمان مورد كفء للوقود، وهو جهد أدى في نهاية المطاف إلى كسر الاحتكار الأمريكي لتخصيب اليورانيوم وإطلاق خطر الانتشار النووي.


يكمن جوهر عملية تخصيب اليوراينوم في جهاز الطرد المركزي الفائق الذي يدور بغاز اليورانيوم إلى أن يتحول إلى يورانيوم مخصب. وكان الهدف من جهاز الطرد المركزي الذي تنشئه يورنكو أن يقوم بتصنيع وقود لبرنامج نووي يعمل على توليد الكهرباء للدول الثلاثة الراعية. وكان هذا العمل يقع في نطاق من السرية القصوى لأن هذه العملية نفسها يمكن أن تستخدم في إنتاج مواد انشطارية لأسلحة نووية.


وسرعان ما توطدت أواصر الصداقة بين المصور الفوتوغرافي الهولندي الوحيد والأجنبي الوافد حديثا. وفي ذلك الصيف الأول، كانا يقضيان ساعة الغداء يتنزهان بين القنوات، يشاهدان الشابات النحيفات اللاتي يملأن أرصفة المدينة ويطللن من على الجسور. لعل أمستردام في ذلك الوقت كانت تمثل أكبر نقيض للمجتمع الإسلامي البسيط الذي نشأ فيه خان. لم يكن خان مهيأ لثقافة فيها الماريجوانا مشروعة والدعارة مقننة، وهكذا كانت أمستردام في تلك السنوات، أكثر أركان أوربا جاذبية وانفلاتا. وبدا أن المقارنة قد دوخته، ومع أن خان كان في ذلك الوقت حديث العهد بالزواج إلا أن النساء المبهجات الواثقات بأنفسهن أغوينه. وفي بعض الأحيان أثناء جولات الغداء، كان فيرمن يراقب خان بقلق وهو يتبع شابة حتى آخر البنايات. ومع أن خان كان يحافظ على أن تكون هناك مسافة بينه وبين من يتبعها، إلا أن فيرمن كان يخشى أن افتتان الباكستاني بالنساء سوف يتسبب له يوما في مشكلات جسيمة.


ولم تكن رحلاتهما الأسبوعية أحفل بالأحداث، إذ كان الرجلان يستقلان دراجتين وينطلقان بهما إلى الريف الهولندي الخصب، وهما يشقان طريقهما عبر شبكة القنوات، ويعرجان على المقاهي الصغيرة لتناول الجبن والشراب على طول الطريق. كان فيرمن يتفهم رفض خان المهذب لشرب الكحوليات أو التدخين، ولكنه لم يكن يفهم لماذا لم يصطحب قط زوجته الهولندية "هيني". والحقيقة أن خان، وبعد عقد قضاه في أوربا متعايشا مع الحياة في شوارع أمستردام، لم يكن قد تخلص من المحاذير الدينية والثقافية التي تشربها في وطنه ومنشئه.


ولد خان لأسرة مسلمة في السابع والعشرين من ابريل عام 1936 في بوبال بالهند البريطانية. وهي البلدة التي سوف تشتهر بعد قرابة نصف قرن من الزمان بمصرع ثمانية عشر ألف شخصا بسبب حادث وقع في مصنع يونيون كاربايد للمبيدات الحشرية. ولكن بوبال عند مولد خان لم تكن معروفة إلا بوصفها مكانا وديعا يقتسمه المسلمون والهندوس، حيث عاشوا جنبا إلى جنب على مدار قرون. كان أبوه ـ عبد الغفور خان ـ يعمل بالتدريس في المحافظات الوسطى من الهند. ولكنه تقاعد من العمل قبل عام من ميلاد خان، ليكرس وقته كله للاتحاد الإسلامي الهندي العام، الذي بدأ كحزب سياسي في الهند البريطانية يعمل على حماية حقوق المسلمين في الهند، ثم أصبح بعد ذلك القوة الدافعة إلى تأسيس باكستان كدولة إسلامية مستقلة عن الهند. ولقد اتخذ خان من أبيه على مدار حياته قدوة له في تواضعه وأدبه. وشأن أبيه، كان صوته لا يعلو إلا لماما، وكان يقول عن نفسه دائما إنه رجل سلام، ويحكي عن أبيه حينما منعه في صباه من صيد الحمام وغرس فيه حب الحياة. ولكن الولد ورث أيضا عن أبيه كراهيته للهند وحماسته للدولة الإسلامية.


بعيد ميلاد خان، زارت أمه زليخة عرافة وسألتها أن تقرأ الغيب لوليدها، فقلت العرافة إن "ميلاد هذا الصبي سوف يجلب الخير على أهله. الطفل محظوظ جدا، وسوف يقوم بعمل الكثير من الأعمال الجيدة في حياته. وسوف يقدم لأمته عملا مهما ومفيدا ينال عنه احتراما غير محدود".


دعنا من النبوءات. مضت السنوات الأولى من حياة خان شأنه شأن أي طفل مثله في الهند البريطانية. وقبل أن يحين وقت التحاقه بالمدرسة، زور والداه المتلهفان على دخوله إلى المدرسة ما يثبت أن سنه يؤهله لذلك. كان خان يعتبر تلميذا جيدا، لم يكن عبقريا، وكان يبدو دائما أكثر اهتماما بالصيد ولعب الهوكي مع أصحابه من المذاكرة. ولكنه كان أكثر انضباطا فيما يتعلق بالدين فكان يقيم الصلوات بانتظام في مسجد الحي مع أبيه وإخوته الأربعة. وكانت كتبه المفضلة هي التي تسرد تاريخ أبطال الإسلام ممن أقاموا امبراطورية الموغال ودان لهم جنوب آسيا بعدما قهروا كفارها في القرن السادس عشر، ليأتي البريطانيون بعد ثلاثة قرون فيهزمونهم ويحولون الحكام المسلمين إلى أقلية لا حول لها ولا قوة.


كانت المهانة التي وسمت حياة المسلمين في الهند قد أكدت اعتقادا بأن البريطانين الذين يحكمون شبه القارة الهندية يحابون الهندوس، فأجج ذلك الاعتقاد من رغبة المسلمين في أن تكون لهم دولة منفصلة، وهو ما آتى ثماره بعد قرن من الزمان. ففي الرابع عشر من أغسطس عام 1947، أقيمت باكستان دولة إسلامية وملاذا للمسلمين. وكما يحدث غالبا عند إقامة الدول أو تفككها، لم يكن للمنطق مكان في الخطة، فلم تشكل باكستان وحدة متآلفة بل اثنتين، شرقية وغربية، بينهما الهند. ولم يمض وقت كبير حتى حصلت الهند على استقلالها وسيطرت على ما بقي من أرضها. وسرعان ما أسفر انقسام الهند البريطانية عن حربين هائلتين شهدتا مذبحة لعشرات الآلاف من المسلمين الذي كانوا يرومون الفرار إلى دولتهم الناشئة حديثا. وكان خان في الحادية عشرة من عمره آنذاك، فانطبع العنف في ذاكرته. كانت أسرته قد شهدت أهوال نزوح المسلمين كالسيول إلى أحياء بوبال التي كانت تعتبر ملجأ في تلك الأيام العصيبة، وسمعت الأسرة حكايات يشيب لها الولدان عن المذابح التي ارتكبها الهندوس في حق المسلمين. ولقد حكى خان نفسه فيما بعد أنه رأى قطارا محملا بجثث المسلمين الذين لقوا مصرعهم في القتال الطائفي.


سارع اثنان من إخوة خان إلى الفرار باتجاه كراتشي، الميناء القائم على بحر العرب في دولة باكستان الغربية الحديثة. ثم لحق بهما أخ ثالث وأخت عام 1950. وأصر أبو خان ألا يسمح لقوة أن تدفعه عن وطنه، ورفض أن يسمح لابنه الأصغر باللحاق بإخوته. وأخيرا أنهى خان دراسته الثانوية عام 1952، ورأى عبد الغفور أنه لم يعد لولده مستقبل في الهند، خاصة وقد كان يرى أنها تمارس التمييز ضد المسلمين الذين فضلوا البقاء فيها على الهجرة إلى باكستان. وهكذا، ودع خان والديه، وستة عشر عاما من عمره، واستقل القطار إلى باكستان.


نشر هذا المجتزأ من الكتاب في موقع أمازون



ثابو مبيكي ... الرجل الغامض


الإيكونوميست


في الوقت الذي يتأهب فيه حزب الكونجرس الوطني الأفريقي بحلول نهاية هذا الشهر لانتخاب الرجل الذي سيقوده على مدار السنوات الخمس القادمة، يزداد الاهتمام بثابو مبيكي عن أي وقت مضى. فالرجل الذي لم يعد يحق له الترشح لانتخابات الرئاسة عام 2009، والذي يشغل إلى جانب منصب رئيس الدولة في الوقت الحالي منصب رئيس حزب الكونجرس الوطني الأفريقي، هو واحد من أعلى المرشحين حظوظا لهذا الموقع الحزبي المرموق.


غير أنه، وبعد ثلاثة عشر عاما في السلطة، بدأها كنائب لنلسون مانديلا ثم خليفة له عام 1999، وبعد أن حظي الرجل باحترام البعض وامتعاض البعض، إلا أنه لم يحظ تقريبا بمحبة أحد. فحتى بين أقرب المقربين منه، يبقى الرئيس مبيكي لغزا غير مفضوض. وبينما يعتبره البعض رجل تحديث ورؤى وروية، فثمة من يعتبرونه رجل مركزية ضيقة الأفق لا يتهاون مع المعارضة.


قضى مارك جيفيسر ـ وهو صحفي من جنوب أفريقيا ـ ثماني سنوات يعمل على كتابة سيرة ذاتية للرئيس، لم تصدر حتى اللحظة إلا في جنوب أفريقيا. درس الصحفي مئات الوثائق والتقي بأكثر من مائتي شخص، من بينهم الرئيس مبيكي نفسه عدة مرات. يتتبع كتاب جيفيسر بتفصيلات دقيقة حياة رئيس جنوب أفريقيا منذ مولده في منطقة ترانسكي الريفية وحتى سنوات المنفى التي بلغت ثماني وعشرين سنة ثم صعوده إلى السلطة. وفي غضون ذلك يلقي الضوء بطبيعة الحال على نصف القرن لأهم في تاريخ جنوب أفريقيا الحافل بالصعوبات.


يستعير الكاتب عنوان كتابه من قصيدة للشاعر الأفروأمريكي الكبير لانجستن هيوز لا يكف الرئيس مبيكي عن الإشارة إليها. ليس "الحلم المرجأ" مجرد حلم أمة لم تزل تناضل من أجل تضييق الفجوة بين أعراقها، وطبقاتها، ولكنه ـ كما يؤكد الكاتب ـ حلم مبيكي نفسه. من أهم النقاط التي يتناولها الكتاب مدى انفصال مبيكي عن جذوره وبلده، ومدى تأثير ذلك الانفصال على آرائه وتصرفاته.


وماذا يكون من أمر أمر حلمٍ

إذا هو أرجئ؟

تراه يجفُّ

جفافَ زبيبٍ تصليه شمس؟


ترى يتقيح

كأنه الدمل قبل أن ينفقئ؟


أم ترى يتعفن كاللحم؟

أم ترى ييبس مثل الشراب المحلَّى؟

أم لعله يتراخى مثل حمل ثقيل؟


أم ينفجر؟


شعر: لانجستن هيوز


كان والد مبيكي بطلا من أبطال مقاومة الفصل العنصري. وكان ذلك الأب وزوجته ـ والدة مبيكي ـ شيوعيين، ينحدران من أسرتين مثقفتين من ملاك الأرض السود، وبرغم ذلك إلا أن تاريخ أسرة مبيكي يمكن أن يوصف بكونه تاريخا للجوع، بفضل سياسة الفصل العنصري التي كانت تقضي على آمال السود وفرصهم. ولا تقتصر القسوة على التاريخ القديم وحده، ففي مطلع الثمانينيات من القرن الماضي اختفى الابن الوحيد للرئيس مبيكي دون أن يخلف أي أثر، وهو الابن الذي ولد للرئيس مبيكي وهو في مراهقته.


سار ثابو مبيكي على خطى أبيه، فكرس مشاعره جميعا للنضال من أجل مقاومة الفصل العنصري، فصارت تلك حياته، ووجد في الحزب حياة بديلة، وفي أوليفر تابو ـ قائد حزب الكونجرس الوطني الأفريقي من المنفى ـ أبا روحيا.


يقول مارك جيفيسر إن الرئيس ثابو مبيكي يرى في النهضة الأفريقية محاولة للتغلب على التلف الذي نتج عن ذلك الإحساس بالانفصال، ويراها سبيلا إلى بعث الشعور بالعزة والتشبث بالهوية. وإن توق مبيكي ولهفته على التوصل إلى منهج أفريقي للتعامل مع مشكلات القارة هو السبب في استمراره في التشكيك في الرؤية "الغربية" التي ترى أن فيروس نقصان المناعة يتسبب في مرض الآيدز، ورفضه من ثم للعلاجات المناسبة للمرض. والمدهش أن جيفيسر يذكر أن الرئيس مبيكي لم يغير رؤاه الغرية والهدامة بشأن الفيروس والآيدز. بل إنه يشعر بالندم لصمته عن إعلان آرائه في هذا الأمر طوال السنوات القليلة الماضية.


يتناول الكتاب أيضا هوس الرئيس مبيكي بالمؤامرة التي تحاك ضده شخصيا، أو ضد أفريقيا بصورة أعم. ومن بين المتآمرين شركات الأدوية العملاقة، والخصوم السياسيون، والنظام العالمي الظالم، والإعلام ـ أو قطاع العمل الأبيض بحسب ما يطلق عليه مبيكي والذي يصفه بأنه متخم بالعنصريين وأعداء الثورة.


فما الذي حدث لرجل كان يوصف بأنه ولي العهد الساحر لحزب الكونجرس الوطني الأفريقي؟ ماالذي حدث لرجل السياسة المعتدل الذي اطمأن له بعض غلاة المتشددين البيض في الثمانينيات ومطلع التسعينيات؟ يرى الكاتب أن مبيكي استغل سحره وجاذبيته على نحو استراتيجي. فما أن وصل إلى السلطة حتى بدأ يركز على السعي إلى الأفرقة. ثم انتهى إلى الشغف بالخروج من معطف أسلافه. يكتب جيفيسر "أن مبيكي أدرك أن الشعب لن يمنحه من الحب مثل ما منح للرئيس مانديلا، وأن على الشعب بدلا من ذلك أن يوليه الاحترام، حتى إذا لم يكن للاحترام من معنى سوى الخوف".


يرى المؤلف ايضا أن الحصافة المطلقة التي يبديها الرئيس ثابو مبيكي عند مواهجته للانتقادات ليست سوى نتيجة للإحباط الرهيب الذي يستشعره من جراء عجزه عن تحقيق ما يتوقعه منه مواطنه الجنوب إفريقيون. يكتب المؤلف "إن حركات التحرير تسير بقوة الأحلام، ولا يشذ حزب الكونجرس الوطني الأفريقي عن ذلك، غير أن تاريخ هذا الحزب في ممارسة الحكم لا يمثل إلا سلسلة من التراجعات المتواصلة عن تلك الأحلام".


قد لا يكون مبيكي شخصية كاريذمية كما كان مانديلا، ولكنه يعوض ذلك ببراعة لا تضاهى في التفاوض والتحرك السلس في دهاليز السياسة والسلطة. مبيكي يفهم السلطة باعتبارها "نتيجة للمؤامرة. فالمؤامرة تأتي بالسلطة، والمؤامرة تقهر السلطة" بحسب ما يقول جيفيسر في كتابه "ثابو مبيكي: الحلم المرجأ".


يقول جيفيسر إن مبيكي "قد يكون نجح في تحديث حزب الكونجرس الوطني الأفريقي بحماسة استثنائية فيما يتعلق بالأيديولوجية والسياسة الاقتصادية، ولكنه ظل طوال سنوات حكمه يعمل وفقا للفهم الذي تكون لديه في سنوات المنفى بشأن ألاعيب السياسة، وحرية المناضلين غير المشروعة لتدبير المكائد".


يحاول جيفيسر قدر استطاعته أن يتحرى الإنصاف. وكان الكتاب ليكون أكثر جاذبية لو أنه احتوى المزيد من الرؤى الشخصية للمؤلف الذي حرص كل الحرص على ألا يجهر برأي شخصي أو يصدر حكما على الرئيس مؤثرا أن "يقف خلف كتفيه" عساه يرى العالم عبر عينيه. ومع ذلك يبقى هذا الكتاب قادرا على توضيح كثير من أخص أمور الرئيس مبيكي. وذلك ما يجعله كتابا جديرا بوقت كل واقع في غرام جنوب أفريقيا، وفيلسوفها الحاكم.



المسألة الكردية


كيل لورنس ـ واشنطن بوست


يبدو رجال عصابات حزب العمال الكردستاني على معرفة تامة بالجبال التي يعيشون بين أحضانها. يبدو الثوار الأكراد مدركين كل الإدراك لكل قمة جبلية وكل جرف في الجبال الممتدة على الحدود بين العراق وتركيا وإيران. لهم في هذه الجبال مخابئ سرية، وطرق يستغلونها في تجارات السوق السوداء، ومخزون وافر من الذخيرة. أما الشيء الوحيد الذي لا يملكونه، ولا يعرفونه، فهو الطريق الذي يمضي بهم إلى الأمام.


في خريف هذا العام، قام حزب العمال الكردستاني بتنفيذ سلسلة من الغارات الدموية على تركيا، انطلاقا من مخابئه في شمالي العراق، فقتل عشرات من الجنود الأتراك إلى الحد الذي جرؤت معه العسكرية التركية على تصعيد موقفها إلى درجة العمليات الانتقامية واسعة النطاق على الحدود. وهو وضع لا يثير قلق الثوار وحدهم، بل قلق القوات الأمريكية أيضا. فالأتراك ـ الذين حشدوا قوات تصل إلى عشرات الآلاف على مقربة من حدود العراق ـ لا يزالون على ما دأبوا عليه منذ سنوات من الضغط على الحكومة الأمريكية لتقويض حركة الاستقلال الكردية. في حين أن القوات الأمريكية لن تحقق مكاسب إن هي فتحت أو سمحت بفتح جبهة جديدة في العراق. ومع ذلك، فقد حدث مرتين خلال الأشهر الستة الماضية أن تصاعدت التوترات حتى أنذرت بقرب وقوع حرب كبيرة يشتبك فيها كل من تركيا وإيران والعراق والولايات المتحدة، دون أن يملك أي من هذه الدول أدنى فكرة عمن سوف يحالف من.


ما أثار هذا الكلام كله هو كتاب أليزا ماركوس الجديد عن حزب العمال الكردستاني وزعيمه المعتقل عبدالله أوجلان، وهو الكتاب الذي ما كان ليصدر في توقيت أفضل.


سبق لأليزا ماركوس أن عملت مراسلة في الشرق الأوسط لصحيفتي بوسطن جلوب وكريستيان ساينس مونيتور، وهي من ثم تعتمد على خبرة ثمانية أعوام في تغطية شئون الأكراد، كما تعتمد على رصيد كبير من الحوارات التي أجرتها معهم.


تستهل أليزا ماركوس كتابها "دم وإيمان" بتكوين حزب العمال الكردستاني عام 1978 على أيدي الساخطين من الطلبة الأكراد في تركيا. أما بدايات أوجلان نفسها فلا تخلو من طرافة، فقد قال يوما عن زيجته من ابنة أحد السياسيين المنتمين للطبقة الوسطى إنه دليل قدرته على احتمال أي صعوبة قد تنشأ عن حياة الثوار. أما حياته في عالم حروب العصابات فهي أبعد ما تكون عن الطرافة والمرح. فعلى مدار الخمسة عشر عاما التي تلت شن حزب العمال الكردستاني حربه الانفصالية عن الدولة التركية عام 1984، لقي ما يقرب من خمسة وثلاثين ألف شخصا مصرعهم، وأغلب هؤلاء من فقراء الأكراد في جنوبي تركيا. في عام 1999 قدمت الولايات المتحدة مساعدتها لتركيا في اعتقال عبد الله أوجلان، بعد أن هرب إلى إيطاليا وروسيا إلى أن تم اعتقاله أخيرا في كينيا. ومنذ ذلك الحين، نرى أن مقاتلي حزب العمال الكردستاني العالقين في الجبال يضطربون ويتحركون في ارتباك ما بين الهدنة والأخرى والإنذار والآخر، عاجزين عن قطع صلاتهم مع زعيمهم المعتقل، أو تحديد وجهتهم وخطوتهم التالية.


في زيارة قمت بها مؤخرا إلى موقع تابع لحزب العمال الكردستاني في شمالي العراق، وجدت الثوار يعيشون حالة من الرفض المكتوم والمعلن، فقد سألني كردي يحمل كلاشينكوف مستنكرا "لماذا يصر الجميع على نعتنا بالإرهابيين؟ إن الحكومة التركية لم تعط للأكراد أية حقوق، لم توفر لهم مدارس، ولم تعترف لهم بلغة. وإن لنا الحق في أن نعيش بحرية".


ما من شك في أن للأكراد قضية، ولكن تجاهل حزب العمال الكردستاني لحرمة الأبرياء المدنيين قد وضعهم في مصاف الإرهابيين وعلى قائمتي الإرهاب السوداوين في الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي. ومع أن عصابات الحزب تلمح إلى أنها سوف تتوقف عن القتال إذا ما حصلت على عفو عام، إلا أنها لا تبذل جهدا لتحسين صورتها، ولا تحاول التزحزح عن ارتباطها شبه السري شبه العقدي بأوجلان.


ويأتي كتاب ماركوس ليساعد على توضيح هذا، بالتأريخ الدقيق الذي يقدمه لعمليات حزب العمال الكردستاني. كما يأتي سردها لمساعي أوجلان لكي يصبح الصوت الوحيد الناطق باسم الأكراد ليمثل أول سرد من نوعه في اللغة الإنجليزية، ففي هذا القسم تصف أليزا ماركوس قسوة حزب العمال الكردستاني مع جماعات كردية أخرى كان ينبغي أن تعمل معه في النضال من أجل حقوق الأكراد. وذلك ما يشي بأن أوجلان يمتلك سمات المستبدين في كل مكان بالعالم ونزوعهم إلى قتل كل منافس، حتى وإن اقتضى منه ذلك إعدام أقرب المقربين منه. ويبقى الإنجاز الكبير لـ "دم وإيمان" هو أنه يستطيع أن يحقق التعاطف مع قضية الأكراد برغم إراقة الدماء والمذابح، ولكن التعاطف لا ينصب على أوجلان وإنما على الأكراد البسطاء اليائسين الذين انضموا إلى حزب العمال الكردستاني لأنهم لم يجدوا أملا إلا فيه.


وليس الكتاب سهل القراءة. فهو يعاني من غياب خريطة دقيقة، خاصة وأن السرد يختل في بعض الأحيان نتيجة تكاثر الأسماء، سواء أسماء الزعامات والمقاتلين أو الفصائل والأجنحة. وبعيدا عن ذلك، تلفت ماركوس الأنظار إلى أن استمرار بعض مقاتلي حزب العمال الكردستاني في القتال بغض النظر عن اعتقال زعيمهم، يعني أن قضية الأكراد أكبر من أن يتم اختزالها في شخص. ثم إنها تلفت الأنظار إلى النقطة الأهم: إن حزب العمال الكردستاني موجود في الجبال منذ عقدين من القتال، لم يزحزه من موقعه أحد، ولا يوجد ما يدعونا إلى الظن بأن هجمة تركية أخرى سوف تنجح في إنزال الثوار.


كاتب المقال: مراسل بي بي سي في الشربق الأوسط. يصدر له قريبا كتاب "الدولة الخفية: كيف يؤثر سعي الأكراد إلى إقامة دولة في تشكيل العراق والشرق الأوسط"

في الأسبوع القادم الفصل الأول من الكتاب

هناك تعليقان (2):

  1. شكرا على كل هذا الجهد الرائع
    وعلى هذه اللغة الناصعة والأسلوب الممتع

    وشكر خاص على تناول الكتاب الصادر عن عبد القدير خان
    والمعلومات المختصرة عن إمبراطورية المغول والرابطة الإسلامية في الهند-البريطانية

    مودتي

    هاني السعيد

    ردحذف
  2. شكرا لمرورك يا هاني، وتصحيحك لاسم خان الذي وجدته عبد القادر وعبد القدير وما كان ليحسمها لي غيرك.

    ردحذف