المسألة الكردية
كيل لورنس ـ واشنطن بوست
يبدو رجال عصابات حزب العمال الكردستاني على معرفة تامة بالجبال التي يعيشون بين أحضانها. يبدو الثوار الأكراد مدركين كل الإدراك لكل قمة جبلية وكل جرف في الجبال الممتدة على الحدود بين العراق وتركيا وإيران. لهم في هذه الجبال مخابئ سرية، وطرق يستغلونها في تجارات السوق السوداء، ومخزون وافر من الذخيرة. أما الشيء الوحيد الذي لا يملكونه، ولا يعرفونه، فهو الطريق الذي يمضي بهم إلى الأمام.
في خريف هذا العام، قام حزب العمال الكردستاني بتنفيذ سلسلة من الغارات الدموية على تركيا، انطلاقا من مخابئه في شمالي العراق، فقتل عشرات من الجنود الأتراك إلى الحد الذي جرؤت معه العسكرية التركية على تصعيد موقفها إلى درجة العمليات الانتقامية واسعة النطاق على الحدود. وهو وضع لا يثير قلق الثوار وحدهم، بل قلق القوات الأمريكية أيضا. فالأتراك ـ الذين حشدوا قوات تصل إلى عشرات الآلاف على مقربة من حدود العراق ـ لا يزالون على ما دأبوا عليه منذ سنوات من الضغط على الحكومة الأمريكية لتقويض حركة الاستقلال الكردية. في حين أن القوات الأمريكية لن تحقق مكاسب إن هي فتحت أو سمحت بفتح جبهة جديدة في العراق. ومع ذلك، فقد حدث مرتين خلال الأشهر الستة الماضية أن تصاعدت التوترات حتى أنذرت بقرب وقوع حرب كبيرة يشتبك فيها كل من تركيا وإيران والعراق والولايات المتحدة، دون أن يملك أي من هذه الدول أدنى فكرة عمن سوف يحالف من.
ما أثار هذا الكلام كله هو كتاب أليزا ماركوس الجديد عن حزب العمال الكردستاني وزعيمه المعتقل عبدالله أوجلان، وهو الكتاب الذي ما كان ليصدر في توقيت أفضل.
سبق لأليزا ماركوس أن عملت مراسلة في الشرق الأوسط لصحيفتي بوسطن جلوب وكريستيان ساينس مونيتور، وهي من ثم تعتمد على خبرة ثمانية أعوام في تغطية شئون الأكراد، كما تعتمد على رصيد كبير من الحوارات التي أجرتها معهم.
تستهل أليزا ماركوس كتابها "دم وإيمان" بتكوين حزب العمال الكردستاني عام 1978 على أيدي الساخطين من الطلبة الأكراد في تركيا. أما بدايات أوجلان نفسها فلا تخلو من طرافة، فقد قال يوما عن زيجته من ابنة أحد السياسيين المنتمين للطبقة الوسطى إنه دليل قدرته على احتمال أي صعوبة قد تنشأ عن حياة الثوار. أما حياته في عالم حروب العصابات فهي أبعد ما تكون عن الطرافة والمرح. فعلى مدار الخمسة عشر عاما التي تلت شن حزب العمال الكردستاني حربه الانفصالية عن الدولة التركية عام 1984، لقي ما يقرب من خمسة وثلاثين ألف شخصا مصرعهم، وأغلب هؤلاء من فقراء الأكراد في جنوبي تركيا. في عام 1999 قدمت الولايات المتحدة مساعدتها لتركيا في اعتقال عبد الله أوجلان، بعد أن هرب إلى إيطاليا وروسيا إلى أن تم اعتقاله أخيرا في كينيا. ومنذ ذلك الحين، نرى أن مقاتلي حزب العمال الكردستاني العالقين في الجبال يضطربون ويتحركون في ارتباك ما بين الهدنة والأخرى والإنذار والآخر، عاجزين عن قطع صلاتهم مع زعيمهم المعتقل، أو تحديد وجهتهم وخطوتهم التالية.
في زيارة قمت بها مؤخرا إلى موقع تابع لحزب العمال الكردستاني في شمالي العراق، وجدت الثوار يعيشون حالة من الرفض المكتوم والمعلن، فقد سألني كردي يحمل كلاشينكوف مستنكرا "لماذا يصر الجميع على نعتنا بالإرهابيين؟ إن الحكومة التركية لم تعط للأكراد أية حقوق، لم توفر لهم مدارس، ولم تعترف لهم بلغة. وإن لنا الحق في أن نعيش بحرية".
ما من شك في أن للأكراد قضية، ولكن تجاهل حزب العمال الكردستاني لحرمة الأبرياء المدنيين قد وضعهم في مصاف الإرهابيين وعلى قائمتي الإرهاب السوداوين في الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي. ومع أن عصابات الحزب تلمح إلى أنها سوف تتوقف عن القتال إذا ما حصلت على عفو عام، إلا أنها لا تبذل جهدا لتحسين صورتها، ولا تحاول التزحزح عن ارتباطها شبه السري شبه العقدي بأوجلان.
ويأتي كتاب ماركوس ليساعد على توضيح هذا، بالتأريخ الدقيق الذي يقدمه لعمليات حزب العمال الكردستاني. كما يأتي سردها لمساعي أوجلان لكي يصبح الصوت الوحيد الناطق باسم الأكراد ليمثل أول سرد من نوعه في اللغة الإنجليزية، ففي هذا القسم تصف أليزا ماركوس قسوة حزب العمال الكردستاني مع جماعات كردية أخرى كان ينبغي أن تعمل معه في النضال من أجل حقوق الأكراد. وذلك ما يشي بأن أوجلان يمتلك سمات المستبدين في كل مكان بالعالم ونزوعهم إلى قتل كل منافس، حتى وإن اقتضى منه ذلك إعدام أقرب المقربين منه. ويبقى الإنجاز الكبير لـ "دم وإيمان" هو أنه يستطيع أن يحقق التعاطف مع قضية الأكراد برغم إراقة الدماء والمذابح، ولكن التعاطف لا ينصب على أوجلان وإنما على الأكراد البسطاء اليائسين الذين انضموا إلى حزب العمال الكردستاني لأنهم لم يجدوا أملا إلا فيه.
وليس الكتاب سهل القراءة. فهو يعاني من غياب خريطة دقيقة، خاصة وأن السرد يختل في بعض الأحيان نتيجة تكاثر الأسماء، سواء أسماء الزعامات والمقاتلين أو الفصائل والأجنحة. وبعيدا عن ذلك، تلفت ماركوس الأنظار إلى أن استمرار بعض مقاتلي حزب العمال الكردستاني في القتال بغض النظر عن اعتقال زعيمهم، يعني أن قضية الأكراد أكبر من أن يتم اختزالها في شخص. ثم إنها تلفت الأنظار إلى النقطة الأهم: إن حزب العمال الكردستاني موجود في الجبال منذ عقدين من القتال، لم يزحزه من موقعه أحد، ولا يوجد ما يدعونا إلى الظن بأن هجمة تركية أخرى سوف تنجح في إنزال الثوار.
كاتب المقال: مراسل بي بي سي في الشربق الأوسط. يصدر له قريبا كتاب "الدولة الخفية: كيف يؤثر سعي الأكراد إلى إقامة دولة في تشكيل العراق والشرق الأوسط"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق