خلاف إذن بين وكالة الأنباء العملاقة، والصحيفة البريطانية العريقة. هل ألقيت الكلمة بصوت ليسنج أم بصوت ناشرها؟ وبرغم عدم قدرتنا على حسم الخلاف، وعدم اهتمامنا بذلك أيضا، إلا أننا ننحاز للجارديان، الصحيفة الكريمة التي وفرت لنا النص الكامل للكلمة، فيما اكتفت رويترز وكثير من وسائل الإعلام بالتركيز على مقتطفات تكاد تحصر الكلمة ـ الطويلة ـ في نقطتين.
النقطة الأولى تتمثل في نقد الرئيس روبرت موجابي الذي ترى لينسج أن أوضاع زيمبابوي قد تدهورت في ظل حكمه حتى عز على الشعب أن يجد الماء والكتاب والدفتر. أما النقطة الثانية، ولعلها الأهم، فتتمثل في نقد الأديبة المخضرمة للإنترنت، وثقافتها التافهة، التي أبعدت جيلا بكامله عن القراءة الحقيقية.
لم يمض يومان على نشر الكلمة، حتى تصدر هذا العنوان موقع الجارديان على الإنترنت: رئيس الوزراء البريطاني يدعو جوجول للمشاركة في مساعدة فقراء العالم. أما الخبر نفسه فيوضح أن جوردون براون دعا عشرين من كبرى الشركات العالمية للمساهمة في تنفيذ برنامج تنموي تابع للأمم المتحدة يهدف إلى تحسين أحوال الفقراء في العالم بحلول عام 2015. ولكن الجارديان اختارت أن يتصدر جوجول الخبر. وبرغم أن الجريدة لم تفعل ذلك ـ على الأرجح ـ إلا برغبة مهنية في لفت الأنظار، إلا أن العنوان يبقى ذا دلالة على مكانة جوجول و ... الإنترنت؟
هل يمكن لجوجول أن يدحض اتهام التفاهة الموجه من ليسنج إلى الإنترنت؟ نعم ولا. فإذا كان على الشبكة العنكبوتية جوجول وآلاف المواقع الجادة، فثمة آلاف المواقع التافهة. إنه عصر الغزارة والوفرة كما قال إزرا باوند قبل قرابة قرن.
جوجول في النهاية ليس سوى صديق كريم، كلما كلفناه بالبحث عن شيء وجده. نحن إذن من نجعله صديق سوء أو صديق خير. نحن الذين نجعل الإنترنت مصدرا للتفاهة أو مصدرا للثقافة والمعرفة.
أما عن الجدة دوريس ليسنج، ذات السبعة والثمانين عاما، فليت من لديه عنوان بريدها الإلكتروني يخبرها أنه لولا "وسيلة إعلامية" اسمها الإنترنت، لما كانت "كلمتها" وصلت إلى كل من وصلت إليهم.
ناشر ليسنج يلقي كلمتهاـ رويترز
الجوع إلى الكتب
واقفة في المدخل، ناظرة عبر غيوم من الغبار، إلى موضع قيل لي إن فيه غابة لم تزل غير مقطوعة بعد. قبل ذلك بيوم، كنت أقود سيارتي فلم أر عبر أميال وأميال سوى جذوع مبتورة ورماد نار خبت، وذلك في موضع كان فيه عام 1956 أروع غابة حدث أن وقعت عليها عيناي، وقد صارت اليوم هشيما. ولا بد للناس أن يأكلوا، ولا بد للناس من ثم أن يجدوا لنارهم حطبا.
إنه شمال زيمبابوي في مطلع الثمانينيات، وأنا في زيارة لصديق كان يعمل معلما في إحدى مدارس لندن، وهو هنا "ليساعد أفريقيا" كما دأبنا أن نقول. إنه شخص رقيق الروح، مثالي، وجد في المدرسة هنا ما أصابه بالاكتئاب، فشق عليه أن يبرأ منه. فهذه المدرسة شبيهة بسواها من المدارس المنشأة بعد الاستقلال. تتألف من غرف من الآجر، متراصة بجانب بعضها البعض، قائمة مباشرة على الأرض، واحدة اثنتان ثلاث أربع، ونصف غرفة في الطرف هي المكتبة. في هذه الفصول توجد السبورات، وفي جيبه يحتفظ صديقي بالطباشير، وإلا تعرض للسرقة. لا يوجد أطلس في المدرسة، أو نموذج للكرة الأرضية، لا كتب دراسية، لا كراسات للتمارين، لا أقلام. وفي المكتبة لا توجد كتب من النوع الذي يروق للتلاميذ أن يطالعوه، ليس سوى مجلدات من الجامعات الأمريكية يصعب مجرد حملها، وفضلات المكتبات البيضاء، وقصص بوليسية، وعناوين من نوع "عطلة في باريس" أو "وعثرت فليسيتي على حبيب".
ثمة ماعز تحاول أن تستمد عونا من عشب عتيق القدم. ناظر المدرسة اختلس ميزانية المدرسة فتم إيقافه عن العمل. وليس لدى صديقي نقود، لأن الجميع ـ تلاميذ ومعلمين ـ يقترضون منه كلما حصل على راتبه ما لن يسددوه على الأرجح. تتراوح أعمار التلاميذ ما بين السادسة والسادسة والعشرين، لأن البعض ممن لم يلتحقوا في طفولتهم بالمدرسة يحاولون تعويض ذلك. يقطع بعض التلاميذ أميالا كل صباح في المطر أو الحر أو عابرين الأنهار. لا يمكنهم القيام بأداء واجباتهم لعدم وجود كهرباء في القرى، ومن الصعب على المرء أن يذاكر في ضوء حطب مضرم. أما الفتيات فعليهن قبل التوجه إلى المدرسة وبعد العودة منها أن يجلبن الماء ويقمن بالطهي.
وفيما كنت جالسة مع صديقي في غرفته، كان الناس يأتون في خجل، وجميعهم يتسول الكتب. قال لي رجل "من فضلك أرسلي لنا كتبا عندما تعودين إلى لندن، إنهم يعلموننا القراءة ولكن ليس لدينا كتب. وكل من قابلتهم، وأعني كل من قابلتهم، كانوا يتسولون الكتب.
قضيت هناك أياما، ثار فيها الغبار، وانكسرت المضخات فعمدت النساء إلى استجلاب المياه من النهر. ولم يقو مدرس مثالي آخر من إنجلترا على احتمال رؤية حال تلك الـ "مدرسة".
في اليوم الأخير ذبحوا الماعز. وقطعوها شرائح صغيرة وطهوها في علبة ضخمة من الصفيح. وتلك كانت وليمة نهاية الفصل الدراسي: ماعز مسلوقة وعصيدة. ومضيت بسيارتي، بينما الوليمة قائمة لا تزال، عابرة بين بقايا الجذوع المبتورة ورماد الغابة الدارسة.
لا أظن كثيرا من أولئك التلاميذ سوف يحصلون على جوائز.
في اليوم التالي كان عليَّ أن ألقي كلمة في مدرسة بشمال لندن، مدرسة رائعة. مدرسة للبنين، ذات مبان جميلة وحدائق. يستقبل الأطفال في هذه المدرسة كل أسبوع زائرا شهيرا، قد يكون هؤلاء الزوار آباء أو أمهات أو أقارب للتلامي، ولذلك ليس المشاهير شيئا استثنائيا لأولئك التلاميذ.
بينما أتحدث إليهم، تبقى مدرسة الغبار الثائر في شمالي زمبابوي عالقة بذهني بينما أرى أمام عيني وجوها إنجليزية لطيفة أحاول أن أحكي لها ما سبق لي أن رأيته قبل أسبوع. فصول لا كتب فيها أو دفاتر أو أطالس أو حتى خريطة معلقة على الجدار. مدرسة يتوسل المعلمون فيها كتابا يعلمهم كيف يقومون بالتدريس، هم الذين لا يزيد عددهم عن ثمانية عشر أو تسعة عشر معلما. أحكي للصبية الإنجليز كيف يتوسل كل شخص الكتب، "من فضلك أرسلي كتبا إلينا". ولكن أذهانهم تخلو من أي صورة تقترب بهم مما أحكي عنه: مدرسة قائمة في التراب، يندر الماء فيها، وفيها وليمة نهاية الفصل الدراسي ماعز ذبيحة للتو تطهى في قدر ضخم.
أمن المستحيل إلى هذا الدرجة، حقا، على هؤلاء الطلبة المحظوظين أن يتخيلوا مثل ذلك الفقر المدقع؟
أبذل أقصى جهدي. وهم مهذبون.
أنا متأكدة أن بينهم من سيحصلون يوما ما على جوائز.
وينتهي الكلام. وبعد ذلك أسأل المعلمين عن حال المكتبة، وما إذا كان التلاميذ يقرأون. وفي هذه المدرسة المتميزة، أسمع ما أسمعه كلما ذهبت إلى مثيلاتها من المدارس بل والجامعات، يقول لي أحد المعلمين "تعرفين الحال. كثير من الطلبة لم يقرأ كتابا في حياته، والمكتبة غير مستغلة تقريبا".
نعم، كلنا نعرف الحال. كلنا نعرفه.
إننا في غمار ثقافة متشظية، تشكك في كل شيء، حتى ما كان ـ قبل عقود قليلة ـ من قبيل اليقينيات، ثقافة شاع فيها بين الشباب والشابات ممن قضوا سنوات في التعليم أن لا يعرفوا عن العالم شيئا، وألا يطالعوا كتابا، وأن تقتصر معارفهم على هذا التخصص أو ذلك، الكمبيوتر على سبيل المثال.
هذا الذي حدث لنا يمثل ابتكارا مذهلا ـ الكمبيوتر والإنترنت والتليفزيون. ثورة. وليست هذه أول ثورة يتعامل معها الجنس البشري. هناك ثورة الطباعة التي لم تحدث بين عشية وضحاها، بل طالت على مدار عقود غير قليلة بأية حال، مغيرة أذهاننا وطرائقنا في التفكير. وبحماقة قبلناها بقضها وقضيضها، كدأبنا دوما، دون أن نتساءل: "ما الذي سوف يحدث لنا الآن؟" وبالمثل لم يخطر لنا أن نسأل "كيف ستتغير حياتنا وطريقتنا في التفكير بسبب الإنترنت التي أغوت جيلا كاملا بتفاهاتها لدرجة أن بعضا من العقلاء سيعترفون أن من الصعب الخلاص من هذا الشرك، وأنهم قد يكتشفون أن يوما كاملا ضاع منهم في المدونات وما إلى ذلك.
منذ فترة غير بعيدة، كان أي شخص ـ وإن يكن متوسط الثقافة ـ يحترم التعلم والتعليم ومخزن الأدب العظيم الموجود لدينا. ولا شك أننا جميعا نعرف أنه متى توفرت فينا هذه الحالة السعيدة، فإن الناس يتظاهرون بالقراءة، ويتظاهرون باحترام التعليم. وليس سرا أن العمال من الرجال والنساء كانوا يتوقون إلى الكتب، وليس أدل على ذلك من إقامة مكتبات العمال ومعاهدهم وكلياتهم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. عندما كانت القراءة والكتب جزءا من التعليم العام. ولا بد أن كبار السن يفهمون ـ وهم يحادثون الشباب ـ كم كانت القراءة جزءا أصيلا من التعليم، وذلك لأن الأصغر سنا لا يكادون يعرفون شيئا عن ذلك.
وكلنا على علم بهذه القصة المؤسفة. ولكننا لا نعرف لها نهاية. إننا نفكر في المثل القديم "بالقراءة يكتمل الإنسان"، فيتبين لنا أن القراءة تملأ المرأة والرجل بالمعلومات، بالتاريخ، بشتى ألوان المعرفة.
ولم يمض وقت طويل على حكاية رواها لي صديق من زيمبابوي عن قرية مضت ثلاثة أيام على أهلها دون أن يطعموا أو يشربوا، وإن ظلوا يتكلمون عن الكتب، وعن كيفية الحصول عليها، وعن التعليم.
إنني أنتمي إلى منظمة قامت بنية أن تمد القرى بالكتب. ولكن هناك جماعة من الناس الذين قطعوا زيمبابوي طولا وعرضا وإن يكن ذلك في سياق آخر. وقد حكوا لي أن القرى في زيمبابوي مليئة ـ على عكس الاعتقاد السائد ـ ببشر أذكياء، بين معلمين متقاعدين، وأطفال يقضون الإجازات، ومسنين. ولقد أجريت بنفسي مسحا اكتشفت من خلاله بشرا في زيمبابوي يريدون القراءة، وهي نفس النتيجة التي توصل إليها المسح السويدي الذي لم أكن أعرف من أمره شيئا. لقد كان الناس هناك يريدون أن يقرأوا نفس الكتب التي يرغب الناس في أوربا في قراءتها: الروايات بشتى أنواعها، الخيال العلمي، الشعر، القصص البوليسية، المسرحيات، وكتب التعليم الذاتي، من قبيل "كيف تفتح حسابا مصرفيا". وكذلك جميع أعمال شكسبير. ومشكلة العثور على كتب للقرويين تتمثل في أنهم لا يعرفون المتاح منها، وبذلك يتفق لمجموعة كتب مثل "عمدة كاستربريدج" أن تشيع بينهم لمجرد توفرها بينهم. ولأسباب واضحة، فإن "مزرعة الحيوانات" هي أكثر الروايات شيوعا لديهم.
منذ البداية، تلقت منظمتنا مساعادات من النرويج، ثم من السويد. ولولا هذا الدعم الرقيق لجفت مواردنا ولتوقفنا عن الإمداد بالكتب التي كنا نحصل عليها من كل مكان نستطيع الوصول إليه. ولا تنسوا أن كتابا جيدا من إنجلترا يكلف أجر شهر في زيمبابوي: وذلك قبل عهد موجابي المرعب. والآن، وفي ظل التضخم، ترتفع التكلفة إلى أجر سنوات. ويصبح إرسال صندوق من الكتب إلى قرية، ولا تنسوا أن ثمة نقصا فادحا في البترول، يمكنني القول إن الأهالي يرحبون بذلك الصندوق بالدموع. قد لا تكون المكتبة أكثر من لوح خشبي مقام على حجرين أسفل شجرة. وفي غضون أسابيع تبدأ فصول لمحو الأمية، ويقوم مجيدو القراءة بتعليمها لمن لا يجيدونها، ودروس في المواطنة، وفي إحدى القرى النائية، وبعيد وصول صندوق الكتب، ولأن تلك القرية لم تعرف من قبل رواية بلغة التونجا، فقد جلس غلامان يكتبان بالتونجا روايات. في زيمبابوي ست لغات أو نحو ذلك، وفي كل تلك اللغات روايات حافلة بالعنف والجريمة والقتل وزنى المحارم.
يقال إن الشعوب تستحق حكامها، ولكنني لا أظن أن ذلك يصدق على زيمبابوي. ولا ينبغي أن ننسى أن ذلك الاحترام للكتب والجوع إليها غير نابعين من نظام موجابي، وإنما من النظام السابق عليه، نظام البيض. ويا لها من ظاهرة مدهشة، ظاهرة الجوع إلىالكتب، الجوع الذي يمكن استشعاره في كل موضع من المساحة الممتدة من كينيا إلى رأس الرجاء الصالح.
يرتبط ـ قسرا ـ مع حقيقة أنني ولدت ونشأت في كوخ من الطين مسقوف بالقش. ذلك النوع من البيوت التي دائما ما تقام، في كل مكان يتوفر فيه العشب أو السعف، والطين الملائم، والعمدان للجدران، في إنجلترا السكسونية على سبيل المثال. كان الكوخ الذي نشأت فيه مكونا من أربع حجرات، إحداها بجانب الأخرى، وكان مليئا بالكتب. فلم يكن والداي يصطحبان الكتب معهما من إنجلترا وحسب، ولكن أمي كانت تطلب الكتب بالبريد من إنجلترا لأطفالها. كانت الكتب تصل في طرود ورقية بنية كبيرة، وكانت بهجة حياتي في طفولتي وصباي. كوخ طيني، ولكنه مليئ بالكتب.
ولم أزل إلى اليوم أتلقى رسائل من بشر يعيشون في قرى لا تعرف الكهرباء ولا المياه الجارية، كالتي عاشت فيها أسرتي في كوخ من الطين، فأجد في تلك الرسائل من تقول "وأنا أيضا سوف أصبح كاتبة، فأنا أيضا أعيش في بيت كالذي كنت تعيشين فيه".
وهنا تكمن صعوبة. الكتابة، والكتَّاب، لا يأتيان من بيوت خالية من كتب.
لقد طالعت مؤخرا كلمات بعض من أحدث الحاصلين على جوائز نوبل. إليكم على سبيل المثال "أورهان باموق" الرائع. لقد قال إن أباه كان يحتفظ بخمسمائة كتاب. موهبته لم تأت من فراغ، بل من ارتباط مع تقليد عظيم. وإليكم "في إس نيبول" الذي يذكر أنه كان للفيدا الهندية حضور كبير في ذاكرة عائلته، وأن أباه كان يشجعه على الكتابة وأنه كان يزور المكتبة البريطانية عندما يزور إنجلترا. وإذن فقد كان قريبا هو الآخر من تقليد عظيم. ولنا في "جون كوتزي" مثالا، فهو لم يكن فقط قريبا من التقليد العظيم، وإنما كان التقليدَ العظيمَ ذاته: إذ كان يقوم بتدريس الأدب في كيب تاون. وكم يؤسفني أن الفرصة لم تواتني قط لحضور بعض محاضراته فآخذ العلم عن عقل جريء شجاع رائع. فلكي تكتب، ولكي تنتج أدبا، لا بد لك من رابط قوي مع المكتبات والكتب، وهذا التقليد العظيم.
لي صديق من زيمبابوي، كاتب أسود. علم نفسه القراءة من ملصقات علب المربى والفواكه المحفوظة. كان قد نشأ في منطقة مررت بها، هي منطقة يسكنها الريفيون السود، أرضها مفروشة بالحجارة والحصى وبشجيرات منخفضة هنا وهناك، أكواخها فقيرة لا تشبه في شيء أكواخ من هم في حكم الأغنياء. وكانت فيها مدرسة، ولكنها كتلك التي وصفتها. وعثر صديقي على موسوعة للأطفال ملقاة في كوم قمامة ومنها علم نفسه بنفسه.
عند الاستقلال في عام 1980 كان في زيمبابوي رهط من الكتاب الجيدين، يمثلون بحق عشا من الطيور المغردة. نشأوا جميعا في روديسيا الجنوبية في ظل حكم البيض، ومدارس الإرساليات، وهي مدارس جيدة. الآن لا يُصنع الكتاب في زيمبابوي، ليس بسهولة، ليس مع موجابي.
ما من كاتب فيهم إلا وسلك طريقا شاقا من الأمية إلى إجادة القراءة والكتابة، ناهيكم عن الوصول إلى أن أصبحوا كتابا. ولعلي قائلة إن تعلم القراءة من الملصقات المطبوعة على علب المربى ومن الموسوعات الملقاة لم يكن بالأمر النادر. ولا ينبغي أن ننسى أننا نتكلم عن قوم يتطلعون إلى مستويات من التعليم تفوق استطاعتهم، فهم يعيشون في أكواخ كثيرة أطفالها، مرهقة أمهاتها، لا تعرف سبيلا إلى المطعم والملبس إلا النضال.
وعلى الرغم من هذه الصعوبات، ظهر الكتاب إلى الوجود. وظهروا في بلد هي زيمبابوي التي تعرضت للغزو قبل مائة عام. فلعل بعضا من أجدادهم كانوا حكائين شعبيين يعملون وفقا للتقاليد الشفاهية، فلم يمض جيل أو اثنان حتى تم التحول من تلك القصة المحفوظة في الذاكرة، المروية على الألسن، إلى قصص مطبوعة في كتب.
كانت الكتب تلتقط حرفيا من أكوام القمامة ومخلفات عالم الرجل الأبيض. ولكن الفارق هائل بين حزمة من الورق، وبين كتاب مطبوع. لقد حصلت على أكثر من تأريخ لمشهد النشر في أفريقيا. فخلصت إلى انطباع بأن الحديث عن مشهد النشر في أفريقيا، حتى في أماكن أوفر حظا مثل جنوب أفريقيا، فيه شيء من المبالغة.
إنني أتحدث الآن عن كتب لم تكتب، وكتاب لم يكتبوا بسبب غياب الناشرين. أصوات غير مسموعة. وليس من الممكن تقدير حجم هذا الإهدار الكبير للموهبة، وللطاقة. ولكن حتى قبل الوصول إلى هذه المرحلة من عمل الكتاب التي تستوجب ناشرا، ودفعا، وتشجيعا، فثمة شيء ناقص.
عادة ما يسألون الكاتب: "كيف تكتب؟ على الكمبيوتر؟ على آلة كاتبة كهربائية" بالريشة؟ بالاختزال؟" في حين أن السؤال الجدير بالطرح حقا هو "هل وجدت حيزا، حيزا خاليا، يحيطك عندما تكتب؟ ففي ذلك الحيز، وكما يحدث عند الإصغاء، أو الانتباه، تأتي الكلمات، الكلمات التي سوف تنطق بها شخصياتك، الأفكار، الإلهام". لو لم يتسن لكاتب أن يجد الحيز فقد تبقى القصائد والقصص رهن مخاض لا ينتهي. وحينما يتحدث الكتاب بين بعضهم البعض، فما يخوضون فيه دائما يتعلق بهذا الحيز، هذا الزمن الآخر. "هل وجدته؟ هل أحكمت عليه قبضتك؟".
تعالوا الآن نقفز إلى مكان يبدو شديد الاختلاف. نحن الآن في لندن، وهي واحدة من المدن الضخمة. وثمة كاتبة جديدة. نحن الآن نتساءل هازئين "شكلها حلو؟" وإن كان كاتبا نسأل "وسيم؟ عنده كاريذما؟" نحن نهزل، ولكنه ليس هزلا.
يلقى هذا الاكتشاف الجديد ثناء، وربما ينال كثيرا من المال. وينصب في الآذان التعيسة وابل من الطنين. وإذا به محط احتفال وتمجيد في العالم كله. وإذا بنا نحن الشيوخ، الذين رأوا حتى اكتفوا، آسفون لحال هذا المبتدئ الوافد الجديد الذي لا يدري شيئا مما يحدث. فقط يطرب أو تطرب، ويملؤه أو يملؤها الرضا. ولكن اسألوه أو اسألوها بعد عام عن رأيه أو رأيها، ولن تحصلوا إلا على هذا االجواب: "هذا أسوأ شيء كان يمكن أن يحدث لي".
إن بعضا من أكثر الكتاب الجدد شهرة واحتفاء لم يكتبوا مرة أخرى، أو لم يكتبوا ما أرادوا أن يكتبوه، ما كانوا يقصدون إليه. أما نحن الشيوخ فنريد أن نهمس في آذانهم البريئة: "ألا يزال الحيز بين أيديكم؟ روحكم، مكانكم الخاص الضروري، حيث يمكن لأصواتكم أن تكلمكم، وحدكم، حيثما تحلمون. ألا فلتتشبثوا به، ولا تفلتوه".
ما أحفل عقلي بذكريات بديعة عن أفريقيا، ذكريات أحييها فأحيا فيها وقت أشاء. ما بال تلك المغارب الذهبية القرمزية البرتقالية تمتد بعرض السماء قبيل المساء؟ ما بال تلك الفراشات واليرقات والنحلات في آكام الكالاهاري الفواحة؟ أو الجلوس على ضفاف زامبيسي المعشوشبة الحائلة، والماء معتم وناعم، وكل طيور أفريقيا تحوم؟ نعم، فيلة، وزراف وسباع، وما عداها، كان ثمة الكثير من ذلك كله، وفوق كل ذلك، ما بال السماء بالليل، نقية لم تتلوث بعد، سوداء بديعة، مليئة بنجوم لا تكل؟
وثمة ذكريات أخر. شاب أفريقي يافع لعله في الثامنة عشرة، واقف دامع العينين في الموضع الذي يأمل أن يكون مكتبته. ويرى زائر أمريكي أن مكتبته خلو من الكتب، فيرسل إليه صندوقا، يستخرج الشاب منه الكتب واحدا تلو الآخر، في إجلال، ويغلف كلا واحد بالبلاستيك، فنقول له "ولكن هذه الكتب مرسلة كي نقرأها" فيقول "كلا، فهكذا تتسخ، ومن أين لي حينئذ أن أحصل على المزيد؟"
ورأيت معلما في مدرسة ليس فيها كتب دراسية، أو طباشير للسبورة. كان يعلم تلاميذه الذين تتراوح أعمارهم بين السادسة والثامنة عشرة بحجر يخط به على التراب وهو يترنم "اثنان في اثنين تساوي ..." وهكذا. ورأيت فتاة ـ لعلها في العشرين ـ هي الأخرى بلا دفاتر أو أقلام، تتعلم الهجاء، بغصين تخط به على التراب، بينما الشمس تصب لهيبها، والريح تذري التراب.
أود لو تتخيلوا أنفسكم في مكان ما من جنوب أفريقيا، واقفين في دكان هندي، في منطقة فقيرة، في موسم جفاف مقيت، وثمة رتل من الناس، أغلبهم نساء، يحملن شتى ألوان جرار الماء. يصل إلى هذا الدكان في عصر كل يوم من البلدة القريبة حاوية من المياه العزيزة، وهي ما ينتظره الناس.
الهندي واقف مستند برسغيه على الطاولة، يراقب امرأة سوداء مطرقة على قصاصة ورق تبدو منتزعة من كتاب. إنها تقرأ آنا كرنينا. وتقرأ ببطء وهي تتمتم بشفتيها. يبدو كتابا صعبا. وهي شابة يتعلق بساقيها طفلان، وفي رحمها ثالث. ألم بالهندي كرب، وهو يرى وشاح المرأة ـ الذي ينبغي أن يكون أبيض ـ وقد اصفرَّ بفعل التراب. التراب العالق بين نهديها، وعلى ذراعيها. ألمَّ الكرب بالرجل بسبب صفوف الناس، العطشى جميعا، بينما لا ماء لديه يكفيهم. وألم به الحزن لما عرف أن أناسا آخرين يموتون هناك، من خلف غيوم الغبار.
ويملؤه منه الفضول، فيقول للمرأة الشابة "فيم تقرأين؟"
فتقول الفتاة "شيء عن روسيا".
فيسألها "أوتعرفين أين روسيا؟" وهو الذي لا يكاد يعرف.
فتنظر الشابة في عينيه مباشرة وتقول باعتزاز غير منقوص، وإن احمرت عيناها من الغبار "لقد كنت الأفضل في فصلي. كان أستاذي يقول إنني الأفضل".
وتستأنف الشابة القراءة، تريد أن تصل إلى نهاية الفقرة.
ينظر الهندي إلى الطفلين ثم يمد يديه إلى بعض الفانتا، ولكن المرأة تقول "الفانتا تزيدهم عطشا".
يعرف الهندي أنه مل ينبغي له أن يفعل ذلك، ولكنه يمد يده إلى دلو بلاستيكي كبير يقع وراء الطاولة بجانب قدميه، ويصب الماء في كوبين من البلاستيك، ثم يعطيهما للطفلين. ويرى الشابة وهي تنظر لطفليها إذ يشربان، فيتحرك فمها. يناولها كوبا من الماء، ويعتصر الألم قلبه وهو يراها تشرب فيرى كم أمضها العطش.
هي الآن تناوله دلوا بلاستيكيا فيملؤه ماء، بينما الشابة وطفلاها يرقبونه عن كثب لئلا يتناثر من الماء شيء.
وتعود فتطرق على كتابها. تقرأ ببطء، ولكن الفقرة تفتنها فتعاود قراءتها من جديد.
"أحاط الأطفال بفارنكا، بوشاحها الأبيض الملفوف على شعرها الأسود، فانشغلت بهم في بهجة وعذوبة، بينما يثيرها في الوقت نفسه احتمال أن تتلقى عرضا بالزواج من رجل تهتم بأمره، فبدت فارنكا من كل ذلك في غاية الجاذبية. مشى بجانبها كوزنيشيف وهو لا يني يلقي عليها نظرات وله. كان ـ إذ يرنو إليها ـ يتذكر الأشياء البهيجة التي سمعها من شفتيها، وكل ما عرف عنها من خير، فازداد يقينا على يقين بأن ما يكنه له من شعور إنما هو شيء نادر، شيء لم يشعر به من قبل إلا مرة، مرة واحدة بعيدة، بعيدة، في أيام شبابه الغض. وكلما دنا منها خطوة كانت بهجة القرب منها تزيد، إلى أن بلغ أخيرا نقطة نظر فيها إلى عينيها وهو يضع في سلتها فطرا كبيرا نحيل الساق معقوف القمة، فرأى إلى دم السعادة والتوتر يخضب خديها، وارتبك هو نفسه، وفي صمت، أولاها ابتسامة قالت الكثير والكثير".
كانت تلك الكتلة الورقية موضوعة على الطاولة، بجانب أعداد قديمة من مجلات وصفحات من جرائد، وفتيات بالبكيني.
وآن أن تترك عش دكان الهندي، وتشرع في قطع أربعة أميال إلى القرية. وبالخارج، كانت صفوف المنتظرات تصطخب بالشكوى. ولم يزل الهندي يتراخى. إنه يعلم ما ستتجشمه تلك الفتاة في عودتها بطفليها المتعلقين بها. وكم ود لو يعطيها قطعة النثر التي فتنتها، لولا أنه لا يعتقد أن تلك الشظية البشرية النحيلة ذات البطن المنتفخة قادرة حقا على فهمها.
ولكن ترى ما السبب في وجود ثلث آنا كارنينا هنا على هذه الطاولة في هذه القرية النائية؟ جرى الأمر على هذا النحو.
مسئول ما رفيع المستوى، في الأمم المتحدة مثلا، اشترى نسخة من الرواية من إحدى المكتبات وهو يتأهب لرحلة طويلة يعبر فيها محيطات وبحارا. وعلى الطائرة، استرخى في مقعده بدرجة رجال الأعمال، وقطع الكتاب أجزاء ثلاثة. وكان يتلفت حوله إلى المسافرين معه وهو يفعل هذا، متوقعا نظرات مصدومة، ومتسائلة، وبعضا من الابتسامات. وما أن انتهى، وثبت حزام المقعد، حتى قال بصوت عال لمن يسمعه: "دائما أفعل هذا في كل رحلة طويلة. فمن الذي يريد أن يحمل كتابا بهذه الضخامة والثقل؟" لم تكن الرواية ذات غلاف مقوى، ولكن صدق الرجل، إنه كتاب طويل. هذا رجل اعتاد أن يصغي الناس حينما يتكلم. وحينما نظر الناس باتجاهه، عن فضول أو غيره، أفضى إليهم بقوله "إن هذه بالفعل هي الطريقة الوحيدة للسفر".
وحينما بلغ نهاية جزء من الكتاب، نادى المضيفة وأعطاه لها لتسلمه إلى سكرتيرته الجالسة في المقاعد الأرخص بالخلف. وكان ذلك يثير الكثير من الاهتمام، والرفض، والفضول بالتأكيد، كلما وصل إلى القسم الخلفي من الطائرة جزء من الرواية الروسية العظيمة، مشوها، ولكنه قابل للقراءة.
في هذه الأثناء، وبالأسفل، داخل دكان الهندي، تمسك المرأة الشابة بالطاولة، وطفلاها الصغيران يتعلقان بجيبتها. برغم أنها ترتدي الجينز لكونها امرأة عصرية، إلا أنها ترتدي فوق الجينز جيبة من الصوف الثقيل، وهي جزء من الزي التقليدي لأهلها: يسهل على طفليها التشبث بالجيبة، ذات الطيات العريضة.
تنظر للهندي نظرة شكر، فهي تعرف أنه يرق لها ويرثى لحالها، وتخطو خارجة إلى السحب العاصفة. ويسير الطفلان وهما يبكيان وقد ملأ الغبار حلقيهما.
صعب، نعم، صعب، الخطو بقدم تلو الأخرى، على هذا التراب الممتد تحت قدميها تلالا ناعمة مخاتلة. صعب، صعب، ولكنها اعتادت الصعوبة، أم أن هذا غير صحيح؟ لا يزال ذهنها مشغولا بالقصة التي كانت تقرأها، تفكر: "إنها مثلي تماما، بوشاحها الأبيض، واعتنائها بالأطفال، أيضا. يمكن أن أكون إياها، تلك الفتاة الروسية. وذلك الرجل، إنه يحبها، وسوف يتقدم للزواج منها. (فتاتنا لم تكمل غير تلك الفقرة) نعم، ولسوف يأتي إليَّ رجل، ويأخذني بعيدا عن كل هذا، يأخذني أنا وطفليَّ، نعم، ولسوف يحبني ويرعاني".
تفكر. قال أستاذي إنه كانت هناك مكتبة، اكبر من السوبرماركت، مبناها كبير، ومليئة بالكتب. تبتسم الشابة وهي تسير والغبار يعصف على وجهها. تفكر، أنا شاطرة. قال الأستاذ إنني شاطرة. أشطر فتاة في المدرسة. وأبنائي سوف يكونون شطارا، مثلي. سأذهب بهم إلى المكتبة، المكان المليء بالكتب، وسوف يذهبون إلى المدرسة، وسوف يكونون معلمين، فقد قال أستاذي إن من الممكن أن أصير أنا نفسي معلمة. سيعيشون بعيدا عن هنا، يكسبون المال. سيعيشون قريبا من المكتبة ناعمين بحياة طيبة.
لعلكم تتساءلون كيف انتهى الحال بتلك المزقة من الرواية الروسية على طاولة دكان الهندي؟
تلك قصة طريفة. لعلها تجد من يقصها.
وتمضي تلك الفتاة، لا يقيم عودها غير أفكارها عن الماء الذي ستعطيه لطفليها بمجرد الوصول إلى البيت، ثم تشرب منه القليل. وتمضي الفتاة عبر غبار القحط الأفريقي الرهيب.
يا لنا من قوم متعبين، في هذا العالم، عالمنا المحفوف بالأخطار. صالحون نحن للتهكم بل والسخرية. وثمة كلمات وأفكار قليلة أفرطنا في استخدامها حتى بليت في أفواهنا. ولكننا ربما نبتغي استرداد كلمات فقدت قدرتها.
إن لدينا كنزا من الأدب، يضرب بجذوره في ماضي المصريين والإغريق والرومان. كنز حاضر، ثروة من الأدب، تنتظر أن يكتشفها من جديد من يواتيه الحظ للوقوع عليها. تصوروا لو لم يكن لتلك الثروة وجود، ما أفقرنا في هذه الحال، وما أخوانا.
لدينا من القصص تركة هائلة، حواديت الحكائين، الذين نعرف أسماء بعضهم ونجهل أسماء بعض. حكاءون تضرب جذورهم، في فسحة في الدغل مضرمة فيها نار هائلة، وثمة كهنة قدامى يرقصون وينشدون، فما كان بدء ميراثنا من الحكايات إلا في النار، والسحر، وروح العالم. وفي ذلك لم يزل إرثنا قائما إلى اليوم.
سلوا أي حكاء عصري ولسوف يخبركم بأن ثمة دائما لحظة تمسسه فيها النار بلسان منها يروق لنا أن نسميه الإلهام، وذلك أمر يضرب بجذوره في مبدأ سلالتنا، في النار والثلج والرياح العظيمة التي صاغتنا وصاغت لنا العالم.
الحكاء كامن في أعماق كل منا. الحكاء دائما معنا. فلنفرض أن حربا ألمت بعالمنا وأهوالا يسهل على كل منا أن يتخيلها. فلنفترض أن طوفانا يطيح بمدائننا، وأن بحارا تعلو ... ولكن الحكاء سوف يكون موجودا، لأن خيالاتنا هي التي تصوغنا، وتبقينا، وتوجدنا، وتمنحنا الخير والشر على السواء. وهي حكاياتنا التي ستعيدنا خلقا جديدا، بعد أن تمزقنا النوازل إربا، أو تتركنا هشيما. إنه الحكاء، صانع الأحلام، هو عنقاؤنا، التي ترمز إلى أفضل ما فينا، وأبدع ما فينا.
تلك الفتاة البائسة تجاهد ماشية في التراب، تحلم بتعليم لأطفالها، أنحسب أنفسنا خيرا منها، نحن المتخمين بالطعام، الممتلئة خزاناتنا بالثياب، المكتظين إلى حد الاختناق بكل شيء؟أعتقد أن تلك الفتاة، وتلك المرأة، اللتين ظلتا تتكلمان عن الكتب والتعليم ثلاثة أيام لم تريا فيها الطعام، أعتقد أنهما أقدر من يمكن أن نستخلص منه تعريفا للإنسان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق