الجمعة، 9 أكتوبر 2020

لويز جليك: هذا ما أردت دائما أن أفعله

 

لويز جليك: هذا ما أردت دائما أن أفعله

 

 


بحجر واحد، لكنها أحسنت تسديده، اصطادت الأكاديمية السويدية طيورا عديدة طالما كانت في متناول يدها لكنها ظلت في عناد سنة بعد سنة تفلتها. كأنما كان لا بد من فضائح وأقاويل واتهامات ولغط يحيط بأرفع جائزة أدبية عرفتها الإنسانية، لكي تسترد الأكاديمية رشدها، وترجع إلى ما ينبغي أن تكون عليه، جائزة رصينة، تكرِّم قدرة الإنسان على أن يجعل اللغة فنا جديرا بالتأمل قادرا على إثارة الإعجاب، والارتقاء بالإنسان.

باختيارها الشاعرة الأمريكية لويز جليك للفوز بنوبل في الأدب للعام الحالي، تفلت الأكاديمية السويدية من اتهامها بأنها توشك أن تصبح جائزة أوربية، واتهامها بأنها تعادي الولايات المتحدة فتتعمد تجاهل أبرز روائييها وشعرائها إلى أن يغيبهم الموت. وبمنحها الجائزة الرفيعة لجليك، تحسِّن الأكاديمية السويدية قليلا من نسبة النساء غير المقبولة في قائمة الفائزين بنوبل، ونسبة الشعراء غير المقبولة أيضا، وتصحِّح الأكاديمية السويدية خطأها الكبير في حق الشعر الأمريكي خاصة، بإهمالها كثيرا من شعرائه الذين استحقوا ويستحقون هذا التكريم الدولي الكبير، مثلما تصحح خطأها الاكبر في حق الشعر الأمريكي بخاصة والإنساني بعامة بمنحها الجائزة ذات عام لبوب ديلان. وفي مثل أهمية ذلك كله أن الجائزة باختيارها لويز جليك، ترجع مرة أخرى جائزة للأدب.

***

منذ بدأت الشاعرة الأمريكية لويز جليك (1943 - ) مسيرتها الشعرية وهي مجتنبة للأضواء، عازفة عن مغريات الآلة الإعلامية صاحبة اليد الطولى فى صنع النجوم فى شتى مناحى الحياة الأمريكية، عاكفة على الكتابة (فلها العديد من المجموعات الشعرية فضلا عن كتاب فى نقد الشعر) والتدريس (حيث مارست تدريس الإنجليزية فى كلية ويليامز منذ 1983) حتى أنها أعربت عن فرحها ـ كما قالت لواشنطن بوست عشية تتويجها مستشارا شعريا لمكتبة الكونجرس الأمريكية وأميرة للشعراء الأمريكيين قبل بضع سنوات ـ حين عرفت "أن كثيرا من الأشياء التى يقوم بها الشاعر المتوج هى أشياء اختيارية".

ليس التكريم بالأمر الجديد على جليك، فقد سبق لها الفوز بالجائزة الوطنية لحلقة نقاد الكتاب عام 1985، وبجائزة بوليتزر ـ أرفع الجوائز الأدبية فى أمريكا ـ عام 1993 وبجائزة بِن/مارتا ألبراند للأعمال غير القصصية عن كتابها النقدى "براهين ونظريات: مقالات حول الشعر" عام 1994، فضلا عن اختيارها مستشارا لأكاديمية الشعراء الأمريكيين عام 1994.

فى معرض تعليقه على اختيار جليك مستشارة شعرية لمكتبة الكونجرس، امتدح الشاعر الأمريكى الكبير بيلى كولينز ـ الذى سبق جليك مباشرة في ذلك المنصب ـ اختيار المكتبة لأمرأة، مشيرا إلى أن لبريطانيا العظمى منصبا مماثلا لم تحصل عليه امرأة على مدار ثلاثمائة عام. وقال إن "ما ينقص الشعراء هو أن يجتنبوا كتابة الشعر بألف ولام التعريف. وحين نقرأ لصوت طازج كصوت جليك، نجد تيارا لا ينقطع من الأشياء الجديدة. إن ما يضفى الإثارة على شعرها هو ابتعاده عن  المألوف".

***

أغلب قصائد جليك التى أقدمها هنا مستوحاة من أوديسة هوميسروس، و بالتحديد من حكاية أوديسيوس، الذى ترك زوجته بينيلوب وخرج إلى حرب طروادة ثم إلى سفراته المتلاحمة تاركا إياها فى انتظاره والخطَّابُ يتداعون عليها فتراوغهم، مسوِّفة، بأن عليها أن تنسج كفنا للايريتس والد أوديسيوس، بينما تحل بالليل ما نسجت بالنهار.

وبينما هو فى سفراته، بلغ أوديسيوس ورجاله البحارة جزيرة أيايا AEAEA التى تقيم فيها الساحرة الشريرة ـ بحسب هوميروس ـ كيركى، وذهب البحارة يستكشفون الجزيرة فأشربتهم كيركى ما حولهم إلى خنازير. واستطاع أوديسيوس أن يجبر كيركى على إعادة رجاله سيرتهم الأولى، وأقام فى قصرها عاما أولدها فيه ابنا يدعى تيليجونوس.

وبينما أوديسيوس فى طريقه إلى بيته بجزيرة إيثاكا، كان عليه أن يمر ببقعة من البحر تقطنها السيرينيس وهن حوريات جميلات الصوت كن يجذبن البحارة بغناء عذب  ثم يسقنهم إلى حتفهم. سمع أوديسيوس عن قوتهن هذه، فسد بالشمع آذان بحارته وأمرهم بتوثيقه فنال بهذا لذة الاستماع إليهن بينما غفل بحارته عن الغناء المغوى وعن أوامره لهم بفك وثاقه. فكان ذلك أول إخفاق للسيرنيس مما جعلهن ينتحرن ويتحولن صخورا.

لا تستسلم جليك ـ كما سترون فى قصائدها ـ للسطوة التاريخية لهذه الحكايات، بل تتعامل معها تعامل الفنان مع أى تجربة حياتية، فتعيد تأويلها، وتنتصر لمن أظهرهن هوميروس شخصيات أحادية البعد. فكيركى عند جليك ليست مجرد ساحرة شريرة بل محبة كبيرة، تعتمل فى نفسها قوتا الحب والشر معا. وهى عندها عاجزة عن الاحتفاظ بأوديسيوس لأن روحها لا تحتمل مواجهة القيود وإن أحاطت بغيرها. وهكذا الحال مع سيرين التى لا تظهر إلا مجرد واحدة من مثيلات، كلهن مجرد خيط من خيوط نسيج هوميروس البديع. فإذا بجليك تختار إحداهن لتنظر إليها، ثم إلى روحها المركبة التى لا يمكن اختزالها فى مجرد مغنية تصطاد البحارة، بل  وهى لا تشير إلى ذلك أصلا، فسيرين ـ كما تقدمها جليك ـ امرأة عادية تعمل نادلة وترفض السفر إلى شيكاغو، معه، ولا تريد إلا العذاب لزوجته. وهى عندها امرأة تحاكم نفسها بنفسها.

ولا أحسب اشتغال جليك على حكايات لها هذا الرسوخ  يدخل فى نطاق البارودى PARODY أو المحاكاة الساخرة التى يذهب أغلب منظرى مابعد الحداثة إلى اعتبارها ملمحا أساسيا من ملامحها. إنما هو فى رأيى تأثير أيديولوجية نسوية. فلا يقتصر الأمر على تأويل جديد للحدث، وإنما هو أيضا خلخلة لمركزية الرجل ـ أوديسيوس ـ فى الحكاية الأصلية.

وسواء كان الدافع أيديولوجيا صرفا، أو فنيا صرفا، أو مزيجا من كليهما، فإن للنتاج النهائى أثراً ذا نكهة جديدة، حسبى أن ذلك غاية ما يطمح إليه من يعيد الاشتغال على نص يحميه التاريخ نفسه.

***

تقول لويز جليك في مقطع فيديو بثه ذات يوم موقع أكاديمية الشعراء الأمريكيين:

"معجزة، ومعجزة شديدة الوضوح، عليّ أن أذكّر نفسي أنه ليس جميع الناس في العالم يريدون من قلوبهم أن يكونوا شعراء. بل إن كثيرا من الناس لا يهتمون ولو من بعيد بهذا الأمر، ولكن من الواضح تماما لي أن هذا ما أردت أن أفعله".


 

حزن كيركى

 

كشفتُ فى آخر الأمر نفسى لزوجتك

وفى بيتها بإيثاكا

ولكن كما يليق بإلهة:

صوتاً فقط بلا جسد.

توقفتْ إذ ذاك عن نسجها

واستدارت ذات اليمين

فذات اليسار

ولم يكُ بالطبع مجدياً

ردُّ ذلك الصوت إلى مصدر ملموس:

لا أظنها عائدةً بعد ما عرفته

إلى نولها.

قل لها حين تراها من جديد

إنما هكذا يقول الآلهة الوداع:

واعلم أنت

أننى لو بقيتُ فى رأسها إلى الأبد

فقد بقيتُ فى حياتك أنت

إلى الأبد.


 

قوة كيركى

 

لم أحوِّل أحداً إلى خنزير.

البعض خنازير بالفعل

وكل ما أفعله أننى أجعلهم يبدون هكذا.

 

كم سئمتُ دنياك التى

يغلب المظهر فيها على الجوهر.

لم يكن رجالك أشراراً

ولكن الحياة الهمجيةَ

جعلت منهم كذلك.

 

خنازيرَ

بين يدىّ وأيدى نسائى

وتحت عينىْ رعايتى

تم تهذيبهم.

 

ثم أبطلت سحرى

لأريك ألوهتى وقواى.

 

ورأيت أنَّا قادران على الحياة هنا،

فى سعادةِ

الرجال والنساء حينما حاجاتهم بسيطة.

 

وهى نفس اللحظة التى استشرفتُ فيها رحيلك،

ورأيت بعين البصيرة كيف بعونى

يقوى رجالك على البحر

العاصف المتلاطم.

 

أتحسب بضع دمعاتٍ

يؤثرن فىّ؟

كل ساحرة ـ يا صديقى ـ لا ترى غير ذاتها

وأنا فى الحقيقة عاجزة عن مواجهة القيود

ولكن أحداً لا يرى ذلك.

ولو كنت شئت أن أبقى عليك

 

لكان علىّ أن أبقى عليك سجينا.


 

عذاب كيركى

 

كم أنا نادمةٌ

على السنوات التى أضعتها فى هواك

سواء وأنت حاضر أم غائبٌ

وكم أنا نادمةٌ

أن أطعتُ القوانين والواجب

وكلَّ ما جعلنى أتركك

وأترك نفسى لصفحة البحر الزجاجية

وجمالِ السفن الإغريقية وقد لوحتها الشمس.

من أين كانت ستواتينى القوة

وأنا لم تواتنى الرغبة فى تحويلك؟

وبما أنك أحببت جسدى

وبما أنك وجدت فيه شعوراً

جعلناه معا يسمو على العطايا جميعاً

فى تلك اللحظة اليتيمة التى

كانت أسمى من الشرف والأمل

والوفاء

وباسم تلك الوشيجة

أمنع عنك امتلاك شعور كهذا

تجاه زوجتك

وأمنع عينيك أن تريا النوم

لو أننى عاجزة أن أجعلك لى.


 

سيرين

 

وقعت فى الجريمة حين وقعت فى الحب

وقد كنت من قبل نادلة.

 

لم أرد أن أذهب معك إلى شيكاغو.

أردت أن أتزوجك وأردت

لزوجتك أن تعانى.

 

أردت حياتها مسرحيةً

كل أجزائها أجزاء حزينة.

 

هل لشخصٍ سويٍّ

أن يفكر هكذا؟ إنني أستحق

 

الثناء على شجاعتي ..

 

جلست في شرفة بيتك الأمامية في الظلام

وقد بدا لي كل شىء واضحاً:

 

لو لم  تتركك زوجتك تذهب

فذلك برهان أنها لا تحبك.

أما كانت لتريد لك السعادة

لو كانت تحبك؟

 

لو كان شعوري أقل رهافة

أظنني كنت أصبحت شخصاً أفضل.

كنت نادلة جيدة

بوسعها حمل ثمانية كئوس.

 

وكنت أحكي لك أحلامي.

رأيت الليلة الماضية امرأة في حافلة معتمة..

هي في الحلم تبكي

بينما الحافلة ماضية في طريقها.

بإحدى يديها تنسج، و بالأخرى

تتحسس علبة بيضٍ مليئة بالأجنَّة.

 

حلمٌ لم ينقذ العذراء.


 

الحديقة

 

تحبك الحديقةُ.

ولأجل عينيك

تصبغ نفسها بالصبغة الخضراء

والورودَ بدرجات الأحمر الشهواني،

لتأتيها مصطحبا حبيباتك.

 

وشجر الصفصاف،

انظر كيف أقام لأجلك خيام الصمت الخضراء

ولكن شيئا لا يزال ينقصك

جسمك شديد الليونة، مفعم بالحياة، وسط الحيوانات الحجرية.

 

اعترف أنه من المروع أن تكون مثلهم،

آمنا من الأذى.


 

فرس

 

ما الذى تعطيكه الفرس

وأعجز عن إعطائه لك؟

 

أشاهدك وأنت وحدك،

وأنت ممتطٍ الفرس في الحقل خلف معمل الجبن،

ويداك مدسوستان في معرفتها الداكنة.

 

وأعرف ما الذي خلف صمتك:

قرفٌ، وكره لي وللزواج.

ولا تزال تريدني أن ألمسك

وتبكي بكاء العرائس

لكنني حين أرنو إليك

لا أرى الأطفال فى جسمك.

والآن ما الأمر؟

 

لا شيء. ليس سوى لهفةٍ

على أن تموت قبل أن أموت.

 

رأيتك في الحلم

ممتطيا الفرس في حقول جافة

ثم وأنت تترجل:

تمشيان معاً

في الظلام، ولا ظل لكما

غير أني شعرت بظليكما آتيين إليّ

وقد صار بوسعهما في الليل أن يذهبا حيث يشاءان

ما داما يكونان بالليل سيدي نفسيهما

انظر إليّ. أتحسبني لا أفهم؟

ماذا يكون الحيوان

لو لم يكن دربا يخرج بالمرء

من هذه الحياة؟


 

قصيدة

 

بينما يبدأ الليل

مثلما يبدأ الآن

هاهو رجلٌ مائلةٌ رأسه

على المكتب

هاهو يرفعها قليلا قليلا

بينما تظهر امرأةٌ بين يديها ورودٌ

ويطفو على صفحة المرآة وجهُها

وقد نال منه اخضرار سيقان تلك الورود.

 

يا لها من حالة معاناة:

لمَّا تعالت كدأبها إلى الشباك

تلك الصفحةُ الشفافةُ

حتى بدت شرايينها

لحظةَ ملأ الكلام حبرٌ أسود.

 

وعليَّ أنا أن أفهم

ما الذي يربطهما

بهذا البيت الرمادي

الواقف منتصبًا في الغسق.

 

لأن عليَّ اختراق حياتيهما:

بينما نحن في الربيع

وشجرةُ الكمثَّرى ملآنةٌ

ببراعم بيضاء واهية.

 


 

قصاصة ورق

اليوم ذهبت إلى الطبيبة،

الطبيبة قالت إنني أحتضر

ليس بهذه الصيغة، ولكن حينما قلتها أنا

لم تنفها هي

 

سكوتها يقول ما هذا الذي جنيته على جسمك

نحن منحناك إياه، وانتظرنا

نرى ماذا ستفعل فيه، وكيف ستؤذيه

تقول أنا لا أقصد السجائر وحدها

ولكن نظامك السيء في الأكل والشرب.

 

هي شابة، جسمها مختف في المعطف الأبيض.

شعرها مصفف إلى الخلف، في تلك الجدائل الأنثوية

تكبحها شريطة داكنة.

 

ليست مرتاحة هنا، خلف مكتبها

ومن فوق رأسها شهادتها

تقرأ أعمدة من الأرقام المصفوفة

كي تشد انتباهها.

ظهرها أيضا منتصب، خال من أي شعور.

 

لم يعلمني أحد كيف أعتني بجسمي.

يحدث أن تكبر وأنت تشاهد أمك وجدتك.

وما أن تخلص منهما، حتى تتولاك زوجتك، لكنها عصبية،

لا تغالي كثيرا. وهكذا فإن جسمي هذا

الذي تلومني عليه الطبيبة ـ كان دائما في عهدة النساء

وأقول لكم، لقد تغاضين عن كثير.

 

تنظر الطبيبة لي..

بيننا كومة من الكتب والملفات.

وباستثنائنا، العيادة خاوية.

 

يوجد هنا باب سحري، وخلف ذلك الباب،

يوجد بلد الموتى. والأحياء يدفعونك عبره

يريدون أن تذهب أنت أولا، قبلهم.

 

والطبيبة تعرف هذا. عندها كتبها،

وعندي سجائري. وأخيرا

تكتب شيئا على قصاصة من ورق.

تقول هذا سيحسِّن ضغط دمك.

 

وأضعها في جيبي، علامة على الذهاب.

وما أن أخرج، أمزقها، كأنها تذكرة إلى العالم الآخر.

 

كان جنونا منها أن تأتي إلى هنا

في مكان لا تعرف فيه أحدا.

هي وحيدة، لا ترتدي خاتم زواج.

تعود وحدها إلى البيت خارج القرية.

عندها زجاجة من النبيذ كل يوم،

وعشاؤها ليس عشاء.

 

وتخلع معطفعها الأبيض،

بين المعطف وجسمها

طبقة خفيفة من القطن لا أكثر.

وعند لحظة معينة، تخلعها هي الأخرى.

 

تولد، فيعقد جسمك معاهدة مع الموت،

ومنذ تلك اللحظة، كل ما يحاوله هو الخداع

 

تذهب وحيدا إلى فراشك. فقد تنام، وقد تبقى يقظان.

ولكنك لوقت طويل تظل تسمع كل صوت.

إن هي إلا ليلة كأي ليلة صيف،

حيث العتمة لا تحل.

 

نشر ما سبق في جريدة عمان


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق