الخميس، 1 أكتوبر 2020

ما الذي ينتظرنا؟

 

ما الذي ينتظرنا؟

أروندهتي روي





فيما كنا نتناقش في عنوان أحدث كتبي، سألني ناشري في المملكة المتحدة سيمون بروسر عما يخطر لي حينما أفكر في كلمة آزادي. فاجأتني إجابتي، دونما لحظة تردد، قائلة: "الرواية". لأن الرواية تعطي الكاتبة الحرية في أن تكون معقدة بالقدر الذي تريده، حرية أن تتنقل بين العوالم واللغات والزمن، وخلال المجتمعات والأوساط والسياسة. بوسع الرواية أن تكون معقدة إلا ما لا نهاية، وكثيرة الطبقات، دون أن يعني ذلك أن تكون مفككة أو مترهلة أو عشوائية. الرواية عندي حرية مشفوعة بالمسؤولية. هي الآزادي، أي الحرية، بلا قيود أو أغلال. لقد كتبت بعض مقالات "آزادي: الحرية والفاشية والأدب" عبر عيني روائية، وفي كونها الروائي. بعض هذه المقالات يتناول الأدب القصصي fiction  في ربطه أجزاء العالم بعضها ببعض، أو تحوله هو نفسه إلى العالم. وجميعها كتبت في ما بين 2018 و2020، وهما سنتان بدتا في الهند أشبه بمئتي سنة. في الوقت الراهن، بينما يضطرم وباء كورونا فينا جميعا، يمر عالمنا بباب. لقد ارتحلنا إلى مكان لا يبدو مرجحا أن بوسعنا الرجوع منه، ليس بغير انقطاع ـ على أقل تقدير ـ عن الماضي، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وأيديولوجيا.

لقد جاء فيروس كورونا وبصحبته فهم آخر أشد رعبا للآزادي. فالفيروس الحر استهان بالحدود الدولية وأفقدها معناها، وسجن شعوبا بأكملها، وأوقف العالم الحديث وقفة لم يقو غيره على مثلها من قبل. وهو يلقي ضوءا جديدا على الحيوات التي كنا نعيشها من قبل، مرغما إيانا على التساؤل عن القيمة التي أقمنا مجتمعاتنا الحديثة على أساسها ـ فما الذي اخترنا التعبد له وما الذي أزحناه وطرحناه. وفيما نعبر بهذا الباب إلى عالم من نوع آخر، سيكون علينا أن نسأل أنفسنا عما نريد أن نأخذه معنا وما نتركه وراءنا. وقد لا يكون الخيار متاحا لنا دائما ـ لكن عدم التفكير في الأمر لن يكون خيارا متاحا. ولكي نفكر في الأمر، نحتاج إلى فهم أعمق للعالم الذي يمر بنا، والخراب الذي ألحقناه بكوكبنا، والظلم البيِّن الذي بتنا راضين به وهو واقع من البشر على إخوانهم البشر. ورجائي هو أن تقطع هذه المقالات ـ التي كتب بعضها قبل أن يحل علينا الوباء ـ مسافة مهما تكن قصيرة على طريق مساعدتنا في التفاوض مع هذا الانقطاع. فإن لم تفعل، فهي لحظة من التاريخ سجلتها كاتبة، فما أشبهها بممر تجري عليه الطائرة التي تحتوينا جميعا قبل إقلاعها إلى وجهة غير معلومة لأحد. أو هي مجرد مصلحة أكاديمية أوفرها لمؤرخي المستقبل.

أولى مقالات آزدي هي محاضرة دبليو جي سيبولد عن الترجمة الأدبية، وقد ألقيتها في المكتبة البريطانية بلندن في يونيو من عام 2018. وكثير من هذه المحاضرة يتناول التقسيم الفوضوي للغة التي عرفنها بالهندوستانية إلى لغتين منفصلتين بطريقتين منفصلتين في الكتابة ـ فمن المؤسف أن يطلق عليهما الآن اعتباطيا "الهندية" و"الأردية" (فترتبط الهندية خطأ بالهندوس والأردية بالمسلمين) ـ فكان ذلك نذيرا سابقا بما يزيد على قرن من الزمن لمشروع القومية الهندوسية الراهن.

لقد كان كثير منا يرجون أن يكون عام 2018 نهاية فترة نارندرا مودي والحزب القومي الهندوسي. وفيما اقتربت الانتخابات العامة سنة 2019، أظهرت استطلاعات الرأي أن شعبية مودي وحزبه تتهاوى تهاويا فادحا. وعلمنا أن تلك لحظة خطيرة. توقع كثير منا هجمة زائفة أو حتى حربا تكون بلا شك كفيلة بتغيير مزاج البلد. إحدى المقالات ـ وعنوانها "موسم الانتخابات في ديمقراطية خطيرة" موضوعا ـ ضمن أمور كثيرة ـ هو الخوف. لقد كتمنا أنفاسنا الجمعية. في فبراير من عام 2019، قبل أسابيع من الانتخابات العامة، وقعت الهجمة. فجر انتحاري نفسه في كشمير، فقتل أربعين من رجال الأمن. زائفةً أم غير زائفة، كان توقيتها مثاليا. اكتسح مودي وحزب بهاراتيا جناتا طريق العودة إلى السلطة.

والآن، بعد عام واحد له من ولايته، وعبر سلسلة من الخطوات المريعة، يغير مودي الهند تغييرا يبدل وجهها المعروف تبديلا. فالبنية الأساسية للفاشية تواجهنا عينا بعين، والوباء يعجِّل من التغير على نحو لا يستوعبه خيال، ومع ذلك لم نزل مترددين في أن نطلق على ما يجري اسمه المستحق.

بدأت أكتب هذا بينما كان رئيس الولايات المتحدة وأسرته في زيارة رسمية إلى الهند في فبراير من عام 2020. فكان لا بد له هو الآخر أن يعبر بالانقطاع، بالباب الوبائي. لقد ظهر أول تقرير بحالة إصابة بكورونا في الهند في الثلاثين من يناير. ولم يبد أي أحد اهتماما، والحكومة كانت الأقل مبالاة. كان قد مر أكثر من مئتي يوم منذ أن إلغاء وضع ولاية جامو وكشمير الخاص تحت الحصار المعلوماتي، وكان قد مر أكثر من شهرين منذ أن تسبب قانون مواطنة غير دستوري جديد مناهض للمسلمين في خروج مظاهرات بالملايين في شوارع الهند. في خطبة عامة أمام جمهور من المقنعين بأقنعة مودي وترامب قال دونالد ترامب للهنود إنهم يلعبون الكريكيت ويحتفلون بالديوالي وينتجون أفلام بوليود. وشكرنا له أن أعلمنا بتلك الأمور عن أنفسنا. وفي ثنايا ذلك باع لنا مروحيات إم إتش 60 بقيمة ثلاثة بلايين دولار. فنادرا ما أهانت الهند نفسها على هذا النحو عيانا بيانا.

غير بعيد عن الجناح الرئاسي المهيب في فندق ديلهي الذي قضى فيه ترامب ليلته، ومنزل حيدر أباد حيث عقد محادثاته مع مودي، كانت ديلهي تحترق. كانت جماعات من المسلحين الهندوس في شمال شرق ديلهي ـ بدعم من الشرطة ـ قد هاجموا أحياء يغلب على سكانها مسلمون من الطبقة العاملة. كان العنف مخيما على الأجواء منذ بعض الوقت، مع قيام بعض الساسة المنتمين إلى الحزب الحاكم بتوجيه تهديدات علنية للمسلمات المعتصمات سلميا احتجاجا على قانون المواطنة الجديد. حينما بدأ الهجوم، وقفت الشرطة إما متنحية عن المشهد أو داعمة للغوغاء. وواجه المسلمون قتالا بقتال. أحرقت منازل ومتاجر ومركبات. وقتل كثيرون من بينهم شرطي. وأصيب كثيرون بالرصاص. وتناقلت الإنترنت تسجيلات فيديو مريعة. في واحد منها، كان بعض الشباب المسلمين المصابين بجروح بالغة، والمطروحين في الشارع وقد كدسهم شرطيون لا يرتدون الزي الرسمي فوق بعضهم بعضا وأرغموهم على غناء النشيد الوطني. (وبعد ذلك مات أحد أولئك الشباب، ويدعى فيزان، بسبب هراوة أقحمها شرطي في حلقه).

لم يعلق ترامب على الفزع المحيط به. وبدلا من ذلك خلع على ناريندرا مودي، وهو أبغض شخصية سياسية في الهند الحديثة، لقب "أبي الأمة". وقد كان ذلك اللقب حتى وقت قريب، لقب غاندي. ولست من المعجبين بغاندي، لكن من المؤكد أنه حتى هو لا يستحق هذا اللقب.

بعد أن غادر ترامب، استمر العنف لأيام. أكثر من خمسين شخصا فقدوا أرواحهم. وأصيب ثلاثمئة بجراح بالغة استدعت علاجهم في المستشفيات. وآلاف من الناس انتقلوا إلى مخيمات لاجئين. في البرلمان، أثنى وزير الداخلية على نفسه وعلى الشرطة. ألقى أعضاء في الحزب الحاكم خطبا على أنصارهم ذوي الابتسامات الصفراء لم يلوموا فيها إلا المسلمين على إثارة العنف، وعلى مهاجمتهم أنفسهم، وإحراقهم بأيديهم بيوتهم ومتاجرهم، وإلقائهم أجسامهم في قنوات الصرف المكشوفة التي تمر بطول أحيائهم وعرضها. بذل الحزب الحاكم كل الجهود الممكنة، مستعينا بإعلامه الاجتماعي، وإعلامه الإلكتروني الخاضع لسيطرته ليصور أن العنف كان "شغبا" بين الهندوس والمسلمين. ولم يكن ما حدث شغبا. لقد كان مجزرة مرتبة استهدفت المسلمين، بقيادة جموع فاشية مسلحة.

وفيما كانت جثث الموتى لم تزل طافية على القاذورات، عقد مسؤولو الحكومة الهندية أول اجتماع لهم بشأن الفيروس. وحينما أعلن مودي الحظر على المستوى الوطني في الرابع والعشرين من مارس، كشفت الهند أسرارها الرهيبة لكي يراها العالم كله.

والآن ما الذي ينتظرنا؟

أن نعيد تخيل العالم. ولا شيء آخر.

 

نشر المقال في موقع ذي باريس رفيو على الإنترنت وهو مقتطف من مقدمة أروندهتي روي لكتابها الصادر هذا الشهر عن دار هايماركت بوكس بعنوان "آزادي: الحرية والفاشية والأدب" [Azadi: Freedom. Fascism. Fiction.].

 

نشرت الترجمة في جريدة عمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق