رسالة إلى طلبتي إذ نواجه الوباء
جورج سوندرز
يا إلهي، يا له من وقت عصيب ومقبض ومفزع. ما أكثر
المعاناة والقلق في كل مكان. (رأيت بالأمس نحلة تطن في سعادة حول زهرة فبدوت
أمامها كالأبله! وكنت كمن يقول لها، آه لو تعلمين!). ولكن يخطر لي أيضا أن هذا هو
الوقت الذي يحتاج فيه العالم إلى أعيننا وآذاننا وعقولنا. هذا لم يحدث من قبل (على
الأقل منذ 1918). ونحن (بل أنتم بالذات) الجيل
الذي سيكون عليه أن يساعدنا على فهم هذا والخروج منه. فما الأشكال التي
تُراكم سوف تخترعونها لكتابة حدث كهذا كل
ما يجري فيه من دراما إنما يجري في المجال الشخصي، بصفة أساسية؟ هل تسجلون الرسائل
الإلكترونية والهاتفية التي تتلقونها، والأفكار التي تخطر لكم، وردود أفعال قلوبكم
وعقولكم على طريقة الحياة الغريبة الجديدة هذه؟ هذا أمر شديد الأهمية. فبعد خمسين
سنة من الآن، لن يصدق الناس الذين سيكونون في مثل أعماركم أن هذا حدث أصلا (أو
سيقلبون عيونهم مثلما نقلب أعيننا حينما يحكي لنا شخص شيئا جنونيا مما كان يحدث في
السبعينيات 1970) ما سيقنع ذلك الولد المستقبلي هو ما تقدرون على كتابته حول ما
يجري، وما تقدرون على كتابته سوف يعتمد على مدى انتباهكم الآن، وعلى ما تحتفظون به
من سجلات.
وأعتقد أنه يعتمد أيضا على مدى قدرتكم على فتح قلوبكم.
إنني أحاول أن أتدرب على الشعور بأشياء من قبيل "آه، إذن هذا ما يحدث
الآن" أو "هممم، إذن هذا أيضا جزء من الحياة على الأرض. لم أكن أعرف هذا
أيها الكون. شكرا جزيلا يا حقير".
ثم أحاول بسرعة أن أتصنع أنني لم أقل لتوي للكون
"يا حقير".
كتبت ذات يوم مقالة ذهبت من أجلها فعشت باسم مستعار في
معسكر للمتشردين في فريسنو لمدة أسبوع. فترة شديدة التوتر، لكن أفضل شيء سمعته
هناك سمعته من رجل كبير السن من جواتيمالا، دائما ما كان يقول إن "كل شيء
دائما في حالة تغير". الكلمات الأصدق لا تقال مطلقا. وفقط حينما نتوقع الثبات
ـ وعدم التغير ـ نؤخذ على حين غرة. (ونحن دائما نتوقع الثبات، مهما يكن حسن
درايتنا بالأمور).
تمام، هذا كله يبدو وعظيا بعض الشيء، فلأعترف لكم الآن
أنني شخصيا لا أتبع نصيحتي. على الإطلاق. الأمر يجري بسرعة شديدة. بُولا مصابة بما
نرجو أن يكون مجرد نوبة برد شديدة، وأنا أتولى الكثير من الرعاية السيئة. كلابنا
تشعر أن أمرا غريبا يجري. ("ما من تمشية؟ ثانية؟!") لكنني أعتقد أن ما
أحاول قوله هو أن العالم أشبه بنمر نائم ونحن نحاول أن نعيش حياتنا فوق ظهره. (نحن
أصغر كثيرا من النمر، طبعا. نحن أشبه ما نكون بدمى باربي وكين على ظهر نمر). وبين
الحين والآخر يستيقظ النمر. وهذا مريع. فهو يستيقظ في بعض الأحيان فيموت شخص نحبه.
أو يفطر شخص قلبنا. أو يعم وباء. ولكن ما أبعد هذا كله عن المرة الأولى التي يستيقظ
فيها النمر. وهو يفعل ذلك (أو تفعله إن كانت نمرة) منذ بدء الزمان ولن يتوقف عن
فعله أبدا. ودائما يوجد من الكتَّاب من يراه ثم يصوغ له فهما (في ما بعد)، أو يكون
على أقل تقدير شاهدا عليه. وإنه لمفيد لعالم الكاتب أن يكون شاهدا، ومفيد للكاتب،
نفسه. وبخاصة لو أن الكاتب يشهد بحب، وبفكاهة، فضلا عن وَلَه بالعالم ـ برغم كل
شيء، بثآليله وما عداها، بكل ما فيه.
غايتي من ذلك كله أن أقول: لم يزل هناك عمل يجب إنجازه،
والآن أكثر من أي وقت مضى.
هناك قصة جميلة عن الشاعرة الروسية آنا أخماتوفا. كان
ولدها قد اعتقل ضمن حملات التطهير في الحقبة الستالينية. وذات يوم كانت تقف أمام
سجن مع مئات من النساء ممن يشبهنها في ظرفها. كان عليهن، وسط البرد الروسي، أن
يذهبن إلى هناك كل يوم، وينتظرن طوال ساعات في ذلك الفناء المفتوح الكبير، ثم يقال
لهن يوما بعد يوم إنه ما من أخبار. وفي اليوم التالي يرجعن. وتقول لها امرأة عرفت
أنها الشاعرة الشهيرة "هل بوسعك، يا شاعرة، أن تكتبي هذا؟" فتفكر
أخماتوفا لوهلة ثم تقول "نعم".
أرجو لكم كل التوفيق في هذه الفترة الجنونية. ويوما ما،
عن قريب، سوف ترجع الأمور إلى شيء من طبيعتها الأولى، وسيسهل علينا مرة أخرى أن نشعر
بالسعادة. أومن بهذا وأرجوه لكل واحد فيكم. وأشتاق إلى رؤيتكم والعمل معكم من
جديد. وحتى في هذا الوقت، وبالاستعانة بأدوات الوقاية اللازمة، لكم مني مصافحة
وعناق.
وراسلوني على بريدي الإلكتروني في أي وقت، ولأي سبب.
جورج.
ملاحظة: كتبت هذه الرسالة بسرعة وبعثتها. ثم عثرت لاحقا
على المقتطف الدقيق من قصيدة أخماتوفا "قداس على روح ميت":
في السنوات الرهيبة
التي شهدت إرهاب ييزوف [وهو مسؤول أمني في عهد ستالين] قضيت سبعة عشر شهرا في صف
خارج سجن في ليننجراد. وذات يوم تعرفت عليّ امرأة من الواقفات في الصف. امرأة كانت
واقفة ورائي، ازرقَّت شفتاها من البرد، ولم تكن بالطبع قد سمعت من يناديني باسمي
من قبل. وإذا بها برغم الخدر الذي كان يعترينا جميعا تهمس (وكلنا هناك كنا نهمس):
"هل تستطيعين
أن تصفي هذا؟"
وقلت
"أستطيع".
فعبر، حينذاك، ما
يشبه طيف ابتسامة على ما كان في يوم من الأيام وجهها.
لعل السطر الأخير هو المغزى الحقيقي من هذه الحكاية: لقد
منحت ثقة أخماتوفا لتلك المرأة المجهولة المعذبة شيئا من العزاء.
كاتب هذه الرسالة هو الروائي الأمريكي الذي حصلت روايته
"لينكون في الباردو" على جائزة مانبوكر سنة 2017 وترجمها إلى العربية
أحمد حسن المعيني
كتبت هذه الرسالة للطلبة الذين يدرس لهم سوندرز الكتابة
الإبداعية، ونشرت في ذي نيويوركر في 3 ابريل الجاري، ونشرت الترجمة في جريدة عمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق