الثلاثاء، 11 فبراير 2020

كيف تتوقف عن البكاء؟


كيف تتوقف عن البكاء؟
هيذر كريتسل





المطبخ أمثل ـ بمعنى أحزن ـ غرفة للدموع. غرفة النوم أسهل مما يليق، والحمام مفرط الخصوصية، وغرفة المعيشة شديدة الرسمية. أما إن تهشَّم شخص في المطبخ، وهو مكان العمل والتغذية، فلا بدَّ أنَّه يتفكَّك بحقّ. والمصابيح ساطعة الإضاءة فيه، فلا تمنح عزاء، بل إضاءة وحسب. والأرض دائما من الفينيل، وباردة.
*
ذهبت شارلوت بركنز جيلمان ـ النسوية والكاتبة والمعانية مما بعد الولادة واكتئابات أخرى ـ في عام 1898 إلى ضرورة إلغاء المطابخ في البيوت، فالعمل الذي تستوجبه من النساء لا يترك لهن وقتا لأنشطة أخرى. وتقول إن "التنظيف في كل بيت سوف يتقلص كثيرا، بمجرد إزالة عنصرين أساسيين من عناصر القذارة المنزلية يزولان بزوال المطبخ: هما الشحم والرماد". ولا تشير إلى تقلُّص مساو في الدموع.
*
تخصص بعض الكنائس "غرفا للبكاء"، فهي مساحات غير منفذة للصوت يمكن أن يلجأ إليها الآباء إن خشوا أن يزعج بكاء أطفالهم إخوانهم المصلين. غالبا ما تكون للغرفة من تلك الغرف نافذة عريضة فيبكون بوسع من فيها أن يطلّوا على صحن الكنيسة والمذبح، وعلى الخطباء، فيسمعون العظة والترانيم. ومن لا يألفون هذا النظام ـ كالضيوف في زفاف أو عزاء ـ يخطئون أحيانا فَهْمَ الغرض من تلك الغرفة ولهم الحق أن يخطئوا. أما الشعراء الذين أعرفهم ممَّن وقعوا في تلك الغلطة فقد استلبتهم الفكرة ـ بلا استثناء.
*
تظهر غرف البكاء أكثر ما تظهر في الكنائس الكاثوليكية. يحكي لي رجل قصة طلبه غفران ذنوبه في اعتراف بغرفة بكاء. لم يكن من قبل قد اعتراف اعترافا جادا، وبقدر عظيم من الألم ـ وكان الرجل يعاني عواقب طلاق ومرض عقلي ـ قرر الرجل أن يعرِّي روحه، فجاء ردُّ فعل القسيس كلاما باردا فاترا، لم يَعْدُ توصية بالتوجه إلى المسيح. مفتقدا أذنا منصتة، أو اهتماما صادقا، خرج الرجل يجري باكيا من غرفة البكاء.
*
لم يكن السبب الوحيد لجنون متصوفة القرون الوسطى الإنجليزية مارجري كيمبي أو عذابها أو معاناتها هو ميلاد أول طفل لها، بل كان أيضا ـ كحال هذا الرجل ـ عجز قسيس عن الإنصات إلى اعترافها. وهي في كتابها لا تجهر مطلقا بالطبيعة الدقيقة لخطيئتها، ليس إلا أنها ثقلت عليها ثقلا شديدا وأن "الشيطان وسوس في عقلها بأنها ملعونة لأنها لم تعترف بذنبها". وهكذا، لمّا خشيت على حياتها بعد ميلاد طفلها، قصدت كاهن اعترافها، لكن "عندما أوشكتُ على بلوغ لحظة البوح بما طال عليها إخفاؤه، تعجَّل الكاهن قليلا ومضى يقرِّعها تقريعا شديدا قبل أن تكمل ما أرادت أن تقول". وإثر ذلك "بسبب الفزع من اللعن من ناحية، وبسبب حدَّة التقريع من الجانب الآخر، فقدت تلك المخلوقة عقلها، وانهالت عليها الأرواح تعذِّبها وتقلق روحها".
*
أخشى أحيانا وأنا أستمع إلى قصص دموع الناس ـ ومن ثم معاناتهم في الغالب ـ أن أقترف خطأ ذينك القسيسين، فأعجز عن الإنصات لأكثر ما يريد الناس أن يعرف، ولا أزيد بذلك على أن أكون سببا آخر يحملهم على البكاء.
*
في ابريل سنة 1975، بعد خمس سنوات من إنتاج فيلم "يمنعني الحزن أن اقول لكم" [I’m Too Sad to Tell You] التجريبي، قدّم الفنان الأدائي دنماركي المولد باس جان آيدر Bas Jan Ader  عملا جديدا بعنوان "بحثا عن الخارق" [In Search of the Miraculous]. كان مشروعا من ثلاثة أجزاء، تألف الجزء الأول من صور فوتغرافية لآيدر إذ يسير في لوس آنجلس ليلا، باحثا عن شيء ما، مستعينا على ذلك بكشَّاف. في الجزء الثاني، خطَّط آيدر للإبحار وحيدا في قارب شراعي عبر الأطلنطي بعد وداع من مجموعة من طلبته دارسي الفن وهم يغنون أغنيات بحرية. الجزء الثالث كان مجموعة أخرى من صور فوتغرافيا التجول الليلي، لكنه هذه المرة في أمستردام، لولا أن آيدر اختفى خلال رحلته البحرية، ليبقى الجزء الأخير من الثلاثية محتملا، مظنونا، غير مفعول.
بعد ثلاثة أشهر من إبحار باس جان آيدر في قاربه، كتبت أمه قصيدة:

أشعر بقلبي ينبض أيضا. سيظل ينبض لبعض الوقت. ثم سيتوقف.
أتساءل هل توقف القلب الصغير الذي نبض معي.
حينما عبر الحدود إلى الميلاد، طرحته على صدري
هدهدته بين ذراعي
آنذاك كان صغيرا للغاية.

وإن جسم رجل أبيضَ يتهدهد بين ذراعي الموج، لصغير للغاية هو الآخر.
ثمة قسوة خاصة في فقدان امرئ يختفي في البحر، قسوة سببها الجهل باللحظة التي ينبغي أن يبدأ فيها انهمار الدموع. اليوم؟ أم منذ زمن بعيد؟ الضباب محيط.
*
في عام 1991، حينما كان جارنا يعقد أشرطة صفراء حول كلِّ شيء يمتلكه، أبي كان يعمل على ناقلة نفط، هي السفينة المدنية الوحيدة التي بقيت في الخليج العربي. خلال الشهور الستة التي كان يغيب فيها، كانت أمي تشاهد هي وأختي وأنا نشرة الأخبار المسائية، شاشة سوداء فيها نقاط خضراء تمثل الصواريخ المشتتة "بلا ضرر إلى البحر". أتذكر نفسي ذات يوم وأنا أسير إلى غرفة الطعام فأرى أختي جالسة في حجر أمي، وكلتاهما باكية. لم يقع سوء، أعني لم يقع سوء جديد، طبعا الحرب برمتها كانت سوءا، وأبي بقي في وسطها سالما، ولكن القلق والانتظار أبلياهما. مدَّت أمِّي ذراعها إليَّ، داعية إياي إلى مشاركتهما العناق، لكنني هززت رأسي. لم أستصوب أن ننخرط كلنا في البكاء.
*
تخيلتنا في مثلث، كل واحدة منزوية في ركنها الخاص. تحتَّم أن يكون متساوي الساقين. المثلث مختلف الأضلاع ما كان ليستقيم بتنافره، ومتساوي الأضلاع كان ليبدو شديد الاصطناع. لم أستطع أن أثق في أيٍّ منهما. وإنني أزعم أن ذلك كله ماضٍ انتهى، لكن الحقيقة أن إحساسه باقٍ. لم أستطع أن أبكي وقد شعرت بالحاجة إلى أن أكون أنا الزاوية المختلفة، الزاوية الوحيدة التي تحافظ على الخلل اللازم للبقاء.
*
ولكننا قطعنا كل هذا الطريق ولم أشرح بعد كيف يبكي المرء في المقام الأول! لو صعبت عليكم البداية، فعندكم "تعليمات من أجل البكاء" لخوليو كورتاثار وفيها يقترح تصور "بطة يكسوها النمل" أو مسطحات مائية "لم يعد أحد يبحر فيها على الإطلاق".
*
في خيالي كورتاثار وآيدر في حياتهما الأخرى جالسان متقابلين في قارب صغير، يتناوبان في سخاء ممارسة سلوك البكاء اللائق إلى أن يعجز كل منهما عن كتم ضحكه، فيملآن هواء البحر بالضحك.
*
لن يخفف البكاء عنك. ذلك ما نرجو أن يفعله، أو، ربما الأهم، أن ذلك ما نتصور أنه فعله معنا من قبل. أطلق دموعك، هكذا نسمع شخصا خياليا يوجّهنا، ودامعين نطيع. ولكن الباكين حينما يصفون حالتهم المزاجية فور نوبة بكاء، غالبا ما تكون أسوأ من ذي قبل. ولكن ربما ذلك لأن أولئك الباكين يبكون في مختبر، ففي حين أن غاية الدموع هي استدرار المعونة، لا يكاد الباحثون يقدمون عزاء يذكر لأولئك الذين استفزوا دموعهم.
*
تعترض راشيل، قائلة إن البكاء يريحها أعظم الراحة. تقول أيضا إن القمر حين يصل إلى منتصفه يشبه شطيرة التاكو، وذلك يملؤني ثقة في قدرتها على كلٍّ من الصدق والمرح.
*
نحن في يونيو، ويفترض أن أذهب أنا وكريس إلى معهد الكاتب في مساتشوستس، لكن الطفلة ـ وقد بلغت الآن سنة بالتمام والكمال ـ مصابة بالتهاب شنيع في الأذن، وعليّ أن ألزم البيت معها في أوهايو. يذهب كريس وحده. أبكي لخسارة الوقت الثمين مع أصدقائي الأعزاء، وعلى فرصة أن أكون شخصا آخر غير الأم. يفترض أن يشارك كريس في ندوة مع جيم، معلمنا القديم، وشاعرنا الحبيب، زوج دارا، والد إيميلي وجاي. يرجع كريس. يموت جيم. أرجع، كدأبي، إلى قصائده:
ليس بوسعك أن تبكي؛
لا أستطيع أن أفعل أي شيء
مما كان له عندنا ذات يوم
أوقية من المعنى.
أغطيك بورق الصنوبر الإبري.

حينما يقبل الصبح
سأبني كاتدرائية
حول جسمينا.
والصراصير
التي تغني بمفاصلها
ستأتيها في الليالي لتحزن
حين لا تعود قادرة على الغناء.
*
نتبادل، إيميلي وأنا، تقنيات التوقف عن البكاء. نقول إن أوقاتا تأتي يتعكَّر فيها مزاج المرء وحسب. تقول لي اختاري لونا، وابحثي عن كلِّ وجود له في الغرفة. أختار الأزرق. أختار الأخضر الداكن. أتصل بها يوما وأقول إنني أريد منها إن بدأتُ في البكاء أن تصيح كالدجاجة. وحين يبدأ صوتي في الاختلاج يصيبها الذعر وتصيح صياح البطة. فأضحك وأبكي معا، مبلَّلة العينين عالية الصوت ممتنة، وأشعر وكأنَّ قلبي انقلب باطنه إلى ظاهره.
*
ثمة طرق للتوقف. ذات يوم وأنا أقرأ جون ديديون، أتعلم طريقة جديدة:
أشير عليَّ مرَّة، كترياق للبكاء، أن أضع رأسي في كيس ورقي. ويتصادف أن لهذا الأمر منطقا فسيولوجيا سديدا، شيئا يتعلق بالأكسجين، لكن الأثر السيكولوجي وحده غير قابل للقياس: من الصعب شديد الصعوبة أن يستمر المرء في تخيل نفسه كاثي في مرتفعات ويذرنج بينما رأسه في كيس بقالة.
*
في موقع ويكي هاو wikiHow مادة بعنوان "كيف توقف بكاءك"، خطوتي المفضلة  هي "أزل الغصة من حلقك". جراحة بفعل الإرادة. أتخيل الغصة تقع في يدي كأنها "سكَّاتة طفل".
*
إذا لم تتمكن من إيقاف دموعك، أو إذا خرجت بوجهك الباكي إلى العلن، بوسعك أن تختفي وراء كذبة عن الحساسية أو البرد. وبوسعك أن ترتدي شأن رولان بارت نظارة داكنة:
الهدف من هذه اللفتة محسوب: أريد أن أحافظ على الميزة المعنوية الكامنة في الثبات، وفي الكرامة (أتمثل كلوتيلد دي فو*) وفي الوقت نفسه، وفي المقابل، أريد أن أحرِّض الناس على السؤال الحنون ("ولكن ماذا بك؟")
*
أخشى السؤال الحنون الذي لن تثير إجابته المراوغة أبدا إلا المزيد من الدموع. الاختباء طريقة لمنع الآخرين عن محاولة مدِّ يد العون. طريقة لاجتناب الشرح الدقيق للسبب والكيفية اللذين يجعلان معاونتي أمرا مستحيلا. أودُّ لو أعلِّق على كلِّ عدسة لافتة صغيرة: عطل مؤقت.
*
حينما ترسل إلي جابرييل فقرة من رواية "الموجة السوداء" لميشيل تي، فإنها تحاول معاونتي في الكتابة، لا في البكاء، لكنني أعثر فيها على أفكار أجرِّبها على حياتي الخاصة:
كانت تضع ملاعق المائدة في المجمِّد، لتضع قيعانها المحدَّبة على جفنيها ... وتضع أكياس شاي البابونج مبلَّلة في الثلاجة. تضع الخيار في متناول يدها وتغرق وجهها في شرائحه. وفي متجر مساحيق التجميل اختارت منتجا بمستخلص الفراولة يعد بتقليل انتفاخات العين.
في الرواية، لا يجد مايكل نفعا في نصيحة الناس باستعمال مستحضر إتش لانتفاخات العيون، لكنني أشتري بعضه على أي حال. المرهم منه شديد اللزوجة، لكن الكريم يبدو نافعا.
*
أحب الناس إذ يقترحون هذه العلاجات على بعضهم بعضا، أحب فيهم الاهتمام والاعتناء، أحب تقديمهم حلا لمشكلة بدون أن يعرضوا مشكلاتهم الخاصة. يريد الناس أن يعرفوا: "هل بوسع دموع الفينيق أن تردَّ شخصا إلى الحياة؟". يذهبون إلى موقع إجابات ياهو حيث يدلي الجميع بدلائهم:
لا، بوسعها فقط أن تداوي الجروح وليس بوسعها حتى أن تداوي جروح الموتى فالدموع تساعد البشرة فقط على التداوي بشكل أسرع والبشرة الميتة لا تبرأ وحتى لو برئت  لا يمكن أن تردّها الدموع إلى الحياة بأن تصعق قلبها فتعيده إلى الحركة.
قراءة هذا أشبه بالنزول على مزلجة مائية، لكنها تنتهي بدلا من الماء في دموع. أنزلق هابطة عليها المرة تلو المرة. ما من فينيق، وما من دموع فينيق، وما من شيء بوسعه أن يرد ميتا إلى الحياة، لكن هذه الكلمات ـ هذه الآمال وهذه الردود اللاهثة ـ قادرة أن تصعق قلبا وتعيده إلى الحركة. شعرت بذلك. شعرت بنفسي حية.

كاتبة المقال Heather Christle  شاعرة أمريكية من أعمالها  The Difficult Farm و The Trees The Trees الذي فاز بجائزة بيليفر للشعر، و What Is Amazing و Heliopause. والمقال المترجم هنا مأخوذ من كتابها الأحدث The Crying Book  وهو أول كتبها غير الخيالية، وقد نشر هذا المقتطف في باريس رفيو بإذن من ناشر الكتاب Catapult.
نشرت الترجمة في جريدة عمان

Clotilde de Vaux (1815-1846) اشتهرت بأنها التي ألهمت أوجست كونت Auguste Comte (1798-1857) كتابه "دين الإنسانية)

هناك تعليق واحد: