الثلاثاء، 4 يوليو 2017

مارتين سكورسيزي: هذه هي السينما

مارتين سكورسيزي: هذه هي السينما









لست كاتبا، ولست منظِّرا، إنما أنا سينمائي. رأيت وأنا صغير للغاية في فن السينما شيئا استثنائيا ملهما. فتنتني الصور التي رأيتها، لكنها في الوقت نفسه أضاءت بداخلي شيئا ما. وكانت السينما لي وسيلة إلى فهم ما هو ثمين وهش في العالم المحيط بي، ثم للتعبير عنه في نهاية المطاف. ذلك هو الإدراك، وتلك هي الشرارة، وذلك هو ما يفضي من التذوق إلى الإبداع: وذلك ما يحدث تقريبا دونما وعي. يفضي بالبعض إلى الشعر، أو الرقص، أوالموسيقى. وفي حالتي أنا كانت السينما.
يحدث كثيرا، عندما يتناقش الناس في السينما أن يتكلموا عن صور مفردة. كعربة الطفل على سبيل المثال إذ تتحرك على السلالم في فيلم "سفينة بوتيمكين". إطفاء بيتر أوتول الثقاب في لورنس العرب. جون وين إذ يحمل نتالي وود بين ذراعية قرب نهاية "الباحثون". اندفاع الدم من المصعد في فيلم "البريق". النفط المتفجر من الرافعة في "سيكون دم". هذه جميعا فقرات استثنائية بلا أدنى شك في تاريخ قالبنا الفني. ومؤكد أنها صور استثنائية. ولكن ما الذي يحدث حينما تستلُّون تلك الصور مما قبلها ومما بعدها؟ ما الذي يحدث حينما ترفعونها من العوالم التي تنتمي إليها؟ تبقى لكم شواهد على الصنعة والعناية، ولكن شيئا جوهريا يضيع: ما قبل هذه الصور وما بعدها من زخم، اللحظات الأسبق التي تردِّد هذه الصور أصداءها، واللحظات التالية التي تعبِّد لها الطريق، وآلاف التفاصيل الصغيرة والألحان المصاحبة والوقائع السلوكية والصدف التي تمثل جزءا لا انفصال له عن حياة تلك الصور. والآن، في حالة الدم المندفع من المصعد، لديكم صورة بوسعها أن تكون ذات وجود مستقل، بل إن بوسعها أن تمثل في الحقيقة فيلما في ذاتها. وأعتقد، في واقع الأمر، أنها كانت أول مقدمة للفيلم.
ولكن هذه الصورة في حالتها المستقلة شيء، وحالتها وماهيتها في عالم فيلم ستانلي كوبريك شيء آخر. ومثل ذلك يسري على الأمثلة التي ذكرتها في ما سبق، والتي استعملت كل منها آلاف المرات في عروض مختلفة. وبرغم فنية بعض هذه العروض، أجدها أنا مزعجة، لأنها في العادة ترقى إلى سلسلة رسمية من "اللحظات العظيمة" وقد انتزعت من سياقاتها.
مهم أيضا أن نتذكر أن أغلب هذه الصور هي في حقيقة الأمر متتاليات من الصور: فإطفاء بيتر أوتول الثقاب يعقبه شروق الشمس على الصحراء، واندفاع عربة الطفل على السلالم يأتي وسط فوضى وقسوة هجوم القوزاق. وبعيدا عن ذلك، كل صورة سينمائية منفصلة إنما تتألف من تتابع من اللقطات الساكنة تخلق انطباعا بالحركة. هي تسجيلات لحظات في الزمن، ولكن لحظة أن تتجاور في ما بينها، يحدث شيء آخر. لذلك فإنني لا أدخل غرفة المونتاج إلا وأستشعر روعة ذلك العمل. إذ تتصل صورة بصورة، فإذا بطيف حدث ثالث يقع في عين العقل، فقد يكون صورة، وقد يكون فكرة، وقد يكون إحساسا. شيء ما يقع، شيء ما شديد التفرد والاتصال بهذا المزيج أو التلاقي الخاص للصور المتحركة، فإن أنت أخذت لقطة واحدة أو أضفت لقطة إليه أو اثنتين تتغير الصورة في عين العقل. وتلك دهشة لي، وما أنا بالوحيد في ذلك على الإطلاق. فقد تكلم سيرجي أيزنشتاين عنه على مستوى نظري، والسينمائي التشيكي فرانتيشيك فلاسيل ناقشه في حوار مدرج ضمن طبعة كرايتريون من ملحمته القروسطية العظيمة ماركيتا لازاروفا (1967). والناقد السينمائي ماني فاربر فهمه باعتباره عنصرا في الفن بصفة عامة، ومن هنا كانت تسميته لمجموع كتاباته بـ "الفضاء السلبي". فهذا "المبدأ" ـ لو أن هذه هي تسميتكم له ـ قابل للتطبيق بالمثل في المجاورة بين الكلمات في الشعر، وبين الأشكال والألوان في الرسم. وهو في ظني أساسي في فن السينما. فهذا هو الموضع الذي يلتقي فيه فعل الإبداع بفعل المشاهدة والاشتباك، وحيث تتواجد الحياة المشتركة لكل من السينمائي والمشاهد في تلك الفواصل الزمنية بين الصور الفيلمية التي تدوم لجزء من الجزء من الثانية لكنها مع ذلك قادرة أن تكون شاسعة هائلة. وهنا يتسنى للفيلم الجيد أن يحيا بوصفه أكثر من مجرد تتابع جميل التركيب من التنفيذ لمشاهد سيناريو. وفي هذا تكمن عملية صناعة السينما. فهل توجد هذه "الصورة الطيفية" بالنسبة للمشاهدين العاديين بدون وعي بكيفية تأليف الأفلام؟ أعتقد أن هذا صحيح. فأنا شخصيا لا أجيد قراءة الموسيقى وكذلك أغلب من أعرف من الناس، لكننا جميعا "نشعر" بالانتقال من مقام إلى مقام في الموسيقى من خلال  تأثير ذلك الانتقال علينا، وبتطبيقنا وعيا ما بأن انتقالا آخر كان ليمنحنا تجربة أخرى.
في عدد الرابع من يناير [2017] من ملحق التايمز الأدبي، نشر مقال نقدي حول أحدث أفلامي المأخوذ عن رواية "صمت" لـ شوساكو إندو. لم يكن المقال الذي كتبه آدم مارس جونز إيجابيا بالكامل، لكنني وجدته عميق الأفكار، ومكتوبا بعناية. غير أن المقال احتوي نقطتين أختلف معهما: خطأ معلوماتي، وسلسلة أقوال في السينما. كتبت رسالة إلى ملحق التايمز الأدبي ردا على كلتا النقطتين. ولما أخطرني المحرر بأن الرسالة ستنشر (في 17 مارس) سألني أيضا إن كنت مهتما بكتابة مقالة أستفيض فيها في شرح ردي على أفكار السيد مارس جونز حول فن السينما. وقررت أن أستغل عرض السيد آبيل.
على مدار السنين، رأيت السينما تستبعد كقالب فني لنطاق كامل من الأسباب: أنها ملوثة بالاعتبارات التجارية، أنها لا يمكن أن تكون فنا لاشتراك عدد كبير للغاية من الناس في إبداعها، أنها أدنى من القوالب الفنية الأخرى لأنها "لا تترك مجالا للخيال" وتلقي على المشاهد فتنة عابرة (ومثل هذا لا يقال مطلقا عن المسرح أو الرقص أو الأوبرا، وكل منها يقتضي من المشاهد أن يمر بتجربة العمل الفني في نطاق زمني محدود). والغريب أنني أجد نفسي في مواقف كثيرة تكون فيها هذه الاعتقادات من قبيل البديهيات بحيث يفترض أنه حتى أنا، في قرارة نفسي، أوافق عليها.
ولست أقصد القول بأن السيد مارس جونز يقبل كل المواقف السابق ذكرها. غير أن له في ما يبدو رأيا في السينما متعاطفا مع هذه التقديرات القاسية. فهو يكتب أنه "حتى أقسى الكتب يستشري في حياة القارئ، بينما يعطل الفيلم تلك الحياة ويقطع استمراريتها". وأنا أعرف على سبيل اليقين أن هذا غير صحيح، من واقع تجربتي. بادئ ذي بدء، يبدو لي أننا جميعا نريد أن نسلم أنفسنا للفن، أن نعيش في عمل فني معين، فيلم أو لوحة أو رقصة. أما مسألة كيفية استيعاب عمل فني في الزمن، سواء أكنا واقفين أمامه في معرض لمدة دقائق قليلة، أو قارئين إياه في غضون أسابيع، أو جالسين في عتمة قاعة نشاهده معروضا على الشاشة لنحو ساعتين، فهي ببساطة مسألة ظرف، وشرط، وواقع. وإذن فصحيح انني حينما أشاهد فيلما من البداية إلى النهاية، لا أوقفه لإجراء مكالمة هاتفية ثم أستأنفه من جديد. في المقابل، لا أسمح للفليلم أن يطغى على وجودي. إنني أشاهده، أختبره، وفي ثنايا ذلك أرى أصداء من تجربتي وقد أضاءها الفيلم وأضاءته هي الأخرى. فأنا أتفاعل مع الفيلم بطرق لا حصر لها، تتفاوت عظما وصغرا. ولم يحدث ولو مرة أن جلست في السينما تاركا لفيلم أن يستولي عليَّ ويغسلني كأنه موجة هاجمة، ثم أسترد وعيي عندما تضاء المصابيح. لذلك يبدو أن مفهوم السيد مارس جونز لتجربة مشاهدة الأفلام يختلف كثيرا عن مفهومي. الفرجة بالنسبة لي دائما مصدر بهجة وثراء. وأنا واثق أن كثيرا من زملائي السينمائيين يمكن أن يقولوا مثل ذلك.
يكتب السيد مارس جونز أن القارئ والكاتب في حالة الكتاب يتعاونان في إنتاج الصورة، بينما مخرج الفيلم يقدم الصور [وحده]". وأختلف معه. فأعظم السينمائيين ـ شأن أعظم الروائيين والشعراء ـ يحاولون إيجاد تواصل مع المشاهدين. لا يحاولون إغواءهم أو الاستيلاء عليهم، بل يحاولون في ظني إشراكهم بأكبر قدر ممكن من الحميمية. المشاهد أيضا "يتعاون" مع السينمائي، أو الرسام. فلا يمكن أن تتماثل مشاهدتان للوحة "العذراء والطفل محاطان بالقديسين" لرفائيل: فكل مشاهدة جديدة مشاهدة مختلفة. ومثل هذا يصدق على "الكوميديا الإلهية" أو ميدل مارش، أو مشاهدات "حياة الكولونيل بليمب ووفاته" أو "2001: أوديسا الفضاء". ذلك أننا نرجع إلى لحظات مختلفة من حيواتنا ونرى الأشياء رؤية مختلفة.
وأختلف أيضا مع قول السيد مارس جونز بأن أي تحويل لرواية إلى فيلم لا يمكن أن يكون غير "تشويه" أو "مبالغة". كلامه صحيح بالطبع، ولكنه صحيح بمعنى واحد شديد الأهمية. لقد قال ألفريد هتشكوك ذات مرة لفرانسوا تروفو إنه على الرغم من إعجابة بـ"الجريمة والعقاب"، لم يحلم يوما بتحويلها إلى فيلم، فمن أجل ذلك ينبغي عليه أن يصور كل صفحة فيها (وهذا بمعنى من المعاني ما حاول إريك فون شتروهايم أن يفعله عند تحويله رواية "مكتيج جَشِعا" لفرانك نوريس)، لكن الفكرة في بعض الأحياة تكون عبارة عن تناول عناصر من رواية لإنتاج عمل مستقل منها (مثلما فعل هتشكوك مع "غرباء في قطار" لباترشيا هاسميث). أو تناول عناصر سينمائية من رواية وإبداع فيلم منها (وأعتقد أن هذا ما حدث عند تناول روايات معينة لريموند تشاندلر). ويحاول بعض السينمائيين بقوة أن يترجموا رواية إلى أصوات وصور، أن يبدعوا تجربة فنية مكافئة. وبصفة عامة، قد أقول إن أغلبنا يستجيبون لما يقرأون وفي ثنايا ذلك يحاولون إبداع شيء تكون له حياته الخاصة بعيدا عن الرواية الأصلية.
لقد بدت لي مقالة السيد مارس جونز عن فيلمي ـ كما سبق وقلت ـ عميقة، ولا أعتزم أن أختلف مع رأيه في الفيلم. لكن بوصفي سينمائيا عاملا، أردت أن أتكلم باسم القالب الفني الذي أفنيت فيه الجزء الأجمل من حياتي، والذي أعطاني الكثير.


نشر المقال في ملحق تايمز الأدبي ونشرت الترجمة اليوم في جريدة عمان  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق