الأربعاء، 2 مارس 2016

أمريكا معادية للثقافة والنقد

رئيس قسم النقد السينمائي في نيويورك تايمز
أمريكا معادية للثقافة والنقد
حوار: ميجا ماجومدار



بوسع كل من يعمل بالنقد ـ مثلما يكتب آيه أوه سكوت في كتابه الأول "عيش أفضل مع النقد" Better Living Through Criticism ـ "وبسهولة أن يجمع مما يرد إليه من خطابات فيهملها أو رسائل إلكترونية فيحذفها، حقيبةً كاملة من التنويعات على ثيمتي ’ما أنت إلا غيور’ و’أرجو أن أراك أحسن مني’".    يصعب على أحد القول في حالة سكوت، رئيس قسم النقد السينمائي في نيويورك تايمز، إنه فنان فاشل حوَّلته المرارة إلى مهنة أدنى. برغم أنه استعرض قرابة ألفي فيلم منذ انضمامه إلى التايمز سنة 2000،    لم يرغب يوما في عمل فيلم بنفسه. فقد كان مجاله دائما هو النقد الذي يدافع عنه في كتابه هذا بوصفه فنا.
ليس النقد ترصدا ولا تذمرا، إنما هو بالأحرى إبداع احتمالات للاشتباك مع عمل. ولو أن استجابته للعالم تنشأ من دافع لا يمكن وصفه إلا بالدافع الفني، فلعلنا نشطح إلى القول بأنه الفن الأشمل، الذي بوسع نظرته التأملية أن تشمل النطاق ما بين الرسم والرقص، ما بين [السيتكوم الأمريكي] برود سيتي و[مسرحية] ماكبث.
"عيش أفضل مع النقد" الصادر في مطلع فبراير 2016   عن مطبعة بنجوين نص  جاد. كتاب يقظ ثقافيا، تتوهج حجته الأساسية بالتفاتات إلى كيتس وسوزان سنوتاج ومارينا أبراموفيتش، وكثيرين غيرهم، والكتاب أيضا ممتلئ بدراية سكوت بالإهانات التي تلحق بين الحين والآخر بمهنته. يتنقل سكوت برشاقة بين موقفي الناقد الضليع والمتذوق العادي، معتمدا على مخزون من المعرفة بتاريخ الفن في نفس الوقت الذي يلاحظ فيه كيف يتم تلقي لوحة ـ لنقل إنها الموناليزا ـ لا عبر نشوة الجمال أو الاستسلام له، بل من حفنة سائحين لا هم لهم إلا التقاط الصور بهواتفهم المحمولة، فيضيع كل أثر لجلال الفن في المتاحف وأمام "واجب" زيارة اللوفر ما دام المرء في باريس.
وهكذا هو تلقي الفنون في زماننا, ومن هنا أهمية هذا الكتاب. نحن بحاجة إلى النقد، لا ليضجرنا أو ليستنزف متعتنا، مثلما يرى بعض الفكر الشائع، بل ليوسِّع أفكارنا إلى ما وراء أنفسنا وإن بدا أننا نعيش ظروفا تعاند الفكر الصارم. وحينئذ قد يتسنى لنا بحميمية مبهجة أن نتأمل ما نراه مهما يكن.
التقيت بسكوت ـ الذي يتشابه سلوكه وسلوك الناس وإن شذت أفكاره ـ في ظهيرة مشمسة في بروكلين. وانقضى أكثر من ساعة ونحن نتناقش حول معاداة الثقافة في أمريكا، والعروض النقدية السلبية، وأفكاره حول فيلم Hail, Caesar!"" الذي شاهده لغير غرض النقد بصحبة أسرته في قاعة مزدحمة في الإجازة الأسبوعية.
***
ـ كلمني عن عملية الاستعراض النقدي لفيلم. هل تشاهده في قاعة مظلمة مثلما نفعل، باستثناء أنك تدون ملاحظات؟
ـ إلى حد كبير. نادرا ما يكون هناك مجال للملاحظات. في بعض الأحيان نذهب إلى قاعة عرض كل من فيها نقاد، في أوقات أخرى تكون قاعة فيها جزء مخصص للنقاد فيحيط بي جمهور حقيقي، وهذا ما يحدث في حالة أفلام الحركة، والكوميديا، والرعب. ويكون مفيدا أن أقرأ القاعة. أحيانا تتاح لي فرصة أن أشاهد الفيلم أكثر من مرة، إذا شاهدته في مهرجان ثم عدت لمشاهدته بعد عرضه العام، ولكن المعتاد أن أشاهده قبل أسبوع أو بضعة أيام من افتتاحه. وتكون لي فرصة واحدة. فيكون لزاما عليَّ أن أبقى متيقظا، ومنتبها، ومتأكدا من كتابة الأسماء بهجائها الصحيح.
ـ  ما التجارب التي جعلتك تعتقد أن هناك احتياجا الآن إلى الدفاع عن النقد؟
ـ بدأت أفكر في هذا الكتاب سنة 2011، السنة التي شهدت صعودا كبيرا في طوباوية الإنترنت. كانت شركة يِلبYelp       , والإعلام الاجتماعي في الطريق، وكثير من اللوجاريتمات كانت في الطريق إلى التكهن بما يروق للناس، كانت الحاجة إلى الإعلام التقليدي تنتفي، وفقد كثير من الصحفيين ـ ومنهم نقاد ـ وظائفهم، فلم يرثِ لهم إلا النقاد أمثالهم.
رأيت في ذلك قصر نظر وغرورا، وأردت أن أشرح الخطأ في تلك الرؤية، بدون الاكتفاء بالدفاع عن وظيفتي ومزاياي.
وكانت هناك أيضا مقالة لـ دان كُويْس في مجلة نيويورك تايمز حول فكرة "الخضراوات الثقافية" أي الأشياء التي ينبغي أن تحبها بدون أن تكون ممتعة، ولكنها مفيدة لك. فكرة أن النقاد وغيرهم من السلطات الثقافية يحاولون إرغامك على مشاهدة أفلام أجنبية غريبة وقراءة كتب طويلة تجريدية. كانت المقالة دعوة إلى أن يحب الناس ما يحبونه، بدون أن يخضعوا لسلطة من أحد. وضايقتي المقالة. وقلت لنفسي، هل من سبيل إلى الرد عليها بدون أن أجعل من نفسي نموذجا لما تنال المقالة منه؟ كيف السبيل إلى أن أقول إن النقد ليس هكذا؟
فكتبت مشروع الكتاب وقلت لنفسي: سيكون كتابا قصيرا عما يجعل النقد مهما. سأكتبه في عام. فما مدى صعوبة هذا؟
وبسرعة شديدة وجدت نفسي في بحر رمال فلسفي، أمام مشكلات حار فيها الفلاسفة على مدار قرون. لماذا نحب ما نحب؟ ما العلاقة بين الجمال والحقيقة؟ وما إلى ذلك. فكان الأمر أصعب مما تصورت أن يكون عليه.
ـ تشير إلى أن هناك تيارا قويا من معاداة الثقافة في أمريكا, إذ تقول إن "معاداة الثقافة هي حرفيا ديننا المدني". في رأيك ما سر هذه السمعة الملتصقة بالتفكير؟ أهي مشكلة أمريكية بصفة خاصة، مشكلة الاستهزاء بديدان الكتب على سبيل المثال؟
ـ للأمر تاريخه الخاص في أمريكا. فالمؤرخ ريتشارد هوفستادتر ألَّف كتابا في الستينيات بعنوان "معاداة الثقافة في الحياة الأمريكية" في غداة المكارثية, ولا أعتقد أن بالإمكان تأليف كتاب مماثل عن معاداة الثقافة في الحياة الفرنسية.
ـ في فرنسا الفلاسفة يظهرون على شاشة التليفزيون.
ـ صحيح. وفي إنجلترا أيضا، يمكنك أن تفتح التليفزيون فترى كتّابا وفلاسفة. تجدهم على نقودهم، وعلى طوابعهم.
في الولايات المتحدة تراث من الريبة وانعدام الثقة في الخبراء. جزء منه صحي، ديمقراطي، معاند للسلطة، ولكن الدفاع عن حق المستهلك في فعل ما يعن له وقضاء وقت لطيف، بلا تأمل للتجربة، هو نوع من الشعبوية الزائفة.
ـ هذه حجة غريبة، لأن انفراد المرء بالتفكير لنفسه هو أكثر ما يمكن أن يفعله المرء ديمقراطية.
ـ أنا أعتبر نفسي شعبويا، ولكنني أرى أن الدفاع عن حق الجمهور في أن يترك وشأنه، دون إزعاج بأسئلة صعبة، هو في حقيقته دفاع عن الدعاية والإعلان. هي طريقة في البيع للناس بغير مقاومة. هي طريقة لا لتهميش النقاد المحترفين وحدهم، بل والقدرة النقدية الكامنة لدى الجمهور.
ـ ما أحبه في هذا الكتاب هو أنه يكنّ قدرا كبيرا من الاحترام للنقص، وغياب القرار. فهو يقول إن عمل الناقد يتمثل في الدأب على إنتاج مفاتيح للاشتباك. كيف ترى أن هذا يلبي مهمة الناقد كحكم؟
 ـ هذا سؤال ممتاز. وهذا التوتر فعلا يقع في صلب الكتاب. رؤيتي هي أن كل الضجة ـ وتبادل الضربات والضربات المعاكسة، والآراء التي لا نهاية لها ـ عرَض لصحة ثقافية. فلحظة أن يتوقف النقاش حول عمل ثقافي، هي لحظة موت هذا العمل. يصبح شيئا يدرس في المدارس، وصلة ذلك بحياة الناس واهية.
هكذا يكون بين يديك كناقد كل هذه المواقف، فتساند القديم، وتقيّم الجديد، وتعلي الثقافة الرفيعة على الدنيئة، إلى آخر ذلك. وصلب الأمر أنك حينما تمارس النقد، فإنك تلتزم بحجة. عليك أن تعرف أين موقفك، وتصوغ مبادئك ونواياك.
ولكن عليك أن تتحلى بالتواضع في ذلك، فتقول لنفسك إن هذا أفضل ما استطعت الوصول إليه. أعتقد أن من المهم للمرء أن يعترف أنه لن يكون صاحب الكلمة الأخيرة، فما هو غير صوت مشارك في شيء أكبر سوف يستمر قائما.
ـ عن الكلمات، تضع قائمة بالصفات التي يحاول النقاد اجتنابها: كالمدهش، والجميل، وما إلى ذلك. بعض هذه الكلمات هو الذي يظهر على أغلفة الكتب.
ـ صحيح. ودعني أقل إنه في حين أن هذا هو ما يثير غيظي، أعني رؤيتي كلمات من قبيل "ساحر" على أغلفة الكتب، فالآن وقد صار لي كتاب عرضة للنقد، أتمنى لو كان على غلافه المزيد من هذه الكلمات. لقد قرأت بضعة عروض نقدية لكتابي ورأيتها ذكية وثاقبة, واشتبكت بالفعل مع الكتاب. وقلت لنفسي أما كان يمكن أن تضع لي فيها كلمة "عبقري"، فنقتطعها لغلاف طبعة قادمة؟ ومعنى هذا أنني بت منافقا (يضحك).
ـ واستمرارا مع الكلمات، ألا ترى أن استعمال الكلمات في المقام الأول لفهم فيلم أمر شديد المحدودية؟
ـ هناك نقاد الآن من أمثال "مات زولر سايتز" و"كيفين لي" يطورون استعمال الفيديو وسيطا لنقد الفيلم. ولكن الأمر يتعلق ببعض الحقوق والملكية الفكرية، وهذا ما لمسته عندما حاولت ممارسة النقد السينمائي عبر التليفزيون، ولكنه يحدث على أية حال.
اللغة هي الشيء الذي يمتلكه أغلب الناس، وقد تنطوي المحدودية على خير. محاولتك وصف شيء فيتخيله الناس قبل أن تتسنى لهم رؤيته، هي جزء من الصنعة. عندما كنت طفلا، كنت أقرأ كثيرا من العروض النقدية لأفلام لم أشاهدها قط، أو شاهدتها بعد القراءة عنها بفترة طويلة. فلو كنت أقرأ كتابات "باولين كايل" شديدة الحيوية، كنت أستشعر كيف هي الأفلام المكتوب عنها.
ـ بدأت مسيرتك المهنية بكتابة العروض النقدية للكتب.
ـ نعم، بعد فترة من هذا العمل أثناء الدراسة، كتبت لـ نيشن، وفيليدج فويس، ونيويورك تايمز بوك رفيو وأماكن أخرى كنت أتعامل معها جميعا بالقطعة. وعملت محررا في نيويورك رفيو أوف بوكس، وفي مجلة اسمها لينجوا فرانكا، وكانت مجلة رائعة وغريبة صدرت في التسعينيات. وأول تفرغ تام للكتابة كان لـ نيويورك نيوزداي التي كان لها في منتصف وأواخر التسعينيات ملحق كتب يصدر يوم الأحد وكان لي فيه عمود ثابت.
ـ كيف يختلف استعراض الكتب عن استعراض الأفلام؟
ـ عدم القدرة على الاستشهاد فارق كبير، وعدم القدرة على لصق ملاحظات بين الصفحات (مشيرا إلى نسختي من كتابه).
الأمر الذي لم أزل أجده عسيرا هو أن الفيلم مركب من أشكال فنية كثيرة، يمكنك أن تكتب عن الموسيقى، أو عن السينماتوجرافيا، أو عن الأداء، إلى آخر ذلك.
لقد ذهبت أمس مع أسرتي لمشاهدة فيلم كوين براذرز "Hail, Caesar! " وذهلت. إنه ليس فيلما. إن فيه تاريخ هوليود. الأمر يتعلق بطبيعة المشهد، فيه موسيقى رائعة، وأداء محكم الأسلوب، وهو عن الدين، والماركسية، والحدود بين الواقع والوهم. وكثير من الأفلام ـ الجيدة والرديئة أيضا ـ ينطوي على هذا التعقيد. فتجد أنك تقول لنفسك ما الخيط الذي أود لو أجذبه؟
ـ يدهشني ـ وربما لا داعي للدهشة ـ أنك لا تزال تذهب إلى السينما مع أسرتك.
ـ يعني، في بعض الأحيان أتركهم يذهبون وأبقى أنا في البيت للقراءة. ولكن مشاهدة الأفلام مع أولادي كانت جزءا عظيما من تثقيفي السينمائي. كنت أصطحبهم إلى السينما وهم أطفال لمشاهدة أفلام الأطفال معهم، فأتعلم عبر أعينهم مثلما أتعلم عبر عيني كأب وكناقد.
الآن وقد باتوا مراهقين، يحافظون لي على اتصالي بالثقافة الرائجة أكثر مما كان ينبغي لولاهم لرجل مثلي في منتصف العمر، ولولاهم لما عرفت بـ "Workaholics" أو "Broad City" أو "Bob’s Burgers".
ـ على سيرة أفلام الأسرة، يعجبني في كتابك الدفاع الحماسي عن "Ratatouille".
ـ هذا الفيلم يعني لي الكثير.
ـ إليك سؤالا غريبا ولكني أعنيه بمنتهى الجدية. في كتابك سطر يقول إن "أمازون هو أعظم معين للنقد في العالم". كيف يختلف استعراض نقدي لكيس حلوي عن استعراض نقدي لفيلم؟ كيف كان لاستعراض نقدي لكيس حلوى أن يختلف في حالة وجود كيس الحلوى داخل متحف؟
ـ هذا سؤال في غاية الأهمية، ينفذ إلى صلب تعريفنا للفن، سواء أكان التعريف مفروضا أم كان قائما على سمات أصيلة في الشيء نفسه.
في الوقت الراهن نحن إزاء توسع دراماتيكي في تسليع كل شيء. لا يوجد ما لا يمكن بيعه وشراؤه. ومن طبيعة الرأسمالية الاستهلاكية أن ترى الأشياء جميعا متساوية، وأن تعثر على القيمة الاقتصادية التي تسمح بالتبادل بين جميع الأشياء. وفي كثير من الأوقات، تكون تجربتنا مع الفن جزءا من تجربتنا الاستهلاكية. فأنت حينما تذهب إلى متحف، تشتري تذكرة.
في حدود هذه العوامل البسيطة، هل من قيمة أخرى يمكننا العثور عليها؟ هكذا يمكنك أن تشتري كيس حلوى من أمازون، وقد تقول إن الكرز محلَّى أكثر مما ينبغي بينما البرتقال لطيف. وتمنح المنتج نجمتين. ويكون هذا مفيدا لشخص آخر. هذا استعراض نقدي.
إذا وضعت الكيس في متحف، فالسؤال هنا سيكون عما لو كانت له قيمة كعمل فني، وأن تضع يدك على هذه القيمة. أهو قيم بوصفه نقدا للثقافة السلعية، أم بوصفه دليلا على فساد سوق الفن، أم لسبب آخر؟
ـ فليس مهما إذن ما الذي يكون داخل المتحف. لأن وضع شيء في المتحف ينشئ ظرفا يجعلنا ننظر إليه كشيء.
ـ أعتقد بهذا. ولكن من المهم أيضا أن نقاوم سلطة المؤسسة وننظر إلى الشيء في ذاته.
ـ ليكن، وأنت تنظر إلى شيء في ذاته، قد يكود رد فعل شخص عادي ـ على حسب ما تذكر في الكتاب ـ هو أن يقول لنفسه "إنني لا أفهمه". هل تخطر لك هذه الفكرة؟ وكيف تتعامل معها؟
ـ أعتقد أن هذا حال الجميع. تعريف الادعاء هو أن تتظاهر بالفهم، مهما يكن ما تراه. عدم الفهم إحساس أصيل، لا يمكنك أن تكبته.
ولكن هنا المسألة. لا يمكنك أن تعتبر عدم فهمك حكما على ما تنظر إليه. لا يمكنك أن تركن إلى جهلك. عدم الفهم ينبغي أن يكون نقطة البدء في عمل شيء ما. مهم أن تقول لنفسسك: ما الذي قد يراه غيري في هذا؟
ـ هل تشاهد الأفلام التجريبية؟
ـ نعم. كانت "الأفلام التجريبية" تعني شيئا واحدا في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، والسؤال هو ما الذي تعنيه الآن. سأشير هنا إلى أعمال "ستان براكيدج" وهي معلم سينمائي، هي من بين أكثر الأفلام تجريدا، وافتقارا إلى السردية، أفلام بصرية محضة.
ـ أنت وأنا انصرفنا عن إكمال الدكتوراه، أنا شخصيا لدي مشاعر قوية تجاه الوسط الأكاديمي، وأعتقد أن لديك مثل ذلك أيضا، لولا أنه يعزل نفسه عن الحياة العامة. هل ترصد تغيرا في ذلك؟
ـ هي عزلة مؤسفة. من ناحية، أعتقد أنه من المهم أن يتطور العمل بمعزل عن الضغط العام، لكن السؤال الذي تسعى إليه الدراسات الأدبية والنقدية منغلق أكثر مما ينبغي على هواجس الوسط الأكاديمي وشواغله. وأنا حينما أتكلم مع الباحثين في الدراسات السينمائية، غالبا ما يصدمني أنهم شديدو البعد عن، حسن، عن الأفلام.
ـ دعنا نتكلم عن الاستعراض النقدي بشكل أكثر اتساعا. اعتذرت "أليس جريجوري" للكتاب الذين قست على أعمالهم أو كان لها رأي سلبي فيها. عندما تقرر عدم كتابة مقال لأنه سيحتوي على آراء شديدة السلبية، من يكون المستفيد من هذا القرار؟ هل يستفيد منه القراء؟ أم العمل الفني؟ أم راحة بال الناقد وعلاقاته؟
ـ في بعض الأحيان يكون المقال القاسي واجبا، ولكنه في أحيان أخرى يكون بلا قيمة. ويكون الأفضل الصمت. عندنا في التايمز نبذل جهدا كبيرا في اختيار الكتب التي سوف نستعرضها، أما في ما يتعلق بالأفلام فنحاول أن نقترب من كل شيء قدر استطاعتنا. فما دام فيلم وصل إلى شاشة عرض في نيويورك، يزداد احتمال استعراضه نقديا.
تأذِّي الفنانين غريب بالنسبة لي. أعرف أن الفنان يبذل جهدا مضنيا، ويضع من روحه في فيلمه، ولكنه يخرجه إلى العالم، وهنالك سوف يخضع للتقييم. وإذا خطوت إلى حلبة الملاكمة، يجب أن تتوقع التعرض للكمة.
ـ كيف تتعامل مع التوتر القائم بين الاحتواء والامتياز؟
ـ لا أعتقد أن هناك فارقا. عليك أن تصر على معايير الامتياز. بالنسبة للأفلام المستقلة والوثائقية ـ التي يشكل رأي الناقد فارقا كبيرا لها ـ إذا تعاملت معها بوصفها أعمالا هشة، فمحاولتك هذه لحمايتها سوف تزيدها هشاشة. ما عليك القيام به هو أن تستمر في طرح رأيك الأمين فيها. وعليك بالطبع أن تكون متوازنا، فلا أحد يريد أن يكتب ألفي كلمة لمجرد أن يلعن فيها رواية أولى لكاتب، ولكن عليك أن تكون أمينا.
ـ درست الأدب في الجامعة لا السينما. كيف ثقفت نفسك سينمائيا؟
ـ صاغتني حوادث قليلة. وأنا في الخامسة عشرة، اصطحبتني أمي ـ وهي أستاذة للتاريخ الفرنسي ـ لأقضي معها صيفا في باريس. كنت أحضر دروسا في الفرنسية صباحا، ولا أجد ما أفعله بعد الظهر.
وكان صحيحا في ذلك الوقت، ولا يزال صحيحا إلى اليوم، أن باريس أفضل مدينة في العالم لمشاهدة الأفلام الأمريكية القديمة. هناك دور عرض متخصصة في عرض ريبرتوارات من كلاسيكيات سينما هوليود التي يتذوقها الفرنسيون أكثر مما نتذوقها. وتعرض جميعها بالإنجليزية مع ترجمة فرنسية، فهي من ثم طريقة جيدة لتعلم الفرنسية. وكنت أتنقل من دار عرض إلى أخرى.
تلك كانت حقبة بداية الفيديو، فحينما رجعت إلى الولايات المتحدة، أكملت مشاهدة الكثير خلال دراستي الثانوية والجامعية.
وبحلول الوقت الذي حصلت فيه على وظيفتي كناقد أفلام، كان من دواعي دهشتي ودهشة غيري (يضحك) أنني لست جديدا على السينما، بل لدي أرضية كبيرة. طبعا كنت بحاجة إلى معرفة السينما الإيرانية مثلا أو التايوانية. قرأت في تاريخ السينما. قرأت نقادا لم أكن قرأت أعمالهم من قبل. وبعد سبعة عشر عاما لا زلت أعلِّم نفسي.
ـ هل تحب أن تشير إلى فيلم حديث لم ينل التقدير الكافي أو نال منه أكثر مما ينبغي؟
ـ بكل سرور.
"Birdman" نال من التقدير الهائل أكثر مما يستحق. هو بحق فيلم هزيل ومليء بالكليشيهات التي تداهن الجمهور غير المحب للكليشيهات.
وفيلم لم ينل التقدير الكافي: فيلم قديم عرض العام الماضي، وعملت فيه كرستين ويج، بعنوان "مرحبا إليّ Welcome to Me ". سخرية من التليفزيون والشهرة، ووجدته مسليا للغاية، ولم يسلك الطريق السهل في موضوعه.
وبالمناسبة 2015 كانت سنة مذهلة بالنسبة لكرستين ويج، فقد عملت في فيلم آخر بعنوان " Nasty Baby " من إخراج التشيلي سيباستيان سيلفا, وهو عبارة عن سخرية من التدهور الاجتماعي في بروكلين، وهو فيلم ينقلب على نفسه تمام الانقلاب. إذ يخيل إليك أنه فيلم متعالم معجب بنفسه عن المتأنقين الساعين وراء الموضة ومصاعب حياتهم، ثم يتبين أنه نقد قاس للبرجوازية ورضاها عن نفسها.
ـ إليك سؤالا أثق أنه طرح عليك آلاف المرات. لا زلت لا أعرف، هل أردت أو حاولت إخراج فيلم؟
ـ لا هذا ولا ذاك، مع أنني مثلت في العديد من أفلام ابني!
ـ وسؤال ضخم: كيف ترى مستقبل الأفلام؟ الواقع الافتراضي؟
ـ من أعظم ما في السينما أنها لم تبق على حال طوال أي عقدين من تاريخها. فهي تشق طريقها من التسلية المباشرة إلى التجربة المسرحية، ثم هناك تطور المونتاج المتوازي وإضافة الصوت وموقع التصوير واللون، أعني أنها دائمة التغير. وصناع السينما لا يكفون عن استكشاف كوامن كل تغير في كل من هذه العناصر.
الواقع الافتراضي شائق. وهجرة الكثير من الصور المتحركة إلى التليفزيون ومنه إلى شبكة الإنترنت قد يتحدي السينما بوصفها القالب الأساسي. ولكن ما هو صحيح أيضا هو أن رغبة الناس في الذهاب إلى دور العرض لم تتبدل. لقد ذهبت لمشاهدة " Hail, Caesar!" كما قلت لك وكانت القاعة ممتلئة عن آخرها.
ـ سؤالي الأخير: في هذه المرحلة من مسيرتك المهنية، ما الذي تشتاق إليه أشد الاشتياق؟
ـ  ما أتمناه هو أن لا أفقد قدرتي على الاندهاش. اليوم الذي أشعر فيه أن الأفلام العظيمة كلها هي أفلام الماضي، هو اليوم الذي يجب أن أتوقف فيه. ولكن هناك دائما طرقا جديدة للتفكير في الأفلام لم أجربها بعد. التمثيل مثلا من أكثر ما يصعب بالنسبة لي أن أكتب عنه. التمثيل لغز بالنسبة لي، ماذا يكون؟ ما الذي يفعله الممثلون؟
في الفترة الأخيرة وجدت نفسي أفكر في الأفلام من منطلق نظرة الجمهور أيضا. وكتبت خلال السنة الماضية عن ثقافة الجماهير. هناك فارق بين جلوسك في دار عرض وأنت ناقد، وجلوسك وأنت من جملة الجمهور. فكيف الحديث عن هذا الفارق؟
وكيف تتفاعل الأفلام مع المشاهدين؟ الجمهور هو الذي يكمل الأفلام، وأود لو أفكر في كيفية الكتابة عن هذا في نقدي.
ـ هذه الأسئلة تدفعني إلى هذا السؤال: هل تشاهد المسرح؟
ـ لا, لا أحب التواجد في قاعة أمام أشخاص فعليين.

نشر الموضوع أصلا في إلكترونيك ليترتشر، ونشرت الترجمة أمس هنا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق