الثلاثاء، 5 مايو 2015

رؤية اسطنبول مرة أخرى

 رؤية اسطنبول مرة أخرى
مورين فريلي
مورين فريلي
أترجم، بطريقة أو بأخرى، منذ أن كنت في الثامنة. وكنت في تلك السنّ حينما انتقلت أسرتي من برنستن بـ نيوجيرزي إلى شواطئ البسفور.
بعد ما استقر بنا المقام في اسطنبول، كنا نقضي فصول الصيف وفترات كبيرة من بقية الفصول في استكشاف شواطئ المتوسط. كنا نمشي، كلما وصلنا إلى مدينة جديدة، إلى أن نتيه. ثم إذا تهنا، مضينا إلى المزيد من المشي، إلى أن نجد أنفسنا بغتة، ومن غير إنذار، نقترب إلى فندقنا من زاوية جديدة. لكن لحظات قليلة كانت تمرُّ قبل أن ندرك ذلك.
وكان أول ما نفعله أنا وأختي، كلما سافرنا على متن سفينة، أن نلعب لعبة نسميها "التيه". يا لها من حرية تلك التي كنا نستشعرها إذ نصدق ـ مهما يكن التصديق منقوصا ـ أن متاهة الممرات قد تكون لانهائية، وكم كان باعثا على الطمأنينة في الوقت نفسه أن نعلم أنها تتبع تصميما منطقيا صارما، وأنه لن يطول علينا الوقت قبل أن نجد طريقنا من مكاننا المخصص (في الدرجة الثالثة) إلى رواق الدرجة الأولى الذي كان استمتاعنا به أكبر لعدم حملنا التذاكر المناسبة.
وبعد سنين، وبينما كنت أترجم مذكرات أورهان باموق "اسطنبول: الذكريات والمدينة"، كنت أقرأ كلامه عن أحلام يقظته في الطفولة فتسري في بدني رعشة أني أعرف ذلك. كانوا غالبا ما يعهدون بأورهان الصبي الصغير إلى جدته المقعدة ليقضي صباحات كاملة عندها. فيجلس في كرسي معتدل الظهر ويشرع (بإتقان) في إقامة عوالم أخرى متقنة، يقوى على الخروج منها سريعا، وبلا أدنى صعوبة، بمجرد أن ينادَى عليه، وقد علم أن بوسعه الرجوع مرة أخرى إلى هذه العوالم، فيجدها بانتظاره، على حالها التي تركها عليه.
كنت أشعر بمثل ذلك كلما استدعيت للرجوع إلى الحياة اليومية بعد سويعات من الترجمة. كنت أغلق باب عالم النص عارفة أنه سوف يكون على حاله التي تركته عليها عندما يحين وقت الرجوع إليه. وما شعرت به بعد ذلك لم يكن يختلف كثيرا عما كان يشعر به أورهان الصبي، بعد أيام تلو أيام في صالون بيت جدته، بستائره الثقال السميكة. كنا إذ نرتد إلى نور الشمس الساطع، نشعر بالعمى لوهلة.
حينما أُرجع عقلي إلى السنوات السبع التي قضيتها في العمل مع أورهان، يكون أول ما أراه بحر العيون القلقة. أرى الجزيرة المقابلة تماما لاسطنبول، حيث قضينا كثيرا من أيام فصول الصيف الطوال ونحن نستعرض كل سطر من ترجماتي. أرى مترجمين آخرين كانوا يجيئون إلى تلك الجزيرة في الصيف، لمجرد أن يكونوا على مقربة منه. أرى مقاهي الجزيرة التي ذهبنا إليها أنا وأورهان لنعمل ذات يوم بحيث نكون في نطاق الجسر. هل كانت مترجمة أخرى آتية لتناول العشاء معه في مساء ذلك اليوم، أم صحفية أجنبية، أم صاحبة جديدة؟ أم أنا التي كنت في عجلة من أمري للحاق بالعبارة والرجوع إلى المدينة؟ لا أستطيع أن أتذكر. كان بين أيدينا خمسون صفحة لا بد أن ننتهي منها قبل أن أغادر أو تأتي ضيفته. لم يكن لدي وقت لأتلفت حولي. بقي النادل يأتينا بالمزيد من الشاي ونحن نمشي كدأبنا على الحبل الرفيع المشدود بين النقاش الروحاني والشجار الصريح، ولم يحدث إلا حينما بدأ الضوء يخفت ويلين أن رفعت عيني فرأيت أن لدينا جمهورا. فالمقهى الذي كان خاويا تماما في آخر مرة تفقدته فيها بات ممتلئا بنساء من عمر معين معهن أحفادهن، والجميع يحملقون فينا فاغري الأفواه.
وحدث في آخر ذلك الصيف، وعلى شاطئ في جنوب تركيا، أن أخطأ زوجي فقال لرجل يئتزر بمنشفة على الكرسي المجاور له إنني مترجمة أورهان. كان هذا قبل أن تدخل حملة الكراهية ضد أورهان مرحلة الجد. لكن نجاحه في الغرب، والسهولة التي كان يسائل بها تاريخ تركيا الرسمي في الصحافتين المحلية والأجنبية قد جعلت منه شخصية مكروهة من بعض الصحف، ومن بينها في ما أفترض الصحيفة التي كان يقرؤها ذلك الرجل. أو هذا على أقل تقدير ما بدا لي حينما جاء ذلك الرجل ليبحث عني في الماء، ويقول لي وليس بيننا سوى الموج، صائحا في غضب: من تظنين نفسك لكي تعملي مع خائن؟
اسطنبول 1962
انطلقت حملة الكراهية الحقيقية بعد ستة أشهر، في فبراير سنة 2005، بعد أن قال أورهان لصحفية سويسرية إنه كان الوحيد الذي تكلم عن مليون أرميني وثلاثين ألف كردي تعرضوا للقتل "في هذه الأرض"، ولم يكن ذلك صحيحا تماما، فقد كان التابو المفروض على مثل هذه المواضيع يتصدع من حوله. ولكنه كان التركي الوحيد الذي يمكنه أن يتكلم عنها في الخارج فيجد من ينصت إليه. وبسبب الضجيج، اتهمه القوميون المتعصبون الذين يقودون الحملة بأنه يغازل الانحيازات الغربية، ويبيع بلده لأوربا دعما لمصلحته المهنية.
وذلك بالضبط ما بدا لجمهور التليفزيون بعد عشرة أشهر عندما حوكم أورهان بتهمة إهانة القومية التركية. فقد رأوا جدارا عظيما من الأتراك المخلصين يقفون خارج المحكمة يلوِّحون بقبضاتهم. رأوا لافتات تدين أورهان باعتباره "ابن التبشيريين" ـ وهو مصطلح لا يجدون غضاضة من كونه لعبا على "ابن الزناة"، وذلك سباب منتشر تحوّل إلى إهانة سياسية بإبدال "المبشرين" بـ "الزناة" ـ في إشارة إلى الفساد الذي لحق بأورهان من تعليمه الأمريكي ومن مترجمته الأمريكية (وذلك ما بات يؤكد عليه المنتقدون في وقت لاحق). ما رآه مشاهدو التليفزيون في ذلك اليوم كان عبارة عن مسرحية أخلاقية رديئة سابقة التجهيز، إذ تدافع المحامون المتعصبون في عباءاتهم الفخمة يهاجمون أعضاء البرلمان الأوربي الذين جاؤوا بصفة مراقبين. وباموق ممتقع الوجه، محاط بناشريه، يشق طريقه خارجا من العربة بينما الأتراك المخلصون يدفعونها وينهالون عليها بالبيض.
عندما أستدعي صعود أورهان من حالة المعبود إلى حالة النجم العالمي، أرى بحرا آخر من العيون. هناك المحررون، وصحفيو الأدب، والكتّاب، والنقاد، ومانحو الجوائز الذين كانوا يعملون جميعا بالنيابة عنه في أوربا وأمريكا الشمالية لسنوات كثيرة. ولكنه ما كاد يظهر وريثا محتملا لعباءة سولجنتسين، المنشق الحكيم الذي قد يساعد الغرب ـ برغم ما يواجه من تهديدات في بلده ـ على فهم الشرق، حتى أراد كثيرون على حين غرة أن يعرفوه ويعاونوه ويستعملوه. وكنت حينما أنظر في عيونهم، أرى توقعات لم تتحدد قط بدقة، ولم تتحقق أيضا.
ولم أكن أملك إلا أن أتساءل: ما الذي نريده من الكتّاب من أمثال باموق؟ ما ذلك الشيء، ماذا يكون فعلا ذلك الشيء الذي يثير هذه المشاعر القوية، وهذه الأوهام المتضاربة، وهذه الآمال المتعالية؟
في عام 2005، حينما أرغمت حملة الكراهية باموقا على الاختفاء لفترة وجيزة، وحينما رجع لاحقا إلى تركيا للمثول أمام المحكمة، كتبت مقالات كثيرة، كثيرة، للدفاع عنه في الصحافة الأمريكية والبريطانية. تورطت في قضايا أخرى. عملت مع نادي القلم الدولي. واقترب مني أصدقاء الأصدقاء، وتلقيت تحذيرات بشأن "السفن الموشكة على الغرق". وفي حالات عديدة نشأت صداقات بيني وبين أشخاص لم أكن أعرف أنهم أعداء لباموق. هاجمني فاشيون في محاكم وحوصرت من قوات لمكافحة الشغب على أبواب نفس المحاكم. وكان بعض من يحاصرون معي يحافظون على هدوئهم، ومبادئهم أيضا. وآخرون لم يقدروا على ذلك. وكانت هناك أيضا تلك الكاتبة شديدة الشجاعة التي قد تنقلب في بعض الأحيان إلى مدفع منفلت: وانقلبت عليّ يوما. فبعدما صاحت بي حتى أخرجتي من المطعم الجذاب الذي اقترحتْه للقائنا، أكلت سمكي.
في اليوم التالي كتبتْ عمودا عن "سياحة حقوق الإنسان". لم تذكرني فيه بالاسم، لكن غيرها نابوا عنها في ذلك. في مقالة مسرفة الزخارف قيل إنني superajan ، وهي كلمة لا تحتاج إلى ترجمة. وفي أخرى قيل إنني سادية ثقافيا. وقالت المقالة إن أورهان يكتب لشخص واحد فقط، وهذا الشخص، هو مترجمته إلى الإنجليزية، وأنه يؤلف كتبه ثم يعطيها لها، فتقول له كيف يجوِّدها بحيث تلائم الجمهور في الغرب.
 في ذلك الوقت تقريبا سرقت شهورا قليلة رجعت فيها إلى روايتي. واكتشفت، من دواعي دهشتي، أنني لم أعد بحاجة أن أطلب من شخصياتي التركية أن تفسّر لي عالمها، فقد بات عالمها عالمي أنا الأخرى.
ولكنني في موضع ما، على الطريق، فقدت شيئا. ولو أنني في ذلك الوقت لم أكن أملك من الكلمات ما أعبر به عنه. بدأ بالـ hüzün [الحزن] أو بالأحرى بجملة أورهان الشهيرة الممتدة لست صفحات عن كآبة اسطنبول الجمعية. عندما قرأت تلك الكلمات للمرة الأولى بالتركية، دون أن أفكر بعد في ترجمتها، حينما قرأتها فقط، واستوعبتها، متنقلة من العبارة، والصورة، إلى التي تليها، كنت أفكر طول الوقت: نعم، أنا أعرف هذا. نعم، أتذكر جميع هذه المشاهد بالأبيض والأسود من طفولتي. أتذكر كيف كانت اسطنبول تبدو متربة بالية، كلما رجعنا إليها في كل صيف من بحر إيجة المتلألئ، فنرى ضباب الكآبة الجاثم على البيوت الخشبية غير المطلية في المدينة القديمة، فيمتص منها كل لونها. ولكنني ما كدت أشق بالترجمة طريقي حتى نهاية تلك الجملة، إلا ونفذ الحزن hüzün  في خيالي فبتّ أكاد أرى من خلاله. وتلاشت اسطنبول طفولتي.
وبقيت، بدلا من صحبتها، بصحبة رجال يتدفقون على شوارع سيئة الرصف، لابسين سترات رثة، ونساء محجبات على الأرصفة ينتظرن أتوبيسا لن يصل أبدا، وقصورا عثمانية متداعية، ونوافير كف الماء عن التدفق من صنابيرها قبل قرنين، ومساجد نهبت قبابها قطعة بعد قطعة. بداخل كل بناية سكنية عائلات حديثة، فارغة الحياة، لأنها قطعت ما بينها وبين تاريخها. عائلات لم تكن تفهم حقا حياة الغرب التي تطمح إليها. وكان من تحت كبريائها حطامُ عارِ الامبراطورية الضائعة.
نعم، هكذا فكرت. نعم، ولكن. فيما كنت أشق بالترجمة طريقي عبر فصول "اسطنبول" الأخيرة، وجدت أشياء كثيرة أتساءل عنها، بقدر ما وجدت من أشياء كثيرة تثير إعجابي. أوقفتني على حين غرة ملاحظة عابرة عن حقيقة سردية مقيمة وسط سيمتريات فنية، توقفت لأتأمل الجمال الصارخ في لوحته المرسومة بالأبيض والأسود. فكرت في الألوان التي اقتلعها، فمتى كان البسفور أحادي اللون؟ نعم، كانت هناك أيام هبط فيها ضباب الكآبة، ولكن حينما كانت الشمس تفضه من جديد، كان يبدو شديد الزرقة حتى لتبهر زرقته العيون، وفي مقابل كل صورة لاسطنبول الستينيات في هذا الكتاب، كان ثمة مائة صورة غائبة. أتذكر أني قلت هذا لأورهان يوم جلسنا نراجع ترجمتي للفصل الذي وصف فيه أيامه التعيسه في الليسيه. يومها مررت إصبعي على مسافة خاوية بين فقرتين، وقلت له إن حياتي كلها تختبئ هناك.
أطرق، وابتسم بغير ارتياح. كان يعرف ما أعنيه. تماما كما كنت أعرف ما كان يعنيه، وبعد سنوات، حينما اتصل بي ليأخذني من غداء في يوم الأحد في منزل جارة في جزيرة الأمير، وليقول لي إنه لم يعد يستطيع أن يكتب جملة بدون أن يقلق من الطريقة التي سوف أخربها بها.
ولما حان الوقت وشرعت في تعاوننا الخامس والأخير، "متحف البراءة"، كنت قد جبت متاهات عقله طويلا فعرفت كل انعطافة فيها أو التفافة. كنت قد انتهيت إلى القبول بأن كل ما يكتبه راسٍ بطريقة أو بأخرى في شوارع طفولته. وكنت قد فهمت أيضا أنه على الرغم من براعته في التقاط الأصوات، يستمد قصصه من صور. وهذه الصور في متحف البراءة شديدة التفصيل، دقيقة التكوين. وهذا النظام الشديد ينعكس، بل إنه يتكرر بتطابق تام في كثير من الأحيان، في جمله بالتركية. وإن بوسعي أن أتصور البهجة التي استشعرها وهو يبدع نصا يجسّد غرور السردية على أصغر مستوياتها.
اسطنبول 1964
في مرحلة من حياته، حينما كانت الصحافة تنشر كذبة عنه كلَّ يوم تقريبا، أمدّه السرد بمظهر ما للنظام. وأحسب أنه لم يندهش حينما قلت له إنه لا يستطيع أن يفرض مثل هذه السيطرة على الترجمة. ولكن ذلك لم يمنعه من الاستمرار في المحاولة. بحلول ذلك الوقت، كان لديه الكثير من النفوذ. لا أعتقد أنني كنت لأنجح في تجاوز تلك السنة الجحيمية، لولا أحلام اليقظة التي كانت دائما ما توجد في انتظاري، كلما صعدت لأتنفس شيئا من الهواء.
كانت هذه هي اسطنبول التي بدأت ببطء أراها من جديد، فقط لأتمكن من الاستمرار في التنفس. لم تكن منزوعة الألوان، شأن مدينة أورهان. كانت ذهبية، وبرجوازيتها المأزومة التي كنت أترجمها منذ سبع سنين غير ماثلة أمام بصري. كان ثمة فقط البوهيميون الجامحون الحسان الذين نشأت على أيديهم. كانت النظائر الواقعية لكل شيء إما غائبة، أو هي ضحايا عاداتها القديمة، أما في حلم يقظتي، حلم 1962، فكانت لا تزال حية وطائشة وقادرة أن تبقى بطيشها، وجمالها.
ولما بعثت متحف أورهان أخيرا إلى الناشر، رجعت إلى رأسي في ما بدا للوهلة الأولى أشبه برحلة رفاهية. وقليلا قليلا ترجمت نفسي خروجا من اسطنبول أورهان فرجعت إلى اسطنبولي. وعندما أرجع النظر في ما جرى بعد ذلك، لا أملك إلا أن أفكر في أنني كنت بلا شك أستعمل الكلمات استعمالا مختلفا بعد كل سنوات الترجمة تلك. لم أعد أستخدم اللغة البيّنة الحادة التي كنت أثق بها من قبل أشد الثقة. لم أكن أسمح لنفسي بالالتفاف والتجوال عبر الصفحة. كنت، دون أن أدري، أضع نفسي في غيبوبة. وكلمة بعد كلمة، استحضرت اسطنبول عام 1962. ولما نجحت في الرجوع بنفسي إلى هناك، لم تبد لي أنها الجنة وقد تذكرتها: فقد كان الذهب مربوطا بالغيرة، والحيرة، والخوف.


عن نيويورك رفيو أوف بوكس.
نشرت الترجمة في شرفات الثلاثاء 5 مايو 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق