الخميس، 5 مارس 2015

زمن المقالة مقتطفات من "جوع الواقع"

قد يكون كتاب "نضالي" لكارل أوف ناوسجارد ظاهرة في ذاته، ولكن هل يمثل ظاهرة أوسع؟ أعني: هل الكتاب الذي بيع منه نصف مليون نسخة في النرويج وحدها، ثم نشر ـ بحسب ويكيبديا ـ في 22 لغة منذ صدوره قبل سنوات قليلة للغاية، مجرد مثال على ظاهرة في الكتابة الأدبية يرى ديفيد شيلدس في كتابه "جوع الواقع" أنها آخذة في التشكل؟ صحيح أن ديفيد شيلدس لم يشر في كتابه إلى "نضالي" الذي لم يصدر في الإنجليزية ـ فيما أحسب ـ إلا بعد صدور "جوع الواقع"، ولكن شيلدس خصص كتابه كله للقول بموت الرواية: الرواية كنوع أدبي تحتضر، الشخصية الروائية تحتضر، الحبكة الروائية تحتضر. ولا حياة اليوم إلا للكاتب الذي يكف عن التخييل والتأليف، ويقضم ما استطاع من الواقع. و"نضالي" الذي يعد ظاهرة أدبية حقيقية عبر السنوات الأخيرة يفعل هذا بالضبط. بل إن حكاية كتابته دليل ساطع على ما يذهب إليه شيلدس.
كان الكاتب النرويجي يكتب رواية عن علاقته بأبيه. ليس موضوع الرواية هو المهم في هذا الصدد. صحيح أن في كتابته عن علاقته بأبيه دليلا على ما يذهب إليه شيلدس، ولكنه الدليل الثانوي الذي لن نلتفت إليه كثيرا. فالدليل الأهم هو أنه كان يكتب عن هذه العلاقة في إطار القالب الروائي، وأنه عجز، نضب، ووجه بما يواجه الكتاب كل حين: لم يجد ما يكتبه، أو كان لديه ما يريد كتابته لكن القلم ببساطة لم يطاوعه. وفي ظل هذه الحالة، قرر الكاتب أن يكتب عن نفسه، أن يهمل الأسلوب، والقالب، ويتحرر من كل اشتراطات الكتابة الروائية، وينطلق في الكتابة عن نفسه، وكل ليلة كان يتصل بصديقه ومحرره ويقرأ عليه آلاف الكلمات التي كتبها في يومه، فيشجعه صديقه، إلى أن ظهر الكتاب، وبات سؤالا متواترا على الألسن "قرأت نضالي؟ كله؟". وليس السؤال الثاني بأقل دلالة من الأول، فالكتاب صدر في ستة أجزاء يصل مجموع صفحاتها إلى الخمسة آلاف. فعل "نضالي" يستحق وقفة خاصة به في عالم الكتاب، ولكن الوقفة هنا مع جوع الواقع لديفيد شيلدس.
شيلدس في هذا الكتاب (وعنوانه الفرعي "مانيفستو") لا يقدم رأيا شخصيا، ولا يعبر عن مزاج فردي. لا يقول إنه كفرد بات ينفر من الرواية بأعرافها، ومن الحبكة باصطناعها، وبات يفتقد الواقع في كتابة تزداد كل يوم نزوعا إلى التخييل والتأليف، لكنه يزعم أنه يتكلم عن نزعة جديدة، عن اتجاه، عن حركة أو لحظة فنية جديدة تتشكل. يقول حرفيا: "ثمة حركة فنية جديدة، وإن تكن غير مستقرة بعد، تتشكل". يراها في قصيدة النثر مثلما يراها في الأفلام شبه الوثائقية شبه الروائية، وفي الجرافيتي، وفي الموسيقى التجريبية غير المخلصة لمزاج موسيقي بعينه. يرى نفورا عاما من النقاء في أي شيء. ويرى المستقبل الوحيد المتاح للأدب متمثلا في ما يسميه بالمقالة الغنائية. صدر كتابه في 2010، ولا أكاد أعرف ناقدا ذا شأن في الصحافة الأمريكية والبريطانية ـ على الأقل ـ إلا وكتب عنه، بل إن الكتابة عن هذا الكتاب لا تزال مستمرة حتى أسابيع قليلة ماضية حيث نشرت ذي نيويوركر مقالة مطولة لآدلي وولدمان تتعرض فيها للكتاب، مدافعة عن الرواية ضد منتقديها.
كتب شيلدس "جوع الواقع" على شكل فقرات تلو فقرات، مرقمة من واحد إلى ستمائة وسبعة عشر. اخترنا بعضها هنا، حريصين أن نترجم جميع الفقرات التي جاءت في نهاية الكتاب تحت عنوان داخلي هو المانيفستو، ونرجو فيما اخترناه، وهو لا يغني بأية حالة عن الكتاب نفسه بطبيعة الحال، قد أصبنا الأجمل إن كنا أخطأنا الأدل.

***



زمن المقالة
مقتطفات من "جوع الواقع"
ديفيد شيلدس



1
كل حركة فنية منذ بدء الزمان محاولةٌ لاكتناه سبيل إلى تهريب مزيد مما يتصور الكاتب أنه الواقع إلى الفن. زولا: "كل فنان يستحق اسم فنان هو في عيني نفسه واقع". وهدف جورج براك هو "الاقتراب قدر الاستطاعة من الواقع". ومثال ذلك: يوميات تشيكوف، و"كتاب النثريات" لإي إم فورستر، و"الصدع" لفتزجيرالد (وهو خير كتبه)، ويوميات تشيفرز الصادرة بعد وفاته (وهي أيضا خير كتبه)، ويوميات إدوارد هوجلاند، و"كتابة البيت" لآلن بينيت.
كذلك كل حركة أو لحظة فنية بحاجة إلى عقيدة: "فن الشعر" لهوراس، "دفاعا عن الشعر" للسير فيليب سيدني، "المانيفستو السريالي" لأندريه بروتون، "عهد المطاردة" لحركة دوم 95 السينمائية. وإنني هنا أكتب بيوطيقا لمجموعة ظاهرة من الفنانين المتواشجين (وغير المتصلين في الوقت نفسه) الذين يعملون في عديد من القوالب والوسائط (كالمقالة الغنائية، وقصيدة النثر، ورواية الكولاج، والفن البصري، والتليفزيون، والإذاعة، والفن الأدائي، والراب، وكوميديا الستاند أب، والجرافيتي)، والذين يزداد ما يقضمونه من "الواقع" ويبثونه في أعمالهم. (الواقع الذي لم يكف نابوكوف عن تذكيرنا بأنه كلمة لا معنى لها ما لم تأت بين علامتي تنصيص).
2
"مدينة المحو" لـ جيف كورسو. فيلم "المياه المفتوحة" شبه المنزلي. بورات في: "تعاليم أمريكا الثقافية لمصلحة أمة كازخستان المجيدة". برنامج "في العتمة" الإذاعي لجو فرانك. مشهد إزالة الشعر في "الخام ابن الأربعين عاما" The 40-Year-Old Virgin. فيلم "هامداي" لـ لين شيلتن الذي لم يعتمد على سيناريو ("فكل ما فيه من كتابة يجري في غرفة المونتاج"). "فيلم الحياة الواقعية" لنيكولاس باركر واسمه "أسِرَّة لم تصنع بعد"، وفيه يتكلم الممثلون من سيناريو مأخوذ عن حوارات أجراها معهم باركر، وبنيته وثائقية، لولا نسبة منه مؤلفة. "السوبر ستار" لتود هاينز، وهو سيري عن كارن كاربنتر تلعب دمى باربي أدواره الرئيسية وليس متاحا في الوقت الراهن إلا كفيديو مسجل بصورة غير رسمية. "اكبح حماسك" ويقوم على خصيصة أساسية في هذا النوع، أو اللانوع، أو النوع المضاد للنوع، وهذه الخصيصة تتمثل في اعتماد العمل الفني على معرفة المشاهد بوعي المبدع الذاتي، والتلاعب الدائم بالفجوة القائمة ما بين الشخص والشخصية. "عرض إمينِم" الذي يناضل فيه مارشال ماذرز شهرته فيعمل عبر مواضيع "أسرية المنشأ" (من قبيل الحياة و/أو الفن؟) "متحف التكنولوجيا الجوراسية (الخيالية) الذي يوجد فعليا في مدينة كالفر. الفيلم (الخيالي تماما) "الجمعية الدولية للنيكرونوتيكال" والفيلم (الجاد تماما) "إعلان الزيف". وكذلك أيضا الليالي الموسيقي التليفزيونية الجماهيرية، ومسلسل فيديو "ما وراء الموسيقى"، وحوارات "المشاهد الخلفية" التي تجرى بالتوازي مع العرض "الواقعي" في برامج تليفزيون الواقع، وفنانو الراب الذين يوهبون نتفة من الأغنية فيقيمون من فوقها أغنية جديدة تماما، أسطوانات الدي في دي التي تضم علاوة على الفيلم وثائقيا عن "عمل الفيلم". "الأعزب" الذي ينبئنا عن حالة الاتحاد أكثر مما تحلم أي كوميديا رومانتيكية بإنبائنا به. جاذبية بيلي كولنز التي تكمن في أن قصائدة بالمقارنة مع ظلامية أقرانه الهيروغليفية توحي بأنه ألقى بكلامها في الهواء وهو جالس يسكر ويسمع الجاز في آخر الليل (وما هكذا تكتب قصادئه قطعا، فما ذلك إلا وهم). "نتاج العبقرية المذهل المضني" كان من أوله إلى آخره يقوم على جهاز الوعي الذاتي الذي أضجر الجميع بسخفه إلى أن انطلق إلى ما بدا شبيها بـ "الحياة الحقيقية" لشخص معين (برغم أن الكاتب بقي يذكّرنا كم هي خيالية تلك الحياة). وإنني لأعلم، وأنا الذي كنت ذات يوم تواقا إلى الأصالة مغرما بالصنعة، أن اللحظات جميعا "لحظات": مخشَّبة [من خشبة المسرح] وممسرحة، مشكَّلة ومثيَّمة [من الثيمة].
3
إن حركة فنية، وإن تكن غير مستقرة بعد، تتشكل. فما مكوناتها الرئيسية؟ اللافنية العمدية: مادة "خام"، تبدو كأنما لم يعالجها أحد، غير مصفّاة، غير مراقَبَة، غير حرفية. (وما الذي كان أشد تأثيرا على مدار نصف القرن الماضي من فيلم أبراهام زابروزر السوبر 8 عن اغتيال كينيدي؟). العشوائية، الانفتاح على الحوادث والاكتشافات، العفوية، المخاطرة الفنية، الآنية والتوتر العاطفي، مشاركة القارئ/المشاهد، النبرة الأدبية المفرطة، فكأن صحفيا يشاهد ثقافة غريبة، مرونة القالب، التنقيطية pointillism، النقد بوصفه سيرة ذاتية، فضح الذات، دراسة الذات إثنوجرافيا، السيرة الذاتية الأنثروبولوجية، التماهي (إلى حد الخفاء التام) للتمييز بين الخيالي وغير الخيالي: غواية الواقعي وإبهامه.
4
يحذف الـ أنا، أو ضمير المتكلم، من أغلب الكتب، أما في هذه الكتب فيبقى  وذلك هو الفارق الأساسي. ويشيع بيننا أننا لا نتذكر أن ضمير المتكلم في نهاية المطاف هو المتكلم.

6
لا أحتاج أن أقول، بل أن أعرض.
45
بعد فرويد، بعد أينشتين، تراجعت الرواية عن السرد، والشعر عن القافية، والفن عن التمثيل إلى التجريد.
47
سمعت ذات يوم مرشدا سياحيا في الجاليري الوطني يسأل المجموعة التي يرافقها عن سر عظمة روذكو. قال أحدهم "جمال الألوان". وذكر آخر كثرة الكتب والمقالات التي كتبت عنه. وأشار ثالث إلى كثرة ما دفعه الناس في لوحاته. قال المرشد "روذكو عظيم لأنه أرغم الفنانين من بعده على إعادة النظر في تعريفهم الفن". وهذا أنفع تعريف سمعت به للعظمة في حياتي.
50
لم يعد بوسع صناع الشخصيات، بمعناها التقليدي، أن يقدموا لنا أي شيء يتجاوز دمى هم أنفسهم توقفوا عن الإيمان بها.
80
أنا أبالغ.
81
كنت في قطار الأكاذيب ولم أستطع القفز. تعجبون كيف أكذب عليكم بمثل هذه الطلاقة. ذلك لأنني في مستوى معين كنت أصدق كل ما كنت أقوله لكم. كنت أصدق أنني قابلته. كنت أصدق أنني عرفت حياته خيرا من أي كاتب متخصص في السير الذاتية، لأنني الذي تخيلتها.
82
الفن ليس حقيقة، الفن كذبة  بها ندرك الحقيقة.
89
لو بقيت أعمالي المزورة لفترة كافية في المتحف فستصبح حقيقية.
 
المانيفستو

588
معروف أن كل كتاب بحاجة إلى العثور على قالبه، لكن كم كتابا يجده؟
589
إن شئت أن تكتب كتابا جادا، فعليك أن تكسر القوالب.
590
أعمال الأدب العظيمة جميعا إما هدم لقالب أو اختراع لقالب.
591
نقدّر الفنانين بقدر نجاحهم في تخليص أنفسهم من الأعراف.
592
الجاز بوصفه جازا ـ الجاز الجازي ـ انتهى. الجاز المثير للاهتمام حقا هو الموجود على هوامش القالب حيث توجد عناصر من الجاز وعناصر من كل شيء آخر أيضا. الجاز مسار، لكنه ليس مسارا قاطعا. مثل هذا يحدث في النثر. وبرغم أن الروايات العظيمة ـ أي الروايات الرواياتية ـ لا تزال تكتب، فإن أكثر الأشياء المثيرة للاهتمام هي التي تجري على هوامش العديد من القوالب.
593
لا تزال في القلب من "الثقافة الأدبية"، ولا تزال ثمة بقوة، تلك الرواية الضخمة الرائجة، التي يؤلفها أولئك الكتاب الذين في منتصف الطريق، مشغِّلو طاحونة تقليب الأربعمائة صفحة، صفحة بعد صفحة بعد صفحة. المدهش أن الناس لا يزالون يريدون قراءة ذلك.
594
"التصحيحات" مثلا: ما كنت لأقدر على قراءتها ولو توقفت حياتي على ذلك. قد تكون رواية "جيدة" أو رواية "رديئة"، ولكن شيئا جرى لخيالي الذي لم يعد ينصاع لجدية عناق القالب الروائي.
595
ترى هل يُحتمل أن تكون الجوائز الأدبية المعاصرة شبيهة في بعض الأوجه بحزمة الإنقاذ الفدرالي المالي، في دعمها مشاريع لم تعد تصف الواقع ولو من بعيد؟
596
لو كانت المصطلحات الأدبية تُعنَي بالقيمة الفنية لا بالقواعد المتبعة، وبالإنجاز لا بالأمان، لكان مصطلح الواقعية اليوم مصطلحا فخريا، لا يوهب إلا للعمل الذي يبني على الصفحة بالفعل واقعا غير سنتمنتالي يضاهي ما في الحياة من تعقيد بترتيب لغوي يماثله في الثراء. لن يكون معنيا بالنهج الأسلوبي أو اللغوي، أو بالقالب. وهذا للأسف سوف يقصي كثيرا من الكتاب الذين يحسبون أنهم واقعيون، وأبرزهم أولئك الذين يساوون الكتابة بتشغيل آلة تسجيل.
597
الرواية لدى أغلب القراء ـ والنقاد ـ "قصة" بالدرجة الأساسية. والروائي الحق هو الذي يعرف كيف "يحكي قصة". و"الإجادة في حكي قصة" تتمثل في أن يكتب المرء ما يشبه النُظُم التي يألفها الآخرون، أي فكرتهم سابقة التجهيز عن الواقع. في حين أن العمل الفني، شأن العالم نفسه، قالب حي. في قالبه يكمن واقعه.
598
ثمة داع ملح الآن يرتبط بالحدوتة المأخوذة مباشرة من الحياة أكثر مما يرتبط بالحدوتة المؤلفة من خيال الحياة.
599
أريد أن يزال ستار "هيا بنا نتظاهر". لا أريد أن يلقي بي وسط ظروف خيالية محضة. أرض الخيال المستحيل لا تثير اهتمامي كثيرا. لقد استقر بيكيت على أن كل ما في الفن يبدو له زائفا، بما فيه من ترتيبات وتصميمات وصيغ. كان يريد الفن، لكنه كان يريده من الحياة مباشرة. لم يكن يروق له في نهاية المطاف ذلك الصوت الجويسي الذي كان شديد الانتشار، شديد الأيرلندية، غنائيا إلا ما لا نهاية، مليئا بالإحالات إلى أبد الآبدين. فلاذ ـ أي بيكيت ـ بالفرنسية من ذلك. أراد أن يخاطب مباشرة وجودا فرديا بائسا، وهو ما يضجر كثيرا من القراء. أما أنا شخصيا فأجده كاتبا مرحا، وإن كانت أعماله تبدو كالصلوات. ليس عليك أن تفكر في الإحالات الأدبية بل في التجربة ذاتها. ذلك ما أريده من الصوت. أريده أن يتجاوز الصنعة.
600
هذه حياة تعاش في ظل إنذار دائم شديد الخطورة.
601
توشك كل الكتابة، حتى هذه اللحظة، أن تكون بحثا عن "الوهم الجميل".
602
لا ينتابك ـ أينما تبحث ـ الإحساس بأن الكاتب يشوه وسيطه وصولا إلى قول ما لم يقل من قبل، وذلك عندي علامة الكتابة العظيمة.
603
حسن جدا. أنا لا أبحث عن "الوهم الجميل".
604
لا يستطيع النقاد أن يصدقوا أن القوة اللازمة لإشعارنا بحياتنا الواحدة الوحيدة، وذلك ما لا يفعله إلا روائيون قلائل للغاية في أيامنا هذه، إنما تأتي من التذكر، من الكاتب غير الخيالي الذي مر بموقف نعرفه ويحكي قصى نريدها أن تحكى. لكنها كذلك.
605
حتمٌ أن يكون في الرواية المعيارية ذلك الشيء المفتعل الرهيب، فتشعر دائما بالتروس وهي تدور وتسمع طول الوقت صريرها.
606
لو أنك تكتب رواية، فإنك تجلس وتنسج سردية صغيرة. لو أنك كاتب رومانتيكي، فإنك تكتب روايات عن رجال ونساء في حالة حب، وتضع نتفة من السردية هنا أو هناك، إلخ. ولا بأس بهذا، ولكن لا قيمة له أيضا. الرواية من أجل الرواية شكل من أشكال النوستالجيا.
607
ثمة ما يمكن تأمله في حبة الحياة ونسيجها بما يفوق ما تسمح به الرواية التقليدية. وما يفعله كاتب المقال ضرورة، لأنه يتيح معرفة الذات ويشجع عليها، بطريقة أقل مباشرة مما في الرواية، وأكثر انفتاحا وتأملا.
608
يروق للواحد الظن بأن المقالة الشخصية تمثل بحثا أساسيا في الذات، عبر سبل تتفق مع العلم والفلسفة.
609
القصيدة والمقالة أوثق صلة وأكثر حميمية من أي نوع أدبي آخر، فكلاهما سبيلان لمطاردة المشكلات، أو ربما لمحاولة حل المشكلات ـ أغنيات الحلم [لجون بيريمان]، البرلولوج الطويل في مستهل "المجزر رقم خمسة"، جميع ما كتب فيليب لاركن وآن كارسن، تقريبا، و"في الوقت الراهن" لآني ديلارد. قد تكون هذه الأعمال نجحت، وقد تكون فشلت، لكنها على أقل تقدير تسعى إلى إيضاح المشكلات التي تعرض لها. هي أسفار إلى المعرفة، وارتحالات في سبيلها. قد يقول المرء إن الرواية، استعاريا، سعي وراء المعرفة، لكنها في نهاية المطاف تسلية. وأعتقد أن المقالات والقصائد، على أقل تقدير، محاولة أهم وأشد مباشرة لفهم شيء عن العالم. لذلك لم أعد قادرا على قراءة الروايات، اللهم إلا أقل القليل، وأقل القليل هذا يتمثل في روايات تبلغ من شدة التأمل حد كونها مقالات متنكرة. "هذه ليست رواية" و"نضوب القارئ" و"نقطة التلاشي" و"الرواية الأخيرة" لديفيد ماركسن. إليزابث كاستيلو لكوتزي، الخلود لكونديرا. أغلب أعمال ميشيل هاولبيك. "كتاب دانيال" لدوكترو. "أدولف" لبنيامين كونستانتس. كل شيء لليديا ديفيس.
610
الروايات التي أحبها هي التي لا أثر فيها لكونها روايات.
611
وحده الفنان المفتعل يبدأ من الفن، الفنان الحقيقي يأتي بمادته من مكان آخر: من نفسه. ثمة شيء واحد أسوأ من الملل ـ هو الخوف من الملل، الخوف الذي أشعر به كلما هممت برواية. لا جدوى عندي لحياة البطل، لا أبالي بها، لا أومن أصلا بها. لم يعد من موضوع لجنس الرواية، وقد استهلك مادته. الشخصية [الروائية] تحتضر، وكذلك الحبكة. فليست مصادفة أن تكون الروايات الوحيدة الجديرة بالاهتمام هي التي بعدما يتفكك الكون لا يحدث فيها أي شيء، ومنها ترسترام شاندي، "في قبويالسقوط" لكامو، "التصحيحات" لتوماس بيرنهارد، "العاشق" لدورا، "القوس" لباري هنّا.
612
ما ورثته المقالة الغنائية من المقالة العامة هو السعي إلى حل المشكلات، ذلك السعي  النهم إلى الوقائع. أما ما ترثه من المقالة الشخصية فهو اللعب مفتوح العينين بالمآزق مهما تكن سخونتها. المقالات الغنائية تنشد الإجابات لكنها نادرا ما تبدو وقد عثرت عليها. قد تنتج [المقالة العنائية] عن مقالة عامة لا تنجح في إثبات حجتها، قد تنشأ من مقالة شخصية إذ تتفرع منها لملاقاة "الآخر"، قد تبدأ كمقالة في أدب الرحلات لا تعرف أين هي من العالم، أو تبدأ من قصيدة نثرية ترفض النهايات السريعة، قد تنشأ سطورا ترفض التحول إلى أبيات أو فقرات سرعان ما يعتور سطورها النحول كلما تقدمت في الطريق. هي هجين جاثم على سياج بين المراد والمحسوس.المقالة الغنائية تناقض: مقالة، وغنائية، منطق يريد أن يدندن، حجة ما من فرصة لإثبات صحتها.
613
المقالة التي تصبح غنائية مقالة قتلت نفسها.
614
ما من وقائع، إن هو إلا فن.
615
ما حدث بالفعل ليس أكثر من خامة، ما يخرج به الكاتب من هذا الذي حدث هو المهم.
616
يحكى أن قراء سيأتون، فهم لا يبالون بالاسم الذي تحمله الكتابة الخيالية، بل يقرؤونها لانفعالها، وقوتها، وذكائها، وأصالتها الشكلية.
617
لن يحدث ثانية أن تحكى قصة واحدة وكأنها القصة الوحيدة.



بعض الشذرات في بعض الفقرات السابقة مأخوذ من ثورو ورولان بارت ومايكل ديردا وفالتر بنيامين، ونايبول، وكوتزي، ووليم كارلوس وليمز، وسيبولد، وغيرهم، وبرغم أن الكاتب لم يستخدم هوامش تقليدية في كتابه إلا أن لديه مسردا ختاميا يشير إلى كل مقطع برقمه، ويذكر اسم الكاتب المنقول عنه فيه، وهو ما تعذر تنفيذه في حدود النشر هنا.


نشرت هذه المادة في عدد فبراير 2015 من عالم الكتاب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق