كيف أقرأ
تيم باركس
كيف يمكننا أن نقرأ بطريقة أفضل؟ كتبت
أخيرا مقالة عن قيمة القراءة وفي يدك قلم، وأنت مستعد في أية لحظة لوضع علامات في
الصفحة. وردا على تلك المقالة تلقيت عشرات الرسائل الإلكترونية من قراء يرثون فيها
لحالهم، فحتى وهم مسلَّحون بالقلم، يتجاوزهم النص ويفلت منهم. وتحداني كثيرون من
بينهم قائلين: "قل لنا كيف تقرأ رواية والقلم في يدك".
حسن، لا أريد أن أبدو كمن يقدم وصفة. فكلنا
نقرأ من مواضع مختلفة، ومن خلفيات متباينة، ولقائي ببروست أو وولف أو ليديا ديفيس
أو جيه إم كوتزي لن يكون كلقاءاتكم بهم، ولا ينبغي له. وفي المقابل، أومن أن
القراءة مهارة وفن وليست بأي حال فعل استيعاب سلبيا. لقد كان بورخيس كثيرا ما يقول
إنه في المقام الأول والأكبر قارئ محترف، لا كاتبا، وكان زعمه هذا تباهيا لا
اعترافا، ويقينا أن مقالاته البديعة في غيره من الكتَّاب، وهي ثمار قراءته، هي على
أقل تقدير منجزات في مثل جودة قصصه. وإذن لو كانت القراءة مهارة، ، فلا بد أن ثمة
تكنكيات وأدوات يمكن للجميع استخدامها وتجريبها، وإن تباينّا في استخدامها.
والخبرة مهمة. فليس بيننا من يولد
قارئا ماهرا. فلو أنك نفسك تكتب كثيرا، فبديهي أنك تزداد وعيا بتأثيرات معينة يمكن
تحقيقها أو اجتنابها وبتطبيقك هذا عبر السنين تتنامى حساسيتك. وفي حالتي كانت
الترجمة مهمة. فقد جئت إلى إيطاليا وأنا في الخامسة والعشرين، وبالعيش في لغة
ثانية، صرت أوعى بكيفية دفع اللغة للتفكير وصياغتها إياه. وظلت الترجمة تدفعني ـ
هي وتدريسها ـ إلى تفكيك النصوص قطعا صغيرة ثم تركيبها من جديد معا بلساني أنا.
صرت شديد الوعي بعناصر الأسلوب، وإن يكن السبب الوحيد لذلك هو التوتر بين عادات
الكاتب وعاداتي أنا. وترجمتي النصوص بالتعاون مع الطلبة أفادتني في اكتشاف كل ما
يرونه ولا أراه.
ولن يكون في ذلك نفع كبير لمن لا
يكتبون، أو يترجمون، أو يدرِّسون. وعليه، ووفاءً للوعد الذي قطعته على نفسي لم
كتبوا إليّ، سأجرب أن أقول كلمات قلائل عن طريقتي في قراءة الرواية.
فيما أغوص في الصفحات الأولى، يكون السؤال
الأول الذي أطرحه على نفسي هو ما المزايا أو القيم الأهم لدى هذا الكاتب، أو في
هذه الرواية على الأقل؟ أبدأ رواية "تسوكورو عديم اللوان وسنوات حجه"
لموراكامي فإذا بها للوهلة الأولى عن رجل أقصته مجموعة من الأصدقاء دون أن يعرف
لذلك سببا، فتلقيه هذه الواقعة في اكتئاب يبدو غير متناسب مع الضرر الذي لحق به.
ومن ثم أبدأ في البحث عن كل ما يتعلق بالمجتمع والانتماء، وعلاقة الفرد بوسطه،
وبالوحدة والرفقة. وأضع خطوطا تحت كل كلمة ذات علاقة بهذا الحقل المعجمي. هل
المجتمع إيجابي أم سلبي أم فيه من هذا وذاك؟ هل للإقصاء مزايا، وإن كان مؤلما؟ هل
تفرز الوحدة والاكتئاب قوة، وإبداعا؟ هل الكتاب يتبنى موقف الشخص المنبوذ هذا؟
أو أبدأ رواية لهمنجواي فأرى على
الفور بشرا يخاطرون، ويرغمون أنفسهم على أفعال تستوجب الشجاعة، أفعال استقلال، في
عالم يوصف أنه خطِر لا يحفل بمصائر البشر. أتساءل عما لو كان أهم للمرء أن يعد
شجاعا من أن يعد عادلا أو خيِّرا، عما لو كانت الشجاعة أهم من الفوز، أو أهم من
الزمالة. أهي قيمة مهيمنة؟ وأراقب كيف ترى كل شخصية نفسها قياسا إلى الشجاعة.
وأحيانا تتيح لك قراءتك من خلال الكتاب الإلكتروني فرصة لطيفة وهي أن تجري بحثا عن
كلمة معينة: كالخوف أو القوة في هذه الحالة، والوحيد والوحدة عند موراكامي. فترى
جميع طرق استخدام الكلمة وعلى من تنطبق من الشخصيات. والكتب الإلكترونية توفر
للقارئ بلا شك أدوات جديدة للنيل من رواية.
ما المناخ العاطفي الكامن وراء السرد؟
هذا هو السؤال الذي يفترض أنني أطرحه ـ وما الجدل الناجم بالتبعية عن ذلك المناخ؟
عندما أبدأ في قراءة كوتزي أو مارلن روبنسن [الروائية الأمريكية صاحبة جلعاد]
سرعان ما يبدو لي أن الأهم هو الخير والشر، وهو عثور المرء على سبيل لأن يكون
خيّرا برغم اعترافه بشهوة الانحراف. ولكن نبرتيْ هذين الكاتبين لا يمكن أن يكونا
أشد اختلافا مما هما. لماذا؟ من جديد أنظر إلى الكلمات والتعبيرات التي تتعلق بهذه
الخصال وأضعها في علاقاتها ببعضها البعض. حينما أقرأ [الروائية الأسكتلندية] ميريل
سبارك أجدني على الفور أمام شخصيات تحاول الهيمنة على بعضها البعض وتسعى إلى خداع
بعضها البعض. أجد الحياة تنافسا وصراعا. كل رواية لسبارك معركة نشاهد من ينتهي
فيها على القمة. وأنأ أحاول أن أعرف من الذي أنجذب إلى صفه في هذه الحرب ولماذا.
وبسرعة شديدة يتبين أن الشخص الذي سوف ينتهي على القمة هو في الحقيقة ميريل سبارك
نفسها.
وليس من السهل دائما الوقوف على القيم
التي تنتظم من حولها الرواية، فقد أغيّر رأيي مرتين أو ثلاثا. لكن لنقل إن مجرد
السعي إلى ذلك يعطيني شيئا أبحث عنه. بعد ذلك تتمثل الخطوة التالية في التساؤل عن
الرابط بين مجالات القوى هذه ـ الخوف /الشجاعة، الانتماء/الإقصاء، السيطرة/الخضوع
ـ وأسلوب الكتاب، أي الطريقة التي تتكشَّف بها الحبكة. كيف يحاول الكاتب أن يجذبني
إلى العالم الذهني لشخصياته من خلال الكتابة، وعبر حواره معي؟
[الروائي النرويجي] بير بيترسن يفتتح
روايته "سرقة الخيل" بطائر ينقر بعنف على شباك كوخ الراوي البعيد ثم
يسقط وقد أصابه الدوار في جليد المساء. ويلاحظه الشيخ ترون ساندر من داخل الكوخ
الدافئ فيقول "لا أعرف ما الذي يريدونه عندي". عالم الطبيعة لغز، وخطر
محتمل. الاصطدام والموت والبرد القارس هو العادي. ويعرف القارئ على الفور أن ثمة
أمرا رهيبا سوف يحدث، وأن الكارثة الوشيكة سوف تقدم نفسها لغزا غامضا. ينتابنا
القلق على تروند، بل وعلى أنفسنا. وسرعان ما نقرأ عن التعاسة. وبالمثل، قد تكون
القراءة عن شقاءات غيرنا ونحن آمنون منها خارج الكتاب متعة، كما قد تكون مشاهدة الطقس
البشع متعة ونحن آمنون في دفء كوخ. نهنأ بأمننا مقارنة مع ورطة تروند. إن بيترسن
يركز على العالم المادي، مقدما من الشخصيات من يعرفون كيفية الاحتطاب، وإقامة
الأكواخ، وإضرام النار، بما يجعل المرء يرى في الكتاب نفسه، بجمله القصيرة
المصقولة، وفقراته المقامة باعتناء، ملاذا من نوع ما في قلب عالم خطِر.
طرح هذه الأسئلة يمثل في أفضل الحالات
عملا مخاتلا، ولكنه لهذا السبب بالذات عمل مثير وآسر. فهو يوجّه القلم الذي بين
أيدينا، يوجه فعل القراءة النشط. ولأستعن الآن بمثال من كتاب يعرفه الجميع.
تخيلوا أننا نقرأ عوليس للمرة الأولى.
ما موضوع هذه الرواية؟ في الصفحات الافتتاحية يهزل ستيفن ديدالوس مع باك موليجن
ويباريه. هي معركة على الطرافة. كلٌّ يحاول أن يبزّ الآخر فكريا. يخشى ستيفن أن
يبدو كخادم لباك إن هو أحضر له أدوات الحلاقة التي نسيها بالخارج. ستيفن لا يريد
أن يخدم، أن يكون تابعا، كما لا يريد أن ينهزم في معركة الطرافة. وهو وباك يشعران
أنهما أرقى من الإنجليزي هايمان، ويشعران بالاستياء من حقيقة أن الظروف والتاريخ
يتيحان لإنجليزي أن يشعر أنه أرقي من أيرلندي. ستيفن يشعر بالضيق من إظهار المرأة
التي تأتي بالحليب لمزيد من الاحترام لباك لأنه يدرس الطب لا الأدب. وستيفن، بعمله
في التدريس، يكون في وضع يسمح له بسهولة أن يشعر أنه أرقى من تلاميذه، لكنه يضطر
أن ينحني للمدير برغم شعوره أنه أدنى منه. الناس هنا تقاس بمهارتها، وحساسيتها.
ويحظون بالتعاطف لكونهم أذكى وأكثر حساسية من المهيمنين عليهم اجتماعيا واقتصاديا.
هذا عن القسم الأول. حيث الأسلوب جامح
الطموح، الذي يبلغ ذروته الشعرية داخل رأس سيتفن، وجيث يضع هذا الأسلوب السردَ ـ
وربما جويس نفسه ـ في صف ستيفن وبراعته، وتأذِّيه. ويجعلنا نحن في صفه أيضا. غير
أن الأسلوب بالفعل بالغ البراعة، عامر بالجزالة، والصور، والموسيقية، بحيث لا يُبقي
شكا في أننا إذا قسنا أنفسنا على جويس بالطريقة التي يجعل بها شخصياته تقيس أنفسها
على بعضها البعض فإننا يقينا أدنى منه. فجويس أبرع منا مع الكلمات وهو يريد أن
ينقل إلينا هذا الإحساس، مثلما يريد ستيفن أن يُشعِر باك بأفضليته عليه. في
المقابل، يريدنا جويس أن نشتري الكتاب، مثلما سيسعى ستيفن وباك إلى الحصول على مال
من هاينز بأن يبيعا له صيغا بارعة في احتقارها لكيفية اختزال الفن الأيرلندي إلى
"كأس بادي التصدع في يد خادم".
ولست أقول إننا بلغنا بهذا قلب عوليس، ولكن
لدينا الآن شيئا نفكر فيه وسبيلا إلى النص. يبدو الكتاب معنيا إلى حد كبير بتأسيس
هيراركية بين الناس لا تكون فيها القيمة المهمة هي التي يدركها المجتمع. والحق أن
الفصل الثاني يبدأ ببلوم وهو يخدم زوجته في تنسك ـ في حين يتمنَّع ستيفن على
الخدمة ـ لولا أن مولي تصادف كلمة “metempsychosis,” فتضطر أن تسأل زوجها عن معناها. بلوم ـ شأن
ستيفن ـ أرقى عقلا، لكنه لا يتعالى على الخدمة، بما أنه لا يخدم غير زوجته، برغم
أنه يعلم أنها تخطط لخيانته.
وفي حين تجري عملية قياس الشخصيات على
بعضها البعض، وقياس الكاتب كذلك على
القارئ، ثمة سؤال حاسم آخر يعتمل في رأسي. أهذه الرؤية للعالم مقنعة؟ أهي مأساة
فعلا يا موراكامي أن يقصيك أربعة أصدقاء عن دائرتهم؟ ولو كانوا فعلوا ذلك بحق فهل
كان شخص غير تسوكورو تازاكي ليقوم بنفس رد الفعل؟ هل صحيح فعلا يا همنجواي أن
الشجاعة بهذه الأهمية وأن العالم لا يبالي؟ هل معقول يا جويس أن تستخدم الطرافة
والحساسية الجمالية طول الوقت مقياسا بين البشر وبعضهم البعض؟ باختصار، هل هذه
هموم حقيقية، أم هي مجرد ذرائع لـ"ممارسة الأدب"؟
ولو أن هناك شيئا واحدا لا أحبه، وذلك
أمر يكشف لكم عني أكثر مما يكشف عن الكتب التي أقرؤها، فهو الشك بأن كل ذلك
البنيان ما أقيم إلا بدافع من الانتهازية، بدافع من الرغبة في كتابة عمل أدبي.
ولكن كيف للمرء أن يغامر بتقييم أصالة رواية والحكم عليها؟ هذه مسألة أرجؤها
لمقالة قادمة.
عن مدونة نيويورك رفيو أوف بوكس. نشرت الترجمة في جريدة عمان بتاريخ 21 ديسمبر 2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق