الثلاثاء، 17 يونيو 2014

ما وراء الصدق والكذب

تمتلئ الفلسفة البوذية بالتناقضات. واليوم يتعلم المنطق الحديث كيف لذلك أن يكون أمرا طيبا

ما وراء الصدق والكذب
جراهام بريست

لم ينظر فلاسفة الغرب، في الإجمال، إلى الفكر البوذي بكثير من الحماس. فهو، مثلما قالها لي أحد الزملاء ذات مرة، "محض صوفية". ويرجع  هذا الموقف جزئيا إلى الجهل. لكنه يرجع أيضا إلى عدم الفهم. فحينما ينظر فلاسفة الغرب جهة الشرق يجدون أشياء لا يفهمونها، وليس أقل ذلك أن الموروثات الآسيوية فيما يبدو تتقبل التناقضات إن لم تكن تقرُّ بها. ومن ثم نرى فيلسوف القرن الثاني البوذي ناجارجونا يقول: إن طبيعة الأشياء هي أن لا تكون لها طبيعة، ولاطبيعةُ الأشياء هي طبيعتها. ذلك أن للأشياء طبيعة واحدة هي اللاطبيعة.
وكراهية التناقض دِينٌ في الغرب منذ ما يربو على ألف عام. ومن ثم فأقوال كقول ناجارجونا هذا لا تروم إلا إنتاج حالة من الخواء وعدم القدرة على الاستيعاب، أو ما هو أضلُّ من ذلك سبيلا. ولقد أعلنها ابن سينا أبو الأرسطية القروسطية إذ قال إنه: لا بد من ضرب كل منكِرٍ لقانون عدم التناقض ولسعه بالنار حتى يقرّ أن الضرب ليس كاللاضرب، وأن اللسع بالنار ليس كاللالسع بالنار.
وللمرء أن يسمع مثل هذا الكلام، بما لا يقل عنه من غضب، في القاعات الجامعية اليوم. لكن فلاسفة الغرب يتعلمون، وإن ببطء، أن يتجاوزوا ضيق أفقهم. ويعينهم على ذلك مدد يأتيهم من أبعد الموارد احتمالا: أعني المنطق الرياضي الحديث، وما هو بالمجال الشهير بتسامحه مع الغموض.
ولنبدأ بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. نحن الآن في الهند في القرن الخامس قبل الميلاد، في عصر البوذا التاريخي، ويبدو أن ثمة مبدأ غريبا في التفكير يشيع استخدامه. هذا المبدأ يسمى الكاتوسكوتي، بمعنى "الأركان الأربعة". ويصرُّ هذا المبدأ على أن لكل قول أربعةَ احتمالات: فقد يكون صادقا (صادقا وحسب)، أو كاذبا (كاذبا وحسب)، أو صادقا كاذبا معا، أو لا صادق ولا كاذب.
نعرف أن الكاتوسكوتي كان شائعا بسبب أسئلة معينة طرحها الناس على بوذا في محاورات وردت إلينا عبر نصوص السوترا sutras المقدسة. أسئلة من قبيل: ما الذي يحدث للمستنيرين بعدما يموتون؟ وكان الافتراض الشائع هو أن غير المستنير يظل يولد من جديد، في حين أن مغزى الاستنارة كله هو الخروج من هذه الحلقة المفرغة الشريرة. ثم ماذا؟ هل يكون المستنير بعد موته موجودا، أم لا، أم موجودا وغير موجود معا، أم لا هذا ولا ذاك؟ وكان خلصاء بوذا يتوقعون منه بوضوح أن يقر احتمالا واحدا، وواحدا فقط من تلك الاحتمالات. وكذلك كان الناس في ذلك الزمان يفكرون.
في الوقت نفسه تقريبا، وعلى بعد خمسة آلاف كيلو متر باتجاه الغرب، في أثينا القديمة، كان أرسطو يرسي أسس المنطق الغربي وفقا لمسارات بالغة الاختلاف. فكان من بين ابتكاراته قاعدتان لهما أهمية خاصة. إحداهما "مبدأ الوسط المستبعَد" التي تنص على أن كل زعم إما أن يكون صادقا أو كاذبا وليس ثمة أي احتمال آخر (واسم هذه القاعدة باللاتينية، tertium non datur ، يعني "الثالث المرفوع"). والقاعدة الثانية هي مبدأ عدم التناقض" لا يمكن لشيء أن يكون صادقا وكاذبا في الوقت نفسه.
دافع أرسطو في "الميتافيزيقا" عن كلا المبدأين ضد عدوان هيراقليطس (المكنّى بـ "الغامض"). غير أن حجج أرسطو لسوء الحظ مشوهة ـ وهذا من قبيل التلطف في القول ـ لدرجة أنه يصعب على الدارسين المحدثين أن يقولوا ما الذي يفترض بها أن تكون. ومع ذلك نجح أرسطو في إدخال مبدأي الوسط المستبعد وعدم التناقض إلى رحاب العقيدة الغربية فبقيتا فيها منذ ذلك الحين. ولم يجرؤ غير ذوي الأرواح الجسورة، وأبرزهم هيجل في القرن التاسع عشر، على التفكير في تحديهما. ويصعب اليوم على كثير من أحفاد أرسطو الفكريين أن يتخيلوا العالم بدونهما.
ومن هنا يكافح المفكرون في الغرب ـ حتى المتعاطفون منهم مع الفكر البوذي ـ ليفهموا كيف لشيء مثل الكاتوسكوتي أن يكون ممكنا. فالأمر لا يتعلق فقط بـ "الثالث" المرفوع، لأن في هذا المبدأ رابعا، وهذا الرابع يمثل تناقضا. فكيف يمكن أن نعقل هذا؟
حسن، تبيِّن لنا التطورات المعاصرة التي شهدها المنطق الرياضي بيانا دقيقا كيف نفعل هذا. بل إن ذلك في واقع الأمر غير صعب على الإطلاق.
في لب هذا التفسير، ينبغي للمرء أن يفهم تمييزا رياضيا شديد الأساسية. وأتكلم هنا عن الفارق بين النسبة relation  والدالة  function. النسبة شيء يربط بين شيء من نوع معين وعدد من الأشياء الأخرى (هي صفر، واحد، اثنان، إلى آخره). أما الدالة فنوع خاص من النسبة تربط كل شيء بشيء معين. وافرضوا أننا نتكلم عن ناس. الأم والأب دالتان، لأن لكل شخص أمًّا (بيولوجية) واحدة وأبا (بيولوجيا) واحدا. لكن الابن والابنة نسبتان، إذ بوسع الأبوين أن يكون لهما أي عدد من الأبناء والبنات. الدوال تعطي نتاجا فريدا، بينما تعطي النسب أي عدد ممكن من النتاجات. احفظوا هذا الفارق في أذهانكم، فسنرجع إليه كثيرا.
والآن، في المنطق، يكون المرء مهتما بصفة عامة بما إذا كان زعم  ما صادقا أم كاذبا. ويطلق المناطقة على الصادق والكاذب مصطلح قيم الحقيقة. بشكل طبيعي، ووفقا واتباعا لأرسطو، يفترض أن "قيمة الشيء" دالة، وأن قيمة أي فرد هي واحدة، إما صادقة (ص) أو كاذبة (ك). وعلى هذا النحو، يكون مبدأ الوسط المستبعد ومبدأ عدم التناقض قائمين ابتداء على قالب رياضي. ولكنهما لا يحتاجان إلى هذا.
ولكي نرجع إلى شيء يمكن أن يدركه بوذا ، فكل ما نحن بحاجة إليه هو أن نحيل "قيمة شيء" إلى نسبة بدلا من دالة. وهكذا قد يكون ك قيمة جملة، أو ص، أو الاثنان، أو لا شيء من كليهما. لدينا الآن أربعة احتمالات هي {ص} ، و{ك}، و{ص + ك} و{ }. والأقواس المتلوية هذه بالمناسبة تشير إلى أننا نتعامل مع مجموعات من قيم الحقيقة لا مع مفردات، وهو ما يلائم نسبة أكثر مما يلائم دالة. يشير القوسان الأخيران إلى ما يطلق عليه علماء الرياضيات المجموعة الخالية، وهي مجموعة فارغة، كمجموعة البشر ذوي السبعة عشر ساقا. وسيكون مألوفا في الرياضيات أن نمثل قيمنا الأربعة باستخدام ما يعرف بشكل هاسه، على النحو التالي.
{ص}

{ص + ك}         { }

{ك}
وهكذا تظهر أربعة أركان (كوتيس) الكاتوسكي أمامنا.
ولئن بدا هذا من قبيل الدفاع عن البوذية، فينبغي أن أذكر أن المنطق الذي وصفته للتو يسمَّى استلزام الدرجة الأولى  First Degree Entailment (FDE). وقد تأسس أصلا في ستينيات القرن العشرين في حقبة سمِّيت بـ المنطق المتصل relevant logic. ولا ينبغي أن يشغلنا ما الذي يعنيه المنطق المتصل بالضبط، ولكن المنطقي الأمريكي "نويل بيلناب" ذهب إلى أن نظام استلزام الدرجة الأولى هو نظام معقول لقواعد البيانات التي قد يتم تغذيتها ببيانات متضاربة أو منقوصة. وغاية القول من كل ذلك أنه لا علاقة للبوذية بشيء من هذا كله.
ومع ذلك فقد تتساءلون كيف لشيء مهما يكن أن يكون صادقا وكاذبا معا، أو غير صادق وغير كاذب معا. والواقع أن الفكرة التي يزعم البعض أنها لا صادقة ولا كاذبة فكرة شديدة القدم في الفلسفة الغربية. وأرسطو نفسه، ولا أحد غيره، ضرب لنا مثالا لها. ففي الفصل التاسع المغمور بعض الشيء من كتابه "العبارة"  De Interpretatione يزعم أن الأقوال المشروطة contingent statements  المتعلقة بالمستقبل، كأن يقال إن "بشر القرن الثاني والعشرين سيكونون جميعا من الأفارقة"، لا هي صادقة ولا كاذبة. فالمستقبل لم يتحدد بعد. وكثير مما يقوله في "الميتافيزيقا" كذلك.
إن النظرية القائلة بأن بعض الأشياء قد تكون صادقة وكاذبة معا هي نظرية خارجة كثيرا على المعتقد الفكري الغربي الراسخ. ولكننا قد نجد هنا بعض الأمثلة المعقولة. وانظروا في "مفارقة الإشارة إلى الذات"  ‘paradoxes of self-reference’الشهيرة، وأقدمها المفارقة التي يشتهر عن أيبوليدس  Eubulides  اكتشافها في القرن الرابع قبل الميلاد، ويطلق عليها "مفارقة الكاذب". وإليكم أشهر تعبير عنها: هذا الجملة كاذبة.
أين تكمن المفارقة. لو أن الجملة صادقة، فلا بد أن تكون كاذبة. ولو أنها كاذبة، فلا بد أن تكون صادقة. ومن ثم فهي فيما يبدو صادقة وكاذبة معا.
وكثير من الألغاز المماثلة ظهر في أواخر القرن التاسع عشر، ليغتم بظهورها باحثون كانوا يحاولون في ذلك الوقت أن يضعوا الرياضيات بجملتها على أسس صلبة. وكان زعيم هذه الجهود هو "برتراند راسل" الذي اكتشف سنة 1901 أشهر هذه المفارقات (ومن ثم فقد سميت مفارقة راسل)، وتأتي على هذا النحو:
بعض المجموعات هي عناصر في أنفسها، فمجموعة المجاميع على سبيل المثال مجموعة، ومن ثم فهي تنتمي إلى نفسها. ولكن بعض المجاميع ليست عناصر في أنفسها. فمجموعة القطط على سبيل المثال ليست قطة، فهي ليست عنصرا في مجموعة القطط. ولكن ماذا عن "مجموعة كل المجاميع التي ليست عناصر في أنفسها"؟ لو أنها عنصر في نفسها، فهي ليست عنصرا في نفسها. ولو أنها ليست عنصرا في نفسها، فهي عنصر في نفسها. مع السلامة إذن يا مبدأ عدم التناقض. الكاتوسكوتي وصل.
لعلكم بحاجة الآن إلى وقفة لفحص سريع للسلامة العقلية. هل هذه السيناريوهات تكسر فعلا سلاسل المنطق الأرسطي؟ حسن، من المناطقة عدد متزايد ممن يذهبون هذا المذهب، ولو أن الأمر يبقى جدليا بدرجة كبيرة. ولكن نفع هذه الأمثلة ـ إن لم يكن لها نفع آخر ـ يتمثل في أنها قد تزيل الغيم المفروض على ما يسميه فيتجنشتاين بـ "الغذاء الأحادي" من الأمثلة. فسنكون بحاجة إلى أن نزيح الغمام ونحن نرجع إلى هذه الأسئلة المحيرة التي طرحها على بوذا خلصاؤه. ففي نهاية المطاف: ما الذي يحدث لمستنير بعد الموت؟ وابتداء من هنا سوف تنحو الأمور منحى أكثر إزعاجا.
كان البوذا في واقع الأمر يرفض الإجابة على مثل هذه الأسئلة. فيكتفي في بعض النصوص بأن يقول إنها مضيعة للوقت: وما أنتم بحاجة أن تنشغلوا بها وصولا إلى الاستنارة. ولكن في نصوص أخرى ما يشي بأن هناك ما هو أكثر من ذلك. فبرغم أن الفكرة غير مفصلة تفصيلا حقيقيا على الإطلاق، تبقى ثمة تلميحات إلى أن جميع احتمالات الكاتوسكوتي لا "تناسب القضية".
لوقت طويل، ظل اللغز كامنا داخل الفلسفة البوذية. ولم يحدث إلا قرابة القرن الميلادي الثاني أن تصدى له نجارجونا الذي يعد أكثر فلاسفة البوذية تأثيرا بعد بوذا نفسه. كانت كتابات نجارجونا تدافع عن نسخة جديدة من البوذية بدأت تظهر في ذلك الوقت، هي المهايانا Mahayana. وكان من الرؤى المركزية في تعاليمه أن الأشياء "خاوية" (سونايا sunya). وهذا لا يعني أنها غير موجودة، بل أنها ما هي إياه بسبب كيفية ارتباطها بأشياء أخرى. ومثلما يبيِّن المقتطف الوارد في مستهل هذه المقالة، فطبيعة الأشياء هي ألا تكون لها طبيعة جوهرية (وأترك للقارئ مهمة التأمل في عقلنة هذا الزعم وفقا للمنطق الدقيق، مكتفيا بقولي، إن المهمة قابلة للإنجاز).
أهم كتابات نجارجونا هي الـ مولامادياماكاكاريكا أو Mulamadhyamakakarika "الأبيات الأساسية في الطريق الوسطى". هذا هو الكتاب العميق الغامض، الذي تقوم فكرته الأساسية بدقة على أن كل شيء خاو. وفي معرض عرضه حججه، غالبا ما يمر نجارجونا بأربعة أركان الكاتوسكوتي. فضلا عن قيامه في بعض الأماكن بالتصريح الواضح بأن ثمة مواقف لا تنطبق عليها أي من الاحتمالات الأربعة. فهي لا تشمل وضع الشخص المستنير بعد الموت، على سبيل المثال.
ما الذي يجعل ذلك ممكنا؟ غائم منهج نجارجونا في التفكير، لكنه في جوهره يبدو قريبا من النحو التالي. إن اللغة التي نستخدمها تؤطر واقعنا المعهود (أو الـ ليبنزفيلت [عالم الحياة]، بحسب ما يطلق عليه في التراث الفينومينولوجي الألماني)، ومن بعد ذلك هناك الواقع المطلق، كحالة الميت المستنير. وبوسع المرء أن يخبر هذا خبرة مباشرة من خلال حالات تأملية معينة، وإن لم يتسن لأحد وصفه. وقول أي شيء عنه لن ينجح إلا في جعله جزءا من واقعنا المعهود، فهو من ثم عصي على الكلام ineffable. وليس بوسع أحد، بصفة خاصة، أن يصفه معتمدا على أي من احتمالات الكاتوسكوتي الأربعة.
عندنا الآن احتمال خامس. فلنكتب الاحتمالات الأربعة {ص}، و{ك}، و{ص ـ ك}، و {}، و ص ك  ث ي [حيث ثاء اختصار إلى "الاثنان" أي ص وك معا، و ياء ترمز إلى "أي منهما أو لا صاد ولا كاف]. الطريقة التي كوّنَّا بها المجموعات من قبل، كانت "قيمة الشيء" نسبة والمجموعات احتمالات تناسب كل قول بها. ولكن كان بوسعنا أن نأخذ "قيمة الشيء" كدالة وأن نتيح لـ ص و ك و ث و ي أن تكون القيم التي يمكن أن تتخذها الدالة. والآن هناك احتمال خامس، لا شيء مما سبق، العصي على الكلام، ما يقع من وراء اللغة. ولنطلق عليه الـ ع.(وبشكل مباشر، هي حالات عصية على الكلام، ليست مزاعم، ومن ثم فلا بد من التفكير في قيمنا بوصفها قيم حالات، ولكن دعونا نعبر هذا خفافا).
لو أن شيئا عصيا على الكلام، هو ع، فهو يقينا لا صادق ولا كاذب. ولكن كيف لـ ع أن يختلف عن ي [أي ما ليس بصادق وليس بكاذب]؟ لو أننا ننظر إلى قضايا مفردة، فمن الصعب بمكان أن نعيِّن الفارق، ولكن التقابل يغدو في غاية الجلاء عندما نربط بين جملتين.
انظروا إلى جملة "الغربان تطير والخنازير تطير" تروا أنها مؤلفة من مزعمين متمايزين منصهرين معا بـ "واو: العطف. والتعبيرات المصاغة بهذه الطريقة تسمَّى القياسات conjunctions ، والمزاعم المفردة التي تؤلفها تسمى المقدمات conjuncts. ولا يصدق القياس conjunction  ما لم يصدق كلا طرفيه. وذلك معناه أنه يكون كاذبا لو كان أحد طرفيه كاذبا. ومن ثم فـ "الغربان تطير والخنازير تطير" كاذب إجمالا لكذب الـ المقدمة الثانية وحدها. وبالمثل لو أن س هي أي جملة لا صادقة ولا كاذبة، فهذا معناه أن "س والخنازير تطير" كاذبة. في المقابل، لو أن س عصية على الكلام، فإن "س والخنازير تطير" عصية على الكلام أيضا. وفي النهاية، لو أن بوسعنا التعبير عن القياس، فبوسعنا التعبير عن س أيضا، وهو ما ليس بوسعنا. وإذن فإن ع  و ث لهما سلوكان مختلفان في قياسين: ص  تعلو على  ث و ع تعلو على ص.
ما وصفته للتو مثال من أمثلة كثيرة للمنطق القيمي، لكنه ليس شائعا. هذه المناطق ابتدعها المنطقي البولندي "جان لوكازيفيتش" في عشرينيات القرن الماضي. ولقد تصادف أن كان دافعه يتمثل في حجج أرسطو المتعلقة بالمستقبل وأنها لا صادقة ولا كاذبة. ولكي يعقلن هذه المطالب أتى لوكازيفيتش بقيمة الحقيقة الثالثة. وإنه لمن المذهل لنا كيف أن هذه الابتكارات أثبتت نفعا في سياق الميتافيزيقا البوذية، برغم أنني أكرر أن البوذية لم تلعب أي دور في الإيحاء بها، فلقد كانت ابتكاراته تلك كلها نتاجا للإرث الفلسفي الغربي.
في الناحية الأخرى، لو كان لوكيزفيتش أراد حقا أن يصارع الفكر البوذي، لما توقف بمناطقه كثيرة القيم. ولعلكم رأيتم بالفعل ما الذي سيكون عليه ما يلي ...
فلاسفة تراث ماهايانا قبضوا على بضعة أشياء عصية على الكلام، ولكنهم بيَّنوا أيضا لماذا هي عصية على الكلام، بمثل الطريقة التي بينتها بها تقريبا. والآن، ليس بوسعكم أن تبينوا شيئا عصيا على الكلام دونما كلام عنه. وفي هذا تناقض واضح: الكلام عن الذي يستعصي على الكلام.
لم يكن نجارجونا بأية حال الوحيد الذي علق في هذه الورطة المحيرة. فلقد قال كبير كبار التنوير الألماني "إيمانويل كانط" إن هناك أشياء لا يمكن اختبارها (noumena)، وهي أشياء ليس بوسعنا الكلام عنها. وبيَّن سر هذا فقال إن مفاهيمنا لا تنطبق إلا على أشياء يمكننا اختبارها. وهكذا فهو بوضوح في نفس مأزق نجارجونا. وكذلك اثنان من كبار فلاسفة الغرب في القرن العشرين. فقد زعم لودفيج فيتجنشتاين أن أشياء كثيرة يمكن عرضها لا قولها، وألّف كتابا (هو الـ the Tractatus) يبيّن فيه الماهية والسبب. ومارتن هيدجر نفسه الذي اشتهر بتساؤله عن ماهية الكينونة، هو الذي قضى بقية عمره يبيِّن لماذا لا ينبغي طرح السؤال عنها. قولوا عن هذا صوفية إن شئتم، فليس لهذه اللافتة من المعنى نصيب كبير. ولكن مهما قلتم عنه، فهو وفير في الفلسفة، شرقيها وغربيها.
على أية حال، ما الذي فعله نجارجونا في هذه المشكلة؟ ليس الكثير. لم يعلِّق عليها أصلا. ولعل هذا غير مدهش: فلقد كان يرى ـ في نهاية المطاف ـ أن هناك أشياء يجتمع لها في وقت واحد الصدق والكذب. لكن فلاسفة البوذية المتأخرين حاولوا جادين التملص من هذه الورطة، ومن أولئك فيلسوف القرن الخامس عشر التبتي المهم جورامبا.
كان جورامبا يشعر بالانزعاج من هذا الوضع فحاول التمييز بين واقعين مطلقين: الواقع المطلق الحقيقي، وهذا عصي على الكلام، والواقع المطلق الضئيل وهو ما ينتهي بنا الحال إلى الكلام عنه حينما نحاول الكلام عن المطلق الحقيقي. لكن تمهلوا هنا لحظة ـ إن الواقع المطلق الضئيل يسير على الكلام بوضوح: هو تعريفا الواقع الذي يمكننا الكلام عنه. في هذه الحالة، لو قلنا إن الواقع المطلق هو العصي على الكلام ونحن نتكلم فعليا عن المطلق الضئيل، فهذا الذي نقوله كاذب. ومن هنا فطرح جورامبا يدحض نفسه.
من المثير أن نرى كانط وقد خطا خطوة مماثلة. فميَّز بين فكرتي الناومينون noumenon ـ عالم ما وراء الحواس: فكرة إيجابية وأخرى سلبية، والسلبية فقط ـ بحسب كانط ـ هي الشرعية.  ليس بوسعنا الكلام عن أشياء من هذا النوع، كل ما نحتاج إليه أن نكون على وعي بها لنعرف حدود ما يمكننا الكلام عنه. نعم؟ وبشرح ما تفعله هذه الأشياء، ألسنا نتكلم عنها؟ ، حسن، بلى، نتكلم عنها بالطبع.
ورطة جورامبا/كانط في واقع الأمر ورطة حتمية. فلو أن أحدا يرغب في شرح سر استعصاء شيء ما على الكلام، فلا بد من الإشارة إليه وقول شيء ما عنه. والإشارة إلى شيء آخر ليست إلا تغييرا للموضوع.
وبذلك نكون اصطدمنا بمشكلة جديدة: التناقض الضمني في الكلام عما يستعصي على الكلام. بمعنى ما، واحتمالية صدق التناقض قائمة بالفعل في أحد احتمالات الكاتوسكوتي، أعني احتمال الـ ث. (ولا يستطيع مفكرونا الغربيون أن يصلوا إلى قول هذا). لكن تناقضنا للأسف من نوع خاص. فهو يقتضي شيئا يحتمل كل من قيمتي الصادق والعصي على الكلام، وهذا في حدود الفهم المتاح مستحيل.  غير أن موارد المنطق الرياضي لا تنضب بهذه السهولة.
لقد صادفنا، في واقع الأمر، شيئا كهذا من قبل. لقد بدأنا بقيمتين محتملتين ص و ك. ولكي نتيح للأشياء أن تحمل كلتا القيمتين، نحيل ببساطة قيمة الشيء إلى علاقة، لا دال. والآن لدينا خمس قيم محتملة: ص، ك، ث، ي، ع [عصي على الكلام]، وافترضنا أن قيمة الشيء دال يحتمل واحدة بالضبط من هذه القيم. فلم لا نقيم علاقة بدلا من ذلك؟ فيتيح لنا ذلك أن نربط بين شيء وأي عدد من هذه القيم الخمسة (مما يعطينا 32 احتمالا، لو حسبتموها). في هذه البنية، يمكن لشيء أن يرتبط بكل من ص و ع، وبذلك يمكن للمرء أن يقول شيئا صادقا عن شيء عصي على الكلام.
التكنيك الذي نستخدمه هنا يسمَّى "المنطق التعددي" plurivalent logic ، وقد اخترع في ثمانينيات القرن الماضي في سياقات متصلة بمفارقات الإشارة إلى الذات سابقة الذكر. من هذه المفارقات في واقع الأمر واحدة ليست موغلة في البعد عن ورطتنا الحالية، ورطة الاستعصاء على الكلام. هي مفارقة تسمى بمفارقة كونيج، باسم الرياضي المجري "يوليوس كونيج" الذي كتبها سنة 1905، وموضوعها الأرقام الترتيبية.
الأرقام الترتيبية هي الأرقام الممتدة المألوفة صفر واحد اثنان  ثلاثة وإلى ما لا نهاية. وبعد أن نصل إلى نهاية جميع الأرقام (التي لدينا منها طبعا ما لا نهاية له)، يبقى هناك رقم تالٍ هو الـ ω ، ثم الـ ω+1، وهكذا إلى الأبد. هذه الأرقام الترتيبية تشترك في سمة مثيرة مع الأرقام العددية وهي أنه: في كل مجموعة منها، إذا كان هناك أي أعضاء على الإطلاق، فلا بد أن يكون هناك على الأقل عضو واحد. ومن المزعج فلسفيا ورياضيا أن نسأل إلى أي مدى يمكن أن تذهب الأرقام الترتيبية. ومع ذلك هناك حقيقة واحدة لا جدال فيها وهي أن: هناك من الأرقام الترتيبية أكثر مما يمكن أن يشار إليه باستخدام جملة اسمية بلغة محدودة المفردات مثل اللغة الإنجليزية. ويمكن تبيُّن هذا بالدليل الرياضي الصارم.
والآن، لو أن هناك أرقاما ترتيبية لا يمكن الإشارة إليها على هذا النحو، يترتب على هذا أن أحد هذه الأرقام لا بد أن يكون أقل من بقية الأرقام، وهذا صادق في حالة أي مجموعة من الأرقام الترتيبية. تأملوا الآن عبارة "أقل رقم ترتيبي لا تمكن الإشارة إليه". هذه العبارة تشير بوضوح إلى الرقم المعني. هذا الرقم إذن يمكن الإشارة إليه ولا تمكن الإشارة إليه في نفس الوقت. وهذه مفارقتنا. وما دام لا يمكن الإشارة إليه، فليس بوسع أحد أن يقول عنه أي شيء. ومن ثم فالحقائق المتعلقة به مستعصية على الكلام، لكن بوسعنا أن نقول أشياء عنه، من قبيل أنه أقل رقم ترتيبي لا تمكن الإشارة إليه.
التماثلات بين هذه المفارقة ومفارقتنا البوذية المتعلقة بالاستعصاء على الكلام تماثلات مخيفة للغاية، لا بد أن تعترفوا بهذا.  ولكن من أنشأوا المنطق التعددي ما كانوا يعرفون أي شيء عن العلاقات البوذية. (وأقول هذا وأنا أهل لقوله، فقد كنت من بين من أنشأوه). ومرة أخرى، تتفق مزاعم فلاسفتنا البوذيين الغربية بدقة مع الرياضيات.
هناك بالطبع أكثر من ذلك بكثير مما يمكن قوله في هذه الأمور. ولكننا رأينا الآن شيئا من طبيعة هذه الأرض. فاسمحوا لي الآن أن أتراجع خطوة لأتساءل عن الدروس التي يمكننا استخلاصها من ذلك كله. أحد هذه الدروس مألوف للغاية. وهو أن التكنيكات الرياضية غالبا ما تنتهي إلى تطبيقات غير متوقعة. لقد نشأت نظرية المجاميع في القرن التاسع عشر لتبين الخصائص المشتركة بين البنى الرياضية المتعددة. ووجدت تطبيقا لها في فيزياء القرن العشرين، لا سيما في ما يتصل بنظرية النسبية الخاصة. وبالمثل، فإن من أنشأوا التكنيكات المنطقية التي تقدم وصفها لم تكن لديهم أدنى فكرة عن تطبيقاتها البوذية، وأنا على يقين أنها سوف تثير في أنفسهم الدهشة.
الدرس الثاني مختلف بعض الشيء وأكثر إدهاشا. لقد استبعد فلاسفة الغرب الفكر البوذي، والفكر الآسيوي بعامة، ونبذوه. فكيف للمتناقضات أن تكون صادقة؟ وما كل هذا الكلام عما هو مستعص على الكلام؟ أليس ذلك كله لغوا فارغا؟ البناءات التي وصفتها تبيّن كيف يمكن أن نستنبط من الرؤى البوذية معنى رياضي دقيق. وهذا لا يبين بالطبع أنها صادقة. فهذه مسألة أخرى. لكنه يبيِّن أن هذه الأفكار يمكن أن تكون صارمة ومتماسكة منطقيا شأنها شأن أية أفكار أخرى. ومثلما قال بوذا أو لم يقل (أو ث، أو ي): "هناك خطآن فقط يمكن أن يخطئهما المرء على الطريق: ألا يقطعه إلى النهاية، وأن لا يبدأه من الأساس".

كاتب المقال أستاذ الفلسفة المتميز في CUNY  وأستاذ فخري بجامعة ملبورن. صدر أحدث كتبه بعنوان "واحد" عن مطبعة جامعة أوكسفورد.

نشر المقال أصلا في مجلة أيون

*اجتهدت قدر استطاعتي في البحث عن الترجمات العربية المعتمدة للمصطلحات الواردة في هذا النص، وأشكر مقدما كل متخصص في المنطق أو الرياضيات يمكن أن يعينني على مزيد من الضبط والتصحيح ـ المترجم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق