الأربعاء، 19 مارس 2014

قوة الناس في انعدام قوتهم

قوة الناس في انعدام قوتهم
حوار: لارس مينسل

أصدر "مالكولم جلادول" كتابا عن السلطة والناس إذ يتحدونها. وجلس مع "لارس مينسل" في حوار حول العالم وما إذا كان في نهاية المطاف  قد أصبح عادلا.
***



ـ لك كتاب فكرته أن الأقوياء وذوي السلطة ليسوا دائما مثلما يظهرون. هل خطرت لك هذه النظرية من تجربة شخصية؟
ـ عندما انتقلت إلى أمريكا وأنا في العشرينيات من عمري، كان يذهلني دائما كيف أنني ككندي كنت دائما ما أعجب أشد العجب من مزايا أمريكية معينة: مدارس الصفوة، المستشفيات الخيالية، وكل تلك الأشياء التي ينفق عليها الأمريكيون أطنانا من الأموال. ولكنني ما إن صرت هناك حتى أدركت أن أمريكا ليست مختلفة كثيرا عن الوطن.

ـ هل لك أن توضح هذا؟
ـ افتراض أن أمريكا مكان سحري، حيث جودة كل شيء أعلى بكثير، هذا الافتراض ببساطة لا يتناغم مع التجربة العملية. ككندي، كغريب، ربما كانت لي وجهة نظر أكثر موضوعية. لم أتأثر برموز تلك المزايا مثلما قد يتأثر بها أمريكي. وبهذا المعنى أفترض أن يكون الكتاب قائما على تجارب شخصية.

ـ من المثير أن في الكتاب صدى للحلم الأمريكي: أن بوسع أي امرئ بالعمل وبذل الجهد أن يصل في نهاية المطاف إلى العظمة. هل توافق على هذا التقدير؟
جلادويل: المسألة معقدة. فعلى سبيل المثال: من تأثيرات الثورة الرقمية أنها أضفت الطابع الديمقراطي على أنواع معينة من الهيراركيات. ولكنك في الوقت نفسه يمكن أن تحاجج بأن أمريكا الآن أكثر تفاوتا وهيراركية وانغلاقا مما كانت عليه في أي وقت مضى. لذلك يبدو لي أن ثمة الكثير للغاية من الأمور المتناقضة والمعقدة التي تجري الآن وهنا في هذا العالم. ففي بعض الأحيان تكون مصدر قوة للسلطات القائمة، وفي بعض الأحيان تقوضها تقويضا. ولا ينبغي لنا التعميم.

تناقض النضال الرقمي

ـ مؤخرا، كتب معلق ألماني مرموق يقول إن افتضاح أمر قيام وكالة الأمن الوطني الأمريكية بالتجسس حطم آماله المتعلقة بدور الإنترنت في تحدي السلطات.
ـ كتبت في هذا الموضوع مقالة منذ سنتين، بعد الربيع العربي. ذهبت فيها إلى أن الميديا الاجتماعية ليست هي محرك التغيير الاجتماعي، وأنها آلية متواضعة للتغيير الاجتماعي الراديكالي. وفي وقتها تلقيت انتقادات كثيرة، ولكنني أشعر الآن أن كلامي كان له ما يكفي ليبرره. لذلك أتفق معه. أعتقد أن هذه الأدوات قادرة على إضفاء الطابع الديمقراطي وتمهيد فضاءات اجتماعية معينة، لكنها ليست الوسائل المثلى للإطاحة بالدكتاتوريات. وضع في اعتبارك أنه يسهل للغاية على الدكتاتوريات استخدام هذه الوسائل لتعزيز سلطاتها وتقويتها، ولكن ليس هذا مجال نفعها. مجال نفعها يتمثل في أنها تغنيك بحساب على تويتر عن وكالة علاقات عامة. وهي نافعة لإطلاع العالم على نجم الروك آن رول المفضل لديك، لكنها ليست محركات العدالة الاجتماعية التي سبق أن تخيلناها.

ـ هل كنا بمغالاتنا في التركيز على منافع تلك الوسائل، نغض الطرف عن الناس الذين يقومون بالفعل باستعمال تلك الشبكات؟
ـ نعم. نحن نسيء الحكم على السبل التي يطيح بها الناس بالمؤسسات القوية. فهم يقيمون روابط قوية، ويوجدون ويخلقون جماعات من الناس محكمة الترابط، الناس القادرين على المخاطرة العازمين عليها، الملتزمين بقضية، المتبنين لفلسفة واضحة، القادرين على التفكير الاستراتيجي. وليست لأي شيء من ذلك كله علاقة بالإنترنت. بل إن الإنترنت في حقيقة الأمر تجعل بعض هذه المهام أشد صعوبة لأنها تعفيك من مشقة إقامة الجماعات والروابط. من السهل نسبيا تكوين الجماعات الضحلة. حتى أنك في بعض الأحيان لن تتعلم مهارات تكوين الجماعات التي كان لها على مدار التاريخ دور لا غنى عنه في التغيير الحقيقي. وأنا في الكتاب أكتب عن "حركة الحقوق المدنية": فهؤلاء الناس قضوا ما يزيد على عشرين عاما في بناء الحركة، مخاطرين بحياتهم من أجل قضية. الحقيقة أنهم ما كانوا يكتفون بالضغط على "لايك" في موقع فيسبوك دعما لقضيتهم، بل كانوا يخاطرون بأنفسهم! وهذا هو النضال! النضال الرقمي جمع بين متناقضين ...


ـ يطلق عليه "سلاكتيفيزم" [Slacktivism كلمة منحوتة من activism التي ترجمناها هنا بـ"النضال" والتي يترجم اسم الفاعل منها عادة بـ "الناشط" وكلمة "slacker" التي تعني المتهرب، والمتهرب من الخدمة العسكرية بخاصة، وعليه قد يكون من المناسب ترجمة "Slacktivism" بـ "نضال الهاربين" أو ربما "نضال الجبناء"]
ـ سلاكتيفزم وصف ملائم. لا ينطبق على كل نضال الإنترنت، ولكن على قدر كبير منه.

ـ على ذكر تكوين الجماعات، تكتب في كتابك عن فريق كرة سلة للبنات، ظل أداؤهن سيئا للغاية إلى أن قرر مدربهن أنهن بحاجة إلى إعادة تأويل قواعد اللعبة. هل تقول إننا ينبغي أن نقبل مثل هذه التأويلات الجديدة للقواعد؟
ـ لا أعرف إن كنا نريدها أن تصبح مقبولة. لو أن كل من في المجتمع تصرف بوصفه الضعيف المعترض، فلن يتحرك هذا المجتمع مطلقا. هذه استراتيجيات تُدَّخَر، أو ينبغي ادخارها في تصوري، لمن يناضلون من أجل قضايا ذات معنى، أو لمن يعدمون أية خيارات أخرى.

ـ هل هناك احتمال أن نكون كمجتمع قد اتفقنا على عدم استخدام هذه التكتيكات لأنها من حيث المبدأ لا ينبغي أن تعمل؟
ـ يبدو من غير المشروع استبدال الجهد بالمهارة. نحن في الرياضة نريد للاعب الأمهر أن يفوز. تعال نفترض أنني في الخامسة عشرة من عمري وألعب كرة المضرب في بطولة مدرسية وأنني أضرب بوجه المضرب ضربات ساحقة لا سبيل إلى ردها مهما تكن الظروف. سأفوز بالكثير من المباريات، سأصيب المنافسين بالجنون. ولكنها ستكون طريقة غاية في الإملال والبغض للعب مباراة. ستكون طريقة كارهة للعبة نفسها. ولو أن الجميع يلعبون بهذه الطريقة لن نرغب في مشاهدة مباريات كرة المضرب.

رائع أن تكون بلا خيار

ـ ومع ذلك، تحتفي بالطريق الصعب لتحقيق الهدف. هل عرفت أين يجد الناس الشجاعة أو العزيمة على تجاوز قدراتهم؟
ـ جزء من الأمر يأتي من أن لا يكون لديهم ما يخسرونه.

ـ ماذا تعني بهذا؟
ـ انظر إلى "إنجفار كامبراد" مؤسسة شركة إيكيا وقراره نقل مصنع الأثاث إلى بولندا سنة 1961 ...
ـ كان منافسوه السويديون قد اتخذوا قرارا بمقاطعته لبيعه الأثاث للمستهلك مباشرة لا من خلال متاجر الأثاث التقليدية. فكان عليه أن ينتج من مكان آخر.
ـ بالضبط. وكانت تلك مسألة صعبة وجنونية في ذلك الوقت. ربما كان ذلك ـ من الناحية الاستراتيجية  ـ أصعب شيء كان يمكنه القيام به، فهو عمليا أشبه بمحاولة إنشاء مصنع في كوريا الشمالية. لكنه فعلها. ليس فقط لأنه كان يمتلك العزيمة أو لامتلاكه قدرات لا تصدق، ولكنه لأنه علم إنه إما ذلك أو يتوقف عن العمل تماما. فبمعنى ما، يستمد المرء القوة لفعل أشياء محددة من استنفاده جميع الخيارات الأخرى. وهذه نقطة شديدة الأهمية، لأن الناس يميلون إلى نسيان حقيقة أن في انعدام الخيارات تحريرا عظيما لهم.

ـ من المؤكد أننا لا ننظر إلى الأمر هذه النظرة.
ـ من المفارقة أنه لو لم يكن "إنجفار كامبراد" قد استنفد جميع الخيارات، لو كان بقي له بصيص أمل في إمكانية إنتاج الأثاث داخل السويد، لما فعلها ولما أصبحت إيكيا بالضخامة التي هي عليها اليوم. هناك أمر غريب يتمثل في أن امتلاكك قدرا ضئيلا للغاية من الموارد أسوأ فعلا من عدم امتلاكك أي شيء. أو: امتلاكك عددا قليلا من الخيارات أسوأ من عدم امتلاكك أي خيارات. الوصول إلى القاع قد ينطوي على حرية كبيرة. ومثل هذا تراه في الجماعات الإرهابية التي ليس لديها ما تخسره. هذا جانب المسألة السلبي: أنت في وضع كهذا لا تبالي بشيء. فليس لوضعك أن يزداد سوءا. أنت فعلا منبوذ، كالقاعدة على سبيل المثال. ظاهرة مذهلة أن يجد الناس في انعدام قوتهم قوة.

ـ تكتب كثيرا عن تحويل مساوئ مثل العجز عن التعلم إلى مزايا. هل حدث أن فكرت يوما أن أيا من تلك المساوئ ربما لا تكون أصلا بهذا السوء؟
ـ الحقيقة أن عسر القراءة Dyslexia  مثير لي جدا. عدد كبير من المتعسرين في القراءة نجحوا نجاحا كبيرا ونجاهم يعزى إلى عسر القراءة. وإنني مذهول من كم الأشياء المنتجة التي يستخلصها هؤلاء الناس من "إعاقتـ"ـهم. ولقد سئلت: هل تتمنى لولدك أن يكون من المتعسرين في القراءة؟ والحق أنني في ظروف معينة يمكن أن أتمنى هذا. لا سيما الآن بعدما رأيت الكثير من الحالات من البشر الذين أمكنهم تحقيق الاستفادة المثلى من هذا الوضع، وأصبحوا بسببه أكثر قوة. وذلك ما يجعلني غير مرتاح بالمرة إلى استخدام مفردة الإعاقة. فعسر القراءة وضع يجعل أنشطة معينة أكثر صعوبة. أما الإعاقة فشأن آخر مختلف تماما. الإعاقة كأن تحاول السباق وأنت واضع حول خصرك عشرة أرطال. هذه إعاقة.

ـ للكاتب البريطاني "جون رونسن" كتاب عن سمات المرض النفسي لدى الناجحين. لو أن من الممكن تحويل المساوئ إلى مزايا، فهل يعني هذا أن الملعب في نهاية المطاف يساوي بيننا؟
ـ لا، لا أعتقد أنه يساوي. أعتقد أنه طريقة أخرى لصياغة المفهوم المتعلق بمدى التفاوت الحاد بيننا. تأمل شخصا مثل "جاري كون" رئيس شركة جولدن ساكس. أنت هنا إزاء شخص شديد الطول، وسيم، صاحب كارزما مذهلة. وعنده قدر من الطاقة يصيب بالجنون، وربما مستوى ذكائه يتجاوز 150. لقد ولد بحالة أرغمته على تعلم سلسلة من المهارات والتكيف مع سلسلة من السمات فأثبت براعة فريدة في التكيف لاحقا في عالم التجارة. وهذا لا يجعله مثل أي شخص آخر، فهو شخص ذو عجز محدد مكّنه من التقدم على كل من عداه. لو أن كل هذه الأشياء يجري توزيعها توزيعا عشوائيا ومثاليا فلا بأس، ولكن هذا ليس الحال، فتوزيعها يتم بصورة ظالمة شأنها شأن أي شيء آخر. وعسر القراءة بالمثل يصيب شخصا هو من الأساس فقير وليست لديه أسرة تدعمه، فهو في هذه الحالة ليس ميزة، بل مشكلة تتسبب في تأخيره وتخلفه ...

هناك عشوائية في العشوائية

ـ تذهب إلى أن المساوئ ليست كما تبدو دائما، وأن شيئا في بشاعة فقدان الأبوين يمكن أن يتحول إلى شيء مفيد، أو حتى أن يرتبط بالنجاح. وتطلق عليه "المصادفة المعاكسة...
ـ دور الأبوين في تطور الأبناء أكثر تعقيدا مما قد ندرك. فالأبوان يرعيان تطور أبنائهما ويعوقانه. وإزالة عائق الأبوين يكون داعي تحرر كبير لكثير من الناس. لا أعتقد بأية حال أن هذا الوضع ينطبق على الأغلبية، لكن هذا الظرف الغريب قائم. وقد تكلمت مع عدد من الأطباء النفسيين ظنا مني أن الأطباء النفسيين لا بد أن يكونوا قابلوا أناسا من هذا النوع في سياق عملهم. تكلمت مع ثلاثة أطباء نفسيين أو أربعة في نيويورك، فحكوا نفس الحكاية المشتركة بين أكثر مرضاهم تميزا واضطرابا، ممن فقدوا آباءهم في طفولتهم فعانوا من جراء ذلك معاناة تفوق المعتاد. وكنت أجري حوارا مع طبيب نفسي عن مريض من مرضاه نجح نجاحا هائلا في إقامة تجارة بعدما شهد مقتل أمه وهو في السادسة من العمر. وكانت تلك هي الأزمة المركزية في حياته، لأن المرء لا يمكن أن يتجاوز شيئا كهذا. لكن تأثيرها تمثل في تكبيله عاطفيا وتحريره في آن واحد، جعلت منه شخصا جسورا قاسيا لأنه رأى عمليا أسوأ ما يمكن أن يرى. لم يعد يخاف شيئا، وهو شيء مفيد لمن يريد النجاح في عالم شديد التنافسية. طبعا ذلك شيء لا يمكن أن ترجوه لأحد، ولكن له تأثيره المذهل. لقد تسبب له موت أمه في تعاسة حقيقية، ولكنه جعله أكثر نجاحا مما كان ليصبح عليه.

ـ قلت سابقا إن في الكتاب أجزاء ذكرتني بالحلم الأمريكي. ولكنك فيما يبدو ترى المصادفة في كل شيء. فالعشوائية قد تجعل الناس أكثر شجاعة، أو مرونة في بعض الأحيان.
ـ هذا كتاب يحاول أن يفهم تأثير العشوائي من التنويعات والتجارب. فقدان الأبوين أول تجربة: فمن الأطفال عدد عشوائي يفقد أبويه قَدَرًا. ثم إن هذه المجموعة لديها تشكيلة عريضة من ردود الأفعال على هذا الحدث العشوائي. هناك عشوائية في العشوائية.

ـ غالبا من نسيء فهم قصص الضعفاء، مثل داود وجالوت، لأننا نريد أن نسيء فهمها. هل سنستمر طويلا في تقدير الضعفاء أكثر مما ينبغي لهم؟
ـ إضفاء البعد الرومنتيكي تعبير أرق. الناس تضفي على الضعفاء بعدا رومنتيكيا، من باب التعاطف معهم. وفي علم النفس فكرة مهمة هي "نظرية العالم العادل" التي تذهب إلى أن من المهم لنا أن نقنع أنفسنا بأن العالم عادل وأن الأمور تحدث لأسباب. وأن لكل شيئا نصيبا من عنصر الإنصاف الذي يوهم بالعدل. ومشاعرنا تجاه الضعفاء جزء من هذه النظرية. مهم جدا لنا أن ينتصر الضعفاء، فنؤمن أنهم ينتصرون. ولو لم يفز الضعفاء، وظل صاحب المزايا يفوز كل مرة، يكون العالم موغلا في ظلمه، وأهم من ذلك أنه يصبح عالما مقبضا باعثا على الاكتئاب.

ـ لعل هذا أيضا مما يحفز الناس على تحدي السلطة، إيمانهم بالعالم العادل؟
ـ من أقوى ما يحفزنا رغبتنا في حمل العالم على التوافق مع مجموعة من المبادئ. وهذا يحفز الناس ولا شك على الثورة على السلطة. لو أنك تفكرت في أفعال داود ضد جالوت لرأيت أنه يثور على فكرة أن القوي الطويل الضخم لا بد أن يفوز بكل معركة، صح؟ لا يبدو له أن هذا عدل. إن حفنة قليلة من الناس هي التي تتجاوز أطوالها مائة وثمانية وتسعين سنتيمتر، فلماذا يتحتم أن يكون الفائز كل مرة واحدا منها؟


نشر الحوار أصلا في مجلة ذي يوربيان ونشرت ترجمته في جريدة عمان أمس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق