الثلاثاء، 18 مارس 2014

سامسا عاشقا (2 ـ 2)

سامسا عاشقا
(2 ـ 2)
هاروكي موراكامي                             

خطت إلى البيت دونما انتظار رد منه. أغلق سامسا الباب وراءها. وقفت هناك تنظر إليه من أعلى إلى أسفل، وقد بدا أن مئزره وشبشبه يثيران شكوكها.
قالت بصوت بارد "يبدو أنني أيقظتك".
قال سامسا "لا بأس على الإطلاق"، وأدرك من تجهمها أن ثيابه غير ملائمة للموقف فقال "لا بد أن أعتذر عن مظهري. ولكن هناك أسباب ..."
تجاهلت المرأة هذا وقالت بشفتين مزمومتين "وبعد؟"
ردد بعدها سامسا "وبعد؟"
قالت المرأة "وبعد، أين هو القفل سبب المشكلة؟"
"القفل؟"
قالت "القفل المكسور. أنتم طلبتم منا المجيء لإصلاحه".
 قال سامسا "آه، القفل المكسور".
نقّب سامسا في عقله، وما كاد ينجح في تركيزه على شيء واحد، حتى رجع عمود البعوض الأسود في الحومان من جديد.
قال "أنا لم أسمع شيئا معينا عن قفل. وتخميني أنه ربما يكون قفل باب من الأبواب في الطابق الثاني"
نظرت المرأة إليه مشدوهة "تخمينك؟" وازداد صوتها برودا، وتقوَّس في وجهها أحدُ حاجبيها غيرَ مصدقة. "باب من الأبواب؟"
شعر سامسا بوجهه يحمرّ، وقد بدا له جهله بمسألة القفل مخجلا للغاية، تنحنح يريد أن يقول شيئا ولكن الكلمات لم تخرج.
"مستر سامسا، هل أبواك هنا؟ أعتقد من الأفضل أن أكلمهما".
قال "الظاهر أنهما خرجا في مشوار".
 قالت في فزع "مشوار؟ في ظل هذه الاضطرابات".
قال سامسا "أنا فعلا لا أعرف. حينما صحوت هذا الصباح لم يكن أحد هنا".
قالت الشابة "يا إلهي" وأطلقت تنهيدة حزينة "نحن أخبرناهم أن شخصا سيأتي اليوم في هذا الموعد".
"أنا في غاية الأسف".
وقفت المرأة هناك لحظة، ثم ببطء بدأ حاجبها المقوس ينخفض ونظرت إلى العكاز الأسود في يد سامسا اليسرى وسألته "هل عندك مشكلة في ساقك يا جريجور سامسا؟"
قال مراوغا "نعم، بعض الشيء".
مرة أخرى، التوت المرأة بغتة. ولم يدر سامسا معنى هذه الفعل أو غرضه، ولكنه بالغريزة انجذب إلى تلك السلسة المعقدة من الحركات.
قالت المرأة بنبرة تسليم "حسن، ما سنفعله الآن هو أننا سوف نلقي نظرة على أبواب الطابق الثاني. لقد عبرتُ الجسر وقطعت المدينة كلها في هذه الاضطرابات الرهيبة لأحضر إلى هنا. فعليًّا خاطرت بحياتي. فلا معنى الآن لأن أقول ’أوه، لا أحد هنا إذن؟ فلآت في وقت آخر’. صح؟"
هذه الاضطرابات الرهيبة؟ لم يدر سامسا قط ما الذي تتكلم عنه. أي تغيير فظيع ذلك الذي كان يقع؟ لكنه قرر ألا يسأل عن التفاصيل. خير له ألا يكشف المزيد عن جهله.
ملتويةَ الظهر، حملت الشابةُ الحقيبةَ الثقيلة بيمناها ومضت تجاهد مرتقية السلم وهي أشبه ما تكون بحشرة عملاقة. ومن ورائها مضي سامسا يكدح متشبثا بيده في السور، وقد بعثت مشيتها الزاحفة التعاطف في نفسه. ذكَّرته بشيء ما.
وقفت المرأة عند أعلى الدرجات واستعرضت الطرقة الممتدة أمامها قائلة "إذن، محتمل أن يكون قفل أحد هذه الأبواب الأربعة مكسورا، تمام؟"
احمرَّ وجه سامسا. وقال بصوت مرتعش "نعم، واحد منها. ربما الأخير إلى اليسار، محتمل" فقد كان ذلك باب الغرفة الخاوية التي استيقظ فيها ذلك الصباح.
قالت المرأة بحس ميت كأنه لنار مطفأة "يمكن. جائز". والتفتت تمعن في وجه سامسا.
قال سامسا "بطريقة أو بأخرى".
تنهدت المرأة من جديد. وقالت بنبرة جافة "أنت الكلام معك يا جريجور سامسا متعة حقيقية. قاموسك اللغوي غاية في الثراء، وتدخل مباشرة في صلب الموضوع" ثم تغيرت نبرتها وقالت "إنما لا يهم. لنفحص أولا الباب الأخير من جهة اليسار".
مضت المرأة إلى الباب. أدارت المقبض إلى الخلف وإلى الأمام ودفعته فانفتح الباب إلى الداخل، وإذا بالغرفة كما كانت من قبل، فليس فيها غير سرير كل ما عليه مرتبة أبعد ما تكون عن النظافة. والأرضية خاوية بالمثل. والألواح مثبتة على الشباك بالمسامير. لا بد أن تكون المرأة قد لاحظت ذلك كله، لكنها لم تبد بادرة اندهاش. وبدا من سلوكها أن أمثال هذه الغرفة قد تكون منتشرة في شتى أرجاء المدينة.
اقتعدت الأرض وفتحت الحقيبة السوداء فأخرجت منها قماشة بيضاء فرشتها على الأرض. ثم أخرجت عددا من الأدوات صفَّتها على القماشة باهتمام كأنها جلاد عاتٍ يستعرض أدواته المشينة أمام عيني ضحية بائسة.
انتقت سلكا متوسط الثخانة وغرسته في القفل، وبيد متمرسة حركته في مختلف الزوايا. ضاقت عيناها بسبب التركيز، وتحفزت أذناها لأقل صوت. ثم انتقت سلكا أرفع وكررت به ما سبق وفعلته. ازداد وجهها تجهما، والتوي فمها متخذا سمت القسوة البالغة كأنه سيف صيني. تناولت كشَّافا ضخما، وبنظرة متجهمة، بدأت تتفحص القفل تفصيليا.
سألت سامسا "عندك مفتاح هذا القفل؟"
قال صادقا "لا أعرف أي شيء عن موضع المفتاح".
قالت "آه يا جريجور سامسا، أحيانا تجعلني أشتهي الموت".
بعد ذلك، تجاهلته. انتقت مفكا من بين الأدوات المصفوفة على القماشة ومضت تفك القفل من الباب، بحركات بطيئة وحذرة، متوقفة بين الحين والآخر لتتلوى وتنبعج كما سبق وفعلت.
وبينما كان واقفا من ورائها يراقب حركاتها تلك بدأ جسم سامسا يأتي برد فعل غريب. أخذ يزداد سخونة في كل جزء منه، حتى أن منخاريه توهجا. وجفَّ حلقه لدرجة أن علا صوته وهو يحاول أن يبلع ريقه. واستثيرت شحمتا أذنيه. وعضوه الجنسي الذي كان تلك اللحظة متدليا يرثى لحاله بدأ يتصالب ويتمدد. وفيما كان يرتفع، نشأ انتفاخ واضح في مقدمة مئزره. ومع ذلك كله، لم يكن يعلم أي شيء عما يعنيه ذلك كله.
خلعت الشابة القفل ونهضت فمضت به إلى الشباك تريد أن تتفحصه هناك في نور الشمس الذي كان يسطع من بين الألواح. غرست فيه سلكا رفيعا ثم هزته وتسمّعت لأي صوت يصدر عنه وهي قاتمة الوجه مزمومة الشفتين. وفي النهاية تنهدت من جديد والتفتت إلى سامسا.
"إنه مخترب من الداخل. معطل تماما. هذا هو القفل المقصود فعلا، تخمينك في محله".
قال سامسا "ممتاز".
قالت المرأة "إطلاقا. أنا لا أعرف كيف أصلحه هنا، فهو قفل من نوعية خاصة. لا بد أن آخذه معي وأدع أبي يصلحه أو أيا من إخوتي الكبار. ربما يمكنهم إصلاحه. أنا مجرد صبية عندهم، ولا أستطيع التعامل إلا مع الأقفال العادية".
قال سامسا "فهمت". لهذه الشابة إذن أب وإخوة كثيرون. أسرة كاملة من مصلحي الأقفال.
"الحقيقة كان المفروض أن يأتي اليوم أحد إخوتي لكن بسبب الشغب الدائر في المدينة أرسلوني أنا. المدينة ملآنة بنقاط التفتيش". عاودت النظر إلى القفل الذي في يدها. "لكن كيف انكسر القفل بهذه الطريقة؟ غريبة جدا. لا بد أن أحدا لعب فيه من الداخل بأداة ما. لا يمكن أن يكون إلا هذا".
وتلوت من جديد. دار ذراعاها وكأنها سبّاحة تتدرب على ضربة جديدة، فرأى حركتها تلك آسرة، وفي غاية الإثارة.
واتخذ سامسا قراره فقال "هل بوسعي أن أطرح عليك سؤالا؟"
قالت وهي تنظر إليه في ريبة "سؤال؟ لا أستطيع أن أتخيله، لكن تفضل".
"لماذا تتلوين بهذه الطريقة كل حين؟"
نظرت إلى سامسا وقد افترّت شفتاها قليلا. "أتلوّى؟" وفكرت قليلا. "قصدك هكذا؟" وكررت له الحركة.
"نعم. هي هذه".
قالت بحدة "حمالة صدري لا تناسبني. هذه هي الحكاية".
قال سامسا في بلادة "حمالة صدر؟". ذلك تعبير لم يكن له رصيد في ذاكرته.
قالت المرأة "حمالة صدر. تعرف طبعا ما حمالة الصدر، أم لا؟ أم غريب في رأيك بالنسبة لحدباء مثلي أن ترتدي حمالة صدر؟ أتستكثرها علينا؟"
قال سامسا "حدباء؟" تلك أيضا كلمة هوت إلى الخواء الشاسع الممتد بداخله. لم يدر مطلقا عن أي شيء تتكلم. ولكنه علم مع ذلك أنه لا بد أن يقول شيئا.
غمغم "لا، لا أستكثرها على الإطلاق".
"اسمع. المرأة الحدباء امرأة، ولها نهدان كأي امرأة، ولا بد لنا من ارتداء حمالة صدر. فلا يمكن للحدباوات أن يسرن في العالم كالبقرات تتمايل ضروعهن".
تاه سامسا تماما وقال "بالطبع لا".
"لكن لا توجد حمالات صدر مصممة لنا، فما تلبث أن تنزلق. نحن لنا بنيان يختلف عن بقية النساء، فاهم؟ فلا بد لنا كلَّ قليل من التلوي لكي نرد الحمالات إلى مواضعها السليمة. للحدباوات مشكلات تفوق ما يمكنك أن تتخيله. ألهذا السبب كنت تحملق بي من خلفي؟ أبهذه الطريقة تمتع نفسك".
"لا، إطلاقا. فقط كنت أريد أن أعرف لماذا تفعلين ذلك؟"
استنتج إذن أن حمالة الصدر جهاز مصمم لحمل النهود، وأن الحدباء امرأة لها مثل بنيان هذه المرأة. إن في هذا العالم الكثير مما ينبغي له أن يتعلمه.
قالت المرأة "أنت متأكد أنك لا تسخر مني؟"
"أنا لا أسخر منك".
رفعت المرأة رأسها تنظر إلى سامسا، فرأت فيه الصدق، لم يكن ثمة مكر ولا لؤم. كل ما هنالك أن عقله ليس على ما يرام، ولا أكثر. ربما كان أكبر منها بسنوات قليلات، وإضافة إلى عرجه، بدا أنه غير مكتمل عقليا. ولكنه ابن ناس، وليس في سلوكه ما يعيب. ووسيم أيضا، وإن يكن في وجهه شيء من العبوس والشحوب.
ولحظتها رأت البروز في مئزره.
قالت في جمود "ما هذا بحق الجحيم؟ ماذا يفعل هذا الانتفاخ هناك؟"
طأطأ سامسا رأسه ينظر إلى مقدمة مئزره. كان عضوه شديد التضخم فعلا، وكان بوسعه أن يفهم من نبرتها أن هذا الوضع بطريقة أو بأخرى غير مقبول.
قالت "واضح. حضرتك تفكر كيف تكون مضاجعة امرأة حدباء، أليس كذلك؟"
قال "أضاجع؟" كلمة أخرى لا يعرف لها موضعا.
"تقول لنفسك ما دامت الحدباء ملتوية الظهر أصلا، فيمكنك أن تأتيها من الخلف بدون مشكلة، صح؟ على فكرة المنحرفون أمثالك كثير، وكلهم يظنون أننا سوف نسمح لهم أن يفعلوا ما يشاءون لمجرد أننا حدباوات. لا يا واطي. لسنا بهذه السهولة!"
قال سامسا "أنا فعلا مرتبك. لو كنت أغضبتك بأي طريقة فأنا في منتهى الأسف. وأعتذر. أرجوك سامحيني. لم أقصد أي إساءة. أنا كنت مريضا، وهناك أشياء كثيرة جدا لا أفهمها".
تنهدت "ليكن، وصلتني الصورة. أنت بطيء الفهم بعض الشيء، صح؟ لكن سجقك في خير حال، وهذا هو حال الدنيا".
قال سامسا ثانية "أنا آسف".
هدأت وقالت "انس. عندي في البيت أربعة إخوة زبالة ومنذ أن كنت طفلة جعلوني أرى كل شيء. يعتبرون الأمر نكتة كبيرة. اللوطية الحثالة كلهم. لذلك أنا لا أمزح حينما أقول إنني أعرف أولها من آخرها".
وأقعت تلملم أدواتها مرة أخرى في الحقيبة، ماسحة القفل المكسور بالقماشة، واضعة إياه برقة داخل الحقيبة.
قالت وهي تنهض "سآخذه معي. أبلغ أبويك. سنصلحه أو نغيره. ولو لزم أن نغيره فعلا، فسوف يستغرق هذا بعض الوقت في ظل الظروف الحالية. لا تنس أن تبلغهم، أوكيه؟ فاهمني؟ ستتذكر؟"
قال سامسا "سأبلغهما".
نزلت السلم ببطء، وسامسا على مهل من خلفها. بدا شكلهما معا نموذجا لتناقض جدير بالدراسة: هي كما لو كانت تدب على أربع، وهو منحن إلى الوراء بطريقة غير طبيعية. لكنهما كانا متماثلي السرعة. وسامسا يحاول أن يلين من "انتفاخه" ولكن الشيء لا يريد أن يرتد إلى سيرته الأولى. كما أن رؤيته لحركاتها من الخلف وهي تنزل السلالم جعلت قلبه يخفق بقوة، دافعا في شرايينه دماء حارة طازجة. وبقي الانتفاخ العنيد على عناده.
قالت المرأة لما وصلا باب البيت "كما قلت لك من قبل كان ينبغي أن يحضر اليوم أحد إخوتي. ولكن الشوارع تغص بالجنود والدبابات. ويعتقلون الناس. لذلك لا يستطيع الرجال في أسرتي الخروج. فالذين يعتقلونهم يعتقلونهم، ولا يعرف أحد متى يرجعون. لذلك بعثوني. طول الطريق عبر براج كنت وحدي. قالوا ’لن يلتفت أحد إلى فتاة حدباء’".
غمغم سامسا "دبابات؟"
"أيوة، وكثير أيضا. دبابات بمدافع ورشاشات. وبالمناسبة مدفعك حلو" وأشارت إلى الانتفاخ في مئزره "لكن المدافع الثانية أكبر وأصلب، وقدرتها على القتل أكبر بكثير. فلنتمنّ لكل أفراد أسرتك الرجوع سالمين".
قرر سامسا أن يمسك الثور من قرنيه، فقال "هل يمكن أن نتقابل مرة ثانية؟"
رفعت الشابة رأسها إلى سامسا. "هل تقصد أنك تريد أن تراني مرة ثانية؟"
"نعم، أريد أن أراك مرة أخرى".
"بشيئك بارز هذا البروز؟"
طأطأ سامسا ينظر إلى انتفاخه. "لا أعرف كيف أقولها، ولكن لا علاقة لهذا بمشاعري. لا بد أن يكون السبب مشكلة ما في القلب".
قالت في سرور "لا تمزح. تقول مشكلة في القلب. هذه طريقة ظريفة للتعبير عن الأمر. أنا شخصيا لم أسمعها من قبل".
"كما ترين، الأمر خارج عن إرادتي".
"ولا علاقة لها بالمضاجعة؟"
"المضاجعة ليست في بالي. بصدق".
"طيب بوضوح. عندما يكبر شيؤك إلى هذا الحجم وهذه الصلابة، لا يكون السبب في هذا هو عقلك بل قلبك؟"
أومأ سامسا موافقا.
قالت المرأة "تحلف على هذا بالرب؟"
ردد سامسا "الرب". كلمة أخرى لا يتذكر أنه سمعها من قبل. سكت.
هزت المرأة رأسها في ضجر، والتوت مرة أخرى تضبط حمالة صدرها. "انس. الظاهر أن الرب ترك براج منذ بضعة أيام. فلننسه".
سأل سامسا "طيب هل يمكن أن أراك من جديد؟"
بدا على وجهها تعبير جديد، وبدت عيناها مركزتين على أفق ضبابي بعيد. "أنت فعلا تريد أن تراني مرة أخرى؟"
أومأ سامسا.
"وماذا سنفعل؟"
"يمكن أن نتكلم".
"عن أي شيء؟"
"عن أشياء كثيرة".
"نتكلم فقط؟"
قال سامسا "هناك أشياء كثيرة أريد أن أسألك عنها".
"مثل ماذا؟"
"مثل العالم. مثلك أنت. مثلي أنا. أشعر أن هناك أشياء كثيرة جدا نحتاج أن نتكلم عنها. الدبابات مثلا. والرب. وحمالات الصدور. والأقفال".
ساد الصمت من جديد.
أخيرا قالت المرأة "لا أعرف". وهزت رأسها ببطء، لكن البرودة في صوتها كانت أقل وضوحا. "أنت ابن ناس جدا يا جريجور سامسا. وأشكّ أن يرضى أهلك حين يرون ابنهم الغالي في علاقة مع حدباء من القسم الفقير في المدينة. حتى لو أن هذا الابن أعرج وبطيء الفهم. وفوق ذلك كله، مدينتنا تغص بالدبابات والقوات ومن يدري ما الذي ينتظرنا".
من المؤكد أن سامسا لم يكن يعرف ما الذي ينتظرهم. كان لا يدري أي شيء عن أي شيء: لا عن المستقبل بالطبع، ولا عن الحاضر ولا حتى عن الماضي. لا عن الصواب، ولا عن الخطأ. كان مجرد تعلمه ارتداء ثيابه لغزا.
قالت الشابة الحدباء "على أية حال، سأرجع خلال أيام قليلة. إذا أمكن أن نصلحه سأرجعه، وإذا لم نستطع إصلاحه سأرجعه أيضا. سنحاسبك على الخدمة طبعا. وإذا كنت موجودا سوف نتقابل. لكن لا أعرف هل سيمكن أن نتكلم كثيرا أم لا. ولو كنت مكانك لأخفيت الانتفاخ عن أبويك. ففي العالم الحقيقي، لا يجاملك الناس على كشف مثل هذا الشيء".
أطرق سامسا. وإن لم يكن واضحا له على الإطلاق كيف يمكن إخفاء شيء كهذا عن الأنظار.
قالت المرأة شاردة "إنما غريبة أليس كذلك؟ كل شيء مضطرب حولنا وهناك من يهتم بقفل مكسور، وآخرون لديهم من الالتزام ما يجعلهم يعنون بإصلاحه ... لكن ربما يكون هذا هو المفروض. ربما الالتزام بالعمل بأمانة في هذه الأشياء البسيطة هو ما يحافظ لنا على سلامتنا عندما يبدأ العالم في التهاوي".
نظرت المرأة في وجه سامسا وقالت "لا أريد أن أحشر أنفي، ولكن ما الذي كان يجري في تلك الغرفة العلوية؟ لماذا يحتاج أبواك قفلا بهذه الضخامة لغرفة ليس فيها إلا سرير، وما الذي يزعجهما بهذه الطريقة في انكسار القفل؟ وما أمر تلك الألواح في الشباك؟ هل كنتم تحبسون شيئا هناك؟"
هز سامسا رأسه. لو كان شخص أو شيء محبوسا هناك، فلا بد أن يكون هو. ولكن ما الذي جعل حبسه ضرورة؟ لم يكن يدري.
قالت المرأة "لا أظن أن هناك جدوى من سؤالك، وعموما، لا بد أن أذهب، سيقلقون إذا تأخرت. ادع لي أن أعبر المدينة وأنا لا أزال قطعة واحدة. وأن يتجاهل العساكر فتاة حدباء مسكينة مثلي. ألا يكون بينهم منحرف. نحن منكوحون بما يكفي هكذا".
قال سامسا "سأدعو لك" وإن لم يعرف قط ما المنحرفون، وما الدعاء.
تناولت المرأة حقيبتها السوداء، واتجهت منحنية كما هي إلى الباب.
سألها سامسا مرة أخيرة "هل سأراك من جديد؟"
قالت وهي خارجة، ونبرة صوت دافئة لا لبس في دفئها "عندما تفكر في شخص ما بالقدر الكافي، فإنك بلا شك ستقابله من جديد".
صاح "احترسي من الطيور". استدارت إليه وأطرقت. ثم خرجت إلى نهر الطريق.
نظر سامسا من بين الستائر إلى قوامها المحدودب وهو ينطلق على البازلت. كانت مشيتها خرقاء لكنها سريعة بصورة مدهشة. كان يرى في كل إيماءة منها فتنة. ذكَّرته بجرادة الماء إذ تنتقل لتسير على اليابسة. ثم إن مشيتها بتلك الطريقة بدت له أكثر منطقية من ترنح منتصبي القامة على ساقين فقط.
ولم يكن خروجها عن نظره قد طال حتى عادت أعضاؤه الجنسية إلى حالتها المنكمشة اللينة، وتبدد ذلك البروز العنيف العابر. عاد عضوه يتدلى بين ساقيه كأنه ثمرة بريئة، مسالمة، قليلة الحيلة. واستقرت خصيتاه هادئتين في صفنهما. ضبط حزام مئزره، وجلس إلى مائدة غرفة الطعام فشرب ما بقي من قهوته باردة.
ذهب الذين كانوا يعيشون هنا إلى مكان آخر. لم يكن يعرف من هم، لكنه تصور أن يكونوا أسرته. لقد وقع شيء ما على حين غرة فخرجوا. ولعلهم لن يعودوا. ما معنى أن "العالم يتهاوى"؟ لم يدر جريجور سامسا. قوات أجنبية، دبابات ـ كل شيء يلفه الغموض.
الشيء الوحيد الذي كان يعرفه على وجه اليقين هو أنه يريد أن يرى الحدباء من جديد. أن يجلس معها وجها لوجه ويتكلم إلى أن يشبع من الكلام. أن يحل معها ألغاز العالم. كان يريد أن يراها من كل زاوية وهي تتلوى لتعدل حمالة صدرها. ويريد لو أمكن أن يمرر يده على جسمها أيضا. أن يلمس جلدها اللين ويستشعر دفئه بأنامله. أن يصعد معها، وينزل معها، سلم العالم.
مجرد التفكير فيها أدفأه من الداخل. لم يعد يريد أن يصبح سمكة أو عبادة شمس أو أي شيء آخر. كان سعيدا بكونه إنسانا. من المؤكد أنه كان منزعجا من  اضطراره للسير على ساقين اثنتين فقط  ولارتداء الثياب، ومن كثرة الأشياء التي لا يعرف عنها أي شيء. لكنه لو كان سمكة أو عبادة شمس أو غيرهما لما عرف قط هذا الشعور. ذلك كان إحساسه.
جلس سامسا لوقت طويل مغمضا، ثم اتخذ قرارا، فوقف، وتناول عكازه واتجه إلى السلم. سيصعد إلى أعلى ويتوصل إلى الطريقة الصحيحة لارتداء الثياب. وهذه، في الوقت الراهن على الأقل، هي مهمته.
والعالم في انتظار أن يتعلم.


نشر هذا الجزء من القصة اليوم في شرفات. والقصة نشرت كاملة بالإنجليزية في أكتوبر 2013 في ذي نيويوركر وقد ترجمت من اليابانية إلى الإنجليزية بقلم: تيد جوزين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق