الأحد، 22 سبتمبر 2013

خمسة ملايين دولار ثمنا للخلود



خمسة ملايين دولار ثمنا للخلود

لاري جوردن



غالبا ما يثير الإعلان عن مشروع بحثي جيد التمويل في جامعة كبيرة عددا من النصائح، من المحترفين ومن الهواة، ومن المرحبين ومن الرافضين على السواء. ولكننا لا نجد في هذه الرسائل في العادة من يحكي قصة قطة إذ تنتقل روحها إلى العالم الآخر.
غير أن "جون مارتن فيشر" أستاذ الفلسفة في جامعة "يو سي ريفرسايد"  وجد نفسه محاصرا بمئات من مثل هذه الرسائل الاستثنائية التي انهالت عليه على مدار الشهور القليلة الماضية بعدما ذاع خبر حصوله على منحة مقدارها خمسة ملايين دولار لدراسة موضوع قد يكون في نهاية المطاف غير قابل أصلا للمعرفة: الخلود.
فتحت إشرافه، سوف يقوم علماء ولاهوتيون بالتنقيب في ألغاز من قبيل ما إذا كان ينبغي للبشر أن يطمحوا إلى حياة أبدية في هذا العالم أم في سواه، وما إذا كان الخلود قد لا يكون في نهاية المطاف إلا تأبيدا للملل.
يحسب كثير من غير الأكاديميين أن لديهم ـ على أقل تقدير ـ طرفا من حقيقة هذا الأمر. فقد بعث أحدهم رسالة إلكترونية إلى فيشر يصف فيها كيف أن قطه الراحل فيما يبدو قد رحل إلى "كوكب آخر من الوجود". وحكى له أحدهم كيف أنه بعدما شارف على الموت إثر حادثة دراجة نارية شعر أنه "قادر أن يسير قُدُما باتجاه الدفء والراحة الأبدية". في حين زعم آخر أن التناسخ يمكن أن يكون "قائما على قوانين الفزياء".
فيشر ـ الخبير المرموق على المستوى العالمي في مثل هذه المواضيع المحيرة من قبيل حرية الإرادة ومعنى الموت ـ قال إنه والباحثون في "مشروع الخلود" لن يبحثوا في المواضيع الشعبية من قبيل اصطياد الأشباح وتحضير الأرواح بهدف الدردشة مع الموتى.
لكن فيشر أكد على ضرورة إبقاء الذهن منفتحا، واحترام التراث الديني وتطبيق معايير علمية صارمة على الأبحاث في خبرات الإشراف على الموت، وأشكال الحياة الأبدية المحتملة، وكيفية تأثير الإيمان بالجنة على السلوك الأرضي.
قال فيشر إن "هذه الأسئلة هي أسئلة تراثية عظيمة حفلت بها آداب البشر، والدين، والفلسفة، على مدار الألفية الماضية. وإننا لا نعتقد أننا سوف نحرز تقدما يقلب المفاهيم رأسا على عقب وتقدم حلولا مكتملة لهذه المشكلات. ولكن ما نرجوه هو أن نحقق تقدما في فهم هذه القضايا بصورة أفضل إذا نحن لم نتمكن من الإجابة عليها تماما".
قد يبدو هذا المشروع غريبا على ملحد يعد الحياة الأخرى أمرا غير محتمل (ولو أنه لا يستبعده، وله اهتمام خاص بمفوم إعادة الميلاد لدى البوذية).
نشأ فيشر ـ البالغ من العمر ستين عاما ـ لأسرة يهودية في سان جوزيه، وناضل في صباه لكي يستوعب مقتل جده على يد النازي في فترة الهولوكوست. يتذكر أنه كان يتساءل "كيف يتأتى أن يسمح الرب بكل هذه المعاناة في الكون؟".
وكان أن أفضى به البحث إلى الانفصال عن الدين بشكله المنظم، ولكنه ساقه إلى دراسة الفلسفة في مرحلة دراسته الجامعية بجامعة ستانفورد، ثم في مرحلة الدراسات العليا في جامعة كورنيل. ومن بين الكتب التي قام بتأليفها "قصصنا: مقالات في الحياة والموت والإرادة الحرة" و"ميتافيزيقا الموت".
ليس في فيشر أي شيء أخروي، بل إنه رجل حاد الملامح شبيه بالممثل "مارتن لانداو" ويحب طول عمره فرقة Grateful Dead [الموتى الشاكرين] الموسيقية، ويستطيع أن يحافظ على روحه المرحة حتى وهو يتكلم في أشد المواضيع جدية وقتامة. يلاحظ أن امتلاء الأفلام الأمريكية والمسلسلات التليفزيونية بمصاصي الدماء "التي تحقق الخلود بوسائل معينة ـ هي امتصاصها دماء الآخرين ـ يمكن أن تكون ظالمة وإشكالية".
الإنصاف الذي اشتهرت به أحكامه في منطقة ذات حمولة عاطفية ثقيلة سوف يتعرض لامتحان خلال السنوات الثلاث القادمة التي سيقضيها منفقا منحة مؤسسة "جون تمبلتن" الضخمة. كان تمبلتن أحد كبار ممولي المشاريع الدينية وتوفي في عام 2008، ولا تزال مؤسسته تقوم من مقرها في فيلادلفيا بتمويل الدراسات البحثية في "القضايا الكبرى" ذات الطبيعة الروحانية والعلمية.
ولعل الجدل المحتمل أن يحيط مشروع فيشر واضح بالفعل في النقاش المتعلق بكتاب "إيبن ألكسندر"Eben Alexander الذي صدر حديثا وحقق شعبية كبيرة، وهو كتاب "الدليل على الجنة: رحلة جراح الأعصاب في العالم الآخر". في كتابه هذا،  كتب ألكسندر عن رؤيته للجنة للحظات خاطفة أثناء إصابته بمرض عضال وتعرضه للغيبوبة، حيث تكلم عن امرأة جميلة جعلته يدرك أنه "موضع حب ورعاية ومعزة إلى الأبد".
ذهب منتقدو ألكسندر إلى أنه كان يعاني من الهلاوس. وكتب "أوليفر ساكس" ـ وهو أستاذ علم الأعصاب والكاتب الشهير ـ في مجلة أطلنطيك أن مثل هذه الهلاوس قد يكون لها معناها الروحاني لكنها لا تقوم "دليلا على وجود كيانات وأماكن ميتافيزيقية. غايتها فقط أن تقوم دليلا على مقدرة الذهن على خلق هذه الأماكن والشخصيات".
ومجرد وجود "مشروع الخلود" أطلق التعليقات على المدونات من مؤمنين يرون أن العالم الآخر أمر ثبت بالفعل ومشككين يرون أن منحة بقيمة خمسة ملايين دولار ـ هي الكبرى بالنسبة لأستاذ في العلوم الإنسانية في جامعة يو سي ريفرسايد ـ كان يمكن إنفاقها على تحسين الحياة في هذا الجانب من الجنة.
وبمساعدة فريق من الخبراء يتوقع فيشر أن يقدم عشر جوائز بحثية قيمة كل منها مائتان وخمسون ألف دولار في الربيع الحالي لباحثين في الأعصاب والفيزياء والتحليل النفسي وعلم الاجتماع وغيرهم ممن يقومون بإجراء تجارب ودراسات حول جملة مواضيع من بينها: هل تمكن محاكاة التجارب الخارجة على الجسد؟ هل يمكن تمديد الحياة لمدد استثنائية؟ هل الإيمان بالجنة أو النار يقلل احتمال ارتكاب الناس للجرائم؟ ولقد تقدم بالفعل لهذه الجوائز قرابة خمسة وسبعين باحثا من شتى أرجاء العالم.
ومن المنتظر أن يتم توزيع مليون ونصف المليون دولار خلال العام القادم على خمسة عشر فيلسوفا وعالم لاهوت تمويلا لأبحاث ومقالات وكتب حول جوانب مختلفة من جوانب الخلود. أما المليون دولار المتبقية فسوف تدعم جملة من الأمور من بينها مؤتمرات في جامعة يو سي ريفرسايد، ومسابقة لكتابة المقال، وموقع إلكتروني يتخصص في نشر ببليوجرافيا ومقالات في مختلف الرؤى الدينية للحياة الأخرى.
يقول "بين برادلي" رئيس قسم الفلسفة في جامعة يو سي ريفرسايد والكاتب المتخصص في القضايا الأخلاقية المتعلقة بالموت إن حجم تمويل مشروع فيشر "غير مسبوق في عالم الفلسفة".
ولقد تخوف بعض الأكاديميين من أن تكون المؤسسة قد أملت أجندة دينية على البحث، ولكن باحثين آخرين يعملون بمنح من مؤسسة تمبتن أكدوا أنهم يعملون بمطلق الحرية، ومن هؤلاء برادلي الذي حصل من المؤسسة على ثمانية وعشرين ألف دولار العام الماضي لإلقاء سلسلة محاضرات.
قال برادلي إنه من المهم ـ مع تقدم الطب وتكنولوجيا الكمبيوتر ـ أن يعلو صوت فيلسوف مثل فيشر ليقود النقاش الدائر حول آفاق الحياة الطويلة المحتملة ومدى إيجابيتها.
ومن جانبها وصفت "مارثا نوسباوم" ـ أستاذ الفلسفة والقانون بجامعة شيكاغو ـ فيشر بأنه اختيار جيد لقيادة دراسات الخلود. وقالت في رسالة إلكترونية "إنني لا أعتقد أن احتمالات العثور على دليل يؤكد وجود العالم الآخر مرتفعة (للأسف!)، ولكن فيشر شخص رائع عندما يقوم بإجراء بحث جاد ومفتوح في مثل هذه المسألة، وعندما يصر على أعلى معايير الوضوح والشفافية الفلسفيين".
هناك حاليا بالفعل حلقة نقاشية أسبوعية لطلبة جامعة يو سي ريفرسايد حول مواضيع "مشروع الخلود". فبقيادة من "بنيامين ميتشل ييلين" باحث الدكتوراه ومساعد فيشر ـ قام نحو عشرة أشخاص بحضور جلسة مؤخرا لمناقشة "الواحدية Singularity : احتمالات خلق وعي فائق مؤلف من قوة المخ البشري والذكاء الاصطناعي" وهي وسيلة يعتقد البعض أنها قد تكون سبيلا لتحقيق الخلود".
تنقل الحديث الشائق ما بين الخيال العلمي والأخلاق والدين. وأعرب بعض المشاركين عن تخوفهم من أن تتمكن هذه الأمخاخ العليا الأبدية من استعباد البشر أو تدميرهم. ولكن أحد الطلبة قال إنه ليس واضحا ما إذا كان المخلوق الجديد سوف يأتي "كائنا مفكرا إلهيا أم مجرد مخلوق بائس محبوس إلى الأبد داخل الزمن".
وقد أثار فيشر ـ الذي حضر النقاش ـ سؤالا جريئا، إذ لاحظ أن كلا من الدين والأدب يعددون العقوبات التي تحل على من يسعى إلى الخلود أو المعرفة الكلية، ومن هؤلاء آدم وحواء وطردهما من الجنة، وأسطورة فاوست عن الطبيب الذي يبيع للشرير روحه.
قال إن "مجمل المفهوم هو أننا نشطح حينما ننشد الخلود فنقع حينئذ في مشكلات"
ثم قال فيشر فيما بعد إنه يفهم أن كثيرا من الناس الذين يبعثون إليه الرسائل الإلكترونية راجين أن يقر العلماء بحكايتهم" وإن كثيرا من المتدينين "يشعرون بارتياح عظيم لإيمانهم بأن هناك حياة أخرى رحيمة ومريحة".
لم يتكلم فيشر، هو ووزوجته تينا لويز فيشر، مع أبنائهما الثلاثة كثيرا عن المقدور، وليست للأسرة أرض في المدافن ولا ترتيب لطقس الإحراق. ولكنهما يركزون بدلا من ذلك ـ فيما يقول فيشر ـ على أن يبقوا أصحاء.
قال فيشر إن الموت "فيما يبدو أقرب إلى فكرة مرعبة" ولكن أفضل رد فعل على هذه الفكرة هو أن نعيش "لأطول وقت ممكن أصحاء ومنتجين وأن نجد سبيلا إلى تقبل الموت في سكينة وقتما يجيء".
 
 نشر الموضوع أصلا في لوس أنجلس تايمز ونشرت الترجمة  في العربي العلمي في يونيو 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق