السبت، 27 يوليو 2013

المدن لنا

المدن لنا

ليو هوليس*

كنا قد تجمعنا بجوار كشك التذاكر خارج محطة "ساوث بانك سنتر" في لندن في السادسة والنصف مساء. كانت الجمعة الأخيرة في مايو ولكن كانت في الهواء لسعة برد فتقاربنا من بعضنا البعض في مجموعات ـ أو ثنائيات متلاصقة، أو أصحاب متقاربي الوجوه. والذين جاءوا فرادى كانوا يتلفتون حولهم، أو ينظرون في هواتفهم المحمولة، منتظرين.
واحد فقط من الحاضرين تعامل مع عنوان الفعالية ـ وهو "قليل من الجري عند منتصف الليل" ـ تعاملا حرفيا فلم يرتد إلا ملابس الجري. لم يكن قد قرأ الإرشادات التي أوضحت أن فقرات الفعالية سوف تستغرق حتى الثانية والنصف صباحا. ورجل آخر، سائح أمريكي شاب، تعثر في الفعالية بالمصادفة وأراد أن يشارك في شيء "ملحمي" في ليلته الأخيرة في لندن "قبل أن ينطلق إلى أوربا". كنت أبدو ـ شأن أغلب الباقين ، كما لو أنني خارج للتو من العمل، ولكنني كنت بدلت ثيابي وارتديت معطفا ثقيلا تحسبا لأسوأ طقس محتمل. وفي ظل عدم اليقين تجاه أي شيء مما نحن مقبلون عليه، رحنا نستمتع بأننا لا نعرف.
يقود الفنان والشاعر نيجيري المولد "إينوا إيلامز" ـ منذ سنوات قليلة ـ فعاليات مرتجلة للجري في أنحاء لندن بالليل، مفتشا في الشوارع عن قصص بديلة وتشكيلات مختلفة. وقد كتب على مدونته يقول إن المشروع كله نشأ بهدف الاستكشاف:
"ذات مساء خريفي في عام 2005، نفد صبري أنا وصاحب لي ونحن في انتظار الحافلة، فقررنا على سبيل النزوة أن نمضي في مسار الحافلة ولكن على قدمينا. وبعد ست ساعات، كنا قد طفنا بلندن من باتيريسا إلى تشيلسي إلى فكتوريا إلى فاكسول إلى ويست إند وحتى الساعات الأولى من الصباح، وذهلنا من كم الطاقة والحيوية اللتين استشعرناهما في نفسينا، ونحن نتأمل في عجب شوارع المدينة الخاوية من جلبتها وضوضائها.
منذ ذلك الحين ينظم إيلما فعاليات الجري في لندن، ومؤخرا في برشلونة، بصبحة فرق فنية وراقصين ومشاركين عاديين مثلي أنا، وإذا بالمسيرة المدينية تزينها الألعاب والمهام والتحديات. غير أن مهمته الأولى في أمسيتنا كانت تتمثل في تحويلنا من جمع إلى جماعة. هكذا مضينا  ونحن مصطفون في صفوف شديدة التقارب نتعرف إلى بعضنا البعض. انخرطنا في لعبة جماعية لنمنح أنفسنا إحساسا بالغرض المشترك، وغنينا معا قبالة مجموعات من الشاربين خارج قاعة "رويال فيستيفال هول". ثم انطلقنا "نسترد المدينة".
وفيما كنا نسير، بدأنا نتكلم مع بعضنا البعض، وقد أنشأ بيننا الغناء رابطة جديدة، فمضينا نبحث عما هو مشترك بيننا، نتهادى عابرين النهر داخلين في الشوارع المعتمة. وعند منعطف هادئ، وراء فندق سافوي، انخرطنا في لعبة أخرى. ففي منطقة ممهدة قرب "سان مارتن لين" رحنا نرتجل مسرحيات قصيرة تشاركنا في تمثيلها جميعا. كان ثمة شيء باعث على البهجة القصوى، كان ثمة شيء يحررنا، يطلق المكبوت بداخلنا، ويسمح لنا بارتياد الفضاءات التي كنا نعبرها معا دونما مراعاة لشيء، ويجعلنا نجد متعة في مرافقة الغرباء.
بحلول الواحدة والنصف صباحا، كنا قد مضينا في طريقنا إلى حي تشيناتاون، المشع  بأضواء النيون المبهرة، والذي كان لم يزل يغص بحبال من الأجساد المتواشجة عبر الشوارع. كان الوقت قد حان للجلوس وتناول حساء النودلز. وهنا أوضح إيلما سبب تنظيمه هذه الجولات، التي يجري أغلبها بالليل، من السادسة والنصف مساء وحتى السادسة والنصف صباحا. قال لي إن هناك شيئا استثنائيا في مشاهدة المدينة في وقت تحولها بالليل ثم مشاهدة الفجر إذ يرجع بالحياة والنور إلى الشوارع الخاوية. فيما حدثني آخرون ممن شاركوا في فعاليات سابقة عن لحظات جليلة ـ عن ترتيل رائع خارج محطة لمترو الأنفاق، أو إحساس بإقامة مجتمع ينشأ من لعبة يلعبها المشاركون على مرج معشب هو في العادة لا تمسسه الأقدام.
غرض فعاليات الجري عند منتصف الليل فيما بدا لي هو إعادة الروابط مع الآخرين ـ بقدر ما هو إعادة للربط بيننا وبين ذواتنا المدنية، واستعادة للروابط المارقة التي تتألف منها حياة المدن كل يوم. كم هو سهل للغاية أن ننسى مدى براعة المدن في الجمع بين الناس، وإرغامهم على التفاعل والاستفادة من بعضهم البعض.
وفيما نحن راجعون بعد انتهاء الفعالية تكلمت أنا والسائح الأمريكي ونحن نعبر الجسر عن متع الأمسية غير المتوقعة. كنا قد قضينا ست ساعات نمشي في شوارع أعرفها جيدا، ولكنني لم أعرفها إلا بوصفها خلفية مشهدية لحياة مدينية مستعرة. وبرغم أن موقفي من تلك الأماكن لم يتغير، إلا أنني تذكرت شيئا مهما عن المدينة التي أعيش فيها: فللحظة كنت منفتحا على لقاءات وعلاقات قائمة جميعا على المصادفة. وفيما كنا نمشي أنا ورفيقي الجديد، اتفقنا على أنه في حين أننا قد لا نلتقي أي من رفاقنا في الجري مرة أخرى إلى الأبد، إلا أن لقاءهم كان جيدا، وكذلك كانت معرفتهم على مدار أمسية. واتفقنا على أن هذا ينبئنا بشيء ما عن قوة المدينة.
فيما بعد، حكى لي إيلما كيف أنه أخذ مجموعة من أبناء لندن الذين تتجاوز أعمارهم الثمانين في فعالية للجري كشفت أن الميدنة للمسنين قد تكون حافلة بمناطق محظور دخولها، وأخطار خفية، ومحاذير كثيرة. كان "المشاركون في الجري" الثمانينيون أعضاء في مجموعة فنيةمقرها جنوب شرق لندن ويديرها "ديفيد سولتر". وفيما كانوا يتحركون في المدينة، كانوا يتكلمون عن مخاوفهم، كيف أن الأماكن لم تعد تبدو منفتحة، كيف ضاعت الحريات. وفي مقر جمعية الفنون الملكية قاموا بـ "جمع بيانات" ـ والتعبير لسولتر ـ من خلال تمارين وألعاب ومحاورات، و"لعبوا ألعاب ثيماتها تتعلق بالمكان، والملكية، والمواطنة، والتغير الاجتماعي"، لكنهم في الأغلب، حسب ما قال لي سولتر كانوا يستمتعون بوقتهم، فيحكون قصصا، أو يكتبونها على سبورات بأقلام ملونة وفي طريق الرجوع كانت المخيلات "فيما قال لي وسلتر ـ "تضطرم".
عندما استيقظت في الصباح بعد فعالية الجري، كانت اسطنبوال تسيطر على الأنباء. فقد استخدمت الشرطة قنابل الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه لتفرق حشودا تجمعت في ميدان تقسيم احتجاجا على تحويل الميدان إلى منطقة تجارية. كان المشروع قد حصل من المدينة والحكومة على الضوء الأخضر، ولكن أبناء المدينة تخوفوا من التنازل عن  أحد الأماكن المركزية القليلة التي يقصدها الناس للتجمع في الهواء الطلق لصالح المزيد من المتاجر، وتعرية المدينة من أشجار كان الناس يستمتعون تحت ظلالها. وفي وقت لاحق من إجازة نهاية ذلك الأسبوع، تزايد الحشد ضخامة، وكان الحشد في هذه المرة يحتج على سوء معاملة الشرطة للمحتجين. ووسط الجمع، رقص رجل وامرأة التانجو، فتقاربا وتباعدا، في تناغم شديد، بينما يغطي كل منهما وجهه بقناع مضاد للغاز.
برغم أن مغامرتي الليلية اللذيذة في لندن لم تكن على أي قدر من الأهمية بالمقارنة مع رقصة ميدان تقسيم، إلا أنني استشعرت خيطا رهيفا يربط الأمرين: فكلا الموقفين أدركا أن استخدام الفضاء المديني في غير استخدامه الشائع يجعل المرء يمتلك هذا الفضاء ولو للحظة عابرة. كانت لي شخصيا في ذلك تذكرة بما ضاع مني عبر استخدامي اليومي للمدينة: الإحساس بالدهشة، وبالانفتاح والاكتشاف. وبالنسبة للراقصين، كان ذلك رفضا حازما للسماح لشيء ما بالضياع، بتقوية القبضة وإيجاد رابط بين المكان والرقصة.
"هنري ليفيبفر"، الفيلسوف الفرنسي الماركسي وأشهر سائق تاكسي في باريس، لاحظ في أواخر ستينيات القرن الماضي أنه ما من أماكن محايدة في المدينة، وأن خيوط السلطة المختلفة تجد طرقها إلى كل شق في العاصمة، مقيمة خريطة جديدة من الحواجز والموانع والإقصاءات. وقد تكون هذه الخريطة في بعض الأحيان من الشمولية والكلية بحيث تبدو خفية. ولكنها واضحة في ضوء أن المدينة تنقسم إلى مناطق، وأحياء، ومناطق محظورة.
كانت المدينة، بالنسبة لـ ليفيبفر، هي المشكلة والحل في الآن نفسه لما في حياتنا اليومية من هموم. وفي حدود هذا المنظور السياسي، يصير للناس حق مشترك في استعمال الفضاء المديني دونما قيد أو شرط. ويذهب ليفيبفر إلى أن النظر إلى هذه الفضاءات بوصفها مسرحا للحياة اليومية يغير إحساسنا بالانتماء: فكوننا جزءا من المدينة لا تعود له علاقة بالملكية أو بالثروة، بل بالمشاركة. وبالتبعية، تتغير تصرفاتنا، وتتهذب المدينة.
هذه الفكرة، ويسميها ليفيبفر "الحق في المدينة"، وعرض لها في كتابه المهم الصادر سنة 1968 بعنوان " Le Droit à la Ville "، تبقى بمثابة أمل قوي. وقد تأكدت في خريف عام 2011 في مخيمات "احتلال" التي استشرت في أرجاء العالم عندما قام البشر العاديون بتحويل الفضاءات المدينية العامة بقوة الفعل المباشر. وذلك الأمل حاضر أيضا في العديد من المخيمات (في بوجوتا وريو دي جانيرو على سبيل المثال) التي تؤكد على ضرورة وصول الحافلات الجيدة إلى أكثر مناطق المدينة فقرا، وحاضر في دراسات التوزيع غير العادل للعلاج والتعليم والمساحات الخضراء والمساكن. ذلك النوع من التفاوت هو الذي تسبب في الاحتجاجات التي شهدتها البرازيل مؤخرا والتي كانت شراراتها الأولى هي رفع أسعار النقل العام.
استرداد المدينة قد يتخذ أشكالا كثيرة. فعلى سبيل المثال، بعد ثلاثة أسابيع من تانجو أقنعة الغاز، وبعد كر وفرـ وعنف من الشرطة وخطب تهديدية، ظهر بورتريه آخر في ميدان تقسيم. ففي السابع عشر من يونيو، بعد إجازة نهاية الأسبوع التي تسنى فيها للشرطة أن تخلي الميدان، وكان نتن الغاز المسيل للدموع لا يزال عالقا في الهواء، ظهر الراقص "إرديم جوندوز" في الساعة السادسة مساء، وبقي ساكنا، في مواجهة مركز أتاتورك الثقافي، واضعا يديه في جيبيه. وبقي هناك لمدة ثماني ساعات، وفي الثانية صباحا ـ ساعة أن تدخلت الشرطة ـ كان قد انضم إليه ثلاثمائة شخص. احتجاجه الصامت هذا استرد الفضاء من السلطات دونما الجهر بكلمة.
وحسب ما يلاحظ عالم الجغرافيا "ديفيد هارفي" في كتابه "مدن ثائرة" الصادر سنة 2012، لم تعد تقام في المدينة فضاءات مشتركة ـ أي مناطق عامة نستطيع أن نتجمع فيها بلا خوف أو بلا مطالبات متواصلة من السوق. علاوة على ازدياد ندرة الأماكن المغلقة الخالية من الكاميرات الأمنية، وشركات الأمن الخاصة، ومقاهي ستاربكس، والبوابات، أو المحاذير. خصخصة الفضاء العام تزداد وتجري في أحيان كثيرة برقة تجعلها غير محسوسة.
في عام 2007، قامت جماعة "ريبار" الناشطة فنيا في سان فرانسيسكو باختبار مدى انفتاح العديد من الفضاءات العامة المملوكة لأشخاص من قبيل الأفنية والحدائق المحيطة ببنايات الشركات. وفي سلسلة من الفعاليات البارا أدائية paraperformances ـ مثل جلسات اليوجا الجامعية، والغناء، واللعب بالطائرات الورقية، اكتشفت ريبار طبيعة هذه الفضاءات العامة الحقة. ففي الغالب، بعد دقائق من بدء الفعاليات، كان الناشطون يجدون أنفسهم في مواجهة مدراء من الشركات وأفراد أمن خاص يطالبونهم بالتوقف. وحسب ما يلاحظ هارفي، ليس كافيا أن تعرف المكان بوصفه أرضا مشتركة، لأنها سوف تبقى دائما موضع نزاع. ولكن الحفاظ على المشتركات مسألة فعل مستمر، عملية تحديد وإعادة تحديد للاستخدام العام للمكان.
لقد فقدنا الكثير من فضاءات المدينية العامة دون أن ندري. وبحسب ما تلاحظ الصحفية "آنا مينتن" Anna Minton  في كتابها "التحكم الأرضي: الخوف والسعادة في القرن الحادي والعشرين" (2009)، فإن النهضة "الحضرية" لكثير من مراكز المدن أدت إلى إنتاج مناطق "مصممة خصيصا للتسوق وقضاء أوقات الفراغ". هذه "المراكز التجارية المفتوحة" [‘malls without walls’] الجديدة يملكها أشخاص لا يريدون إلا الحد الأقصى من العائدات على استثماراتهم، ونتيجة لذلك يقتلون في المدينة كثيرا من إنسانيتها. فلم يبق في المدينة إلا أماكن قليلة للغاية هي التي يمكنك أن تجلس فيها قبل أن تبادر أولا بطلب القهوة.
هذه الفكرة المتعلقة بامتلاك الفضاءات العامة معقدة بعض الشيء. لقد صدرت لعالم الاقتصاد "جاريت هاردين" Garrett Hardin مقالة عنوانها "مأساة المشتركات" في نفس العام الذي شهد صدور كتاب ليفبفر المهم، وجاء فيها أن الأفراد إذا ما تركوا لرذائلهم فإنهم في أغلب الحالات يتصرفون بأنانية وينتهكون الملكيات العامة. في المقابل، أوضحت أستاذ العلوم السياسية "إلينور أوستروم" في كتابها "حكم المشتركات" (الصادر سنة 1990) أن المشتركات ليست لعبة محصلتها صفر.  فلقد أثمرت عن إنشاء أنظمة إدارة أفضل بكثير بالمقارنة مع الملكية الخاصة أو السيطرة الحكومية. ولكن هذه الملكية، كما يذكرنا ديفيد هارفي، لا تنشأ فقط من عقود أو مفاوضات، بل من عمل. فاسترداد الفضاء العام يفعل ما هو أكثر من تغيير المدينة: إنه يخلق المواطنين.
من خلال المظاهرات العنيفة الجريئة، العروض الفنية المثيرة، وفعاليات المواطنة، بل وأعمال البستنة الطوعية، تتواصل المعركة من أجل الفضاء المدني لإعادة اختراع نفسها. أحيانا، يبدأ الفعل كرد فعل على الدولة. في أحيان أخرى، تنطلق لأن القوى القائمة في السلطة تكون بطيئة في ردود أفعالها تجاه الأحداث، فيستولي المواطنون أو منظمو الحملات على الأمور ويجعلون من الحيز الحضري مجالا مشتركا بدلا من أن يبقى "مشكلة شخص آخر".
قد يكون صوت المعركة مزعجا. فقد بدأ وجود حركة "مسيرة البغايا SlutWalk " في تورنتو في ابريل 2011، بعدما قال ضابط شرطة محلي يدعى "مايكل سانجوينيتي" أثناء محاضرة له مع طلبة إن "على النساء ألا ترتدين مثل البغايا لكي لا تصبحن ضحايا". في تنظيم كان دافعه الغضب، بدأت الفعالية الأساسية بنساء ترتدين ثيابا فاحشة ويحملن لوافت كتب عليها "أنا بغي، لا تهاجمني"، و"كبرياء البغايا". وأثارت الفعالية مسيرات محاكية لها في أنحاء مختلفة من العالم.
ما كان بوسع حملة "المنطقة الأفضل" أن تكون أكثر اختلافا. تأسست في ابريل 2012، حينما قرر ناشطون ومخططون أن يفعلوا لأنفسهم شيئا. تركز الحملة على تحسين منطقة سكنية محددة في حي ما بجعلها أكثر ترحيبا بالناس، من خلال إقامة مسارات للدراجات، وزرع أشجار، وغرس أعمدة إنارة وإقامة مقاه مؤقتة ذات مقاعد في الهواء الطلق. وليست "المنطقة الأفضل" وحيدة في هذا المضمار، فهناك مجموعة "إزالة الأسفلت" Depave  في بورتلاند بولاية أوريجون التي تقوم بإزالة الأسفلت غير اللازم وتحويل الأرض إلى حدائق، وهناك "إيديبل باس ستوب Edible Bus Stop " في جنوب لندن وهي جماعة بستنة تقوم بتحويل المساحات المهملة إلى واحات خضراء.
ولكن المشترك بين كل هذه المجموعات هو فهمها للترابط بين المكان والفعل. وفوق ذلك أنها تبين كيف يمكن للفعل أن يكون لحظات للتحول. إن المطالبة بملكية مشتركة للفضاء تقتضي مواطنا من نوع معين، مواطنا عازما أن يشمر عن ساعديه ويوسخ يديه. وذلك ما يبينه أستاذ علم الاجتماع "ريتشارد سينيت" ببراعة في كتابه "معا: طقوس التعاون ومسراته وسياساته" (الصادر في 2012) التعاون مهارة علينا أن نتعلمها ونمارسها طول الوقت، وهي ليست سهلة، ولكنها جديرة بالتعب.
ولقد وجدت مثالا مدهشا على هذا الدرس القيم عندما كنت أسافر في بانجلور في مارس 2012. "الهندي القبيح The Ugly Indian " حركة من رجال أعمال ناجحين في مجال تكنولجيا المعلومات وصناعة خدمات الاتصال، وقد ضجروا من انتظار السلطات أن تقوم بتنظيف المدينة وتيسيرها للحياة. فما كان منهم إلا أن صاروا يقومون في الخفاء ـ وهم في كل الحالات مجموعة غير معلنة الأسماء ـ بالاستيلاء على شارع هادئ في حي صغير ويحولونه بأنفسهم.
عندما وصلت، كان ثمة متطوعون ـ يعملون أصلا في بناية قريبة تابعة لبعض الشركات ـ مشغولين بالفعل، يرتدون القفازات ويستخدمون الأرفاش في إزالة أكوام من القمامة الفائضة من على الأرصفة إلى نهر الشارع. كان أحد المدراء متوقفا لتدخين سيجارة، قال لي إن الكثير من هؤلاء الموظفين المتعلمين يتذوقون العمل اليدوي لأول مرة. وفيما هم يعملون في القمامة بثياب العطلة الأسبوعية وأحذية العمل العادية، مرتدين أقنعة طبية تقيهم الغبار، كانوا قد بدأوا بالفعل يصنعون الفارق. كانوا قد نظفوا الشارع، وأعادوا تبليط أجزاء في الرصيف ببراعة، وبدأوا يفكرون في زرع أشجار وزهور.
بالنسبة للهندي القبيح، بدأت الفكرة بالخمسين قدما المقابلة لبيتك أو مكان عملك. كان من الواضح تماما أن السلطات المحلية لن تتغير في القريب، ولكن ذلك لم يكن سببا يدعو المواطنين إلى عدم الاعتناء بمدينتهم بأنفسهم، بدون خطب ولا وعظ ولا تنظيم سياسي، ولا غضب ولا مواجهة ولا نقاش ولا منشورات". ولم يكن المشروع يعد المتطوعين فيه إلا بصباح أخضر.
ومع ذلك، قال لي هندي قبيح ونحن نشرب الشاي من إناء موضوع على دراجة نارية، إن مجرد كنس التراب وإزالة القمامة ولصق البلاط يجعل المجموعة تشعر بالحي. وهذا يبين للمواطنين العاديين كيف أن مجرد القيام بشيء بسيط يحول "المشكلة" إلى "مشكلتنا نحن" ثم يحول الحي إلى "حينا نحن". وقال لي المنظم إن "الكثير من الناس يسألوننا عن كيفية إقامة نسختهم من الهندي القبيح، فأقول لهم إنهم ليسوا بحاجة إلى ذلك. كل ما هم بحاجة إليه هو أن يبدأوا العمل".
وهذا ما يربط الفعاليات شديدة الاختلاف: فعاليات ميدان تقسيم وفعاليات احتلال، وفعالية في محطة للحافلات بلندن أو في شارع في بانجلور. إن استرداد المدينة يبدأ بإدراك أن "المكان" مهما تكن مشكلاته هو في الحقيقة "مكاننا نحن". وباسترداده، قد يتبين لنا أخيرا أننا بالفعل نمتلك الحل، وفي ثنايا هذه العملية، قد نغير ضمن ما نغيره أنفسنا أيضا.
عن مجلة أيون في 18 يوليو 2013


·                 ليو هوليس كاتب وناشر ومؤرخ مديني يعيش في لندن. صدر أحدث كتبه بعنوان "في المدن خير لكم: عبقرية الحواضر" (2013)
نشر المقال أصلا هنا ونشرت ترجمته اليوم في جريدة عمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق