السبت، 15 يونيو 2013

لا بديل



لا بديل
هنري فاريل


طفل ينتظر أمه في لجنة انتخابية في روما في 24 فبراير 2013 ـ رويترز




في سبتمبر الماضي، وجه لي الحزب الديمقراطي الإيطالي الدعوة للحديث حول السياسة والإنترنت في المدرسة الصيفية التي يقيمها الحزب في كورتونا. ومدارس السياسة الصيفية غالبا ما تكون باعثة على السرور وخالية من الإثارة، وكروتونا مدينة من القرون الوسطى تقع على تل توسكان وفيها العديد من المطاعم الممتازة. وفي هذه المدارس غالبا ما يلقي المثقفون والأكاديميون محاضرات تدور حول ثيمة معينة هي، في حالتنا هذه، تحديات "التواصل والديمقراطية". هنالك، يصغي ناشطو الحزب الشباب في أدب إلى كلماتنا، منتظرين أن يقوموا بأعمال السياسة الحقة فيما بين الجلسات وفي وجبات المساء.
لكن هذا العام كان مختلفا. فالحزب الديمقراطي الإيطالي ـ الذي يسيطر على يسار الوسط ـ كان يعرف أنه في مأزق. إذ أن مدونا متوهجا وممثلا كوميديا سابقا يدعى "بيبي جريلو" كان قد حول نجوميته إلى قوة سياسية إنترنتية، هي حركة الخمس نجوم، التي بدا أنها تعد بأداء طيب في الانتخابات الوطنية. لم تكن لدى الحزب الجديد أية خطة متماسكة فيما بعد الإطاحة بـ الفساد القديم، ولكن الدعوة نفسها كانت كفيلة بإخراج الحشود. ولقد برعت حركة الخمس نجوم بصفة خاصة في اجتذاب المثاليين الشباب، وهم نوعية الناخبين التي كان يمكن قبل عقد من الزمن أن تصوت للديمقراطيين.
خيمت المخاوف من ذلك الخطر على المدرسة الصيفية. وعلى حين غرة أصبحت للعلاقة بين التواصل والديمقراطية معانٍ سياسية آنية. وكان الحزب الديمقراطي قد قضى عقدين من المعاناة في ظل سيطرة رئيس الوزراء السابق "سلفيو برلسكوني" على الإعلام التقليدي بل وإمساكه بخناقه. وها هو الآن يجد نفسه في مواجهة تحد من اليسار أيضا، يمثله هذه المرة شعبويون وقودهم هو الإنترنت، وبدا واضحا أنهم يسحبون من الحزب العريق طاقته ويلفتون الأنظار بعيدا عنه.
كان المتحدث الرئيسي في المدرسة الصيفية هو زعيم الحزب الديمقراطي ورئيس الوزراء المحتمل "بيير لويجي برساني"، وكان في موضع عصيب للغاية، إذ تحداه "ماتيو رينزي" عمدة فلورنسا "الإصلاحي" في زعامته للحزب، وتعهد بأن يقدم هو الديناميكية اللازمة لاجتذاب الناخبين الشباب. فلو شاء بيرساني البقاء زعيما للحزب، فقد كان عليه أن يفوز في اقتراع داخلي مفتوح. وكانت المدرسة الصيفية فرصة له للحديث مع الناشطين في فترة تدريبهم، ومحاولة إظهار أنه لا يزال له مكان.
كنت أحد اثنين من المتحدثين المكلفين بتسخين الجو لبيرساني. صبر علينا أعضاء الحزب والصحفيون وهم ينتظرون الحدث الحقيقي. ولكن حينما بدأ بيرساني  حديثه، قال كلاما كان من المذهل مدى ما فيه من يأس.  قال للجمهور إن الديمقراطية التمثيلية، الديمقراطية التمثيلية الأوربية على وجه الخصوص، في أزمة. فلقد قدمت هذه الديمقراطية للعالم ذات يوم نموذجا للتصالح بين الاقتصاد والمجتمع. ولكنها الآن لم تعد قادرة على تقديم ما يريده الناس من منافع ملموسة ـ كالوظائف، والحقوق والحماية بيئية. ففي إيطاليا، دأب بيرلسكوني وحلفاؤه دأبا ممنهجا على نزع الشرعية عن الحكم وتقويض المجال العام، فاننقطعت العلاقة بين السياسة والمجتمع.
كان بيرساني يعرف ما لا يريد: وهو التغيير السياسي الراديكالي. فلا بد لأي إصلاحات أن تكون ضاربة بجذورها فيما أحد أشكال التضامن التقليدية؟ ولكنه لم يكن يعرف أيضا ما الذي يريده، أو هو لم يكن قادرا على وصفه إن كان يعرفه. كانت كلمته هجوما مغلفا بالتجريدات العارمة المعتادة في الطنطنة السياسية الإيطالية، وقد انصب هذا الهجوم كله على الراديكالية المزعومة لدى كل من منافسه داخل الحزب وحركة الخمس نجوم. أما هو شخصيا فلم يكن لديه في حقيقة الأمر برنامج يخصه. ولم يكن بوسعه أن يعد حزبه بشيء اللهم إلا التحديات الصعبة والنتائج المشكوك فيها.
ما الذي يجعل من الصعب إلى هذه الدرجة على الديمقراطيين الاشتراكيين من أمثال بيرساني أن يتبينوا ما يجب عليهم القيام به؟ فليس الإيطاليون وحدهم المأزومين، بل إن الديمقراطيين الاشتراكيين يتراجعون أيضا في دول أخرى. ففي فرنسا قدمت حكومة فرانسوا أولاند الكثير: تخفيفا بسيطا في إجراءات التقشف (سيكون عجز الموازنة في فرنسا هذا العام أكثر قليلا مما يمكن أن يروق للمفوضية الأوربية)، خطب بين الحين والآخر حافلة بالطنطة المناهضة لرجال الأعمال (عادة ما تليها بيانات مناقضة لها)، المزيد من الضرائب على كل ثري (يتم التراجع عنها بأسرع ما يمكن). أما ما لم تقدمه فهو أي شيء يشبه برنامجا متماسكا للتغير.
كذلك يعاني الديمقراطيون الاشتراكيون في ألمانيا. فبوسع حكومة الحزب الديمقراطي المسيحي أن تفلت بأية إجراءات تقشفية طالما أنها تقنع الناخبين بالحفاظ على أموالهم في مأمن من الأسبان والإيطاليين واليونانيين [بعدم تقديم أية مساعدات في سياق خطط الإنقاذ المالية لتلك الدول].  ومرشح الحزب الديمقراطي الاشتراكي للمستشارية "بيتر شتاينبروك" ليس في موضع يسمح له بالاعتراض.  فلقد ساهم في عام 2009 في تقديم إجراء دستوري للحد من الإنفاق الحكومي راجيا من ذلك أن يبدو حزبه أكثر عقلانية. وهو الآن يبدو نسخة من منافسته المستشارة الحالية أنجيلا ميركل، ولكنها النسخة الأضعف الأوهى عزما.
وفي اليونان لم يحصل حزب باسوك الاشتراكي الرئيسي إلا على 12.3 في المائة من أصوات الناخبين في انتخابات يونيو من العام الماضي. والديمقراطيون الاشتراكيون في أسبانيا في حيرة أعظم من الحكومة المحافظة. وحزب العمل في أيرلندة ـ وهو حزب صغير في الحكومة الحالية ـ رأى قدرته الانتخابية تتهاوى من 21 في المائة إلى 4.6 في المائة في الانتخابات النصفية في مارس.
الديمقراطيون الاشتراكيون الأوربيون ـ حيثما يكونون ـ لا يعرفون ما الذي يمكن أن يقدموه للناخبين. وحيثما يكونون في السلطة لا يعرفون كيف يستخدمونها. وحتى في الولايات المتحدة التي لم يكن فيها يوما حزب ديمقراطي اشتراكي ذو جاذبية على المستوى الوطني، طرأ تغير تدريجي على الديمقراطيين فتحولوا من حزب ينتمي انتماء مبهما إلى اليسار إلى حزب يتسع للنطاق المحدود الممتد من شبه يسار الوسط وحتى يمين الوسط. وهو بدوره يعاني مشقة هائلة في طرح أجندة جديدة بسبب الانقسامات الداخلية مثلما بسبب العداوة التي يطوقه بها الحزب الجمهوري.
لم يكن هذا هو الذي يفترض أن يحدث. ففي الفترة من تسعينيات القرن الماضي وحتى العقد الأول من قرننا هذا، كانت أحزاب اليمين متحمسة للسوق وتنادي بتحرير البنوك وخصخصة وظائف الدولة الجوهرية وتقليل الحماية الاجتماعية. وكل هذه تبدو الآن أفكارا بالغة الرداءة. ومن ثم فقد كان ينبغي للأزمة الاقتصادية أن تبدد مصداقية اليمين لا اليسار. فما الذي يجعل اليسار مشلولا بهذا الشكل؟
كتاب "كولين كراوتش" الصغير والمزعج الصادر سنة 2005 بعنوان "ما بعد الديمقراطية" يقدم إجابة محتملة. كراوتش أكاديمي بريطاني قضى سنوات كثيرة في التدريس بالمعهد الجامعي الأوربي في فلورنسا حيث كان المشرف الأكاديمي لي. ولقد حظي كتابه بقراءة جيدة في المملكة المتحدة، ولكن تأثيره في أوربا القارية كان أوضح بكثير. فلقد كانت أفكاره طاغية على مدرسة كورتونا الصيفية برغم من عدم وجوده فيها. إذ كان المحاضر تلو المحاضر يواجه التحدي الذي أثاره ذلك الكتاب. وكان الخوف من أن يكون الكاتب على حق، وألا يكون لنا حقا مخرج مستساغ من وضعنا الراهن، كان ذلك الخوف يخيم على المؤتمر كأنه كرة من غبار.
يرى كراوتش تاريخ الديمقراطية بوصفه قوسا أو منحنى. في البداية يتم استبعاد الناس العاديين من عملية اتخاذ القرار. وعلى مدار القرن العشرين، أصبح أولئك العاديون قادرين أكثر فأكثر على تقرير مصيرهم الجماعي من خلال العمليات الانتخابية، وإقامة الأحزاب الشعبية القادرة على تمثيل مصالحهم في الحكومة. كان الرخاء ورضا العاملين يمشيان يدا في يد. وكان الاقتصاد يدرك حدود سلطته ويستجيب لحكم ذي شرعية ديمقراطية. كانت الأسواق خاضعة للسياسات وليس العكس.
في مرحلة ما تالية لنهاية الحرب العالمية الثانية، بلغت الديمقراطية ذروتها في دول مثل بريطانيا والولايات المتحدة. وبدأت منذ ذلك الحين  رحلتها مع الانحدار ـ بحسب ما يرى كراوتش. وفي حين كانت لأماكن مثل إيطاليا تواريخ غامضة من الصعود والهبوط، بدأت بلاد أخرى ـ مثل أسبانيا والبرتغال واليونان ـ مسيرة الصعود متأخرة كثيرا، حيث لم تتخلص من دكتاتورياتها إلا في السبعينيات من القرن الماضي. ومع ذلك، فكل تلك البلاد وصلت إلى المنحنى الهابط من القوس. صحيح أن هياكل الديمقراطية الشكلية لم تزل كما هي لم تمس. ولم تزال الأحزاب تتنافس في الانتخابات بين بعضها البعض، وتدخل الحكومات وتخرج منها. ولكن هذه الأفعال القائمة على الاختيار الظاهري باتت مفرغة من معناها. فالقرارات الحقيقية يتم اتخاذها في أماكن أخرى. أما نحن فلسنا غير مقيمين في أطلال مجتمعات الديمقراطية العظيمة الغابرة.
كراوتش
يلقي كراوتش بعض اللوم في هذا على المشبوهين المعتادين. فمع تعولم الأسواق، ازدادت سلطة المشاريع الاقتصادية (بات من الممكن نقل أنشطتها   أو التهديد بذلك) وضعفت الحكومات. ولكن دروس كتابه الحقيقية تتعلق بأشكال معينة من الانقطاع.
لقد كان يفترض أن تقوم النيولبرالية بإزاحة السياسات العقيمة وإفساح المجال لتنافس كفء أساسه السوق ـ ولكنها لم تفض إلى انتصار للسوق الحرة بل إلى ميلاد بشاعات جديدة. كانت الشركة التقليدية ـ القائمة على علاقات مستقرة بين صاحب العمل والموظفين والزبائن ـ حولت نفسها إلى شبكة معقدة دائمة التحول، شبكة من علاقات الطلب والأشكال التعاقدية. بقي المُلاك على حالهم ولكن علاقتهم بالموظفين والزبائن هي التي اختلفت أشد الاختلاف. وذلك لسبب واحد، هو أنه لم يعد من الممكن تحميلهم المسئولية ومحاسبتهم. وحسب ما أوضح المحامي العمالي الأمريكي "توماس جيوجيجان" وغيره، فإن الشركات الأمريكية تعمل بمنهجية على إعفاء أنفسها من الالتزامات التقاعدية السخيفة تجاه موظفيها بنقلهم إلى شركات تابعة. وتستخدم سلسلة متاجر وولمارت علاقات التعاقد بالوكالة لتستفيد من مزايا ظروف العمل غير الآمنة في العالم النامي، في حين تعمل بدأب على منع أي جهود لتحسين معايير الأمن الصناعي إلى أن مات 112 عامل ثياب في حريق مصنع ببنجلاديش في نوفمبر من العام الماضي. وتستخدم أمازون الوكلاء لتشغيل عمال المخازن في ظروف عمل بائسة وغير آمنة، مع تقليل الضرر الواقع على علامتها التجارية إلى أقل قدر ممكن.
وبدلا من منع هذه الممارسات السيئة، إذا بالدولة تحاول تقليد هذه الترتيبات الأكثر مرونة وكفاءة في ظاهرها، إما من خلال إيكال بعض من أنشطتها الجوهرية إلى القطاع الخاص عبر علاقات تعاقدية معقدة أو من خلال مطالبة وحداتها الداخلية بالعمل كما لو كانت شركات قائمة على المنافسة. وبات يصعب على المرء حينما ينقل عينيه من المشاريع الاقتصادية إلى الدولة، ومن الدولة إلى المشاريع الاقتصادية، أن يحدد من الدولة ومن المشروع. والنتيجة شبكة معقدة من العلاقات التي لا هي خاضعة لنظام السوق ولا لسيطرة الديمقراطية. فلقد بات البيزنس متداخلا مع الدولة بوصفه زبونا وبوصفه مشرِّعا. والدول يوما بعد يوم تزداد اعتمادا على البيزنس إلى درجة أنها لم تعد تعرف ما الذي يمكنها أن تفعله بدون نصائحه. أما المسئولية والمحاسبة فتتلاشيان في متاهة متكاثرة من العقود وعقود الوكالة. ولم تعد الحكومة ـ على حد وصف كراوتش ـ مسئولة عن توصيل الخدمات أكثر من مسئولية شركة نايك عن تصنيع الأحذية التي تحمل علامتها التجارية. أما عالم الديمقراطية الحقيقية ـ بما فيه من اختيارات سياسية تعبر عن احتياجات الناخبين ـ فقد بات يتقلص كل يوم.
وفي هذه الأثناء انجرف الساسة وجنحوا إلى ما وراء متناول الأحزاب التي كانت تختارهم والناخبين الذين كانوا ينتخبونهم. فهم ببساطة ما عادوا بحاجة إلينا مثلما كانوا من قبل. فالأسهل بما لا يقاس في أيامنا هذه هو أن تطلب المال والخبرة من رجال الأعمال في مقابل المحاباة والخدمات السياسية، لا أن تتكهن باحتياجات جمهور الناخبين الذي يزداد كل يوم تشظيا ويزداد فهمه صعوبة على صعوبة. كل من اليمين التقليدي ـ الذي كانت له دائما صلات قوية برجال الأعمال ـ واليسار الجديد ـ الذي نسج روابط جديدة على عجل ـ يعتمدان على القطاع الخاص أكثر مما يعتمدان على الناخبين أو الناشطين الحزبيين. وفي حين ازداد اليسار واليمين انقطاعا عن الجمهور وقربا من أحدهما الآخر، باتت الانتخابات ممارسة للدعاية لا للاختيار الجوهري.
كان كراوتش يكتب "ما بعد الديمقراطية" قبل عشر سنوات، حينما كان الناس يتصورون أن الأمور طيبة. طالما كان الاقتصاد مستمرا في توفير الوظائف والنمو، لم يبد الناس مبالين بتفريغ الديمقراطية. ولم تكن أحزاب يسار الوسط قلقة هي الأخرى: فقد كانت استجابتها للحوافز الجديدة بمحاولتها صياغة مبادرات "الطريق الثالث" شبه السُوقية القادرة على توفير الفوائد الاجتماعية. ولكن دروس كراوتش الحقيقية لم تجد وطنها الحق إلا غداة الأزمة الاقتصادية.
المشكلة التي يواجهها يسار الوسط الآن لا تتمثل في أنه يريد اللجوء إلى خيارات صعبة أو غير جماهيرية. بل أنه لم يبق أصلا من خيارات حقيقية. هو اليوم حبيس المتاهة، لا هو قادر على الوصول إلى قواعد تأييده التقليدية (المحتضرة إلى حد كبير أو المغتربة في أحسن الأحوال) ولا هو قادر على اقتراح أية مبادرات جديدة كبرى، إذ لم يعد بيد الدولة من الأدوات ما تنفذ به هذا النوع من المبادرات. فحينما يتم اتخاذ جميع القرارات المهمة خارج العملية السياسية الديمقراطية، لا يبقى بوسع يسار الوسط إلى المضي في حركاته الديمقراطية الطقوسية، راجيا من يتحرك بالنيابة عنه.
يواجه أغلب أحزاب اليسار اليوم هذه النسخة أو تلك من نفس هذه المشكلات. المحاباة الآن مؤسسة أكثر منها عيبا في الولايات المتحدة، حيث لا تتوقف عملية اتخاذ القرار عن التداول فيما بين شارع وول ستريت، وشارع كيه ستريت [حيث مراكز الأبحاث]، ومجلس الشيوخ، والكونجرس. أما أوربا فلها مخاوفها الخاصة. فحتى لو كان مقدرا للأنظمة السياسية الوطنية أن تستعيد ـ بمعجزة من المعجزات ـ قدراتها القديمة على الاستجابة، فإن سلطة اتخاذ القرار انتقلت إلى الاتحاد الأوربي الذي يسيطر عليه مزيج مسموم من الاقتصاديين العمليين والبيروقراطيين الذين يخدمون مصالحهم الشخصية. الدول الشمالية الثرية لا تعتزم تقديم ما هو أكثر من المساعدة التي لا غنى عنها لجيرانها الجنوبيين، ولكنها تضغط على هؤلاء الجيران من أجل المزيد من الإجراءات التقشفية. البنك المركزي الأوربي ـ الذي تم إنشاؤه عن عمد بعيدا عن الإشراف الديمقراطي ـ يزداد أهمية ويتعاظم دوره السياسي. ولقد كان الديمقراطيون الاشتراكيون ينظرون إلى الاتحاد الأوربي ذات يوم بوصفه ترسا دون العولمة ـ وربما بوصفه مثالا يمكن للاقتصاد الدولي إن احتذى به أن يخضع للسيطرة الديمقراطية. ولكنه بدلا من ذلك يمرض بنفس الأمراض إذ يطالب الدول الضعيفة فيه بتنفيذ إصلاحات اقتصادية قاسية دونما التظاهر باستشارتها في هذا الذي يفرضه عليها فرضا.
ولنرجع إلى إيطاليا، مختبر أبشع تجليات ما بعد الديمقراطية. فروزا إيطاليا، وهو التصور المثالي لسلفيو برلسكوني عن الحزب السياسي، يعد مثالا كاملا لفرضية كراوتش: فما هو غير قشرة هشة من الدعاية والحشد الجماهيري، حول جوهر كثيف من النخب الاقتصادية السياسية الطافية على هواها بالداخل.
بعد انتهاء مدرسة كورتونا الصيفية، انتصر بيرساني على رينزي في نوفمبر من العام الماضي وتزعم حزبه في الانتخابات العامة. وخسر ائتلافه 3.5 مليون صوتا، ومع ذلك فاز بالمجلس البرلماني الأقل أهمية في فبراير، وذلك لأن النظام الانتخابي الإيطالي يعطي مكافأة هائلة لأكبر الفائزين. وبعد فشله في تحقيق الأغلبية في المجلس الأهم، يبذل دونما جدوى أفضل ما في وسعه لتشكيل حكومة. في الجهة المقابلة، أبلت حركة النجوم الخمس بزعامة جريلو بلاء حسنا فاق جميع التوقعات، فحصلت على ربع أصوات الناخبين. وأعلن جريلو بوضوح أن حزبه لن يدعم الحزب الديمقراطي. وحاول رينزي أن يقدم نفسه مرة أخرى بوصفه الزعيم التوافقي الذي يمكن أن يكون مقبولا لدى جريلو، ولكنه لم ينجح في مسعاه هذا إلى الآن. وأرجح الاحتمالات أنه سوف تجرى انتخابات عامة ثانية في غضون شهور قليلة.
يتربع الحزب الديمقراطي الإيطالي على أحد طرفي شوكة أزمة ما بعد الديمقراطية. فهو يحاول أن يعمل من داخل النظام القائم كما هو، متعلقا برجاء كاذب في إمكانية إحداث تغيير حقيقي داخل إطار يبدو أنه مصمم أساسا لمنع التغيير من الحدوث. وفي الوقت الذي كان الحزب يتودد فيه إلى جريلو، بدأ يصدر جلبة حول رفضه لسياسات التقشف وتقديم إصلاحات مؤسسية. وليس من الواضح ما إذا كان كبار الديمقراطيين يصدقون ما يلغون به حقا، ولكن من المؤكد أنه لغو لا يصدقه أحد آخر. ولو أن الحزب تمكن بطريقة أو بأخرى من الوصول إلى السلطة، فأقصى ما سوف يقوم به هو ترقيع  النظام القائم.
وعلى الطرف الآخر من شوكة أزمة ما بعد الديمقراطية، خوزقت حركة النجوم الخمس نفسها، مثلما فعل الـ إندجنادوس [indignados المتظاهرون الأسبان] في أسبانيا، واحتلال في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وحركة خيمة في إسرائيل. فجميع هذه الحركات نال دعما شعبيا بسبب مشكلات ما بعد الديمقراطية. والانشقاق ما بين الناس العاديين والساسة يزداد اتساعا، والساسة الإيطاليون يجتمع فيهم في الغالب الفساد والبعد عن الناس. وحركة النجوم الخمس تريد إصلاح المؤسسات الإيطالية لتكون ديمقراطية بحق. غير أنها بدورها واقعة في شرك النظام.  وبحسب ما قال جريلو لفايننشال تايمز في أكتوبر "نحن نموت إن تحولنا من حركة إلى حزب. مشكلتنا هي أن نبقى حركة داخل البرلمان، وهو بنية مخصصة للأحزاب. علينا أن نبقي قدما لنا بالخارج".
الحقيقة هي أنه لو أرادت حركة النجوم الخمس أن تمرر مقترحاتها بالتغييرات الراديكالية من خلال النظام السياسي الإيطالي المعقد، فسيكون عليها أن تتنازل مثلما تفعل بقية الأحزاب. وعزوف جريلو حتى عن التسلية بالمناقشات مع الأحزاب الأخرى التي تشاركه أجندته يخلق تصدعات داخل حركته. جريلو يتوق إلى تحولات راديكالية، تحل فيها محل السياسات الإيطالية إصلاحات جديدة نابعة من "الذكاء الجمعي المعتمد على الإنترنت، بحيث يتسنى لأفراد الشعب الإيطالي أن يحلوا مشكلاتهم جماعيا بعيدا عن الصفقات الحزبية القبيحة. ومن أجل إنقاذ الديمقراطية تود حركة النجوم الخمس أن تترك السياسات من ورائها. وهذا لن يفلح.
ومشكلات اليسار الإيطالي هي مثلها في دول أخرى. فحزب العمل البريطاني يجد مشقة في التررد بين الطريق الثالث البليري الذي لا يقدم بديلا واضحا للحكم الراهن، وديمقراطية اشتراكية كاملة لا يستطيع أن يحددها تحديدا حقيقيا. واليسار الفرنسي أوقع نفسه في مستنقعات الفضائح والارتباك. واليسار اليوناني منقسم بين حزب ديمقراطي اشتراكي يفوق نظيره الإيطالي في قدرته على التنازل، وتحالف مفكك من الراديكاليين يريد أن يفعل أي شيء وكل شيء إلا أن يجد نفسه في السلطة ملزما باتخاذ القرارات.
الكل مشوش، بمختلف الطرق، وحائر في مأزق ما بعد الديمقراطية. وليس لدى أحد مخرج جيد. ومنذ أن حاول الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران في ثمانينيات القرن الماضي أن يلتزم بأجندة ديمقراطية اشتراكية واسعة النطاق فعاقبته الأسواق الدولية بقسوة، بات واضحا للجميع أن الديمقراطية الاشتراكية سوف تقتضي إما انسحابا جزئيا من الاقتصاد الدولي، بكل ما يستتبعه ذلك من تكاليف، أو تحويلا راديكاليا للطريقة التي يعمل بها الاقتصاد الدولي نفسه.
والمدهش أن اليمين ليس مشوشا بهذا القدر. فكثير من كبار المحافظين لا يزالون ملتزمين بالديمقراطية لأسباب برجماتية أكثر منها مبدئية. وهم راضون برؤيتهم لها وهي تغرق طالما بقيت الأسواق بخير والاستقرار الاجتماعي مضمونا. أما من هم في أقصى اليمين ـ من أمثال "الفجر الذهبي" في اليونان ـ فهم أقدر كثيرا من الحركات اليسارية ـ مثل حركة النجوم الخمس الإيطالية أو سايريزا  اليونانية ـ على التفكير في البدائل. لأنهم في نهاية المطاف ليسوا مهتمين اهتماما خاصا بإصلاح المؤسسات الديمقراطية المحتضرة حتى تجعلها أفضل وأقدر على الاستجابة للناس، فغاية ما يريدونه هو إحلال فاشية عسكرية ما محل هذه المؤسسات. وحتى إذا لم يكن ثمة احتمال لنجاح هذه الفصائل، يظل بوسعها أن توجه بلادها إلى غير مسار الديمقراطية، باستبعادها الجماعات الأضعف من الحماية السياسية. وليس من المرجح أن تكون السنوات العشر القادمة سنوات ارتياح للمهاجرين في جنوب أوربا.
ما بعد الديمقراطية تخنق أحزاب اليسار القديمة التي استنفدت اختياراتها. ولعل أقصى ما تستطيع الديمقراطية الاشتراكية أن تفعله ـ إن نحن عدلنا قليلا في نكتة سوداوية أطلقها كراوتش في سياق مختلف ـ هو أن تعمل حاملة للنعش في جنازتها الخاصة. في المقابل، استطاع اللاعبون الجدد ـ حركة النجوم الخمس وغيرها من تجمعات الغاضبين الشباب المشردين ـ أن يقتنصوا فرصة اكتساب التأييد الشعبي. ولكن المشكلة أنهم فيما يبدو عاجزون عن تحويل  الإحباط الشعبي إلى قوة لتغيير الأشياء، وخلق مهرب ومخرج.
ربما، بمرور الوقت، يتبينون سبيلا إلى الاشتباك مع المهمة التافهة، مهمة الحفر داخل عالم السياسة الأرضي اليومي. وربما أيضا نرى الأنظمة الحاكمة للاقتصاد العالمي تضعف فتنهار من تلقاء أنفسها مفسحة المجال لطريقة جديدة ومختلفة في الإدارة. وهكذا هي التغيرات العظمى، تظل غير محتملة الحدوث إلى أن تحدث، ولا تبدو حتمية إلا حينما ننظر إليها بأثر رجعي. غير أنه لو كان ثمة انقلاب محتمل في نظام الأشياء، فهو غير ظاهر لنا في الوقت الراهن. لقد وقع اليسار ـ بدفع من ما بعد الديمقراطية ـ بين عالمين، أحدهما ميت، والثاني أضعف من أن يولد بعد. وقد نبقى حبيسي هذا البرزخ لبعض الوقت. 

نشرت المادة أصلا  في 25ابريل 2013 في مجلة أيون ونشرت الترجمة في جريدة عمان اليوم
كاتب المقال أستاذ مساعد العلوم السياسية والشئون الدولية بجامعة جورج واشنطن. أحدث كتبه "الاقتصاد السياسي للثقة" (2009)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق