الأربعاء، 24 أبريل 2013

لماذا يتكلم الإنسان وتصمت ذبابة الفاكهة؟

لماذا يتكلم الإنسان وتصمت ذبابة الفاكهة؟
تيم ريدفورد


Dan Everett
في أدغال الأمازون، ثمة من يتكلمون لغة اسمها البيراها Pirahã. في هذه اللغة لا وجود لمفردتين تعنيان اليسار واليمين، والناطقون بها يستخدمون كلمة واحدة تشير إلى الأزرق والأخضر، وتعريفاتهم للأحمر والأسود والأبيض ما هي إلا تشبيهات، فليست هناك كلمات مخصصة لكل لون.
وليس لدى ذلك الشعب المعزول ـ وهو شعب صغير بل جماعة صغيرة ـ  نظام عددي، ولا يمكن لجملهم أن تحتوي عبارات فرعية، وإنجيل مرقس لم يرق لهم بعد ترجمته إلى البيراها، وليس أهون أسباب ذلك أنهم رأوه قصة يرويها من لا يعرفونه عن شخص لم يسمعوا به قط، وتدور وقائعها في زمان ومكان لا يعنيان لهم أي شيء. شعب البيراها يميل إلى أن يقصر كلامه على الأشياء التي يعرفها، والأفعال لديهم تضاف إليها لواحق للتفرقة بين الشائعة والاستنتاج والملاحظة.
في المقابل، هم قادرون على تبادل الغناء، والهمهمة، والصياح، والصفير. وإذن فإن لديهم أربعة أشكال إضافية من الكلام علاوة على معجم لغوي بالغ الدقة فيما يتعلق ببيئتهم وبكل ما يعنيهم. ولو أن هناك بنية عميقة مشتركة بين اللغات البشرية البالغ عددها سبعة آلاف لغة ـ أو نحوا عالميا أو أداة اكتساب للغة أو فطرة لغوية ـ تكون موجودة في المخ البشري عند الميلاد ـ فالبيراها استثناء من ذلك.
هذه الحالة فيما يرى دانيال إيفرت ـ عالم اللغة والأنثروبولوجيا الذي عمل لفترة في التبشير المسيحي في الأمازون ـ تضع حدا لنزاع قديم حول طبيعة اللغة. فلغة شعب البيراها الاستثنائية تبدو أداة ثقافية فريدة ـ شأن معرفتهم بالتلقيح النباتي وصيدهم السمك بالقوس والسهم ـ متكيفة تمام التكيف مع ظروفهم الاستثنائية. هي مجرد أداة مصقولة ببراعة، ولكنها في النهاية واحدة من أدوات علبة الأدوات المعرفية البشرية: إن لدينا أمخاخا ضخاما، وإننا حيوانات اجتماعية، وإننا نتعاون، وإن لدينا توليفة محظوظة من الرئتين والحنجرة والبلعوم، وسقف الحلق، والأسنان، والشفتين. إننا قادرون على الكلام، وبهذا تطورت اللغة، مثلما تطورت أمخاخنا ودبيبنا على قدمين.
اللغة ـ بحسب الصيغة الإفرتية ـ هي جماع المعرفة والثقافة والتواصل. فليست هناك حاجة إلى فطرة لغوية لنجعل طفلا في الثالثة (لِبْلِبًا) في الكلام . ذلك أن الثقافة المحيطة بالطفل تكرهه على اتباع نظام الفعل والفاعل والمفعول، واللجوء إلى ما في بعض الجمل والعبارات (مثل عبارة "لِبْلِب في الكلام") من قوة خاصة، والاختيار المعين للصوتيات.
مع أحد متحدثي بيراها
هذا الزعم أثار ضيقا بالغا لدى علماء لغة آخرين، من بينهم نعوم تشومسكي وهو من كبار كهنة المنهج، ومؤسس عقيدة قائمة ـ باختصار ـ على فكرة النحو العالمي. كما أن هذا الزعم يضع تحديا أمام آراء علماء نفس مثل ستيفن بيكر مؤلف كتاب "الفطرة اللغوية" الذي صدر في عام 1994 وكان من أكثر الكتب رواجا. حتى حظيت فكرة اللغة بوصفها هبة غريزية بضربة هائلة في ذلك العام بظهور عائلة بريطانية معينة كان بعض أفرادها ـ على مدى ثلاثة أجيال ـ طبيعيين بصورة تامة، في حين كان أفراد آخرون فيها يعانون من مشكلة محيرة مع قواعد اللغة. فلقد تم تفسير هذه الظاهرة بوصفها دليلا على وجود "جين نحوي".
ولقد كان هذا ـ للإنصاف ـ قبل تحديد جينوم أبسط التكوينات البكتيرية، في الحقبة التي كان الباحثون يتصورون فيها أن البشر يرثون أكثر من مائة ألف جين، بل لعل العدد يصل إلى مليون. وربما يكون بين هذه الجينات جين لانفصام الشخصية، وجين للذكاء، وجين للإجادة في سباق العدو السريع لمائة متر، وجين لتعلم تركيب الجمل والتلاعب بها.
غير أن الصورة تغيرت منذ أن انتهى مشروع الجينوم البشري في عام 2003. فلقد تبين أن حزمة التركيبة البشرية الفريدة تبلغ قرابة ثلاثة وعشرين ألف جينوم، وذلك أكثر بكثير مما في ذبابة الفاكهة، ولكنه يقينا أقل بكثير مما في عود الذرة. فأيا ما كان ذلك الذي يجعلنا نستسيغ ثرثرة مستر ميكاوبر غير الطبيعية، ونشمئز من عجرفة لاعبي كرة القدم، ونضع السيناريوهات فوق السيناريوهات لعجز الدين اليوناني، كل ذلك بين مجرد محطتين من محطات الأتوبيس، لن يكون ذلك مجرد لفة مفك جينية بسيطة في مخ لا يزيد حجمه إلا قليلا عن الحجم المعتاد لدى الرئيسيات.
ومع ذلك، فلا ينبغي أن يتخذ البعض من هذه حجة ليحدد أي الفريقين أصوب من الآخر. إن إيفرت هو مايسترو البيراها الغربي، وإن ما نعرفه عن اللغة هو ما يقوله لنا عنها، وما يقوله هذا غريب إلى حد أن بعض علماء اللغة يعتقدون أنه ضحية مزحة بورخيسية (ولن تكون هذه أول مرة يقوم فيها شعب معزول لديه حس كوميدي عال بخداع عالم أنثروبولوجيا زائر).
ولكن من وراء ذلك تكمن صعوبة أخرى: فالحجج المتعلقة بما يمكن لشكل لغة وقدراتها أن تقول لنا هي حجج يصعب اتباعها. فهل التكرار البنائي هو فعلا  ـ كما يقول تشومسكي ـ الفارق بين التواصل الاجتماعي البرجماتي لدى القردة العليا وبين اللغة البشرية الواسعة بلا حدود؟ هل البيراها فعلا تمثل استثناء؟ هل هناك فعلا علاقة بين عدد الأسماء في لغة وبين التقدم التكنولوجي داخل ثقافة هذه اللغة؟ هل وجود مفردات تعبر عن الألوان يمثل مؤشرا لطريقة تطور اللغة؟  http://www.freethinker.co.uk/wp-content/uploads/2008/11/everett1.gifهناك سبب آخر للحيرة. أن إيفرت ـ الذي كان في شبابه عضوا في فريق روك في تكساس قبل أن يتجه إلى التبشير المسيحي ـ يخوض في الخطاب الأكاديمي مثلما يخوض رحالة بمركب في نهر في الأمازون، مثيرا من الوحل أكثر مما يثير من الوضوح. وإن في كتابه هذا فقرات تصادف القارئ بين الحين والآخر، فيجدها مرتبكة إلى حد كبير، حتى أنني أراهن أن إيفرت نفسه لا يمكن أن يترجم بعضها إلى لغة البيراها. وأخيرا، هل في الإنسان ما هو أكثر إدهاشا من اللغة .. ذلك المورد المحدود ذو الإمكانات اللانهائية؟

نشرت الترجمة في جريدة عمان بتاريخ 23/3/2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق