لماذا تزدهر مدن دون أخرى؟
مبادئ الاقتصاد المديني الخمسة
ماريو بوليسي
تمتلئ المجلات البحثية بمئات المقالات عن الاقتصادات المدينية.
والأسئلة واحدة دائما: لماذا تنمو بعض المدن أسرع من بعضها الآخر؟ لماذا تولِّد
بعضها ثروات أكبر؟ لماذا تتراجع بعضها؟ وما من إجابات بسيطة، وأغلب الأسئلة يبقى
موضع تكهنات. ومع ذلك فإن خمسين عاما من العمل البحثي المتراكم يتيح لنا أن نضع
مبادئ محددة لاقتصاديات المدن. وأنا في هذا المقال أقترح خمسة.
ولكن قبل الدخول في هذه المبادئ لا بد من كلمة عن طبيعة المدن.
المدن أولا وقبل كل شيء أماكن ـ تكتلات بشرية ـ أكثر منها وحدات اقتصادية وسياسية.
وهذه المعلومة تعقد دراسة الاقتصاديات المدينية. يمكن القول ابتداء إن المناطق
المدينية تتحدد من خلال تنويعة من الطرق. أين بالضبط تبدأ نيويورك، وأين تنتهي؟ قد
نختار دراسة كامل منطقة حاضرة نيويورك فنخلص (مصيبين) إلى أن هذا التحديد أدل
اقتصاديا من مجرد الحديث عن مدينة نيويورك بالذات. ولكن حتى في هذه الحالة لا بد
لنا أن نتذكر أن حدود المنطقة الحضرية يمكن أن تتوسع أو تتقلص بمرور الزمن. فحدود منطقة نيويورك الحضرية ليست اليوم مثلما
كانت عليه قبل خمسين سنة، ومن ثم فما أسهل أن يخلص المرء إلى نتائج خاطئة من قوله
إن عدد سكان نيويورك تزايد من اثني عشر مليونا في عام 1960 إلى عشرين مليونا
اليوم.
كما أن قدرة المدن على وضع سياسة اقتصادية تبقى قدرة محدودة.
(ويستثنى من ذلك المدينة الدولة مثل سنغافورة) فعادة ما تأتي السياسات الأكثر
تأثيرا على الاقتصاديات في مدينة ما من مستويات حكومية أعلى. ولا يعني هذا أن
السياسات المحلية تافهة الشأن، إنما يعني أن قدرتها على التأثير في الاتجاهات
الاقتصادية والجغرافية العريضة محدود للغاية. وهذا يفسر أيضا سر تركيز الأدبيات
البحثية على المحددات التي لا تملك السياسة المدينية الكثير حيالها، ومن هذه
المحددات الموقع و"اقتصاديات التكدس" (جوهريا، التأثيرات المفيدة للحجم
والتنوع المدينيين).
وأخيرا، عدم كون المدن وحدات سياسية اقتصادية شبيهة بالدول أو
الولايات يعني أنها تواجه منافسة مستعرة تمنعها من الاحتفاظ بمواردها، وأهم هذه
الموارد العقول والمواهب. ذلك أن نقل
المرء مشروعه الاقتصادي من مدينة إلى أخرى قريبة أسهل عليه من نقله إلى
ولاية أخرى أو دولة أخرى. وهذا الواقع ذو أهمية جذرية في اقتصاد المعرفة الذي تمثل
العقول والمهارات والروح الابتكارية مورده النادر الأساسي. ولذلك فإن أغلب
الأدبيات البحثية المعنية بالمدن تركز على "رأس المال البشري"، ومن مثل
ذلك ما يبينه إدوارد جليزر ـ من جامعة هارفرد وأحد محرر سيتي جورنال ـ في عمله
الرائد من أن المدن المحظوظة بسكان مرتفعي المستوى التعليمي والمهاري هي التي
ستكون مدنا ناجحة في قابل أيامها. غير أنني قصدت إلى عدم التركيز على رأس المال
البشري، كالمواهب أو المهارات أو الطبقة الخلاقة، أو ما شئتم من مصطلحات. وذلك
يرجع جزئيا إلى أننا غير متأكدين من كيفية اجتذاب الشباب المتعلمين الطموحين.
علاوة على أن وجود سكان على قدر عال من التعليم والمهارة هو نتيجة للنجاح بقدر ما
هو سبب له. فالمواهب سوف تبقى تهاجر إلى المدن الناجحة وتهرب من المدن غير الناجحة.
ولكل من الفشل والنجاح أسباب تاريخية عميقة.
الحجم والموقع
هذه الجذور هي موضوع مبدأي الأول من مبادئ الاقتصاديات
المدينية: حجم المدن وموقعها محددان أساسيان للثروة. من أكثر نتائج البحث في
اقتصاديات المدينة إدهاشا أن الهيراركيات المدينية تبقى ثابتة ثباتا ملفتا عبر
الزمن. فلا يحدث إلا نادرا أن تجد مدن القمة وقد زحزحتها مدن وافدة جديدة. تحتاج
أولى المدن وصولا إلى القمة ميزة ثابتة، وذلك ما يمكن ترجمته إلى مستويات أعلى من الثروة.
في كل دولة أوربية، نجد أن المدينة التي كانت الأضخم قبل مائة سنة هي أضخم المدن
اليوم. كما أن ترتيب سكان المدن يبقى هو الآخر ثابتا بصورة مدهشة. فمدنية ليون منذ
زمن بعيد هي ثاني أضخم المدن الفرنسية. وهي اليوم تبلغ سُبع حجم باريس، وهذه
النسبة لم تكد تتغير على مدار المائتي سنة الأخيرة.
ميزتا الحجم والموقع هما نتيجة عقود ـ بل قرون ـ من الاستثمار
في البنية الأساسية والمؤسسات. ولا تكاد هذه الاستثمارات تتواجد حتى يتحدد بموجبها
الموقع الجيد ولا يسهل تغيير ذلك. وحسبكم النظر إلى خرائط السكك الحديدية في
بريطانيا أو فرنسا، ترون مراكز هذه السكك الحديدية موجودة في المدن الكبرى في
تأكيد إضافي على جودة موقع هذه المدن في الأصل. وكل مدينة جديدة ترتبط بلندن أو
بباريس إنما هي تزيد من قدرات السوق في هاتين العاصمتين.
أما الولايات المتحدة وغيرها من دول العالم الجديد فأمرها مختلف
إلى حد ما، من حيث أن أنماط الاستيطان تبقى في حالة سريان ويبقى سكانها ـ تاريخيا
ـ أكثر تنقلا. لكن حتى في الولايات المتحدة، يبقى الوضع النسبي للمدن ثابتا ثباتا
مدهشا بمرور الزمن، شريطة أن ننحي نزعة الهجرة غربا السائدة في البلد كله.
فالمناطق الحضرية الثلاثة الكبرى إلى الشرق من الميسيسيبي سنة 1900 ـ وهي نيويورك
وشيكاغو وفيلادلفيا ـ لا تزال هي الكبرى اليوم، بل وبمثل ترتيبها، على الرغم من
رسم منطقة "صنبيلت" في ستينيات القرن الماضي [لأسباب تنموية، تم تعيين
هذه المنطقة الممتدة بعرض جنوب الولايات المتحدة عبر اثنتي عشرة ولاية تقول
ويكيبديا إن تعداد سكانها ازداد بصورة ملحوظة منذ ستيبنيات القرن الماضي]. كان
تعداد سكان شيكاغو سنة 1900 يزيد قليلا عن نصف تعداد سكان نيويورك، ولم تتغير
النسبة تقريبا منذ ذلك الحين.
مبدأي الأولى إذن يعلمنا أن إمكانيات وقوع تغير دراماتيكي في
الوضع الاقتصادي لمدينة تبقى بالضرورة محدودة بموقع المدينة وحجمها النسبي. فالمدن
ليست كالدول التي بوسعها القفز من الثرى إلى الثريا في غضون جيل كما حدث لكوريا
الجنوبية. وسوف تتحدد بقوة موقع المدينة وحجمها الأصليين ـ أي طبقات النشاط
الاقتصادي يرجح نجاحها فيها وأيها يرجح فشله. ففيلادلفيا ـ المستلقية في ظل
نيويورك ـ قد لا تكون أبدا مركزا ماليا أو ترفيهيا عالميا، برغم نجاها منقطع
النظير في مجالات أخرى مثل الصحة. ويكون لمحددي الحجم والموقع وزن أشد من ذلك ثقلا
في حالة المناطق الحضرية الأصغر مثل سيراكوز ونيويورك وسكرانتن وبنسلفانيا.
تحولات المسار
وليس معنى مبدأي الأول من مبادئ الاقتصاد المديني أن قدر كل
مدينة محدد سلفا. لكن هذا يصل بنا إلى مبدأي الثاني: عندما تمر المدن بتغيرات
دراماتيكية في مسارات نموها فالسبب في ذلك يرجع في جميع الحالات تقريبا إلى أحداث
خارجية أو تغير تكنولوجي. والحدود الأوربية فيما بعد الحرب مثال لمقدرة الأوضاع
السياسية على صياغة النمو. فبعدما وضع الستار الحديدي في عام 1947، صار لمدن
ألمانيا الغربية اتصال بالمجتمع الاقتصادي الأوربي، في حين لم يكن لمدن ألمانيا
الشرقية مثل ذلك الاتصال. وكانت ليبزيج من مدن ألمانيا الشرقية التي كانت تحتل قبل
الحرب العالمية الثانية موقع رابع أضخم المدن الألمانية لكنها هوت حتى باتت اليوم
في المرتبة الثالثة عشرة.
التغيرات التكنولوجية أيضا يمكن أن تحول مسارات نمو المدن.
فحينما قلت أهمية تكنلوجيا إنتاج الصلب ـ على سبيل المثال ـ بالنسبة للاقتصاد، ومع
دخول معادن وسبائك أخرى إلى السوق مما أدى إلى تقليل الطلب على الصلب، تراجع النمو
في مدن إنتاج الصلب من بطرسبرج إلى إيزن (في ألمانيا) وبرمنجهم (في المملكة
المتحدة). وتمثل تكنولوجيا النقل الجديدة ـ أو البنية الأساسية في مجال النقل ـ
عاملا استثنائي القوة في التغيير، إذ بوسع ذلك أن يغير من ميزة موقع المدينة محولا
موقعا جيدا إلى رديء أو العكس. وأشهر الأمثلة على ذلك يتمثل في إقامة قناة إيري في
خمسينيات القرن التاسع عشر التي مكنت مدينة نيويورك من الاتصال بالأسواق الغربية ومن ترسيخ وضعها
كأضخم مدينة في أمريكا. وبالمثل، يمكن أن نستقصي ركود بافالو من خمسينيات القرن
العشرين ولو جزئيا في إقامة طريق سان لورنس البحري الذي أتاح للبضائع الغربية أن
تتجه شرقا بدون المرور على بافالو. واستحداث السفر جوا يعني أن عدم وجود ميناء
بحري لم يعد معوقا للمراكز المالية الطامحة من قبيل دينفر وأطلنطا.
ولقد كان أهم تحول يطرأ حديثا على الحظوظ المدنية في الولايات
المتحدة هو صعود مدن منطقة صنبيلت. فنحن نعزو ذلك الصعود جزئيا إلى التكنولوجيات
الجديدة. فميامي كانت لتبقى مستنقعا للحمى لولا استحداث العقاقير وتحسين الأوضاع
الصحية التي قضت على الملاريا والحمى الصفراء. وفينيكس ولاس فيجاس وهيوستن ما كانت
بدرجة حرارتها المرتفعة لتحقق حجمها الحالي لولا تكييف الهواء. كما اعتمدت منطقة
صنبيلت على التغيرات الديمغرافية، لا سيما ارتفاع متوسطات الأعمار الذي أدى إلى
ارتفاع عدد السكان المتقاعدين الباحثين عن الأجواء الدافئة. وكان للتكنولوجيا
دورها أيضا في تحقيق ذلك، إذ وفر النقل الجوي للمتقاعدين إمكانية التنقل بسهولة
لزيارة الأصدقاء والأقارب في أماكنهم الأصلية.
والدرس الأساسي الواجب استخلاصه من هذا المبدأ الثاني من مبادئ
الاقتصاديات المدينية هو أن ميزة الموقع ليست مؤبدة، مهما بدت عصية على التغير. فبوسع
تكنولوجيا جديدة أن تقوض اقتصاد مدينة بين عشية وضحاها. ويلي ذلك درسان متوازيان،
الأول: كلما ازداد اقتصاد مديني تخصصا ازداد ضعفا مهما تكن شهرة المدينة، والثاني
أن التغيرات في مجال النقل بصفة عامة ليست محايدة من الناحية الجغرافية بما أنها
تضفي على بعض المدن مزايا موقعية جديدة وتسلبها من أخرى.
ميزة الطرق ولعنتها
ويتعلق بالنقل أيضا المبدأ الثالث: المدن المتصلة [بغيرها]
المرتبطة جيدا، هي التي يكون نموها أسرع. وتبين دراسات المدن في أوربا وأمريكا
الشمالية بصفة متواترة تلك العلاقة بين سهولة الوصول والنمو، وأغلبها يحدد سهولة
الوصول بقياس عدد المقاصد (وغالبا ما توزن بالدخل) التي يمكن للمرء أن يصل إليها
مباشرة من مدينة معينة، مع مراعاة تكلفة النقل ومدته.
وقد تكون سهولة الوصول إلى السوق ومدى الترابط أكثر أهمية من رأس
المال البشري. فالمدينة التي تنجح في وضع نفسها كملتقى ومركز سوقي لمنطقة أكبر
تحقق الانتصار في معركة بالغة الأهمية‘ إذ أن مراكز النقل كانت على مدار التاريخ
مراكز مالية وتجارية تجتذب المواهب والنقود والعقول. وإن تحول شيكاغو إلى مركز
سوقي للغرب الأوسط ليوعز جزئيا إلى القناة التي تربط المدينة بنظام الميسيسيبي
النهري علاوة على نشاط مجتمعها التجاري المحلي. وتبين لنا إقامة قناة إيري ـ وهي
مثال ممتاز ـ مرة أخرى على أن البنية الأساسية المحورية لا ينبغي أن تكون موجودة
داخل المدينة نفسها: فالرابط الذي سهل على جوتهام الوصول إلى داخل القارة أقيم بين
مياه نهر هدسن على بعد مئات الكيلومترات من مدينة وبحيرة إيري.
إن حروب القرن الحادي والعشرين التي تنشب من أجل الترابط إنما
تخاض بالطرق السريعة والسكك الحديدية فائقة السرعة، وبالمطارات بصفة خاصة، فهي التي
تعمل كمحفزات للمؤتمرات داخل اقتصاد المعرفة المجنون بالمؤتمرات والندوات. والحق
أن قليلا من المسئولين التنفيذييين الذين يحترمون أنفسهم، والذين يحظون بنمط عالمي
من الاتصال، هم الذين يمكن أن يقبلوا بوظيفة في مدينة لا تقوم منها رحلات يومية إلى
نيويورك ولندن. وإن صعود أطلنطا يدين كثيرا إلى مطار هارتسفيلد جاكسون الدولي الذي
يعد الآن أكثر مطارات العالم حركة. أو اتنظروا إلى فرانكفورت. فبرغم أنها أصغر
بوضوح من ميونخ وهامبرج وبرلين، إلا أنها المدينة التي اختارت لوفتهانزا ـ كبرى
شركات الطيران في أوربا ـ أن تقيم فيها مقرها وتدير منها عملياتها. فلم تكن مصادفة
أن تحولت فرانكفورت إلى المركز المالي الرائد في أوربا.
تبدأ بعض المدن من ميزة اتصال طبيعية، كأن تكون في موقع قريب
نسبيا أو مركزي بين أسواق رئيسية. مونتيري ـ وهي المدينة المكسيكية الصناعية
الناشئة ـ قريبة من حدود تكساس، وتقع على الطريق الرئيسي السريع الذي يربط
نيومكسيكو بأسواق الولايات المتحدة. وفي الصين يتركز النمو في نقطتي اتصال
أساسيتين مع الأسواق العالمية: شنغهاي وجوانجزاو ومنطقة هونج كونج. والقرب من قلب
القارة الاقتصادي في أوربا ـ وقلب القارة هذا هو ممر على شكل قوس ممتد من لندن إلى
ميلانو يسميه علماء الجغرافيا الموزة الزرقاء ـ يعد من الأصول الواضحة. ولذلك فأن
أشد المدن الإيطالية ثراء يقع في الشمال، ولذلك أيضا نرى برشلونة وبيلباو ـ وهما
المدينتان الأقرب إلى الموزة الزرقاء في أسبانيا ـ مركزين صناعيين متناميين. هنا
مرة أخرى تعزز البنية الأساسية في مجال النقل احتمالات النمو في المدن جيدة
الاتصال وتذكروا القنال الذي يربط لندن بباريس.
وفي الولايات المتحدة، نرى أن آثار الاتصال المحفزة للنمو تنتج
ممرات اقتصاديات مدينية مثل المدى المديني الشمالي الشرقي الممتد من بوسطن إلى
واشنطن العاصمة. لقد ظل هذا المدى يتوسع جنوبا بموازاة الطريقين العابرين للولايات
1-95 و 1-85، ويمكن للمرء الآن أن يقول إنها تحتوي على سلسلة مدن تصل حتى أطلنطا
في الجنوب، محتوية على مدن مثلث البحث في كارولينا الشمالية.
ولنا في فرنسا ما يدعم هذه القاعدة، حيث تشير الأبحاث التي
تجرى هناك على القطارات فائقة السرعة إلى أن لها تأثيرات جلية على النمو. وثمة
جدال حول ما إذا كانت القطارات تقوم بتسريع النمو "الإجمالي"، ولكن من
الواضح أنها تعمل على توجيه النمو نحو مدن تقع على خطوط السكك الحديدية السريعة. وتتمثل
المشكلة في أنه لا يمكن أن توجد الكثير من نقاط التوقف في هذه الخطوط، إذ أن في
ذلك إبطاء للقطارات ومن ثم إبطالا للهدف الأصلي من القطارات السريعة. ومن هنا
تختلف القطارات فائقة السرعة عن الطرق من اعتبار واحد مهم على الأقل: هو أنها قد
تقلل فعليا اتصال المدن الواقعة خارج مناطق الحظ السعيد.
يعلمنا المبدأ رقم ثلاثة أن آباء المدينة ينبغي أن يبقوا
متيقظين لفرصة روابط النقل الجديدة. ويحذرنا أيضا من أن فقدان الاتصال قد يعرض
النمو لأضرار جسيمة. بل إن إنشاء مطار جديد لا يؤدي آليا إلى تحسين الاتصال، وذلك
ما فهمته في حزن مدينتي أنا مونتريال. ففي عام 1974 قامت الحكومة الكندية ـ بدعم
من مجتمع رجال الأعمال المتحمسين في مونتريال ـ بإقامة مطار حديث ساطع في المدينة
يحمل اسم ميرابل (وهو اسم قرية قريبة). ولأن سوق مونتريال لم يكن كبيرا بما يكفي
لخدمة مطارين، فقد تم تخصيص ميرابل لاستقبل الرحلات القارية، مع استمرار مطار
دورفال القديم في خدمة الرحلات من داخل أمريكا الشمالية. ولكن هذا الفصل بين
المسارين لم يخدم الوظيفة المركزية لأي من المطارين، فلم يعد شخص لندني مسافر إلى
كليفلاند يرغب في الهبوط في مونتريال، لأن ذلك سوف يعني أن يستقل سيارة من ميرابل
إلى دورفال لتغيير طائرته.
وهكذا شهد سفر الركاب عبر مونتريال
تراجعا كبيرا للغاية في عقد السبعينيات، ولم يكن من قبيل المصادفة أن شهدت الفترة
نفسها انتقال مقرات المؤسسات المالية إلى تورنتو التي فهمت (وهي في مثل حجم
أطلنطا) أن تعظيم قدرات الاتصال في زمن الطائرات يستوجب مطارا واحدا وكفءا يعمل
طول الوقت. وسرعان ما تحولت تورنتو لا إلى مركز الطيران الكندي وحسب، بل والمركز
المالي الكندي أيضا. ومنذ ذلك الحين تم إغلاق ميرابل، فهو اليوم فيل أبيض ضخم
ومثير للحرج، وباتت جميع الرحلات تصل إلى دورفال. ولكن الأذى وقع.
جناية التصنيع
مبدأي الرابع من مبادئ الاقتصاد
المديني هو أن كل صناعة تترك بصمتها على المدينة، فلا تكون هذه البصمات جيدة طول
الوقت. وأوضح تجليات هذا المبدأ ـ في أمريكا الشمالية وأوربا في هذه الأيام ـ نراه
في تركة الصناعات الثقيلة ومصانع التجميع الضخمة التي تبين بصفة بعامة نموا أبطأ.
إن أولى المدن اتجاها إلى التصنيع ـ والتي كانت قبل وقت غير بعيد أمثلة للتقدم
الاقتصادي ـ هي أكثر المدن معاناة اليوم. وكثير منها يواجه مصاعب في الانتقال إلى
اقتصاد المعرفة.
قصة هذه المدن تكشف لنا الكثير عن
أخطار التخصص الصناعي، أو "العنقدة clusters"
إن نحن شئنا استخدام المصطلح المساير للموضة. عندما يحدث أن تسيطر صناعة
منفردة على الاقتصاد المحلي، قد تكون النتائج بعيدة الآجال ذات صفة تدميرية.
والمثال الواضح على ذلك في الولايات المتحدة هو ديترويت، وادي السيليكون في مطلع
القرن العشرين، والتي كانت إحدى أسرع المدن الأمريكية نموا حتى سبعينيات ذلك القرن
لكنها الآن واقعة فيما يبدو في شرك انحدار عكسي. وليست ديترويت بالمثال الفريد بأية حال من الأحوال: فقد سجلت المدن
الصناعية الكبرى في منطقة الغرب الأوسط الأمريكية، وميدلاندز الإنجليزية، وروهر
الألمانية، نموا أقل من المتوسط خلال العقود القليلة المنصرمة.
والمشترك بين هذه المدن الصناعية
غابرة العظمة هو وجود المصانع الكبرى أو غيرها من مواقع العمليات الكبرى، كنهايات
خطوط السكك الحديدة أو أرصفة الموانئ. ومثل هذه البنايات ـ وإن بقيت عاملة ـ تقوم
بدفع أجور عالية نسبيا لوظائف قليلة المهارات. كما أن المصانع الكبرى ذات التكاليف
الكبيرة تثبط الشركات عن الانتقال إلى أماكن أخرى مما يؤدي إلى وظائف تبدو مضمونة
للعاملين. ونتاج ذلك هو خلق بيئة عمل عالية التكلفة قد تكون مفيدة للعاملين لفترة
من الزمن لكنها لا تكون مواتية لانطلاق مشاريع جديدة وهذا ما يحتاجه الاقتصاد
المديني على المدى الأبعد. ثم إنه: لماذا تذهب إلى الكلية إذا كان بوسعك أن تحصل
على وظيفة مرتفعة الأجر لا تشترط غير قدر تافه من التعليم؟ ولو أن وظيفتك مضمونة
في المصنع المحلي، لماذا تحاول تأسيس نشاطك الاقتصادي الخاص؟ ولو أنك قررت إنشاء
هذا النشاط، فلماذا لا تنتقل إلى المدينة القريبة حيث تكلفة العمالة أقل؟
وثمة مشكلة أعمق من ذلك تتمثل في صعوبة
تغيير الذهنية المغروسة في مدينة ما. فالمقيمون في مدينة ذات مصانع ضخمة فيها
نقابات عمالية، سوف يتوقعون بصورة طبيعية الحصول على وظائف مرتفعة الأجور، وتأمين
وظيفي، وسوف تظل توقعاتهم ثابتة لفترة طويلة بعد إغلاق آخر مصانع المدينة. وأنا
شخصيا لا أعرف بتحول غير مؤلم انتقلت فيه مدينة من الصناعة إلى اقتصاد المعرفة،
ولسوء الحظ لا وجود لوسيلة نموذجية تساعد المدن أثناء هذا التحول. قد يكون من
الوسائل إعادة تدريب العمال، وتوفير الاستشارة لهم، ودعم المشاريع الصغيرة، وإصلاح
التعليم، وإعادة إحياء مرافق المدينة، والتخلص من المناطق الصناعية، ولكن الخطوة
الأكثر أهمية هي في الغالب تقبل الحقيقة الكريهة وهي أن الأجور المحلية (والتكاليف
المحلية بصفة عامة) سوف تنخفض بوضوح إن شاءت المدينة العودة مرة أخرى إلى
المنافسة.
هذا القبول على مضض يستتبعه بصورة طبيعية أن
يجتنب آباء المدينة إغراء الحفاظ على المصانع بتوفير تمويلات حكومية لها. وهذه
نصيحة إسداؤها أيسر كثيرا من العمل بها. ففي مواجهة فقدان مباغت في الوظائف، قليل
من المسئولين المنتخبين هم الذين يجدون من الشجاعة ما يجعلهم يتجاسرون على عدم القيام
بأي شيء. وفي العالم المثالي، ينبغي لأي مالك أن يقوم بإشعار عماله قبل فترة كافية
من إغلاقه مصنعه، أو تقليله حجمه، فيتمكن المجتمع من استيعاب الصدمة دونما ألم.
ولكن الأسواق لا تعمل على هذا النحو، فينبغي ـ على أقل تقدير ـ أن يفهم الساسة أن
صناعات مستقرة كثيرة سوف تنتهي إلى إغلاق أبوابها فيبدأون في توجيه مدنهم إلى
وجهات جديدة. وهذا بدوره أسهل قولا منه فعلا. إذ نادرا ما تظهر المؤشرات قبل وقوع
صدمة الإغلاقات المتتالية التي تؤكد الداعي إلى التغيير.
ضرورة الحكم الجيد
مبدأي الخامس من مبادئ الاقتصاد
المديني هو أن السياسات الرديئة والسياسات الجيدة لها أهميتها ـ وإن بقيت أسباب
الجودة والردائة غير واضحة في الغالب. فبرغم أفضل ما بذله الباحثون من جهود، نادرا
ما تنجح النماذج الاقتصادية في توقع أكثر من نصف تنويعات النمو في المدن بمرور
الوقت. فهناك من العوامل ما يستحيل تخمينه مسبقا، ومن ذلك قدرة الفرد المؤثر ـ
سواء كان هذا الفرد مسئولا أم صاحب مشروع ـ على إحداث الفارق. ولا شك في أن
الثقافة السياسية والاقتصادية تلعب دورا في نمو المدينة، ولكننا لا نعرف الكثير عن
طريقة تكون هذه الثقافة.
وفي النهاية، ربما يكون لنا أن نفهم أي
السياسات تسبب الفشل أكثر مما نفهم أيها يفضي إلى النجاح. فالمدن ذات الحكم السيء
المعروف عنها الفساد أو العنف أو انعدام كفاءة المؤسسات سوف تدفع الثمن غاليا. وتذكروا
انفتاح اقتصاديات المدينة: أن يتسنى للناس وللشركات أن ترحل وقتما تشاء. ففي
المجتمعات المفتوحة لا يكون الحكم الجيد مجرد فضيلة وحسب، بل هو أيضا ضرورة
تنافسية. لقد بدأ انحدار نيو أورلانز قبل وقت طويل من إعصار كاترينا، فلقد كان ما
اشتهر عنها من فساد مستوطن ومحاباة وسياسات تسلطية جزءا من السبب. وكان هناك سبب
آخر يتمثل في تاريخ طويل ومؤسف من قلة الاستثمار في مجال التعليم في لويزيانا وهو
ما أدى إلى أن أصبح السكان من بين الأقل تعليما في الولايات المتحدة. وفي فرنسا،
اشتهرت مدينة مرسيليا بمثل هذا الحكم الرديء فكانت النتيجة هي معدل نمو دائم يقل
عن المتوسط. وبرغم أن كلتا المدينتين تتميزان بجودة الموقع وبدفء المناخ، إلا أن
هذه الميزة لم تكن كافية للحفاظ على سرعة النمو فيهما.
في المقابل، نرى مدينتي مينوبوليس
وسان بول وهما تبليان بلاء حسنا برغم برودة المناخ فيهما وهامشية الموقع، وذلك لما
اشتهر عن المنطقة من جودة الحكم، ولما اشتهر عن مينيسوتا من الاهتمام بالاستثمار
في مجال التعليم. كما أن جذور سكانها الاسكندنافية عامل مؤثر بلا شك.
ولا يقتصر أمر السياسة المدينية
السليمة على الحكومة المحلية، بل لا بد أن يشمل مستويات الحكم الأعلى. فلا شك أن
ورطة مطار مونتريال كانت ترجع إلى المستوى الفدرالي. ولا بد أن يتذكر صناع السياسات
أن مشروعا واحدا ـ مهما تكن ضخامته ـ من النادر أن يحول اقتصادا مدينيا معتلا إلى
الاتجاه السليم. فبعد سنتين من غلطة المطار، بدأت مونتريال إقامة استاد رياضي
عملاق استعدادا لأولمبياد 1976 وكانت أغلب التكلفة هذه المرة من الميزانية
المحلية. وأوشك المشروع أن يعرض المدينة للإفلاس، ولم يثمر عن شيء في تعزيز نمو
الاقتصاد المحلي على المدى البعيد.
ولكنني أنهي مقالي بملاحظة إيجابية.
لقفد نجح كثير من المبادرات السياسية في بدء النمو. فنمو لوس آنجلس فيما بعد الحرب
العالمية الأولى الذي يرقى إلى مصاف الظواهر يدين في المقام الأكبر إلى بصيرة
المجتمع الاقتصادي في المدينة الذي أقام ـ على الرغم من عوائق الجغرافيا والطبيعة
ـ ميناء صناعيا للمدينة، علاوة على أنظمة هائلة لإمداد المدينة بالمياه من سييرا
نيفادا النائية. ويمكننا أن نتقصى أثر نمو هيوستن النيزكي منذ خمسينيات القرن
العشرين فلا نصل فقط إلى الاحتياطيات النفطية (وهي ميزة طبيعية) واختراع المكيف
الهوائي (وهو تغير تكنولوجي) بل أن نصل إلى السياسات الحكيمة من قبيل شق القنوات
الملاحية والحكم المحلي القوي. ويبقى صحيحا أن النمو المستدام نادرا ما ينتج عن
فعل واحد، وأنه ما من طريق سهل لتحقيق النجاح. ولكن صناع السياسات قادرون بالطبع
على المساعدة في ازدهار مدنهم.
ماريو بوليسي أستاذ في المعهد الوطني للبحث العلمي في جامعة مونتريال.
نشر المقال أصلا في سيتي جورنال ونشرت الترجمة صباح اليوم في جريدة عمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق