الثلاثاء، 5 فبراير 2013

عائلة من روسيا



عائلة من روسيا

مايك داش

لا يدوم الصيف طويلا في سيبريا. فالثلج يتلكأ حتى حلول مايو، والبرد يئوب مرة أخرى خلال سبتمبر فيجَمِّد التايجا [غابة الصنوبر] مرة أخرى فإذا بها طبيعة صامتة موحشة تبعث الرهبة في النفوس: أميال وراء أميال من الصنوبر الحوشي والأدغال المتناثرة الملأى بالدببة النائمة والذئاب الجوعانة والجبال المتحدرة والأنهار التي تنصب مياهها البيضاء سيولا جارفة في الوديان، ومئات آلاف المستنقعات. هذه الغابة هي آخر براري الأرض وأعظمها. تمتد من أقصى أطراف مناطق روسيا القطبية حتى تصل من جهة الجنوب إلى منغوليا، ومن الأورال شرقا وحتى المحيط الهادي، على مساحة خمسة ملايين ميل مربع من اللاشيء، ودون أن يكون فيها من البشر ـ خارج حفنة بلدات صغيرة ـ إلا آلاف قليلة.
وحينما تحل أيام الدفء حقا، ترى التايجا يانعة مشرقة، ولأشهر قصيرة عابرة يبدو أنها تفتح أذرع الترحاب. وفي ذلك الوقت يتسنى للإنسان أن يلقي أوضح نظرة ممكنة على هذا العالم المخبوء، ولكنها ليست نظرة يلقيها وهو يطأ الأرض نفسها، إذ التايجا قديرة على ابتلاع جيوش بأكملها من المستكشفين، ولكنها نظرة تلقى من الجو. سيبريا هي مصدر أغلب نفط روسيا ومعادنها، ومن ثم فقد طغت على أقصى أركانها ـ بمرور الزمان ـ قوافل الباحثين عن النفط ومساحي الأراضي في طريقهم إلى المعسكرات البعيدة حيث تجري أعمال استخراج الثروات على قدم وساق.


كراب لايكوف وابنته أجافيا يرتديان ثيابا تبرع بها الجيولوجيون السوفييت بعد اكتشاف عائلتهما
وفي أقصى جنوب الغابة في صيف 1987، حدث أن طائرة مبعوثة للعثور على موضع آمن لفريق من الجيولوجيين كانت تحلق فوق حاجز شجري يبعد بحوالي مائة ميل عن الحدود المنغولية فوقعت على واد كثيف الأشجار يمر فيه رافد مجهول من روافد نهر أكابان. رأى طاقم الطائرة شريطا جياشا من الماء يهدر في واد خطر، جدرانه متقاربة، توشك أن تكون عمودية، وشجر الصنوبر النحيل يتمايل فيه كثيفا على نحو لم يترك فرصة للعثور على مهبط للطائرة. ولكن الطيار رأى وهو ينعم النظر من شباكه باحثا عن مهبط لطائرته شيئا ما كان ينبغي له أن يوجد هناك. رأى على سفح جبلي مساحة خالية وسط الغابة من نحو ستة آلاف قدم، محشورة وسط أشجار الصنوبر مختلفة الأنواع، وموسومة بما بدا له أخاديد طويلة داكنة ومنتظمة. دار طاقم الطائرة المرتبك دورات عدة قبل أن يقرروا وهم يتمنعون أن هذا لا يمكن أن يكون إلا علامة على وجود بشري ـ لقد كانوا يرون أرضا زراعية، وبدا لهم من مساحتها وشكلها أنها موجودة منذ وقت طويل.
كان اكتشافا مذهلا. فالجبل كان على بعد مائة وخمسين ميلا من أقرب منطقة مأهولة بالبشر، في بقعة لم يسبق استكشافها قط. ولم تكن لدى السلطات السوفييتية أية معلومات عن أي أحد في تلك المنطقة.


في هذا الكوخ عاش آل لايكوف، لا يضيء عتمة كوخهم غير "نافذة بحجم حقيبتي الخلفية ولا يبدد بردهم إلا موقد يعمل بالحطب".
كان العلماء الأربعة مبعوثين من المقاطعة للبحث عن خام الحديد وعلم هؤلاء بما رآه الطيارون، فحيرهم الأمر وأثار قلقهم. يقول الكاتب فاسيلي بيسكوف عن هذا الجزء من التايجا إن "الخطر يكون أقل حينما يصادف المرء حيوانا بريا منه حينما يصادف غريبا". وبدلا من أن ينتظر العلماء في مقرهم المؤقت على بعد عشرة أميال، قرروا التحقق من الأمر. وبقيادة عالمة جيولوجيا تدعى "جالينا بيسمنسكايا" قاموا "باختيار يوم مناسب ووضعنا في جيوبنا هدايا لأصدقائنا المحتملين"، برغم أن دواعي الطمأنينة فيما تتذكر بيسمنسكايا "جعلتني أتحقق من المسدس المعلق في خاصرتي".
وفيما كان الدخلاء يزحفون صاعدين الجبل، قاصدين الموقع الذي حدده لهم طياروهم، بدأوا يصادفون علامات على نشاط بشري: مدق، أداة، لوح خشب فوق نهير، وأخيرا تعريشة صغيرة من تحتها سلال ممتئلة بالبطاطس. ثم، قالت بيسمنسكايا:
          "كان هناك على ضفة نهير صغير مسكنٌ، كوخٌ، طلاه الزمن والمطر بالسواد، تراكمت حول جوانبه جميعا نفايات التايجا: لحاء شجر، وغصون، وقطع خشب. ولولا نافذة بحجم حقيبتي الخلفية، لصعب تصديق أن بشرا كانوا يعيشون هناك. ولكن بشرا كانوا يعيشون هناك، لا شك أن بشرا كانوا هناك ... ولا شك أن وصولنا كان مرصودا، بحسب ما رأينا.
سمعنا للباب الواطئ صريرا، وظهر إلى نور النهار شبحُ رجلٍ طاعن في السن، كأنه طالع للتو من حدوتة. حافي القدمين. لابسا قميصا من نسيج غليظ فيه رقع على رقع، وبنطالا من نفس الخامة فيه رقعه هو الآخر، وله لحية غير مهذبة، وشعر متشابك. بدا في غاية الخوف والحذر ... وكان لا بد أن نقول شيئا، فبدأت
’تحياتنا يا جدي. نحن جئنا نزورك’
لم يرد الشخ على الفور، ثم سمعنا آخر الأمر صوتا رهيفا، وقلقا:
’حسن، أما وأنكم قطعتم كل هذه المسافة، فربما تتفضلون بالدخول’".
المنظر الذي كان يفتح ذراعيه للجيولوجيين وهم يدخلون الكوخ كان أشبه بمنظر من العصور الوسطى. بناء مقام مما توفر من الخامات، مسكن "لا يزيد كثيرا عن جحر، مأوى للكلاب أسود من الدخان، وبرودة لا تليق إلا بقبو" وأرضية تتألف من قشر البطاطس ولحاء الصنوبر. أجال العلماء أعينهم في المكان فرأوا أنه عبارة عن غرفة واحدة، ضيقة مزدحمة متعفنة وقذرة بصورة لا يمكن وصفها، قائمة على دعامات متهالكة، ومأوى ـ ويا للدهشة ـ لأسرة من خمسة أفراد:
فجأة انكسر الصمت بنشيج وبكاء. وفي تلك اللحظة فقط رأينا شبحي امرأتين. إحداهما تقول في هستريا ’هذا جزاء خطايانا، خطايانا’ والثانية كانت من وراء عمود... تغوص ببطء باتجاه الأرض. النور القادم من نافذة صغيرة كان يسقط على عينيها الواسعتين المرعوبتين، وأدركنا أن علينا الخروج من هناك بأسرع ما نستطيع"


أجافيا لايكوفا (يسار) وشقيقتها نتاليا
سارع العلماء يتراجعون خارجين من الكوخ وفي مقدمتهم بيسمنسكايا، ثم استقروا على بعد عدة ياردات وبدأوا يخرجون أشياء يأكلونها. بعد قرابة ساعة ونصف الساعة، انفتح باب الكوخ بصريره المعتاد، وظهر الشيخ وابنتاه، وقد تبددت الهستريا وإن بقي الفزع جليا، و"الفضول سافرا". وفي حذر اقترب الثلاثة الغرباء حتى جلسوا بجانب الزوار، رافضين كل ما عرض عليهم: المربي والشاي والخبز، بغمغة غير واضحة. فهذا "ليس مسموحا لنا به". ولما سألتهم بيسمنسكايا "هل سبق لكم أن أكلتم الخبز؟" قال الشيخ "نعم، أنا أكلته، لكنهما لم تأكلاه. لم ترياه قط". كان كلامه مفهوما على الأقل. في حين كانت البنتان تتكلمان بلغة شوهتها حياة كاملة من العزلة. "حينما كانت الشقيقتان تتكلمان إحداهما مع الأخرى، كان كلامهما يبدو هديلا غائما وبطيئا".
وببطء، وعلى مدار زيارات عدة، تكشفت حكاية الأسرة كلها. اسم الشيخ هو كارب لايكوف، وكان من المؤمنين القدامى، وهي طائفة أرثوذكسية روسية أصولية تتعبد بطريقة لم يطرأ عليها تغير منذ القرن السابع عشر، وكان المؤمنون القدامى مضطهدين منذ أيام بطرس الكبير، في حين كان لايكوف يتكلم عن هذا الاضطهاد وكأنه وقع بالأمس، فكان بطرس بالنسبة له بمثابة عدو شخصي بل هو "المسيخ الدجال في جسد بشري" وهذه نقطة ثبتت أوضح الثبوت بحملة القيصر من أجل تحديث روسيا رغم أنفها "ونتف لحى المسيحيين". ولكن تلك الكراهية العتيقة اندمجت مع مظالم حديثة، فقد اشتكى كارب ـ بنفس هذه المرارة ـ من تاجر أبى أن يهب 26 بودا [940 رطلا] من البطاطس للمؤمنين القدامى حوالي عام 1900.
وساءت الأمور على آل لايكوف حينما وصل البلشفيين الملاحدة إلى السلطة. ففي ظل السوفييت، عمد المؤمنون القدامى الذين كانوا قد لاذوا بسيبريا إلى مزيد من التراجع بعيدا عن الحضارة والاضطهاد. وفي ثنايا التطهير الذي شهدته ثلاثينيات القرن العشرين، والذي تعرضت فيه المسيحية نفسها للهجوم، أطلقت دورية شيوعية الرصاص على شقيق لايكوف عند أطراف قريتهم وكان لايكوف لحظتها منحنيا بجواره. فما كان من الناجي إلا أن أخذ أسرته وانطلق إلى الغابة.


محاولات بطرس الكبير لتحديث روسيا في مطلع القرن الثامن عشر تركزت في حملة للقضاء على اللحى. ففرضت ضريبة على شعر الوجه من لا يدفعها تحلق له لحيته رغم أنفه
كان ذلك في عام 1936، ولم يكن في أسرة لايكوف وقتها إلا أربعة: كراب، وزوجته أكولينا وابن في التاسعة هو سافين ونتاليا التي لم يكن عمرها يزيد عن سنتين. حملوا أمتعتهم وبذورهم، وتراجعوا إلى أعماق التايجا فاتخذوا لأنفسهم سلسلة من المساكن الاعتباطية، إلى أن استقر بهم المقام في تلك البقعة المهجورة. وولد في البرية طفلان آخران، ديمتري سنة 1940 وأجافيا سنة 1943، ولم يحدث لأي من الصغيرين هذين أن رأى إنسانا ليس من أسرة لايكوف. وكل ما عرفته أجافيا وديمتري عن العالم الخارجي إنما عرفاه مما حكاه لهما أبواهما. وكانت التسلية الوحيدة للأسرة ـ فيما يكتب الصحفي فاسيلي بيكسوف ـ هي أن "يحكي كل واحد أحلامه".
عرف أبناء لايكوف أن في العالم أماكن تدعى المدن حيث يعيش الناس مكدسين فوق بعضهم البعض في بنايات رأسية عالية.  سمعوا أن هناك دولا غير روسيا. ولكن تلك المفاهيم لم تكن بالنسبة لهم إلا محض مجردات. لم يكن لديهم للقراءة إلا كتب أدعية وإنجيل عائلي قديم. وقد استعانت أكولينا بالأناجيل لتعليم أبنائها القراءة والكتابة مستخدمة غصونا مسننة الأطراف بديلا عن الأقلام وعصير بعض الثمار بديلا للحبر. وحينما عرضت على أجافيا صورة حصان تعرفت عليه، إذ تذكرت أنها رأته في قصص أمها الإنجيلية، فقالت "بابا، شوف، جواد".
ولئن كانت عزلة تلك الأسرة عصية على التصور، فليست مشقة حياتهم المطلقة كذلك. فالوصول إلى مسكن لايكوف على الأقدام أمر في غاية المشقة حتى مع الاستعانة بقارب لعبور نهر ألباكان. فعن زيارته الأولى إلى آل لايكوف، كتب بيسكوف ـ الذي عين من نفسه مؤرخا للأسرة ـ يقول "إننا سافرنا ماتين وخمسين كيلو متر من دون أن تقع أعيننا على مسكن لإنسان".
العزلة تجعل البقاء في البرية أقرب إلى المستحيلات. وفي ظل اعتمادهم المطلق على مواردهم الشخصية، ناضل آل لايكوف من أجل الحفاظ على القليل الذي اصطحبوه معهم إلى التايجا. اتخذوا لأنفسهم أحذية من لحاء الشجر، وكانوا يرقعون ثيابهم ويعيدون ترقيعها إلى أن تتهاوى فيستبدلون بها ملابس من خيوط القنب الذي استزرعوه من بذور اصطحبوها معهم.

صورة من هليوكوبتر سوفييتية للمنطقة التي عاش فيها آل لايكوف
حمل آل لايكوف معهم إلى التايجا مغزلا، بل ومكونات نول، ولا بد أن حملهم هذه الأشياء من مكان إلى مكان وهم يوغلون في البرية كان يكبدهم مشقة كبيرة، ولكن لم يكن بيدهم حيلة، فمن أين لهم بالمعادن في الغابة. كان لديهما إناءان فقط عاشا سنين كثيرة، إلى أن غلبهما الصدأ آخر الأمر، ولم يكن من بديل لهما إلا الذي صنعوه من لحاء الشجر، ولكن هذا البديل ما كان ليوضع على النار، فأصبح الطبخ أشد صعوبة. وحتى وقت اكتشاف آل لايكوف، كان قوام طعامهم البطاطس ومزيج الشعير وبذور القنب.
يوضح بيسكوف أن التايجا تنطوي على شيء من الوفرة من بعض الزوايا: "فبجانب المسكن يجري نهر بارد صاف، وتنتصب صنوبرة أنيقة وأكمة شجرية توفر الكثير من أنواع التوت البري، والحطب أيضا، ويتساقط جوز الصنوبر على سطح البيت مباشرة".
ومع ذلك فقد عاش آل لايكوف طول عمرهم على شفا المجاعة. ولم يحدث قبل أواخر الخمسينيات ـ حينما بلغ ديمتري الرجولة ـ أن بدأوا في اصطياد الحيوانات طلبا للحومها وجلودها. ولما كانوا بلا مسدسات أو حتى أقواس، فقد كان عليهم أن يحفروا شراكا أو يستدرجوا الحيوانات عبر الجبال إلى أن تسقط الحيوانات من فرط الإعياء. كان قدرة ديمتري على الاحتمال مذهلة، فقد كان يستطيع الصيد حافي القدمين في الشتاء، وفي بعض الأحيان كان يقضي خارج الكوخ أياما عديدة فينام في العراء في درجة حرارة أربعين تحت الصفر، ليعود حاملا على كتفيه أيلا صغيرا. غير أن اللحم لم يكن يتوفر لهم في أغلب الحالات فتستقر وجباتهم على رتابتها المألوفة. وكانت الحيوانات البرية تدمر محصولهم من الجزر، وتبقى سنوات أواخر الخمسينيات في ذاكرة أجافيا "سنوات الجوع". تقول "كنا نأكل ورق الشجر، والجذور، والعشب والفطر واللحاء. كنا جياعا طول الوقت. وكل سنة كنا نتشاور هل نأكل كل ما لدينا من البطاطس أم نستبقي منها القليل بذورا للسنة القادمة".
كانت المجاعة خطرا دائم الحضور في تلك الظروف، وفي عام 1961 أمطرت ثلجا في يونيو، وأتى الصقيع القاسي على كل شيء ينمو في حديقتهم، وبحلول الربيع لم تكن الأسرة تعيش إلا على تناول الأحذية  shoesواللحاء. وكانت أكولينا تؤثر أن ترى أولادها يأكلون، فماتت في تلك السنة جوعا. ونجت بقية الأسرة بفضل ما يعتبرونه معجزة: طلعت من الأرض شعيرة واحدة في حقل البازلاء. أقام آل لايكوف حولها سياجا وقاموا على حراستها بلا تهاون ليل نهار ليبعدوا عنها الفئران والقنافذ. وفي موسم الحصاد أثمرت الشعيرة الواحدة ثماني عشرة حبة، ومن تلك الحبوب استعادوا من جديد محصولهم من الشعير.


ديمتري (يسارا) وسافين في الصيف السيبيري
لما عرف العلماء آل لايكوف أكثر، أدركوا أنهم استهانوا بذكائهم أول الأمر وقدراتهم. فلقد كانت لكل فرد في الأسرة شخصيته: كارب الكبير كان يفرح بكل ابتكار حديث يأتي به العلماء من معسكرهم، ومع ذلك بقي مصرا على رفض فكرة أن يكون الإنسان وضع قدمه حقا على القمر، ولكنه تقبل ببساطة فكرة الأقمار الصناعية. فقد لاحظها آل لايكوف منذ أوائل الخمسينيات عندما "بدأت النجوم تتحرك بسرعة في السماء فجاء كارب نفسه بنظرية لتفسير هذه الظاهرة موجزها أن "البشر ابتكروا شيئا في الأعلى يرسلون منه نارا شبيهة للغاية بالنجوم".
وكتب بيسكوف أن "أكثر ما أدهشه على الإطلاق كان كيسا من السيلوفان الشفاف ’يا رباه!! ما هذا الذي ابتكروه، إنه زجاج، وإنه يتجعد!’". كان كارب يتمسك بصرامة بموقعه كرأس للأسرة، برغم أنه كان قد تجاوز الثمانين، وكان سافين ـ ابنه الأكبر ـ يتعامل مع هذا بأن يجعل من نفسه مسئول الشئون الدينية في الأسرة. قال عنه أبوه إنه "قوي الإيمان، لكن فيه خشونة، ويبدو أن كارب قلق على ما سيكون من أمر أسرته بعد وفاته إن حدث وسيطر عليهم سافين. من المؤكد أن الابن الأكبر لن يواجه إلا مقاومة هينة من نتاليا التي كم ناضلت لتحل محل الأم طاهيةً وخياطةً وممرضة.
في المقابل، كان الشقيقان الصغيرن أسهل في التعامل، وأكثر انفتاحا على التغيير والابتكارات. قال بيسكوف إن "التعصب لم يكن سافرا بغلظة في أجافيا" بل لقد تبين له مع الوقت أن الصغرى في آل لايكوف خفيفة الدم قادرة على السخرية من نفسها. وبرغم أن طريقة أجافيا في الكلام ـ كما لو كانت تغني ببطء ولا تستخدم غير كلمات بسيطة ممدودة ـ جعلت الزوار يعتقدون أن في عقلها بلادة، ولكنهم اكتشفوا أنها ذكية ذكاء لافتا، وأنها التي تتولى المهمة الصعبة، ففي أسرة ليس لديها تقويم، كانت أجافيا هي سجل الزمن. كما كانت لها مقدرة على العمل الشاق، فحفرت على سبيل المثال قبوا بيديها في أواخر الخريف وكانت بعد غروب الشمس تعمل في ضوء القمر. ولما سألها بيسكوف عما إذا كانت لا تخاف من البقاء وحيدة في البرية بالليل قالت له "وما الذي يوجد هناك ويمكن أن يلحق بي الأذى؟"


صورة من الصحافة الروسية لكارب لايكوف (الثاني من اليسار) مع ديمتري وأجافيا بصبحة أحد علماء الجيولوجيا السوفييت
ولكن الأحب لدى علماء الجيولوجيا السوفييت من بين جميع أفراد أسرة لايكوف كان ديمتري، العائش في الهواء الطلق، العارف بالتايجا في أحوالها كافة. كان الأشد فضولا بين أفراد أسرته وربما الأكثر تطلعا إلى المستقبل فيهم. هو الذي أقام للأسرة موقدها، والدلاء المصنوعة من لحاء الشجر التي كانوا يخزنون فيها الطعام. وديمتري أيضا هو الذي أنفق أياما يقطع الخشب الذي كان يستدفئ به آل لايكوف.  ولعل ذلك هو الذي جعله أكثر المنبهرين بما لدى العلماء من وسائل تكنولوجية. وبمجرد أن تحسنت العلاقات إلى الحد الذي يسمح بإقناع آل لايكوف بزيارة معسكر السوفييت، حتى قضى ديمتري ساعات جذل ونشوة في ورشة نشر الخشب بالمعسكر، مشاهدا أعجوبة المنشار الكهربائي الدوار وهو يخترق الخشب في يسر بالغ. كتب بيسكوف يقول "ليس صعبا أن نتصور إحساس ديمتري وهو يرى الجذع الذي كان ينفق نهارا كاملا في قطعه وهو يتحول أمام عينيه في لحظات إلى ألواح أنيقة. تحسس ديمتري الألواح براحة يده وقال ’ناعمة’".
خاض كارب لايكوف ضد نفسه معركة طويلة وخاسرة لكي ينأى عن كل هذه الحداثة. لقد حدث عندما تعرفت الأسرة بالعلماء للمرة الأولى أن قبلوا منهم هدية واحدة لا ثاني لها: الملح. "لقد كانت الحياة بدون ملح على مدار أربعة عقود من الزمان ـ بحسب ما قال لايكوف ـ "عذابا أليما"). ولكنهم بمرور الوقت بدأوا يقبلون المزيد. ورحبوا بمساعدة صديقهم الأثير من فريق الجيولوجيين وهو الحفار ييروفاي سيدوف الذي كان ينفق كل وقت فراغه معهم يساعدهم في غرس نباتاتهم وحصاد محاصيلهم. قبلوا سكاكين وشوكا وفئوسا وبذورا بل وقلما وورقا وكشافا يعمل بالبطارية في النهاية. كل هذه ابتكارات تقبلوها على مضض، ولكن خطيئة التليفزيون الذي صادفوه في معسكر الجيولوجيين
"أثبتت أنها لا سبيل إلى مقاومتها ... فقد كانوا في المرات النادرة التي قدموا فيها إلى المعسكر يجلسون قبالته في ثبات ويشاهدون. كارب كان يجلس أمام الشاشة مباشرة. أجافيا كانت تتفرج دافعة رأسها من وراء باب. كانت تحاول أن تتلهى بالصلاة والتمتمة ورشم الصليب ... أما الأب الشيخ فكان يصلي ويستغفر بعد الفراغ من المشاهدة".
لعل أكثر ما يبعث على الحزن في قصة آل لايكوف، هو السرعة التي انحدرت بها أحوال الأسرة في أعقاب إعادة اتصالهم بالعالم الخارجي. في خريف عام 1981، لحق ثلاثة من الأبناء بأمهم إلى المقبرة في غضون أيام قليلة تفصل بين أحدهم والآخر. وبحسب ما يروي بيسكوف، لم تكن وفياتهم نتيجة تعرضهم لأمراض لم تكن أجسامهم محصنة ضدها. سافين ونتاليا كانا يعانيان من فشل كلوي ناجم على الأرجح عن نمطهم الغذائي القاسي. أما ديمتري فمات بالالتهاب الرئوي الذي ربما يكون بدأ لديه من عدوى التقطها من أصدقائه الجدد.
كانت وفاته صدمة للجيولوجيين الذين استماتوا في محاولة إنقاذه. عرضوا أن يحضروا له هليوكوبتر لتقله إلى المستشفى. ولكن ديمتري أبى أن يهجر أسرته أو الدين الذي مارسه طول عمره. وهمس قبل وفاته "ليس مسموحا لنا بهذا. إنما يعيش المرء قدر ما يقدر الرب له".


مقابر آل لايكوف الذين لم يبق منهم اليوم إلا أجافيا تعيش وحدها في التايجا
بعدما دفن الثلاثة، حاول العلماء إقناع لايكوف وأجافيا بالرحيل عن الغابة والرجوع إلى أقاربهم الذين نجوا من الاضطهاد في سنوات التطهير والذين لا يزالون يعيشون في قراهم لم يتركوها. ولكنهما لم يصغيا إلى تلك المحاولات. بل قاما بتجديد كوخهما القديم.
مات كارب لايكوف وهو نائم في السادس عشر من فبراير سنة 1988، بعد سبعة وعشرين عاما من وفاة زوجته أكولينا. ودفنته أجافيا على سفح الجبل بمعاونة من الجيولوجيين، ثم استدارت راجعة إلى بيتها. قالت إن الرب سيرزق، وحقا ما قالت. فخمسة وعشرون عاما مضت على ذلك اليوم، وهي الآن في السبعين من العمر، صغرى بنات لايكوف، لا تزال تعيش في التايجا وحدها، عالية فوق نهر الأباكان.
ولن ترحل. ولكن نحن نرحل عنها، نرحل ونحن ننظر إليها عبر كلمات ييروفاي التي كتبها عنها يوم وفاة أبيها:
"استدرت ألوح لأجافيا. كانت تقف بجانب النهر كأنها تمثال. لم تكن تبكي. أومأت قائلة ’أكمل، أكمل’. قطعنا كيلومتر آخر ثم استدرت فنظرت فكانت لم تزل في مكانها واقفة".

نشر الموضوع أصلا في مجلة سميثونيان ونشرت ترجمته اليوم في ملحق شرفات
 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق