حصل أورهان باموق، البالغ من العمر ستين عاما، على جائزة
نوبل في الأدب سنة 2006. ولد في اسطنبول، ودرس العمارة ثم الصحافة. صدرت روايته
الأولى "جودت بيك وأبناؤه" سنة 1982. حوكم في عام 2005
لانتقاده سجل تركيا في حقوق
الإنسان وتم إسقاط التهمة. يعيش في اسطنبول ويقوم بتدريس الأدب المقارن في جامعة
كولمبيا الأمريكية.
أورهان باموق ... كتابا بعد كتاب
ـ ما الكتاب الموجود حاليا على المنضدة المجاورة لسريرك؟
ـ الشهنامة للفردوسي، وعنوانها الفرعي "كتاب الملوك
الفارسي"، في ترجمة عظيمة قام بها "ديك ديفيس"، وصدرت عن كلاسيكيات بِنْجِوِن.
الشهنامة، شأن "مثنوي" جلال الدين الرومي أو "ألف ليلة وليلة"، محيط هائل من الحكايات
أستعرضها بين الحين والآخر في العديد من الترجمات التركية والإنجليزية لأستقي منها
الإلهام أو لأستوحيها مثلما فعلت في "اسمي أحمر" و"الكتاب الأسود".
في القلب من هذه الملحمة يبحث المقاتل العظيم سوهراب عن أبيه رستم، رستم الذي لا
يعرف أن سوهراب ابنه فيقتله في معركة.
موضع هذه القصة المأساوية العظيمة في متن الأدب المغولي
العثماني الفارسي شبيه للغاية بموضع خرافة أوديب في المتن الغربي، ولكن الشهنامة
لا تزال بانتظار فرويد يعالج تماثلاتها واختلافاتها الراديكالية. هذا، وبوسع
الأدب المقارن أن يعلمنا عن الشرق والغرب أكثر بكثير من طنطنات "صدام
الحضارات".
ـ ما أخر كتاب عظيم بحق قرأته؟
ـ الكتب العظيمة بحق هي دائما روايات: "آنا كارنينا"
[لتولستوي]، "الإخوة كرامازوف" [لدوستويفسكي]، "الجبل السحري"
[لتوماس مان]. وأنا أستعرض هذه الكتب، مثلما أستعرض الشهنامة، من وقت إلى آخر
لأتذكر كيف يكون تأثير الكتاب العظيم علينا، أو بهدف التدريس لطلبتي في جامعة
كولمبيا.
ـ وما أسوأ كتاب سبق لك أن قرأته؟
ـ الكتب السيئة أيضا تكون روايات سيئة. ومثلما تبث الكتب
الجيدة بنفسي فرحة بأنني أعيش، تصيبني الروايات السيئة بالاكتئاب وألاحظ بعيني هذا
الإحساس طالعا من الصفحات، فأتوقف. كما أنني لا أتردد في الخروج من السينما إذا
كان الفيلم سيئا. الحياة قصيرة، وعلينا أن نحترم كل لحظة فيها.
ـ هل لديك أي متع قرائية تشعرك بالذنب ـ كتب، دوريات، إنترنت؟
ـ لوقت طويل، كنت بسذاجة أعتقد أن قراءة روايات الإثارة
والروايات البوليسية مضيعة للوقت. وأظن هذا ما جعلني أشعر بالذنب لاستمتاعي بقراءة
[روايات الكاتبة الأمريكية] باترشيا هايسميث. ثم أدركت لاحقا أن الإحساس بالذنب لا
يأتي من كونها روايات إثارة، بل من أسلوبها البارع الذي تجعل به القارئ يتماهى مع
القاتل. فهي كاتبة رواية جريمة دوستوفسكية رائعة. أتمنى أيضا لو كنت قرأت المزيد
من [كاتب رويات الإثارة البريطاني] جون لو كاريه. وأشعر بالذنب حين أقرأ أكثر مما
ينبغي من الدردشات التي تدور حول الكتب على الإنترنت.
ـ ما آخر كتاب جعلك تضحك؟
ـ اوسكار وايلد دائما يجعلني أبتسم ـ باحترام وإعجاب. قصصه
القصيرة تؤكد أن بوسع الكاتب أن يكون ساخرا، ومتهكما، وأن يكون في الوقت نفسه عميق
الحنان. مجرد رؤية غلاف لأحد كتب وايلد في واجهة عرض تجعلني أبتسم. [الكاتب
الإنجليزي] جوليان بارنس لديه بعض من قسوته وخفة دمه. أحب كثيرا "الإحساس
بالنهاية" لبارنس.
ـ آخر كتاب أغضبك؟
ـ كتاب آدم هوشتشايلد "شبح الملك ليوبولد" الذي
يتناول ما ارتكبه هذا الملك وجيشه من مذابح فيما بين 1885 و1908 بحجة "الحرب
ضد العبودية" في حين أن الهدف الحقيقي هو كسب بعض المال في الكونغو. لقد قتل
ليوبولد ورجاله قرابة عشرة ملايين إنسان في أفريقيا. طبعا كلنا نعلم أن لغو
"التمدين، والتحديث" مبرر جيد للقتل، لكن هذا الكتاب العظيم قادر أن
يصيب أي قارئ له بالحنق، خاصة إذا كان القارئ مثلي مؤمنا أكثر مما ينبغي بفكرة
أوربا.
ـ إذا كان لك أن توصي الرئيس الأمريكي بقراءة كتاب واحد، فماذا
يكون؟ وماذا عن رئيس وزراء تركيا؟
ـ عرفت أوباما قبل سنوات كثيرة من انتخابه رئيسا، عرفته مؤلفا
لكتاب "أحلام من أبي"، وهو كتاب جيد جدا. أوصيه هو أو أي رئيس أمريكي
بكتاب أهديه لأصدقائي في بعض الأحيان راجيا منهم قراءته ثم سؤالي "لماذا هذا
الكتاب بالذات يا أورهان؟". هو كتاب "الزن وفن صيانة الدراجة النارية.
بحص في القيم". وهو كتاب عظيم يقوم على شسوع أمريكا والبحث الفردي عن القيم
ومعنى الحياة. هذا الكتاب شديد الرومانسية ليس رواية، لكنه يفعل شيئا شديد الأهمية
ينبغي أن تفعله الرواية، ويفعله على نحو يفضل الكثير من الروايات العظيمة: يستنبط
الفلسفة من تفاصيل الحياة اليومية.
أما رئيس الوزراء التركي فقد احترمت سياساته في الدفع بالجيش
بعيدا عن السياسة والرجوع إلى الثكنات، برغم أنني لست سعيدا بالذهاب إلى المحكمة
بسبب آرائي السياسية شأن الكثيرين
والكثيرين في فترة حكمه. لقد قاضى رسام كاريكاتير لأنه رسمه على شكل قطة، برغم أن
أي شخص يأتي إلى هنا يعرف أننا في اسطنبول نحب القطط. أنا واثق أن اردوغان سوف
يستمتع بكتاب "أنا قط" لـ [الكاتب الياباني] ناتسومي سوسيكي، وهي رواية
عن الأخطار الشيطانية للإفراط في التغريب Westernization ، وهي مروية على لسان قط.
ـ أنت متهم بـ "الإساءة إلى التركية Turkishness " لاعترافك بالقتل الجماعي للأكراد
والأرمن، ولصراحتك فيما يتعلق بطلب تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوربي. هل كنت في
هذه الحالات تتصرف بوازع من كونك مواطنا ملتزما أم أنك ترى أن الكتاب ملتزمون بدور
اجتماعي؟
ـ في الغالب كنت أتصرف بوازع من كوني مواطنا ملتزما. فأنا ليست
لدي قناعات سياسية منظمة، ولا أنا أعتبر نفسي كاتبا سياسيا. ولكن كتبي سياسية لأن
شخصياتي تعيش في أوقات اضطراب وقلاقل سياسية وتغير ثقافي. وأحب أن أبين لقرائي أن
شخصياتي تقوم بالاختيار طول الوقت وهذا سياسي بطريقة أدبية في أعمالي.
لا يحدث أبدا أن تحركني أفكار سياسية. إنما تعنيني الظروف
البشرية والقصص الطريفة. والمشكلات السياسية التي أواجهها في تركيا لا ترجع رواياتي
بل إلى الحوارات الدولية التي أجريها. كل ما أقوله خارج تركيا يلقى قراءة خاطئة في الوطن، ويتغير قليلا حتى أبدو
سخيفا وأكثر سياسية مما أنا عليه بالفعل.
مرة اشتكيت لبول أوستر في شبابه، وهو كاتب يعجبني، وكنت التقيت
به في أوسلو، ورأيته وهم يجرون معه حوارات ـ مثلي ـ للترويج لأحد كتبه. قلت له
إنهم يطرحون عليَّ طول الوقت أسئلة سياسية، وإنه قد يكون أسهل على المرء أن يكون
كاتبا أمريكيا. فقال إنهم يطرحون عليه أيضا أسئلة عن حرب الخليج. كانت أيام حرب
الخليج الأولى. وعلى مدار العشرين عاما التي مرت منذ ذلك اليوم، تعلمت أن الأسئلة
السياسية قدر كتاب الأدب، خاصة إن كانوا من خارج العالم الغربي.
الطريقة المثلى لتفاديها هو أن يكون المرء سياسيا ـ دبلوماسيا
مثلا ـ فلا يجيب إلا الأسئلة الأدبية. ولكن شخصيتي لا تصلح لدبلوماسي ناجح. إذ
أنني أفقد أعصابي وأجيب بعض الأسئلة السياسية وينتهي بي الأمر إما إلى المحكمة أو
إلى التعرض لحملة من صحف اليمين في تركيا. الروايات سياسية لا لأن الروائيين
يحملون بطاقات حزبية ـ بعضهم يحملها أما أنا فلا ـ ولكن لأن الأدب الجيد يعني
التماهي والفهم لأشخاص لا يكونون بالضرورة مثلنا نحن كتابهم. جميع الروايات الجيدة
بطبيعتها سياسية لأن التماهي مع الآخر أمر سياسي. وإن في القلب من "فن
الرواية" تكمن القدرة البشرية على رؤية العالم بأعين الآخرين. والتعاطف أعظم
قوى الروائي.
ـ لو أن لك أن تصطحب ثلاثة كتب إلى جزيرة صحراوية. فأي الكتب؟
ـ الموسوعة البريطانية، طبعة 1911، والطبعة الأولى من موسوعة
الإسلام (1913ـ1936) وموسوعة اسطنبول (1958 ـ 1971) لـ ريسات أكرم كوجو وهي
الموسوعة التي كتبت عنها في كتابي "اسطنبول"، وهذه الكتب سشوف تبقيني
مشغولا لنحو عشر سنوات. خيالي يعمل بطريقة أفضل مع المعلومات، خاصة لو كانت قديمة
بعض الشيء. وبعد أن تمضي عشر سنين، ينبغي أن يأتوا ليأخذوني من الجزيرة فأنشر
الروايات التي كتبتها هناك.
ـ عشت لفترات متقطعة في أمريكا. أي الكتاب الأمريكيين يعجبونك
بصفة خاصة؟ ومن الذي أثر على كتابتك؟
ـ مرة كتب الراحل جون أبدايك يقول إن كل كتَّاب العالم تأثروا
بفوكنر. وأنا واحد منهم. لقد بين لنا فوكنر أن مواضيعنا قد تكون محلية، وبعيدة عن
مراكز الغرب، وذات حمولة سياسية، لكن بوسع المرء أن يكتب عنها بطريقة شديدة
الشخصية والإبداعية فتتسنى قراءاته في كل
أرجاء العالم.
قرأت أغلب فوكنر وهمنجواي وفيتزجيرالد. وقرأت جميع مقالات جون
أبدايك لـ ذي نيويوركر. تعلمت من أبدايك الكثير وأفدت الكثير من مقالاته النقدية.
ولأنني درست في اسطنبول في مدرسة ثانوية أمريكية علمانية، هي مدرسة روبرت كولدج،
فقد قرأت "توم سوير" [لمارك توين] كجزء من المنهج، وكذلك رواية "سلام
منفصل" [لـ جون نولز]، و"لكي تقتل طائرا" To Kill a
Mockingbird [لـ هاربر لي] واستمتعت بروح المساواة والديمقراطية في هذه الكتب.
لم نكن ندرس سالنجر في المدارس في ذلك الزمن فقرأت "الحارس في حقل
الشوفان" بوصفه كتابا هداماأثناء دراستي الثانوية. تعجبني روايات توماس
بينتشون، وذكاء نيكولاس باركر. أحترم ديف إيجرز ...
لكن حينما يسألني أحد عن الأدب الأمريكي، أفكر على الفور في
هاوثورن، وملفيل، وبو. في رأيي أن هؤلاء الثلاثة يمثلون أكثر ممن عداهم الروح
الأمريكية. ربما لأنه يسهلَّ علي أن أتماهى مع قلقهم من المحلية وخيالهم الجامح،
وقلة عدد قرائهم في زمنهم وطاقة التفاؤل عندهم، ونجاحاتهم، وإخفاقاتهم المدوية.
أنا في خيالي أربط بو وملفيل
وهاوثورنبحالة من الغموض، مثلما أربط مثلا الرسامين الرومانتيكيين الألمان وآفاقهم
بالمجهول.
ـ كيف وجهتْ دراستُك للرسم طريقَتك في تأليف الكتب وقراءتها؟
ـ مثلما قلت في كتابي السيري "اسطنبول"، والآن في
"براءة الأشياء"، أنا نشأت على أن أكون رساما. فلما بلغت الثالثة
والعشرين، انفك مسمار غامض في رأسي فتحولت إلى الكتابة.
لا زلت أستمتع بملذات الرسم. وأكون أكثر سعادة حينما أرسم،
ولكنني أشعر أني أعمق اشتباكا مع العالم حينما أكتب. هناك بين الرسم والكتابة
علاقة أخوة، وقد قمت بتدريس ذلك في كولمبيا، وكنت أحب أن أطلب من طلبتي أن يغمضوا
ويفكروا في فكرة ثم يفتحوها أعينهم ويحاولون أن يتبينوا هل كانت الفكرة كلمة أم
صورة. الإجابة الصحيحة هي: الاثنتان. الروايات تعالج الخيالات اللفظية
(دوستويفسكي) والبصرية (بروست ونابوكوف). هناك الكثير للغاية من المشاهد التي لا
تنسى في روايات دوستويفسكي، ولكننا نادرا ما نتذكر الخلفية، أو الأفق، أو الأشياء
الموجودة في هذه المشاهد.
وهناك أنواع أخرى من الروائيين أيضا ممن يؤلفون مشاهد لا تنسى
لصياغتها صورا في أذهاننا. قبل "الكلمة المثالية" التي يقول بها فلوبير،
ينبغي أن تكون في خيال الكاتب صورة مثلى. وعلى القارئة الذكية أن تغلق الرواية
التي بين يديها وترفع عينيها إلى السقف وتستوضح في خيالها الصورة الداخلية التي
دفعت الكاتب إلى جملة ما أو فقرة. ونحن ينبغي أن نكتب لهذا النوع من القراء
القادرين على التخيل. لقد قام الرسام الذي بداخلي على مدار السنين بتعليم الكاتب
خمسة أشياء أساسية:
1.
لا تشرع في الكتابة قبل أن يكون لديك إحساس قوي بالمؤلَّف كله،
ما لم تكن تكتب نصا غنائيا أو قصيدة.
2.
لا تبحث عن الكمال والسيمترية ـ ستقتل في عملك الحياة.
3.
أطع قواعد وجهة النظر والمنظور وانظر إلى العالم بعيون شخصياتك
ـ ومسموح للابتكار بكسر هذه القاعدة.
4.
مثل فان جوخ أو التعبيريين الجدد، أظهر ضربات فرشاتك. والقارئ
سوف يستمتع بطريقة صنع الرواية إن هي لم تشغل إلا جزءا ثانويا من القصة.
5.
حاول أن تضع يدك على الجمال الاعتباطي الذي لم يرتب له العقل
ولم تتعمده اليد.
ويوما بعد يوم تزداد الألفة والمودة بين الكاتب الذي بداخلي
والرسام الذي بداخلي. ولذلك أخطط الآن لروايات فيها صور ولكتب مصورة فيها نصوص
وقصص.
ـ مدينة اسطنبول تغيرت تغيرا هائلا خلال الخمسين عاما الماضية.
كيف انعكس هذا التغير في الأدب؟
ـ كان الكتاب الأتراك من الجيل السابق أكثر انشغالا بالحياة
والظلم الاجتماعي في منطقة الأناضول الريفية في الوقت الذي ازداد فيه سكان
اسطنبولي المسكينة من مليون إلى أربعة عشر مليون. أحياء الضواحي، قرى الصيادين
الصغار، المنتجعات الصيفية الفاتنة، الطبقة العليا المستغربة، المصانع وأحياء
الطبقة العاملة التي أصفها في "المنزل الصامت" بما فيها من شباب غاضب،
الوطنيين والأصوليين والعلمانيين ومشكلاتهم السياسية، كل ذلك جزء من الحاضرة
الكبيرة الآن. أشعر أنني محظوظ للغاية أن لاحظت هذا النمو الهائل المذهل من داخله.
ولأن أكثر هذا النمو قد وقع خلال الخمس عشرة سنة الماضية، فمن الصعب ملاحقته.
ومثلما كنت أفعل في السنوات التي كتبت فيها "المنزل الصامت"، لا زلت
أقوم بجولات مشي طويلة في مختلف أحياء المدينة وهي تتضخم وتتضخم مستمتعا بكل ما
أراه، مراقبا البنايات الشاهقة إذ تعلو حيثما كانت بيوت المدينة القديمة، والمراكز
التجارية المذهلة محل السينمات الصيفية القديمة، وجميع أنواع المحال ومطاعم
الوجبات السريعة الممثلة لجميع أنواع المجتمعات، والزحام الذي لا نهاية له في
الشوارع التي لا نهاية لها.
نشر الحوار في نيويورك تايمز بتاريخ 11 نوفمبر 2012، ونشرت الترجمة صباح اليوم في جريدة عمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق