الأحد، 10 يونيو 2012

باحث أمريكي: قيام دولة فلسطين هو أمل إسرائيل في البقاء


خوفا على دولة إسرائيل من مصير جنوب أفريقيا:
باحث أمريكي: قيام دولة فلسطين هو أمل إسرائيل في البقاء
ديفيد شولمان

في الخامس عشر من ابريل الماضي كنت عائدا إلى إسرائيل على الخطوط الجوية الإيطالية قادما من روما. وقبل قرابة خمس وأربعين دقيقة من الهبوط في تل أبيب، أخبرنا قائد الطائرة أن إسرائيل أعلنت عن إجراءات أمنية استثنائية بسبب تهديدات غير معتادة، وأنه اعتبارا من تلك اللحظة  ـ كنا لا نزال في السماء أعلى البحر المتوسط ـ وإلى أن يسمح لنا بمغادرة المطار: يحظر تماما جميع أنوع التصوير الفوتغرافي، وينبغي لنا ـ علاوة على ذلك ـ أن نتبع تعليمات الأمن الإسرائيلي المنتشر على الأرض.كانت أول فكرة خطرت لي هي أن بنيامين نتانياهو قرر أن يضرب إيران وحده، برغم ـ أو ربما بسبب ـ الحركة التي ظهرت في الأيام السابقة باتجاه التوصل إلى حل سلمي وفعال لمشكلة المشروع النووي الإيراني. ثم خطر لي بعد ذلك أن مثل هذه الضربة لم تزل مستبعدة. فما الذي كان يجري إذن؟
عند هبوطنا، وجهونا إلى الصالة رقم 1 القديمة، أو عتيقة الطراز بالأحرى، وبعد فحص جوازات السفر، أخذونا بالحافلات إلى الصالة رقم 3. كان أفراد الشرطة وشرطة الحدود منتشرين في كل مكان، بأعداد ضخمة، وسرعان ما رأيناهم وهم يلقون القبض على متظاهر ويرغمونه على الدخول في شاحنة تابعة لهم. عند ذلك عرفت أن التهديد الجوي الاستثنائي كان يتعلق بوصول بضع عشرات من نشطاء السلام إلى إسرائيل قادمين من أوربا. عرفنا فيما بعد أن أولئك الناشطين كانوا يحاولون الوصول إلى بيت لحم في الأراضي الفلسطينية ليتظاهروا فيها ضد ما تقوم به إسرائيل من انتهاكات لحقوق الإنسان.
كان هؤلاء المتظاهرون سببا واضحا لاستنفار القوات المسلحة، كما لو أن غزوا عنيفا يجري. تم اعتقال خمسين منهم أو نحو ذلك، وتمكن اثنان من الفرار من الكردون والوصول إلى بيت لحم. وأعلن متحدث حكومي في ذلك المساء بفخر واضح عن تمكن الحكومة من التصدي لخطر جسيم. ولم ينل من حالة الرضا في تلك الليلة إلا أن نشرات الأخبار أذاعت إحدى تلك الحوادث التي تكشف في لمحة واحدة عن حقيقة الاحتلال العنيفة.
فقد تم تصوير شالوم أيزنر ـ وهو نائب رئيس لواء عسكري في وادي الأردن وهو مستوطن ـ وهو يضرب ببندقيته ناشط سلام دنماركيا في وجهه عنف بالغ ودون أن يكون ذلك نتيجة اي استفزاز. أذيع ذلك المشهد المريع والقبيح عشرات المرات. ويؤسفني أن أقول إنني رأيت أمثاله مرارا في مظاهرا في شرق القدس وفي فعاليات سلمية في الأراضي الفلسطينية. بعد ذلك، تم إعفاء أيزنر من القيادة، ولو أن لنا أن نقيس على وقائع مماثلة جرت في الماضي، فيمكننا القول إنه سيعاد تسكينه في موقع قيادي آخر في غضون سنتين مثلا. غير أن أيزنر كان أمينا للغاية في حوار تليفزيوني أجري معه بعد الحادثة حينما قال "إنني قد أكون أخطأت مهنيا حينما استخدمت السلاح في وجود الكاميرات".
إسرائيلان في الشرق الأوسط
ما الذي يجعل حفنة من المتظاهرين السلميين يثيرون رد فعل عنيف كذلك؟ لقد قال نتانياهو ـ في بيان رسمي ـ إنه لو كان أولئك الناس مهمومين إلى هذا الحد بحقوق الإنسان، فليذهبوا لتفقد الأوضاع في سوريا وفي غزة وفي إيران، وكأنما هذه المواقع ذات الانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان تعفي إسرائيل من مسئوليتها عن ما يجري يوميا من انتهاكات لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة. نفس هذا المنطق ـ المتعلق بالحرب اللانهائية بين أبناء النور وأبناء الظلام ـ هو الذي يكمن وراء إلحاح نتانياهو على الربط بين الهولوكوست وإيران. فهو شأن كثير من الإسرائيليين يعيش في عالم توشك فيه قوى الشر طول الوقت على إبادة اليهود الذين لا بد أن يردوا الضربة ببطولة لينتزعوا الحياة من بين أنياب الموت. وأحسب أنه شأن كثير من اليهود واقع في غرام هذا العالم ومستعد لإيجاده حتى لو لم يكن ثمة خطر ذو شأن في الخارج.
ووسط كل ذلك، مدفون ضمير إسرائيلي منزعج من سوء معاملة الإسرائيليين للفلسطينيين منذ 1948 ـ ضمير مكبوت، ولكنه بطريقة ما لم يزل حيا (حسن، ربما ليس في نتانياهو). غير أن هذا الضمير مغلوب أمام رؤية ممنطقة، تبسيطية، خطرة، لاأخلاقية، مبرئة للذات، هي التي تمثل جذر الأزمة التي يبينها بشجاعة وجسارة بيتر بينارت في كتابه "أزمة الصهيونية". يبينها صراعا، بات مألوفا لنا الآن تماما، بين القيم الديمقراطية اللبرالية والوطنية الرجعية العرقية. هذا الصراع يجعلنا أمام دولتين يهوديتين في الشرق الأوسط. فكما يقول بينارت "في الغرب من الخط الأخضر [في حدود ما قبل 1967] هناك إسرائيل التي تعيبها الديمقراطية الحقيقية، وإلى الشرق منه ثمة دولة عرقية ethnocracy ".
يعني بيرات بالدولة العرقية "مكانا يستمتع فيه اليهود بالمواطنة من دون الفلسطينيين"، هي دويلة يديرها المستوطنون، ومنهم من يتسمون بالعنف والتعصب، دولة تحرم جانبا ضخما من السكان الفلسطينيين من حقوقهم، وتستولي باستمرار على مساحات هائلة من الأرض لحساب مشاريعها التوسعية الاستيطانية. وحتما تنتشر أخلاقيات الاحتلال ـ الذي يدخل الآن عامه الخامس والأربعين ـ إلى الغرب من الخط الأخضر: "الصهيونية غير اللبرالية فيما وراء الخط الأخضر تدمر تدمر أية احتمال لوجود الصهيونية اللبرالية فيما دون الخط الأخضر".
المستوطنات تحتل إسرائيل
والأدلة التي تثبت هذه الملاحظة كثيرة للغاية، وبينارت يناقش منها بحثا حديثا يبين تراجعا منذرا بالخطر في التزام الإسرائيليين العاديين بالقيم الديمقراطية الإسرائيلية بما يصاحب ذلك من صعود طبيعي للإفراط في الوطنية، والعرقية، والنزعات الشمولية، الممثلة على نحو جيد من خلال الأحزاب اليمينية المتطرفة في الكنيسيت وفي المجلس الوزاري الإسرائيلي الحالي. لقد شهدنا على مدار العام الأخير أو نحو ذلك تشريعات غير ديمقراطية "عرقية" تذكرنا بأمثلة قاتمة سابقة على مدار القرن العشرين.
وبوسعنا أيضا أن نصف ما يجري، بقدر أكبر من البساطة، بقولنا إن دويلة المستوطنين تستولي على المؤسسات المركزية في دولة إسرائيل ككل. لقد أصبحت السياسة الإسرائيلية اليوم مرهونة تقريبا لحساب المشروع الاستيطاني، ويوشك كل يوم أن يأتي بنظام مبتكر وجديد لشرعنة "الأبنية غير الشرعية" القائمة في المناطق المحتلة وتيسير الاستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية. إن النتيجة المحتومة لمثل هذه السياسات هو الزوال الوشيك لما يعرف بحل الدولتين الذي من شأنه أن يضع دولة فلسطينية بجانب دولة إسرائيلية في حدود ما قبل 1967 (مع مراجعات ثانوية للحدود القديمة بين الجانبين يتفق عليها الطرفان من خلال التفاوض). فنحن الآن نرى أن مساحات كبيرة من الضفة قد ألحقت بإسرائيل عمليا، وربما لا يكون ثمة سبيل لإبطال ذلك. وما من دولة يمكن لها أن تقوم على البقية القليلة المتبقية من الأرض.
وحتى لو أننا نحينا جانبا تلك العواقب الكارثية للسياسة الإسرائيلية الراهنة، سيبقى من المهم للغاية أن ندرك أن ما يجري في الأراضي المحتلة ليس انتهاكا عارضا لحقوق الإنسان الأساسية، أو هو شيء يمكن تصحيحه من خلال احتجاجات وإصلاحات وتصرفات بسيطة. فلا شيء من ذلك أكثر بعدا عن الحقيقة. ذلك أن الاحتلال منهجي بكل معنى الكلمة. والجهات العديدة المنخرطة فيه ـ من إدارات حكومية ووزارات وميزانيات وجيش وشرطة مدنية وشرطة حدودية وإدارة مدنية (نعني سلطة الاحتلال الرسمية) ومحاكم (لا سيما المحاكم العسكرية في الأراضي المحتلة، وأيضا المحاكم الإسرائيلية المدنية فيما دون الخط الأخضر) وطائفة من المعلقين الصحفيين الذين يحفظون أساطير الحكومة ويرددونها  ـ هؤلاء جميعا وغيرهم مجدولون في نسيج نظام لا انفكاك له، وهو نظام منطقه معروف وجلي لكل ما احتك به احتكاكا مباشرا. إنه منطق حماية المشروع الاستيطاني والاستيلاء على الأرض. أما الجانب الأمني للاحتلال فهو في ظني بلا أهمية تذكر، ولو أن [تحقيق] الأمن كان هدفا حقيقيا لكان الوضع على الأرض مختلفا اختلافا كبيرا.
وإليكم عددا قليلا من الأمثلة الروتينية المعتادة المأخوذة بعشوائية من سلسلة لا تنتهي. في منتصف يناير أرسلت الإدارة المدنية بلدوزرات ـ يصاحبها الجنود بطبيعة الحال ـ لتدمير بيت متهالك تملكه حليمة أحمد وهي أرملة فلسطينية تعيش مع تسعة يتامى في حي أم الخير الفقير المتاخم لمستوطنة كرمل الكبيرة دائمة التوسع في جنوب تلال الخليل. زعم الموظفون أن الكوخ أقيم بدون تصريح، وذلك بلا شك صحيح، فالفلسطينيون الذين يعيشون مثلا في  المنطقة ج من الضفة الغربية تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة نادرا ما يحصلون على تصريح بالبناء من اللجنة المخولة بإصدار التصاريح، وهي لجنة قوامها الأكبر من المستوطنين.
أنا رأيت حليمة في الثامن والعشرين من يناير، وكان يوما مطيرا قارس البرودة، كانت تقف حافية القدمين، وهي لا تزال مصدومة ومجروحة، في خيمة جار لها. هذه الإزالات كثيرا ما تحدث في أم الخير ولا علاقة لها بسيادة القانون، فهي جزء من حملة ضارية  هدفها تحقيق أشقى حياة ممكنة للفلسطينيين (الذين يتصادف أنهم يزعمون أنهم يملكون الأرض التي تقوم عليها كرمل اليوم) على أمل أن يرحلوا بعيدا.
إنسان الكهف كامل
ونفس هذا المنطق بالضبط ينطبق على موجة أوامر الإزالة الصادرة في فبراير الماضي ضد مشروع إدخال الكهرباء وإقامة بنية الطاقة الأساسية في عدد من التجمعات الفلسطينية الصغيرة المنتشرة في الجنوب من تلال الخليل. يعيش الرعاة وصغار المزارعين في هذه المنطقة في كهوف وخيام وأكواخ، في حالة من الفقر المدقع. ولقد قام متطوعون وناشطو سلام من أمثال نعوم دوتان وإلعاد أوريان المنتميين إلى منظمات مثل Comet-Me بإقامة  محركات كهربائية تعمل بطاقة الرياح وشبكات كهرباء بسيطة في كثير من هذه القرى لخدمة عدد لا يربو بأية حال على 1500 شخص.
ولقد كان التغير في نوعية الحياة في هذه المنطقة تغيرا دراماتيكيا، فصديقي "علي عوض" من توبا وهو يضغط زر المصباح الكهربي باعتزاز شديد داخل الكهف الذي يقيم فيه قال لي "للمرة الأولى في حياتي أشعر بأنني إنسان كامل". هل يمكن لمثل هذه البنى الأساسية البسيطة المقامة بتبرعات أوروبية لا تتجاوز مئات آلاف اليوروهات أن تمثل خطرا من أي نوع على إسرائيل؟
الظاهر، أنها كذلك. فالإدارة المدنية حريصة كل الحرص على تدميرها، بدون أن يكون لها إلا مبرر واه هو أنه هذه البنى الأساسية أقيمت بغير تصريح ـ وكأنما الحصول على تصريح أمر ممكن. أزيلت أعمدة الكهرباء، وتقطعت الكوابل التي كانت هدفا للجيش الإسرائيلي في ست قرى. ولقد أفلحت ضغوط بعض الادول الأوربية ـ لا سيما ألمانيا ـ في تجميد أوامر الإزالة مؤقتا، ولكن خطر تحرك البلدوزرات عند أي فرصة تسنح يبقى خطرا حقيقيا قائما.
هل يمكن أن يقف القضاء حاجزا دون تلك التصرفات الاعتباطية التي تقوم بها السلطات، أو تمنع قيام المستوطنين بأعمال سرقة مباشرة أو هجمات عنيفة على هذه المنشآت؟ الحق أنها تقوم بهذا الدور بين الحين والآخر. غير أنه بصفة عامة لا توجد لفلسطيني أدنى فرصة في العدالة داخل محكمة عسكرية إسرائيلية، وقليل جدا من الفلسطينيين هم الذين لقوا معاملة عادلة في محاكم إسرائيل المدنية على مدار الأربعين عاما الماضية. فأي قضية تتعلق بمحاولة تملك فلسطيني لأرض استولت عليها مستوطنة هي في حقية الأمر قضية لا يحتمل انتهاؤها إلى قرار ضد المستوطنين أو الحكومة، برغم أن هناك بعض الاستثناءات القليلة من هذه القاعدة القاتمة. ولكن العادة هي أن الفلسطينيين الذين يحتجون على الاحتلال، أو على فقدانهم أراضيهم وقراهم، يلقون معاملة قاسية، وأحيانا يتعرضون للسجن لفترات طويلة، وبعضهم يلقى حتفه قتيلا أثناء قيامه بالتظاهر والاحتجاج.
محامو الشيطان
مثل هذه الأمور هي التي تجعل وصف بينرات، المبسط عن عمد، للاحتلال يبدو شديد اللطف من المنظور المحلي في إسرائيل وفلسطين. لكن كتابه موجه في المقام الأول للجمهور الأمريكي الذي لا يعي تمام الوعي حقيقة الموقف في الأراضي الفلسطينية. يتسم الكتاب بنبرة جدلية ـ متوقعة، ولقد هوجم بينارت هجوما مريرا واعتبر ساذجا ـ وهي أسوأ وأرخص إهانة في قاموس الفيلق المدافع عن سياسات إسرائيل ـ ومتناسيا لتعقيدات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. في حين أنه في واقع الأمر واعٍ تمام الوعي بهذه التعقيدات، بل أنه أشد وعيا بها من كثير ممن يزعمون أن يتكلمون باسم اليهود الأمريكيين أو إليهم (وأغلب هؤلاء كما يبين بينرات لم يقابلوا في حياتهم فلسطينيا حيا). بينرات يركز على الوضع كما هو اليوم، في ظل حكم الرئيس الأمريكي الحالي، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي. ولعل أهم أجزاء الكتاب هو ذلك الذي يصف بالتفصيل المقنع تلك المناورات السياسية التي تتيح لبنيامين نتانياهو إذلال أوباما المرة تلو الأخرى، أولا في مسألة تجميد الاستيطان، ثم لاحقا في الكونجرس في 2010ـ2011.
تجميد الاستيطان الذي استثمرت فيه إدارة أوباما الكثير من الجهد والضغط والمكانة لم يكن قط أكثر من خدعة بحسب ما تذهب إليه منظمة "السلام الآن" المرموقة، فالاستيطان في عام 2010 ـ وهو عام "التجميد" ـ لم يقل عنه في عام 2009 إلا قليلا للغاية (1712 وحدة في مقابل 1920 وحدة). وفي مارس من عام 2010، وفي يوم وصول نائب الرئيس بايدن إلى القدس، أعلنت الحكومة الإسرائيلية أنها تضاعف تقريبا حجم الإنشاءات في حي "رامات شلومو" في القدس الشرقية ـ وهي بحد ذاتها إهانة واضحة، وربما محسوبة جيدا، للإدارة الأمريكية.
صدر الليكود الحنون
وليت تلك أكبر الأهانات، فبغطرسة بالغة ومهينة جاء رد نتانياهو على خطاب لأوباما في 19 مايو 2011، أوضح فيه الرئيس الأمريكي أنه "لا يمكن تحقيق الحلم بدولة يهودية ديمقراطية في ظل وجود احتلال دائم". فقد أعلن نتانياهو قوله "إنني أنتظر أن أسمع من الرئيس أوباما إعادة تأكيد للالتزامات الولايات المتحدة التي قدمتها لإسرائيل في عام 2004 والتي كان من بينها قبول أمريكا لقيام إسرائيل بضم أجزاء كبيرة من الأراضي الفلسطينية فيما يعرف بـ ’الكتل الاستيطانية’". ولاحظوا كلمة "انتظر" التي توحي بأن نتانياهو يملي على رئيس تابع ما ينبغي له أن يقوله أو يسكت عنه. وجاء خطاب نتانياهو أمام الكونجرس في 24 مايو 2011، حافلا بالأساطير الديماجوجية والتعصب، ومكررا للنبرة التي اتسم بها إعلانه السابق، والتي من المخجل ان الكونجرس قابلها بالتصفيق.
المثير للحزن أن بينارت يبين كيف أن أوباما يستسلم لضغوط لجنة الشئون العامة الإسرائيلية الأمريكية (أيباك) وغيرها من أصوات اللوبي اليهودي الأمريكي. ويوجه الكاتب انتقادات لاذعة لقيادة المؤسسات اليهودية الأمريكية المركزية التي تتبنى بأعين معصوبة وبصورة فظة حق إسرائيل والخط الذي يتبناه نتانياهو، وينقل الكاتب عن كيث وايزمان ـ وهو من العاملين السابقين في أيباك ـ قوله إنه في منتصف تسعينيات القرن الماضي كانت الشخصيات المسيطرة في أيباك "ترضع من حلمة الليكود". يبين بينرات أن الانحراف عن فكرة إقامة دولة فلسطينية حرة والحماس للاحتلال، هما المسيطران الآن على المنظمات اليهودية الأمريكية الأساسية مثل منظمة مكافحة التمييز  والمنظمة الصهيونية في أمريكا، وعلى الجزء الأكبر من المؤسسة الأورثوذكسية  أيضا.
الوطنية الأورثوذكسية بما فيها من أصوات عنيفة في مناهضتها للديمقراطية، بل وبما فيها من أصوات عنصرية في بعض الأحيان، هذه الوطنية المغالية هي التي تبرر جزئيا تنبؤات بينرات المتشائمة لعلاقة التيار الأساسي من اليهودية الأمريكية بإسرائيل. فهو يتخوف من أن "الصهيونية الأمريكية ستصبح معقلا لكل من لا يبالي بالمثل اللبرالية الديمقراطية، واليهود الأمريكيون الأكثر التزاما بهذه المثل سيصبحون ـ في أفضل الحالات ـ غير مبالين بالدولة اليهودية". ويشير إلى دراسات تبين أن اليهود الأمريكيين غير المتشددين، الذين قد يكونون ليبراليين في رؤاهم وقيمهم وسياساتهم هم أقل ارتباطا بدولة إسرائيل. وها هنا تظهر النسخة اليهودية الأمريكية من الصراع الذي وصفته في صدر هذا المقال بين المثل اللبرالية والوطنية القبلية في إسرائيل. فلقد كان جداي أنا ـ شأن أغلب اليهود الأمريكيين في جيلهما ـ ديمقراطيين ملتزمين التزاما لا يتزعزع بأفكار العدالة الاجتماعية وصهيونين أيضا. جداي هذان كانا سيفزعان مما يجري في إسرائيل ومن اضطرار اليهود الأمريكيين بالتبعية إلى اختيار بالغ الصعوبة.
لقي الكتاب ترحيبا وحماسا كبيرين، بما يؤكد الحاجة إليه، وبما يؤكد أيضا التغير الكبير الجاري، ولكن توصيات بينرات تبدو محدودة للغاية في هذا الصدد. فهو يريد تقوية التعليم اليهودي اللبرالي في الولايات المتحدة ويريد توسيع التمويل في هذا الصدد، وما لأحد أن يعترض على نداء كهذا، برغم أن تأثيراته المحتملة على السياسات الإسرائيلية قد لا تظهر قبل عقود. غير أنه يوصي على المدى الفوري بأن يقاطع اليهود الأمريكيون منتجات المستوطنات الإسرائيلية المقامة في الأراضي المحتلة. وهذه قد تبدو خطوة جريئة في نيويورك أو فيلادلفيا، في ضوء المناخ القائم حاليا في المعابد اليهودية الأمريكية وغيرها من المؤسسات اليهودية، برغم أن كثيرين منا نحن يقومون بهذه المقاطعة منذ سنين، إما سرا أو علانية، بدون أن يسفر هذا عن تأثير ذي بال. أنا شخصيا أبديت غضبا عارما ذات مرة في مطعم شهير بالقدس حينما تبين أن المطعم لا يحتوي إلا نبيذا من إنتاج المستوطنات. وحضر مالك المطعم في النهاية فأسرف في الاعتذار، ووعد بأن يتيح في المستقبل نطاقا أكبر من الخيارات. وذلك أقصى ما حققناه، برغم أن هناك حالة واحدة، هي حالة أنبذة باركان، حيث أفضى الضغط ـ وكان أغلبه ضغطا أوربيا ـ إلى إيقاف إنتاج النبيذ من معصرة في الضفة الغربية. وخشية أن يثير هذا المثال أي بصيص أمل، يلزمني أن أضيف أن دراسات حديثة تشير إلى أن أكثر العنب المستخدم في معاصر النبيذ الإسرائيلية إن لم يكن كله ينبت في الضفة الغربية.
غير أن استهداف منتجات المستوطنات يبدو منطويا على مغالطة بسيطة. فهل من المنطقي التركيز على نبيذ الخليل أو منتجات ألبان المستوطنات في حين أن النظام السياسي الإسرائيلي بأكمله يدعم المشروع الاستعماري في الضفة الغربية؟ ينبغي هنا أن أوضح أنني أعارض الدعوة إلى المقاطعة الخارجية لإسرائيل، وأعارض بصفة خاصة الدعوة إلى المقاطعة الأكاديمية الثقافية التي أرى أنها لن تؤتي إلا ثمارا عكسية، إذا أنها سوف تعمل على تقوية ميثولوجيا البارانويا السائدة وتقوية المتحدثين باسمها في صفوف اليمين. فعلى الرغم من أنني أنفق قدرا من وقتي في ممارسة أفعال رمزية في الخليل، إلا أنني بصفة عامة لست من أنصار المواقف غير الفعالة.
ما نحن بحاجة إليه هو أمر أكثر عملية، ربما هو شيء يقدر على تحقيقه رئيس ديمقراطي في ولايته الثانية لو واتته الشجاعة لمجابهة قبضة الإيباك المفروضة على السياسات الأمريكية التي يصف بينرات جانبا منها. في الوقت نفسه بوسعنا أن نستخدم نوعا من المتطوعين المثاليين شديدي المراس كالذين أخذهم أرنولد وولف ـ الحاخام اللبرالي صاحب الكاريزما الذي كان من مرشدي أوباما في شيكاغو ـ إلى سيلما بألاباما أثناء النضال من أجل الحقوق المدنية. نحتاج إلى أمثال أولئك المتطوعين في الضفة الغربية لحماية المدنيين الفلسطينيين الأبرياء من غارات المستوطنين والجنود الذين يدعمونهم. فخمسمائة من هؤلاء المتطوعين فقط قادرون على إحداث فرق.
حل جنوب أفريقيا
لكن ربما يكون الوقت قد فات. فالمحللون من أمثال ميرون بنفينستي ـ نائب عمدة القدس السابق ـ يقولون منذ سنين إن فكرة حل الدولتين لم تعد أكثر من ورقة توت لا توليها القيادتان الإسرائيلية والسلسطينية أي اهتمام، وورقة التوت هذه لا تخفي إلا الواقع القاتم، واقع وجود دولة واحدة فيما بين البحر ونهر الأردن. في الوقت الراهن، هذه الدولة الواحدة القائمة لا يناسبها وصف أدق من وصف بينرات، وصف الدول العرقية. أم الذين يرتدون إلى مصطلح الأبارتيد فإنني أدعوهم إلى هذا المصطلح الأفضل، خاصة وأن أحد كبار مهندسي النظام، آرييل شارون، لم يكن ينزعج من استخدام مصطلحات جنوب أفريقيا، بل لقد تواتر عنه وصفه للضفة الغربية المتقطعة بأنها "بنتوستانات" Bantustans.
هذه البنتوستانات الفلسطينية موجودة الآن، ولا ينبغي لأحد أن يتظاهر أنها تمثل حلا من أي نوع للمشكلة الفلسطينية في إسرائيل. فذات يوم سوف يتهاوى هذا النظام ويتفكك مثلما حدث في جنوب أفريقيا. في نسخة المستقبل المتفائلة، قد يبقى لنا نموذج كونفدرالي يمثل أكثر من دولة وأاقل من دولتين ـ وفي هذا النموذج سرعان ما سيتحول اليهود إلى أقلية. ولا أعرف كيف يمكن لهذا أن يحدث من دون صراع أرجو ألا يكون عنيفا ولو بدرجة ما، يطالب من خلاله الفلسطينيون بالحقوق التي حصلت عليها شعوب أخرى.
كيف نصل إلى هذه النقطة؟ ولماذا يتشبث الإسرائيليون بسياسة واضح أنها لا عقلانية، بل وأنها فعليا سياسة انتحارية؟ الإجابة البسيطة، بالغة التبسيط هي: أننا خائفون. فنحن أوذينا على يد تاريخنا كله ثم على يد تاريخ هذا الصراع، وبلغ من الأذى أن صرنا راغبين ولو في وهم الأمان، كذلك الذي يأتي من الإصرار على بضع تلال صخرية. دعكم من حقيقة أن كل بوصة في إسرائيل تقع في مرمى عشرات آلاف الصواريخ في لبنان وسوريا وغزة ناهيكم عن إيران وأن بضعة كيلومترات إضافية لن تمثل فارقا لهذا الخطر. سنظل نستولي على تلك التلال القائمة في الضفة الغربية، وسنظل نضع عليها بيوتا متهالكة لكل من يجد في نفسه من الجنون ما يسمح له بالسكنى فيها، وسنضع أعلى كل واحد منها قليلا من جنودنا الضجرين، وسنربطها بشبكة الكهرباء الإسرائيلية ونظامنا المائي، وسنبني سورا ضخما يحيط بالمستوطنات الجديدة ويوفر لها أراضي تنمو فيها (وستكون مساحة هذه الأراضي كالعادة أضعاف مساحة المستوطنات أنفسها) ، وسيتصادف أن الأراضي ملك لفلسطينيين، ولكن ذلك، كما هو واضح، أمر لا أهمية له في هذا الصدد.
خلاص إسرائيل
مخاوف الإسرائيليين بلا شك حقيقية بدرجة كافية، وهناك تأويلات للسياسة الإسرائيلية على مدار العقود الأربعة الماضية تؤكد هذه المخاوف. وعلي أبو عوض ـ وهو من قيادات المقاومة الفلسطينية السلمية ـ يقول "اليهود ليسوا عدوي، ولكن خوفهم عدوي. لا بد أن نساعدهم على ألا يخافوا ـ إن تاريخهم بأكمله يبصيبهم بالرعب ـ ولكنني أرفض أن أبقى  ضحية الخوف اليهودي". وهو محق في رفضه. لكنني أعتقد أن الواقع الذي نعيشه والذي أوجدناه من خلال أفعالنا له علاقة بالقصة التي نحكيها نحن الإسرائيليين لأنفسنا عن ماهيتنا، تلك القصة الدراماتيكية المؤثرة التي لها ـ مثلما لكثير من القصص الأسطورية ـ وسائلها للبقاء.
ولكي نتخلص من كل ذلك ينبغي لنا أن ندرك عددا من الحقائق الأساسية، وإن تكن حقائق مزعجة للبعض منا. فمثلما كان الحال في الماضي، هناك كثير من التشوشات التي يتقنع بها الأساس الحقيقي للصراع القائم، وأهم وسيلة تشويش في إسرائيل اليوم هي المسماة "إيران". وعلاوة على هذا التشويش، هناك أيضا رفض إسرائيل أن ترى القيادة الفلسطينية في رام الله على ما هي عليه بالفعل: بوصفها أكثر من شريك لإسرائيل. وعلى من يرفضون قولي هذا أن يفكروا في أمثال مروان البرغوثي الذي لا يزال قابعا في زنزانة إسرائيلية. من المؤكد أن هذا الرجل ليس قديسا، ولكنه يتمتع بين الفلسطينيين بسلطة هائلة ، وهو يعرف جيدا ما المطلوب من أجل إبرام صفقة. وهناك من الأسباب ما يحمل على الظن بأنه يريد هذه الصفقة، بموجب الخطوط المنطقية من وجهة نظر الأغلبية في جانبي الصراع، بل ومن وجهة نظر كثير من دول العالم. لقد أصدر البرغوثي مؤخرا بيانا قويا يدعو فيه إلى مقاومة سلمية كبيرة في الأراضي المحتلة ويدعو إلى إنهاء مهزلة "عملية" المفاوضات التي تتيح لإسرائيل التلكؤ كيف تشاء، وإخفاء عدائها العميق والمتجذر لمجرد فكرة التوصل إلى اتفاق مع الحركة الوطنية الفلسطينية.
هذه الكراهية العميقة لإقامة سلام ذي معنى سوف تبقى بلا شك مسيطرة على الحكومة الإسرائيلية القائمة، والتي اتسعت مؤخرا بدخول حزب كاديما إلى التحالف، وكاديما يقدم نفسه بوصفه من أحزاب الوسط، لكنه في واقع الأمر لا يختلف في شيء عن الليكود عندما يتعلق الأمر بالشئون الفلسطينية، خاصة وأن هذا الحزب نشأ فعلا من رحم الليكود بزعامة شارون. سيبقى التحالف الوزاري الجديد يؤكد الاحتلال، ويشرعن سرقة الأراضي الفلسطينية في الوقت الذي يصرخ فيه من مسئولية الفلسطينيين عن انهيار المفاوضات.
لذلك من المهم أن نعيد التأكيد على الحقائق الواضحة: إن في قلب هذا الصراع شعبين يطالبان بأرض واحدة. ليس لأي من الشعبين أن يحتكر "الحق"، وكل منهما ارتكب مذابح ضد الآخر. غير أن أحد هذين الجانبين أقوى بكثير من الآخر. وإلى أن يتم تحقيق الطموحات الوطنية للطرف الأضعف، وإلى أن يتم التوصل إلى تسوية عملية ما بين الجانبين، وإلى أن ينتهي الاحتلال الذي نراه اليوم ـ لن يكون هناك سلام. ذلك أنه من المستحيل أن تحرم كل هؤلاء الملايين من حقوقهم وأن تعرضهم لمهانات ممنهجة ولسرقة منتظمة لأرضهم، وتتوقع سلاما.
إن في كل يوم من أيام الاحتلال ترجيحا أكثر للمسار الجنوب أفريقي، بنهايته المحتومة إلى استفتاء يكون فيه للشخص  واحد صوت واحد . وبذلك فكل يوم يستمر فيه الاحتلال يقربنا أكثر من لحظة في مستقبل غير بعيد للغاية لن يكون للدولة اليهودية فيه أي وجود.

عن نيويورك رفيو أوف بوكس
نشر في جريدة عمان بتاريخ 9 يونيو 2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق