هل يعرفوننا بأنفسهم، هؤلاء الذين يثبِّتون على صدورهم شارات بأسمائهم، الأولى غالبا، والكاملة في بعض الأحيان؟ هل هم بذلك يبادرون بتقديم أنفسهم، ويكون عليّ من ثم، وبدلا من أن أدفع ثمن مشترياتي، أن أقول "وأنا أحمد"؟ أم أن هذه الأسماء موجودة لهدف آخر غير النداء؟ بيلي كولنز يجيب.
كولنز شاعر أمريكي معاصر، ولد في عام 1943. بدأ نشر الشعر وهو في الأربعينيات من عمره، أي منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي تقريبا، ومنذ ذلك الحين، أصبح واحدا من أكثر الشعراء الأمريكيين جماهيرية، وأصبحت دواوينه من أكثر الكتب مبيعا داخل أمريكا والعالم الناطق بالإنجليزية. وهو أيضا واحد ممن تولوا إمارة الشعر الأمريكي، إذ تم اختياره ليكون مستشارا شعريا لمكتبة الكونجرس بين عامي 2001 و2003 وهو منصب يحمل شاغله لقبا أجد من الممكن أن أترجمه بـأمير الشعراء.
مسافرا وحدي
في مقهى الفندقِ في ذلك الصباح
كانت النادلة ترتدي زيًّا ورديَّا
مكتوبا على موضع القلب منه "فلُورَنْس".
والرجل الذي فتش حقيبتي
كانت على صدره شارةً عليها "بِن"،
وخلفه صفٌّ طويل من النخيل الملكي.
وعلى الطائرةِ كان ثمة امرأتان
تصبان الشراب من عربةٍ تدفعانها في الممر الضيق
هما "ديبي" و"لِين" كما تقول شارتاهما المجنحتان.
وهكذا هي الصحبةُ التي توفرت لي
وأنا أسافر كالقوس بين ساحلين،
فما تكلمت إلا نادرا
وعن القهوة، والحقيبة، وزجاجات الفودكا الصغيرة،
لم أقل غير "شكرا"
و"هلا حملت هذه عني، لو سمحت؟"
لكنني بدأت أشعر أنهم جميعا
يريدون أن يتباسطوا معي،
أن يعرفوا عني المزيد، بل ربما أن يصاحبوني
"فلورنس" بدت منفعلةً
وهي تتنقل من مائدة لأخرى،
لكن هل كانت تخفي بهذه الطريقةِ رغبتها
في أن تتعرف على سنوات طفولتي ـ
عن الكرة التي كانت تلقيها ثم تتلقفها يداي،
عن المرات التي اختبأت فيها خلف فستان أمي؟
وهل عميت أنا فلم ألتقط في عيني "بن"
بريقَ اهتمامه بأفكاري وعاداتي،
ورأيي في عصر التنوير،
وحبي للعب الورق، والأوقات التي أفضلها للعب؟
وماذا عن "ديبي" و"لين"؟
ألم يرتسم على وجهيهما السؤال عن طريقتي في الكتابة،
وعن اعتيادي أن أكتب كل صباح بجوار الشباك،
وهو ما كنت سأعترف به عن طيب خاطر
لو واتتهما الشجاعة على السؤال،
والغريبُ أنني كنت سأسترسل
عندما أراهما كفتا عن تقديم الشرابِ
وأرى بقية الركاب يصغون إلى كلامي:
الشعور الوحيد الذي ينتابني يا "ديبي" و"لين"
هو الذي لا بد ينتاب السمور
إذ يرجع بالعود بعد العود ليكمل بيته الخفي
فيخلق من حوله البحيرة الوادعة
ويمنح البط متسعا للسباحة،
وطائري التم موضعا يخفيان فيه الصغار.
لـ رتسوس ـ وهو شاعر يوناني عظيم ترجم القليل من شعره إلى العربية ومن أشهر من ترجموه رفعت سلام وسعدي يوسف ـ قصيدة عنوانها "وحدة صغيرة". يتكلم فيها عن وردات في ركن حديقة ما، تميل تحت ثقل أريجها الذي لم يتشممه أحد أبدا، ثم ينتهي قائلا "لا توجد أبدا وحدة صغيرة". هل يقصد أن الوحدة كبيرة دائما، وثقيلة دائما، وربما ممقوتة دائما؟ لو أنه يقصد هذا، فلا أحسبه يقصده إلا هنا، في هذه القصيدة بالذات. فلا أتصور شاعرا ـ ورتسوس قبل الجميع ـ يرى الوحدة بهذه العين؟ رتسوس نفسه له قصيدة يتكلم فيها عن المرآة بوصفها نافذة لو سقط المرء منها لسقط بين ذراعيه. سقوط تشعر به أمنية مستحيلة. أن يسقط المرء بين ذراعي نفسه، أن يمنحها ذلك العناق الذي تقضي الحياة كلها باحثة عنه، لدى الأم والحبيبة والصديق والزوجة والابن، دون أن تبحث لدى الشخص الوحيد القادر فعلا على منحه: الأنا.
هل ابتعدنا كثيرا عن قصيدة كولنز؟ لا أظن.
في النصف الأول من هذه القصيدة، يفهم الناطق بها ـ أو الشاعر إن شئتم ـ أن هؤلاء الذين قابلهم جميعا ما علقوا أسماءهم على صدورهم إلا ليعفوه من السؤال عنها، ليرحموا أنفسهم من الاستماع إلى صوته، ليوفروا على أنفسهم مشقة هذه الإجابة المملة طبعا ـ أليس هو السؤال الذي تبقى له نفس الإجابة طول العمر؟
لا مجال تقريبا لحديث طوال هذه الرحلة الطويلة، من ساحل إلى ساحل بعرض قارة كاملة، وهكذا تتحقق له الوحدة التامة في رحلته، وإن يكن طوال الوقت بين الناس.
أستطيع أن أتخيله بعد تلك الرحلة، في غرفة في فندق، ليس فيها سواه، وبماسوخية عجيبة لا يكتفي بألم هذه الوحدة، بل يبحث عن حسرة أخرى. فيوهم نفسه أنه لم يفهم في الوقت المناسب أن كل أولئك الذين مر بهم في طريقه كانوا أكثر من مستعدين للدردشة. كانوزا يعرفونه، ويهتمون بأمره هو بالذات، ويريدون أن يعرفوا شيئا عنه ككاتب. وفي غرفته هذه، يبدأ في الإجابة، وهنا يظهر السمور، تظهر الاستعارة الأولى في هذه القصيدة، يقول إنه عندما يجلس في الصباح للكتابة يكون كل بيت من الشعر يعود به أشبه بعود يرجع به السمور ليكمل بيته الذي بوجوده تكتسب البحيرة معناها.
يقول كولنز إنه بالكتابة أو الشعر ـ بيت السمور ـ يكتمل العالم، أو يزداد. ولكنه لا يزعم أنه لهذا السبب يكتب. تماما كما يضمر رتسوس سر إحساس الزهور بالوحدة: إنها تريد من يشم أريجها، من يؤكد لها وجودها، من يثمّن هذا الوجود. إنها الذات التي تريد أن نسقط بين أحضانها، وإنه الاعتراف بهذه الذات، أثمن ما يملكه لنا الآخر.
كانت النادلة ترتدي زيًّا ورديَّا
مكتوبا على موضع القلب منه "فلُورَنْس".
والرجل الذي فتش حقيبتي
كانت على صدره شارةً عليها "بِن"،
وخلفه صفٌّ طويل من النخيل الملكي.
وعلى الطائرةِ كان ثمة امرأتان
تصبان الشراب من عربةٍ تدفعانها في الممر الضيق
هما "ديبي" و"لِين" كما تقول شارتاهما المجنحتان.
وهكذا هي الصحبةُ التي توفرت لي
وأنا أسافر كالقوس بين ساحلين،
فما تكلمت إلا نادرا
وعن القهوة، والحقيبة، وزجاجات الفودكا الصغيرة،
لم أقل غير "شكرا"
و"هلا حملت هذه عني، لو سمحت؟"
لكنني بدأت أشعر أنهم جميعا
يريدون أن يتباسطوا معي،
أن يعرفوا عني المزيد، بل ربما أن يصاحبوني
"فلورنس" بدت منفعلةً
وهي تتنقل من مائدة لأخرى،
لكن هل كانت تخفي بهذه الطريقةِ رغبتها
في أن تتعرف على سنوات طفولتي ـ
عن الكرة التي كانت تلقيها ثم تتلقفها يداي،
عن المرات التي اختبأت فيها خلف فستان أمي؟
وهل عميت أنا فلم ألتقط في عيني "بن"
بريقَ اهتمامه بأفكاري وعاداتي،
ورأيي في عصر التنوير،
وحبي للعب الورق، والأوقات التي أفضلها للعب؟
وماذا عن "ديبي" و"لين"؟
ألم يرتسم على وجهيهما السؤال عن طريقتي في الكتابة،
وعن اعتيادي أن أكتب كل صباح بجوار الشباك،
وهو ما كنت سأعترف به عن طيب خاطر
لو واتتهما الشجاعة على السؤال،
والغريبُ أنني كنت سأسترسل
عندما أراهما كفتا عن تقديم الشرابِ
وأرى بقية الركاب يصغون إلى كلامي:
الشعور الوحيد الذي ينتابني يا "ديبي" و"لين"
هو الذي لا بد ينتاب السمور
إذ يرجع بالعود بعد العود ليكمل بيته الخفي
فيخلق من حوله البحيرة الوادعة
ويمنح البط متسعا للسباحة،
وطائري التم موضعا يخفيان فيه الصغار.
لـ رتسوس ـ وهو شاعر يوناني عظيم ترجم القليل من شعره إلى العربية ومن أشهر من ترجموه رفعت سلام وسعدي يوسف ـ قصيدة عنوانها "وحدة صغيرة". يتكلم فيها عن وردات في ركن حديقة ما، تميل تحت ثقل أريجها الذي لم يتشممه أحد أبدا، ثم ينتهي قائلا "لا توجد أبدا وحدة صغيرة". هل يقصد أن الوحدة كبيرة دائما، وثقيلة دائما، وربما ممقوتة دائما؟ لو أنه يقصد هذا، فلا أحسبه يقصده إلا هنا، في هذه القصيدة بالذات. فلا أتصور شاعرا ـ ورتسوس قبل الجميع ـ يرى الوحدة بهذه العين؟ رتسوس نفسه له قصيدة يتكلم فيها عن المرآة بوصفها نافذة لو سقط المرء منها لسقط بين ذراعيه. سقوط تشعر به أمنية مستحيلة. أن يسقط المرء بين ذراعي نفسه، أن يمنحها ذلك العناق الذي تقضي الحياة كلها باحثة عنه، لدى الأم والحبيبة والصديق والزوجة والابن، دون أن تبحث لدى الشخص الوحيد القادر فعلا على منحه: الأنا.
هل ابتعدنا كثيرا عن قصيدة كولنز؟ لا أظن.
في النصف الأول من هذه القصيدة، يفهم الناطق بها ـ أو الشاعر إن شئتم ـ أن هؤلاء الذين قابلهم جميعا ما علقوا أسماءهم على صدورهم إلا ليعفوه من السؤال عنها، ليرحموا أنفسهم من الاستماع إلى صوته، ليوفروا على أنفسهم مشقة هذه الإجابة المملة طبعا ـ أليس هو السؤال الذي تبقى له نفس الإجابة طول العمر؟
لا مجال تقريبا لحديث طوال هذه الرحلة الطويلة، من ساحل إلى ساحل بعرض قارة كاملة، وهكذا تتحقق له الوحدة التامة في رحلته، وإن يكن طوال الوقت بين الناس.
أستطيع أن أتخيله بعد تلك الرحلة، في غرفة في فندق، ليس فيها سواه، وبماسوخية عجيبة لا يكتفي بألم هذه الوحدة، بل يبحث عن حسرة أخرى. فيوهم نفسه أنه لم يفهم في الوقت المناسب أن كل أولئك الذين مر بهم في طريقه كانوا أكثر من مستعدين للدردشة. كانوزا يعرفونه، ويهتمون بأمره هو بالذات، ويريدون أن يعرفوا شيئا عنه ككاتب. وفي غرفته هذه، يبدأ في الإجابة، وهنا يظهر السمور، تظهر الاستعارة الأولى في هذه القصيدة، يقول إنه عندما يجلس في الصباح للكتابة يكون كل بيت من الشعر يعود به أشبه بعود يرجع به السمور ليكمل بيته الذي بوجوده تكتسب البحيرة معناها.
يقول كولنز إنه بالكتابة أو الشعر ـ بيت السمور ـ يكتمل العالم، أو يزداد. ولكنه لا يزعم أنه لهذا السبب يكتب. تماما كما يضمر رتسوس سر إحساس الزهور بالوحدة: إنها تريد من يشم أريجها، من يؤكد لها وجودها، من يثمّن هذا الوجود. إنها الذات التي تريد أن نسقط بين أحضانها، وإنه الاعتراف بهذه الذات، أثمن ما يملكه لنا الآخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق