الأحد، 9 أغسطس 2009

عن الجبال البعيدة تعكسها عين حشرة

في عام 2004، صدر في الولايات المتحدة كتابٌ صغيرُ القطع لا تكاد صفحاته تتجاوز المائتين، بعنوان "شعر الزِّن". والزن هو مذهب من البوذية أو تفريعة منها، أو هو كما يقول مؤلفا الكتاب ومترجما قصائده ـ الشاعران الأمريكيان سام هامِل و جيه بي سيتن ـ "طَبْعٌ لا فكر، وخبرة لا علم".

يركز نصف الكتاب تقريبا على شعر رهبان الزن الصينيين، موردا مختارات من شعراء كبار (مثل لاي بو، و تو فو وغيرهما ممن لم تمسسهم الترجمة إلى العربية إلا لماما للأسف). ويتناول نصف الكتاب الآخر نماذج من شعر الزن الياباني. ويستأثر ـ بطبيعة الحال ـ على الشطر الأكبر من القسم الياباني الشاعر إيسا؛ لما له من مكانة في الشعر الياباني بعامة، وليس شعر الهايكو (والهايكو قالب من الشعر يتألف من سبعة عشر مقطعا صوتيا تتوزع على ثلاثة سطور ويخضع لعدد آخر من القواعد الشكلية، وكان إيسا ثالث ثلاثة من أهم مؤسسيه. الآخران هما باشو و بيسون) أو شعر الزن على وجه التخصيص.


واحد شاي


إيسا تعني "واحد شاي"، وإيسا هو الاسم الذي نحته لنفسه كُوبَايَاشي تاتارو حين بدأ كتابة الهايكو من لفظتين يابانيتيين إحداهما "إيتشي" بمعنى واحد والأخرى "تشا" بمعني شاي. وبرغم هذا الحضور الطاغي للشين في الكلمتين إلا أنه يختفي في الاسم النهائي.

ولد إيسا في قرية كاشِيوَابَرا نحو عام 1763 وعاش حياة شديدة البؤس إلى أن مات في عام 1827. عاش حياة وحيدة شقية؛ ففي الثانية من عمره ماتت أمه، وبدأ يعيش في كنف أقارب له. يقول إيسا:


تعال نلعب معا

أيها العصفور ـ

يا يتيم الأم


في الثالثة عشرة من عمره طرده والده، فنزح إلى إِيدُو، وهي المدينة التي نعرفها اليوم باسم طوكيو، وفيها عاش أحد عشر عاما لا تذكر المصادر ـ المتاحة بين يدي على الأقل ـ شيئا عنها، وفي الرابعة والعشرين من عمره بدأ يكتب الشعر. ثم عاد وقد بلغ من العمر ثمانية وثلاثين عاما إلى قريته، آملا أن يعيش في كنف أهله ومعيتهم، لكنهم رفضوه، ومع ذلك ظل يحاول معهم حتى بلغ التاسعة والأربعين ففقد الأمل تماما، وهجر قريته.


في قريتي

مادا يدي ـ

وردةٌ يحيطها الشوك


وعاد إلى القرية وهو في الخمسين ليتزوج وينجب خمسة أطفال، ماتوا جميعا في حياته، فكتب في موت آخرهم وكانت طفلة صغيرة:


دنيا الندى

دنيا الندى

وأيضا .. وأيضا


في الرابعة والستين من عمره احترق بيته. فصار شيخا بلا مأوى، ينكره أقاربه، بلا أطفال ولا زوجة، فقد ماتت الزوجات الثلاثة اللاتي تزوجهن، فانتقل ليعيش في مخزن يخص أحد أصحابه وهنالك مات.

في كتابهما "شعر الزن" يورد سام هامِل و جيه بي سيتن مقتطفات لإيسا من كتاب عنوانه ربيع حياتي، ومختارات له من الهايكو:

ربيع حياتي

مرتديا لم أزل غبارَ هذه الدنيا الشقية، أحتفل على طريقتي بأول أيام العام، فلا أبدو إلا ككاهن، فأنا أيضا أتحاشى التهاني الموسمية المبتذلة الشائعة بين الناس. لن تقوم لصنوبرةِ أول العام قائمةٌ على باب بيتي. بل ولن أكنس بيتي المترب، سأعيش فيه، في كوخي الضيق هذا، كما أنا، مهددا في كل لحظة بانهياره إن اشتدت رياح الشمال. لك يا بوذا أوكِلُ الأمرَ كله، تماما كما في القصة القديمة.

قد يكون الطريق أمامي خطيرا، متحدرا كتلك الدروب الجليدية المحلقة في أعالي الجبال. ومع ذلك، أقول، وأنا على حالي، مَرحبا، للعام الجديد.

تهاني بداية العام:

أشعر أن شيئا لم يطرأ عليَّ

وأنا أرحب بربيعي.

***

ظلال براعم الكرز ـ

ما من أحد الآن

يعد غريبا.

***

كتبت هذه الهايكو يوم وفاة بوذا

15 مارس 1819

راقدا مثل بوذا

في عزلة وسكون ـ

الزهور فقط تخدش عزلتي

***

حتى وهو نائم

بوذا مبتسما يتقبل

الزهر والنقود

***

أثناء التأمل:

يبادلني الشخوصَ

بوجه قَبَّحه اليقينْ

ضفدعُ البركة الهرم

***

حكى لي الكثيرون عن أشخاص بلغت مسامعهم موسيقى سماويةٌ تتردد في الثانية من صباح أول أيام العام. بل إنهم قالوا إن هؤلاء الناس يسمعونها منذ ذلك اليوم كلما مرت ثمانية أيام، ووصفوا بالضبط متى وأين حدث أن سمعوا ذلك كل مرة.

أناس سخروا من الأمر وقالوا خدعة من الريح، ولكني عزفت عن قبول القصة أو رفضها بغير دليل. السماء والأرض حافلتان بالأسرار. وليس بيننا من يجهل قصص البنات الراقصات اللاتي يصببن ندى الصبح من فوقنا. فلعل الأرواح التي ترقبنا من ممرات السماء، رأت العالم غارقا في السلام، فدعت الموسيقى إلى الابتهاج. ولعلنا، نحن الذين عجزنا عن الاستماع إليها، قد أصمَّنا شقاؤنا.

دعوت بضعة أصدقاء لزيارة كوخي في صباح التاسع عشر من مارس، وقضينا الليل كله ننصت، وعندما ظهر في الشرق أول شعاع من النور، لم نكن سمعنا أي شيء. وبغتة بلغنا صوت غناء من شجرة الخوخ بالقرب من شباكي.

إنها قُبَّرة الشجرة

تنشد أغنية اللوتس

للدنيا الشقية

***

أولى بطيخات العام

يشدُّها شدًّا إلى صدره

هذا الطفلُ النائم

***

طنين يدوي قرب أذني ـ

هذه الناموسة تعرف حتما

أني كبرت

***

ظل هذا في ذهني طويلا، أحاول أن أجد سبيلا لقوله:

حتى الناموس

في القرية التي ولدت فيها

يمتص في كل لسعة دما

***

عندما انحنيت لبوذا

هب من الشباك

سربُ ناموس جائع

***

بيتي فقير جدا

حتى الذباب

يعيش عائلات صغيرة

***

مستلقين في أسِرَّتنا المعلقة

تكلمنا بإجلال عظيم

عن الرعد البعيد، والمطر البعيد

***

كتب توشيوري:

مستسلما لغواية الأغصان المدلاة لاصطياده،

يُقبل السمك ولا حيلة له.

هكذا البشر منساقون

لغواية المجهول.

***

كتب كوسيتسو:

أود لو أصفع هذه الذبابة

الواقفة على الوجه الجميل

لابن زوجتي الصغير.

***

غالبا ما يقال إن أعظم الملذات هو الذي ينتج عن أعظم الشقاء. ولكن ما الذي يجعل طفلتي الصغيرة، التي لم تتح لها فرصة أن تتذوق ولو نصف ملذات العالم، والتي ينبغي أن تكون خضراء كأوراق الصنوبرة الأبدية، لماذا نجدها في فراش الموت، وقد انتفخ وجهها ببثور سببها إلهُ الجدري الخسيسُ؟ وكيف يتأتى لي أنا أباها أن أقف بجوارها لأراها تشحب يوما بعد يوم وكأنها الزهرة المثلى وقد أتلفها على حين غرة المطرُ والوحل؟

بعد يومين أو ثلاثة تجف بثورها فتصير بقعا صلبة تتساقط كأنها قاذورات أزاحها ذوبان الجليد. في حماسة، صنعنا زورقا صغيرا من القش وصببنا عليه شرابا ساخنا ونحن نتلو الصلوات ثم أرسلناه طافيا على النهر راجين رضا إله الجدري. وخاب الرجاء والسعي وباتت يوما بعد يوم تزداد وهنا. وأخيرا، انتصف الصيف، وبينما كانت زهور الصباح البهية تأفل، كانت تغمض عينيها إلى الأبد.

تشبثت أمها بجسمها البارد وجعلت تنتحب. كنت أعلم بفجيعتها وأعلم أيضا بلاجدوى الدموع، وأن الماء الذي يعبر أسفل الجسر لا رجوع له، وأن الزهور إن تساقطت بتلاتها فقد ذوت إلى الأبد. وبرغم ذلك ما كان بيدي ان أفعل شيئا يقطع رباط الحب البشري.

دنيا الندى

دنيا الندى

وأيضا .. وأيضا ..

***

في مجموعة كلاسيكية من أحجيات الزن التأملية عنوانها "ميومونكان Mumonkan" كُتب هذا:

يأتي ولا يحرك قدما.

يُعلِّم ولا يحرك لسانا.

لكن تذكر وأنت على الدرب

أن ثمة دائما واحدا تتبعه.

***

في متجر ملحق بالمعبد:

بابتسامته الجليلة،

يشير بوذا برقة إلى

دودة منتنة

***

في زيارة لقبر ابنتي في الخامس والعشرين من يوليو، بعد شهر على وفاتها

الزهرة الحمراء التي

طالما وددتِ لو تقطفينها ـ

رياح الخريف.

***

• متظاهرا بالحكمة

رجل يخبر امرأة بكل شيء

عن الخسوف


• حول بيتي من كل صوب،

كانت ضفادع البركة منذ البداية

تغني الهِرَم.


• بوذا بجانب حقل،

يتدلى من أنفه

خيطٌ طويل من الجليد


• ذبابة شتاء

أمسكتها وأخيرا تركتها،

أكلتها القطة


• هذه الدنيا الشقية:

سوف تطلع الزهور ولكن

مع هذا


• هنا في شينانون

أقمار شهيرة، وتماثيل لبوذا

وأوراق سندياننا الطيبة


• الجبال البعيدة

منعكسة على عين

حشرة


• الكلب الهرم منصت

كأنما لأغنيات الديدان

أثناء العمل


• لا تقتل الذبابة المسكينة!

انظر كيف تنكمش

وتهز يديها تسترحمك


• من فوق أنف بوذا العظيم

ينزلق السنونو

في جذل


• عالم من ندى

وفي كل قطرة ندى

عالم من صراع


• وسط هذا العالم

نمشي على سطح الجحيم محملقين

في الزهور


• دنيا المساعي

وحينما ينبت الكرز

ينبت


• بعد قيلولة طويلة

يتثاءب القط وينهض ويغادر

بحثا عن الحب


• هناك عزلة بالفعل

مغروسة مع كل بذرة

في تربة الصبح البهية.


• في أوائل مطر الربيع

البط الذي لم يؤكل

يصيح في جذل


مختارات أخرى من هايكو إيسا*

• يقبل العام الجديد

وبدلا من براعم البرقوق

يعصف الثلج.


• من البحيرة باتجاه السماء

تندفع القمم الجبلية

مكللة بالغيوم


• رجل، رجل واحد

فراشة، فراشة واحدة

في قاعة استقبال ضخمة.


• فراشة كبيرة:

هنا، هناك، هنا، هناك،

قبل أن تختفي.


• يهطل سيل البراعم،

عاريا أمتطي

فرسا عاريا


• ما أجمله من مشهد:

من ثقب الشباك الورقي،

المجرة.


• زوجتي الشكاءة ..

ليتها كانت هنا!

ليلة مقمرة


• في البيت القديم

الذي هجرته،

تزهر الآن شجرة كرز.


• عند قدمي بالضبط،

وأنت متى وصلت

أيها الحلزون؟


• اغتسال بعد المولد

اغتسال قبل الدفن

كل هذا هراء


* لم ترد في كتاب "شعر الزن"


عنوان الكتاب: شعر الزن

ترجمة وتحرير: سام هاميل و جيه بي سيتن

الناشر: شامبهالا

عدد الصفحات: 160

اللغة: الإنجليزية

السعر: 10 دولار تقريبا على أمازون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق