الثلاثاء، 7 يوليو 2009

قصص قصيرة جدا لـ جريس أندريكي

مقهى المنفى

كان عندي موعد غرامي مع صديقي د. روزنبرج في مقهى المنفى الساعة الثالثة. كان ذلك قبل أيام قليلة من الكريسماس وشوارع برلين مكسوة برقائق ثلج صلب أوشك المشي عليه أن يكون محالا. كان ثمة ضباب كثيف عالقا فوق القناة، وبجعتان تطوفان فوق قطع الثلج القذرة الطافية عليها. وقفت في البرد لوهلة أنتظر ظهور الطبيب الطيب. لم يكن ثمة أحد على الرصيف، فالجميع في إجازة، وليس في عتمة العصر تلك إلا البجعتان فقط. وحين ظهر الطبيب، كانت يرسم على وجهه ابتسامته الخطيرة. تبادلنا قبلات باردة، واتجهنا إلى المقهى الخاوي، فطلبنا قهوة في الغرفة البنية البيضاء ذات الجدران المزدانة بصور قديمة لمناضلي المقاومة الغابرة وموسيقيين منسيين. نظر إلينا النادل كأنه تعرف على الطبيب ولم يتعرف علي أنا، ورأيته يدون في دفتر الطلبات شيئا ما لعله سيقدمه لاحقا إلى رجال الـ ستاتساي(1). انحنى الطبيب باتجاهي وهمس في أذني «لم أكن أحسب أنك ستجيئين...». لم ترق لي الطريقة التي ابتسم بها لي. قلت له «ولم حسبت هذا؟». «ظننت أنك مت. أما قلت إنك ستكوتين؟ أم أنك كنت ستأتين على أية حال؟». هبت الريح ففتحت الباب بصوت مرتفع، عاصفةً على المكان بعض الجليد الساقط حديثا. دخل صبي غجري ذراعاه ممتلئان بالورد، مقدما وردة، راجيا الطبيب أن يشتريها. تناول الطبيب الوردة وناولني إياها بإيماءة غرامية ساخرة ـ أم كان يعنيها؟ قال «إلى سيدتي. أنا سعيد بوجودك معي، على أية حال». قلت «ومن أين ستأتي الكمنجة الآن؟». فقال «إنها موجودة أساسا»، وبثقة ربت على حقيبة فوق الكرسي المجاور له. قلت «هل ستحيي حفلا ما؟» وضع الطبيب إصبعه على شفتيه، وتلفت حوله ناظرا إلى النادل ثم أومأ، وهمس «نعم، الأحد الساعة العاشرة ليلا». وسألني «هل ستأتين، إذا لم تقتلي نفسك قبلها؟» فقلت إنني سوف أحضر. وقلت إنني بالتأكيد لن أقتل نفسي قبلها. وحينما انتهينا من القهوة مددت يدي إلى حقيبتي وأخرجت علبة صغيرة ملفوفة في ورق فضي. قلت للطبيب «هذه هديتي لك في الكريسماس». أمسكها بعناية، وازنا إياها، محاولا تخمين ما فيها. قلت «يمكنك أن تفتحها الآن لو أحببت»، ففتحها. كان بداخلها شيء نحاسي صغير على شكل سرطان ذي مخلبين صغيرين يتحركان، ضعيفين لكنهما حادان، في الضوء الكابي القادم من فوانيس المقهى. قال الطبيب «أحسنت الاختيار». لم يكن يبتسم بعد، بل ينظر بتقدير إلى الكائن الصغير الحي المتشبث في إبهامه. عندما انتهينا من قهوتنا خرجنا إلى البرد وتمشينا قليلا بجانب القناة. كان ثمة في ذلك الوقت بجعات أكثر، تحوم في دائرة ضخمة مكسورة، ضاربة بأجنحتها دوامات الجليد، كانت البجعات أكثر من أن أستطيع عدها، ربما بلغت تسعا وخمسين، لا أعرف. كان ثمة غسق يعلو القناة، وهواء أزرق وردي، وبياض دخاني، وبرد كأنه الموت. قلت «من أين تأتي جميعها؟». وضع الطبيب بغتة ذراعه حولي، محتضنا إياي من الخلف، معتصرا بقوة لدرجة أنني كنت كنت أسشتعر عظامه الحادة الطويلة تنغرس في عظامي. قال «يأتي بها التسكع طبعا. إنها تائهة تماما. ولن تعثر أبدا على طريق العودة إلى الوطن».

تسوق

كنت جالسة إلى مائدة المطبخ، في الصباح، والنور شاحب ولطيف، وكان هو يعد شيئا ما، شيئا لطيفا لكي أتناوله. قال «أريدك أن تأتي معي لنشتري مائدة. مائدة جديدة كبيرة لغرفة الطعام. مائدة كبيرة ولطيفة». فكرت أن هذا رائع، هيا نذهب لنتسوق معا، وسوف آخذه إلى ذلك المحل الجديد، محل الفساتين الجميلة الذي افتتح في شونهاوزر آلي، وأراهن أنه سوف يشتري لي فستانا جميلا. وسوف يبدو ضجرا لأن الرجال لا يحبون التسوق، ولكنه بالقطع سوف يشتري لي فستانا. ابتسمت وقلت «موافقة، ولكن لنحتفظ بهذه المائدة لأننا سنحتاجها عندما يصبح لدينا طفل. مهم أن تكون لديك مائدة في المطبخ عندما يكون لديك طفل، فبوسعه هكذا أن يجلس على المائدة بينما أنت تطبخ فيمكنك أن تبقي عينك عليه وهو يأكل أو يلعب أو أي شيء». فاقترب على الفور مني، وأمسك شعري باعتناء شديد، وقال «عندما تحملين سوف أمشط أنا شعرك بدلا منك، أليس كذلك؟ الحوامل يعانين وهن يمشطن شعورهن، صح؟» قلت «ولكنني لم أعان قط في تمشيط شعري. ولكن على أي حال سأجعلك تمشطه إن أحببت، يا عزيزي». فابتعد إلى الناحية الأخرى من المطبخ، ووقف في غاية الثبات، موليا لي ظهره، وهو يحبني من كل قلبه وظهره وقفاه.

حبا في المنظر

أخذني أبي في عيد ميلادي إلى محل فاو شوارتس لشراء دمية. كان هناك جميع أنواع الدمى، الكبيرة والصغيرة، الإسكيمو والصينية، دمى الأطفال ودمى النساء، والدمى العرائس بأثواب الزفاف الفاتنة، وهذه الدمية، دمية صبي يلبس زي سهرة كامل من طراز عتيق لا تنقصه حتى قبعة الأوبرا الحريرية. تناولته، فوجدت أنه مبلول. قلت ضاحكة «ولكنه مبلول تماما». قالت البائعة «لقد تضرر كثيرا من الفيضان». قلت «حسن، ربما يكون تضرر، ولكنني سوف آخذه مع ذلك» ومن هنا بدأت علاقة العمر مع الرجال في ثياب السهرة.

هذا الوجه

هذا الوجه وسيم لكن ضعيف، وبالذات الفم، شيء ما عصي على التحديد في هذه المساحة الزائدة قليلا فوق الشفة العليا، والبسمة الطفولية التي غالبا ما تضيع في ارتباك، والطريقة التي تزيغ بها العينان إلى الجانبين. إنه وجه شهي، آسر، وجه صبي لم يكبر قط، لكنه يشيخ. وجه، لعله، مثير للشفقة، مؤثر، فيه ملمح مأساوي. هو أحيان غامض، نسوي، لين، وأحيانا صلب قريب من القبح، وجه فلاح. أو مصقول كأنه وجه أمير. من بين بلايين الوجوه البشرية المختلف كل منها عن الآخر، والجميل كل منها بطريقته الخاصة، هذا هو الوجه الوحيد الذي يجعلني أعاني.

غبية

قبّلت زجاج شاشة التليفزيون البارد الأملس، أعرف أن هذا غباء، ولا يهمني، أنا أريد أن أكون غبية وأنا غبية، وسوف أبقى غبية كما أشاء. وأنا مصممة أن أصل إلى الحدود القصوى الخارجية للغباء الممكن. ليس بوسع أحد أن يراني، ولا أحد يعرف كم أنا غبية. ولكن هو يعرف، لأنني أقول له. أمس قبلت وجهك، وجهك اللذيذ، وجهك الطفولي السري الداكن، أنا غبية، أنا بجحة، أنا مجنونة تماما، أنا طموحة، وأنا مجاوزة لكل شيء أخيرا أخيرا أخيرا

تجربة فكرية

أحيانا عندما أتشاجر مع زوجي أدخل على الإنترنت وأبحث عن عشاقي القدامى. أنظر إلى صورهم وأقرأ كلمات قليلة من سيرهم الذاتية، وأذكّر نفسي بمزاياهم العديدة. هذا كان رائعا في التقبيل، يستطيع أن يدوخ أي بنت في ثلاث ثواني، وذلك كان بارعا في المجاملات الاستثنائية الرومانتيكية برعب. أحاول أن أتخيل كيف كان يمكن أن يكون شكل حياتي لو كنت لا أزال مع واحد من هؤلاء. ويجب أن أعترف أنه من بين هؤلاء المجانين والمزعجين، والجذابين مع ذلك، بل والجذابين بسبب ذلك، ومن بين كل الرجال الذين عرفتهم في حياتي، زوجي هو آخر من يمكن رفضه. وذلك مجرد سبب من أسباب استمرار زواجنا.

جريس أندريكي روائية وشاعرة ومسرحية أمريكية المولد، تعيش في إنجلترا. من أعمالها روايات: «الشعر والخوف» و»موسيقى للأوركسترا الزجاجي» و»هوّن على قلبي» (التي فازت بجائزة الكتابة الأمريكية الجديدة) و»سونتات فردوسية».

(1) الشرطة السرية في ألمانيا الشرقية

نشرت هذه النصوص في عدد أخير من شرفات http://www.omandaily.com/10/malaheq/thaqfi/shurfat3.htm

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق