الأربعاء، 29 أبريل 2009

من كواليس سرقة الموناليزا



كيف تم الاشتباه في بيكاسو وأبولينير عن سرقة أشهر لوحة في التاريخ



ذات صباح عادي في أواخر صيف في باريس، حدث المستحيل. اختفت الموناليزا. في مساء يوم الأحد الموافق للعشرين من أغسطس عام 1911، كانت أشهر لوحات ليوناردو دافنشي معلقة في موضعها المعتاد على جدار صالون كاري بين لوحتي الزواج الغامض لـ كوريجيو وقصة ألفونسو دافالوس الرمزية لـ تيتيان. وحينما فتح اللوفر أبوابه في صباح الثلاثاء، كانت قد اختفت.
في غضون ساعات من اكتشاف الإطار الخاوي مخبأ خلف أحد الأجهزة الإشعاعية، كانت القصة مذاعة من خلال طبعة إضافية من صحيفة لو تيمب الصباحية الرائدة. والتقى في المتحف صحفيون من الصحف المحلية والعالمية. وكان جورج بينيدتي ـ القائم بأعمال مدير اللوفر ـ وأمناء المتحف يتحدثون بحرية مع الصحفيين.
شعر لويس لوبان ـ رئيس شرطة السين ـ بالضيق من كثرة كلام أمناء المتحف مع الصحفيين. كان رجاله قد عثروا على الإطار، وكان واثقا أنهم سيعثرون عما قريب على اللوحة. وكان يرغب حتى تلك اللحظة أن يبقى الجمهور والسياسيون هادئين. قال للصحافة إن "اللصوص ـ فأنا أميل إلى أنهم أكثر من لص ـ قد نالوا منها". ومع إقراره بأن هناك أكثر من دافع محتمل إلا أنه قال "إن الاحتمال الأكبر هو أن الجيوكندا سرقت ليتم ابتزاز الحكومة من خلالها".
ولو كانت الموناليزا سرقت لطلب فدية، فسوف يتم توجيه الطلب ـ كما توقع لوبان ـ في غضون 48 ساعة.
في التاسع والعشرين من أغسطس، حينما فتح اللوفر أبوابه من جديد، كان ثمة من يضع بيضة من ذهب بين أيدي محرري باريس جورنال التي خصصت صفحتها الأولى لاعتراف مذهل: "لص يأتي إلينا بتمثال مسروق من اللوفر".
قالت الصحيفة إن اللص "شاب، بين العشرين والخامسة والعشرين، مهذب للغاية، ومهندم على الطريقة الأمريكية، وله وجه ومنظر ومسلك تشي بقلب طيب وتبدد أي إحساس بالشك".
ولقاء 250 فرنكا، باع اللص الشاب للصحيفة تمثالا قال إنه سرقه من اللوفر.
قدم الشاب اعترافا كاملا، حيث قال إنه زار قاعة التحف الأسيوية في اللوفر عام 1907، وأدرك كم يسهل عليه أن يتناول أي شيء ذي حجم معقول ويمضي به، فاختار رأس امرأة وأخفاها أسفل سترته وخرج. وباعها لصديق باريسي يعمل رساما مقابل خمسين فرنكا. وذهب ليسرق تحفتين أخريين قبل "هجرته" إلى المكسيك. ثم عاد إلى باريس في مطلع العام، وذهب إلى اللوفر في السابع من مايو فسرق رأسا آخر.
في اليوم التالي ـ أي الثلاثين من أغسطس ـ نشرت الصحيفة لقاء ثانيا مع اللص كشف فيه أن اسمه هو البارون إجناس دي أورميسان. وتم عرض التحفة المستردة في شباك مبنى باريس جورنال وتوافد المئات على الجريدة لمشاهدة الفن المسروق.
وللمرة الأولى منذ سرقة الموناليزا، وجد الباريسيون داعيا للتفاؤل. حيث أعرب لوبان عن اعتقاده بأن نفس الحلقة الدولية من لصوص الفن هي المسئولة عن جميع سرقات اللوفر، سرقات التماثيل وسرقة الجيوكندا. وقال إنه لو استطاع أن يضع يده على البارون وزملائه، فستكون القضية قد انتهت.
كان صيفا فاقت حرارته الحرارة المعتادة، وكان الثاني من سبتمبر محطما للرقم القياسي في درجة الحرارة، حيث وصلت درجة الحارة في باريس إلى 97 درجة فهرنهايت. ولم تكن حرارة التحقيقات في سرقات اللوفر أقل سخونة.
خلال السنوات السبع ما بين عام 1905 و1911، تم تدوين سفر تكوين الفن المعاصر. كان عبقري هذا السفر هو بابلو بيكاسو وكان مدير الفرقة هو الكبير جيليام أبولينير. أعلن أبولينير ـ الشاعر الفذ، والمثقف المستفز المثير للجدل ـ مانيفستو الحداثة، متبنيا فيه حكمة المركيز دي ساد: "في الفن، على المرء أن يقتل أباه". ودعا إلى تدمير جميع المتاحف "لأنها تشل الخيال" وناصر بيكاسو بوصفه "إلها جديدا يريد أن يعيد صنع العالم".
كان أبولينير وبيكاسوزعيمي جماعة عرفت على نحو كبير باسم لو باند دي بيكاسو (فرقة بيكاسو). كانت عصابة معروفة من مونمارتر إلى منهاتن باسم "همجيو باريس"، وكان منهم شعراء ورسامون يعدون بمثابة قطاع الطريق الخارجين على قانون الفن التقليدي. بشبابهم، وعبقريتهم، وطموحهم الوحشي، كانوا يذرعون شوارع مونمارتر البازلتية ويملأون مقاهيها الرخيصة معرفين بأنفسهم وبالفن الخلاق الذي يكسر كل علاقة بين الفن الحر وتاريخ الفن.
مر أسبوعان على لوبان مرور الجحيم، وبدأ يعتقد أن القضية أفلتت من يده. إلى أن عثر في لو باند دي بيكاسو، على حلقة لصوص الفن الدولية التي كان يتعقبها.
وبالنسبة للشرطة، كان الكلام مقنعا.
كان الاستيلاء على الموناليزا عملا جريئا في سياق ما وصفه أبولينير "بالصراع الأبدي بين النظام والمغامرة". كان عملا بدرجة إعلان للاستقلال.
تسبب اعتراف اللص في حالة من الإثارة التي انتقلت ببطء، باتجاه الجنوب، إلى سيريه، وتصاعدت في البيرينيه الفرنسي الذي استولى بيكاسو وأصحابه على الطابق الأول من فندق فيها يحمل اسم أوتيل دو كانيو. كانوا قد استقروا هناك طوال الصيف بهدف اختراع التكعيبية. ولعل عدد باريس جورنال الصادر في التاسع والعشرين من أغسطس لم يصل إلى هناك إلا في الأول من سبتمبر على الأرجح. وحين وصل، وصلت معه حالة من الاهتياج. توجه بيكاسو على الفور إلى باريس. وحين توقف القطار في المحطة، كان أبولينير الملتهب واقفا ينتظره على الرصيف. كانت الشرطة قد فتشت شقته، وشقة بيكاسو هي التالية.
لم يكن بيكاسو وأبولينير بريئين من قضية التماثيل. ففي ركن من خزانة في شقة بيكاسو بشارع بولفار دي كليشي كان ثمة تمثالان: رجل حجري صغير محكم الصنع وامرأة نحتها مثال اسباني قديم خلال العصر البرونزي. وكانت قاعدة كلا التمثالين تحمل عبارة "من أملاك متحف اللوفر". كان بيكاسو هو صديق البارون الذي يعمل رساما.
تصرف أبولينير وبيكاسو كما يليق بمجرمين، فحاكا سيناريو مفصلا لمراوغة الشرطة. في البداية، وضعا خططا للهروب من فرنسا، ثم تراجعا عنها. بعد ذلك، تفتق ذهناهما عن مؤامرة لتدمير أدلة الإدانة. قررا أن يحزما البضاعة المسروقة في حقيبة قديمة ويلقيا بها في السين عند منتصف الليل. كانا يريان نفسيهما ممثلين في مسرحية، وكانا على يقين أن النهاية سوف تكون مأساوية.
في ليلة الخامس من سبتمبر، كان ثمة عصابة من أربعة هم بيكاسو وعشيقته فرناند أوليفييه وأبولينير وحبيبته الرسامة ماري لورينسن ـ تتحلق حول مائدة الطعام في الشقة. وبرغم أنهم جميعا كانوا لا يعرفون أي شيء عن لعب الورق، إلا أنهم قرروا أن يتظاهروا باللعب طوال ذلك الليل الذي بدا لهم بلا نهاية.
وعند منتصف الليل، خرج الرسام والشاعر للتخلص من الممنوعات. وبرغم اتباعهما طريقا كالسهم، إلا أن الطريق من مونمارتر إلى السين يبلغ ثلاثة أميال، قطعاها مشيا، لخوفهما من أن يثيرا الاهتمام بوضعهما حقيبة في تاكسي. وهكذا، عندما وصلا أخيرا إلى النهر، كانا الإنهاك قد نال منهما.
تصوروا الثنائي ـ بيكاسو الضئيل معقود الحاجبين، وأبولينير النشيط السليط ـ وهما على الضفة اليمنى في جنح الليل.
تصوروا أبولينير مائلا بزاوية حادة وبيكاسو مائلا بزاوية منفرجة لكي يحملا معا حقيبتهما الرخيصة ـ فقد كان الأول منهما أطول كثيرا من الثاني ـ التي خرجت منها ثياب إجازة سيريه لتحل بدلا منها غنيمة اللوفر. ولما عجزا ـ بسبب تنافر الأطوال ـ عن حمل الحقيبة معا، رأيا أن يتناوبا على حملها.
كانا يتلفتان حولهما طوال الوقت، ويروعهما أدنى صوت، ويرتعدان من أثر كل قدم تدب من خلفهما. كانت الكهرباء تدخل ببطء مدينة الأضواء. فكانا يتصوران في الظلال المبهمة التي تسببها مصابيح الغاز رجالَ شرطة ملتصقين في جذوع الأشجار أو رابضين على ضفة النهر.
بعد ساعتين، عادا إلى الاستوديو، مجهدين من المشي على طريق مونمارتر المتحدر، الذي قطعاه وهما يدخنان ويلهثان، وتنهكهما البارانويا مثلما تنهكهما المهمة المجهضة، وكانا لا يزالان يحملان الحقيبة بمحتوياتها. فلم تواتهما الشجاعة قط لإتمام المهمة.
قضى أبولينير ما بقي من الليل بداخل الشقة، وفي الصباح توجه بيكاسو بأدلة الإدانة إلى باريس جورنال. وفي مساء السابع من سبتمبر، تم اعتقال أبولينير.
بعد تسعة عشر يوما على اختفاء الموناليزا، قامت الشرطة بزيارة إلى بولفار دو كليشي. واستيقظ بيكاسو ـ الذي كان ينام حتى الظهر ـ على طرقات لحوحة على الباب. وكانت فرناند سكرانة، ولم يكن على جسمها الباذخ غير عباءة هزيلة شفافة، حينما فتحت الباب.
بدا الاستوديو حافلا بالفوضى. وفي ضوء الصباح المبكر، كان منظر الساكر كور الطباشيري يخيم من خلال نافذة مرتفعة. كانت حاملات اللوحات وأقمشتها تقتسم الاستوديو مع أشكال أفريقية طقوسية وأريكة هائلة الحجم من طراز لويس فيليب منجدة بالقطيفة البنفسجية ومزودة بأزرار ذهبية، وقطع أثاث أخرى، مستعملة، وغليظة، وجهمة، أشارت إليها فرناند باعتبارها من طراز "لويس الرابع عشر البيكاسوي. وبشكل عشوائي، كانت الجدران مزودة بلوحات من الأوبيسون معلقة بزوايا مائلة، وأقنعة بدائية، وعلب أدوات موسيقية منبعجة، وأطر لوحات ممزقة، ورسمة صغيرة وجميلة لامرأة من أعمال كوروت. بيكاسو كان من كبار المقتنين.
تلا المفتش نص الاستدعاء قبل أن يتم فتح الباب بالكامل، وكان نص الاستدعاء يأمر بمثول بيكاسو أمام قاضي التحقيق هنري دريو للاستجواب. كان الفنان مشتبها به، وكانت الشبهة تتعلق بمسروقات من اللوفر.
قال بيكاسو إنه زار مرارا معرض اللوفر للنحت الأيبيري البدائي وإنه تأثر به تأثرا عميقا. وإنه ربما سمع بـ "البارون دو أورميسان" الشهير ـ والصحيح أنه هونروي جوزيف جيري بيريه، البلجيكي ـ وتباهيه بأنشطته المتعلقة بخفة اليد. وكان بيكاسو على أقل تقدير يعرف بأن التماثيل التي اشتراها من جيري تخص المتحف. وكان ـ على أسوأ تقدير ـ قد كلفه بسرقتها، محددا تمثالين معينين من المعروضات، واصفا بدقة أي قطع أراد استخدامها في لوحته الجديدة، وهي رسم ضخم لماخور سوف يسميه أندريه سلمون.
لو كان المفتش بحث في استوديو بيكاسو، لكان عثر على أدلة الإدانة. ولكنه بدلا من ذلك، لم يتجاوز الباب، بينما كان بيكاسو يرتدي ملابسه. وفي محاولة للتظاهر بالشجاعة، اختار الرسام قميصا أحمر ـ لونه المفضل ـ منقطا بالأبيض، وربطة عنق حريرية أنيقة تتنافر بعنف مع القميص. وكان يرتعش بصورة خارجة عن إرادته، لدرجة أن فرناند هي التي أغلقت له أزرار قميصه.
تم نقله في حافلة من البيجال إلى البالي دو جاستس. حيث لم تتوفر سيارة شرطة. وما كانت الحكومة لتتحمل أجرة تاكسي لمجرم مشتبه. ولن يحدث لبيكاسو مرة أخرى طوال حياته أن يستقل الحافلة من بيجال إلى هالي أو فين.
واجه أبولينير وبيكاسو أحدهما الآخر في قاعة المحكمة وكأنهما غريبان. بدا بيكاسو ضئيلا على ضآلته في قاعة العدالة المهيبة تلك. وبدا التركيب المتناقض ـ قميصه الأحمر المنقط بالأبيض وربطة العنق الحريرية ـ الذي أراد منه التظاهر بالشجاعة مثيرا للشفقة بدلا من أن يثير التحدي. أما أبولينير، فكان منظره شبحيا مزريا بعد يومين في السجن. كان شاحبا، ولحيته نابتة، وقميصه مفتوحا، وياقته ممزقة. وسترته مجعدة وممزقة.
بلغ الرسام والشاعر من التوتر والارتباك ورغبة كل منهما في إثبات براءته ما جعل الحقيقة والصداقة نسيا منسيا. ناقض كل منهما نفسه، كما ناقض كل منهما الآخر، وتبادلا الاتهام بأخذ التمثالين المسروقين إلى الجريدة. وبكيا، وتوسلا العفو والحرية.
وبعد ما عومل لساعات معاملة مجرم يشوى على النار، قدم أوبلينير اعترافا كاملا بكل شيء: إخفاء جيري، حيازة مسروقات، توقيع مانيفستو يدعو إلى إحراق اللوفر. واعترف على جيري وبيكاسو، وتعرف عليهما، فيما يتعلق بسرقة التماثيل الأيبيرية. والآن، ينتقل القاضي دريو إلى الرسام. محملقا في بيكاسو عبر نظارة أنفية، وبصوت كأنه حصى يتصادم، أمطره بالأسئلة. وتبدد منظر الشجاع الذي رسمه بيكاسو على نفسه. وفي خوف، ادعى بيكاسو الجهل التام. وأقسم أنه لم يعرف أي شيء عما يوصف بـ قضية التماثيل، وأنه لم يكن يعرف أن الرأسين الأيبيريين البدائيين كانا مسروقين، وإنه لم يعرف أبولينير. ومثل بطرس حينما سئل "أتعرف هذا الرجل؟" قال بيكاسو "لم أره في حياتي قبل اليوم".
وفي نهاية التحقيق، تم الإفراج عن بيكاسو ـ مشتري التمثالين ـ بكفالته الشخصية مع تحذيره من مغادرة باريس. وعلى مدار أسابيع تالية عاش متخفيا. كان بصورة طبيعية قد صار مرعوبا من أن يتم إلقاء القبض عليه مرة أخرى. فلم يكن يغامر بالخروج إلا ليلا، وفي تاكسي. كان على قناعة بأن ثمة من يراقبه، فكان ينتقل من تاكسي إلى تاكسي ليضلل مراقبيه. وصار نومه متقطعا، وظل طوال الوقت يصغي لنقرة ما على الباب.
وفي زمن لاحق، سوف يقول أبولينير إنه "من الغريب والمدهش والمأساوي والممتع في آن واحد" أن يكون هو الشخص الوحيد الذي تم اعتقاله في فرنسا بتهمة سرقة الموناليزا.

الموناليزا الضائعة: القصة الحقيقية المذهلة لأعظم سرقة في التاريخ
تأليف آر آيه سكوت
الناشر: بنتام بريس
السعر: 17 جنيه استرليني
نشرت هذه المادة في ملحق قراءات بتاريخ الأحد 26 ابريل 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق