يبدو لقب "أمير
الشعراء" مغرقا في عربيته، أو حتى في شرقيته. يبدو أبعد ما يكون عن الولايات
المتحدة الأمريكية التي لا هي بملكية ولا بإمارة بل ولا تحكمها كسائر بلاد الله
حكومة بل إدارة. ومع ذلك فـ "أمير الشعراء" هي الترجمة التي استقر عليها
كثير من المترجمين العرب للقب POET LAUREATE في معرض تحريرهم للخبر السنوي الذي يصدر عن مكتبة الكونجرس
الأمريكية في الصيف من كل عام معلنا عن اختيار أمير جديد للشعراء الأمريكيين.
كلمة laureate مشتقة من الكلمة اللاتينية laureates وتعني "المتوج أو المكلل بالغار". أما تقليد إمارة الشعر فمأخوذ من تقليد روماني قديم كان يقضي بتكريم شخص (شاعر بالخصوص) لتحقيقه منجزا فائقا. وكانت علامة التكريم تتمثل في منح هذا الشخص إكليلا من أوراق الغار.
اللقب بالإنجليزية كما أسلفنا هو poet laureate، ومنير البعلبكي صاحب المورد يقترح لكلمة laureate (1) المكلل بالغار: الحائز على تقدير أو تشريف خاص لنبوغه في فن أو علم. وبخاصة شاعر البلاط الملكي. (2) مكلل بالغار. (3) ممتاز، وبخاصة من حيث الموهبة الشعرية.
ينتأ وسط هذه المعاني المقترحة اقتراحه "شاعر البلاط الملكي"، إذ يشير إلى اقتصار مرجعية البعلبكي على المملكة المتحدة وحدها. فهذه الترجمة إذن تصلح للإشارة إلى التقليد في بريطانيا، ولكنها لا تصلح في حالة الولايات المتحدة التي يرتبط الشاعر المتوج فيها بالبرلمان، بل بالمكتبة المنسوبة للبرلمان، لا ببلاط ما. كما لا يصلح أيضا للإشارة إلى أمراء الشعراء في الولايات والمدن الأمريكية (أحد الشعراء الأمريكيين سخر مرة من فكرة إمارة الشعر فأعلن نفسه "أمير شعراء شارعنا").
كل هذه التبريرات أسوقها للترجمة التي انتهيت إليها، وذلك كي لا يتكرر ما حدث معي منذ سنوات. كان د. أيمن بكر يقدمني لباحث أمريكي جاء إلى القاهرة. ولاحظت في تعريف أيمن اختزالا لـ "إنجازاتي" فبدأت أوضح له بالعربية طرفا منها، فكان من بين ما قلته إنني ترجمت شعرا لفلان الفلاني وهو أمير الشعراء الأمريكيين الآن. فبدا عليه استهجانه للقب، واستبعاده أن يكون لمثل هذا اللقب وجود في ثقافة أمريكا التي لم تعرف في تاريخها الملكية والإمارة. فبدأت أكلمه عن اللقب وحكيت له طرفا من تاريخه، وقلت له إن بعض المترجمين يؤثرون على "أمير الشعراء" ترجمة أخرى هي "الشاعر المتوج". فإذا كنت ترفض ترجمتي لعدم وجود إمارة في أمريكا، فإنني أرفض ترجمتهم لعدم وجود "تاج" هناك. بينما كان الباحث الأمريكي (الهدف المنشود من كل ذلك) مستغرقا في استيعاب الثقافة المصرية ممثلة في نرجيلة.
على أية حال، بعيدا عن الاختلافات في الترجمة، وبعيدا عن الأصل الروماني للقب أو التقليد، إمارة الشعر بدأت في المملكة المتحدة بإعلان القصر الملكي الشاعر جون درايدن شاعرا للبلاط عام 1668.
شاعر البلاط في بريطانيا هو الشاعر الرسمي للمملكة، يكلف بكتابة قصائد للبلاط وفي المناسبات الوطنية (من قبيل رأس السنة، أو حفلات الزفاف المكية). وشاعر البلاط ينال لقبه هذا مدى الحياة (أو هكذا كان الحال منذ عهد جون درايدن وحتى موت تيد هيوز سنة 1999، حينما غير توني بلير القاعدة في ذلك العام ليجعل مدة منصب شاعر البلاط محددة بعشر سنوات)، ويختاره الملك من بين قائمة من الشعراء المرشحين يرفعها رئيس الوزراء عند خلو المنصب بوفاة شاغله. ويجب ألا نغفل أن شاعر البلاط يحصل لقاء قيامه بهذه المهام على راتب هو عبارة عن ستمائة وثلاثين قنينة من الخمر الأسباني الفاخر.
بمهام كهذه، وأجر كهذا، يشق على المرء أن يعد الشاعر البريطاني "أميرا" ناهيكم عن أن يكون أميرا على "الشعراء". لذلك نؤثر في حالة المختارين من الشعراء البريطانيين أن نعتمد ترجمة البعلبكي ونعتبرهم شعراء البلاط.
أما في الولايات المتحدة، فالأمر مختلف. إذ إن أمير الشعراء في أمريكا ـ بحسب ما يرد على موقع مكتبة الكونجرس الإلكتروني ـ هو المستشار الشعري لمكتبة الكونجرس وهو حامي حمى النبض الشعري لدى الأمريكيين (الحقيقة أن الموقع يستخدم "مانع الصواعق" حيثما أستخدم أنا "حامي حمى"). وأمير الشعراء يعمل خلال فترة ولايته/ولايتها على زيادة وعي الأمريكيين وتذوقهم للشعر كتابة وقراءة.
"يقوم أمين مكتبة الكونجرس بتعيين أمير الشعراء لولاية تستمر من أكتوبر إلى مايو. ويعتمد أمين المكتبة عند تعيين الأمير على استشارة أمراء الشعراء السابقين، وأمير الشعراء الراهن، ونقاد الشعر المرموقين".
نشأ المنصب في الولايات المتحدة عام 1937 واستمر حتى عام 1986، وفي تلك الفترة كان شاغل المنصب يحمل لقب "المستشار الشعري لمكتبة الكونجرس" ثم زيد على لقبه "أمير الشعراء" بموجب قانون سنه الكونجرس في عام 1985 فأصبح اللقب هو "أمير الشعراء المستشار الشعري لمكتبة الكونجرس".
يتلقى أمير الشعراء في أمريكا راتبا سنويا مقداره خمسة وثلاثون ألف دولار يتم تدبيرها من خلال هبة قدمها آرتشر م. هنتنجتن. وفي مقابل ذلك، لا تطالب المكتبة أمير الشعراء بأكثر من إلقاء محاضرة سنوية وأمسية شعرية منفردة، كما أنه "عادة" ما يقوم بتقديم الشعراء في سلسلة الأمسيات الشعرية التي تقيمها المكتبة والتي تعد الأقدم في الولايات المتحدة حيث أنها مستمرة منذ أربعينيات القرن الماضي.
تقليل المكتبة للمهام الموكلة إلى أمير الشعراء يهدف كما يقول موقعها إلى منحه الوقت الكافي للاهتمام بمشاريعه الخاصة، سواء الكتابية، أو المشاريع التي يطلقها لتوسيع دائرة الشعر في أمريكا. وقد أثبتت هذه السياسة جدواها أحيانا، وفشلها مرارا.
أما عن النجاح، فيباهي موقع المكتبة بأن كل أمير للشعراء "يأتي بما يجدد التركيز المنصب على الشعر، فـ جوزف برودسكي (والبعض يترجمه إلى يوسف ويترك برودسكي مسكينا بلا ترجمة) جاء بفكرة تقديم الشعر في المطارات والمتاجر وغرف الفنادق." (كان يرى أنه إذا كانت إدارات الفنادق تضع في الغرف نسخا من الإنجيل فلم لا توضع دواوين أيضا؟) وماكسين كومين بدأت سلسلة من الورش الشعرية الشعبية المخصصة للنساء، وكانت هذه الورش تقام في مكتبة الكونجرس نفسها. والأفروأمريكية جويندلن بروكس كانت تلتقي بتلاميذ المدارس الابتدائية لتشجيعهم على كتابة الشعر. والأفروأمريكية أيضا ريتا دُف أتت بالكتاب ليكتشفوا تجربة الشتات الأفروأمريكية عبر عيون الفنانين الأمريكيين الأفارقة. وروبرت هاس نظم مؤتمر ووترشيد (المصب؟) حيث أتاح لروائيين وشعراء وقاصين فرصة تجميع رؤاهم عن الكتابة والطبيعة والمجتمع في بوتقة واحدة.
ونضيف إلى قائمة المشاريع التي يوردها موقع المكتبة مشاريع أخرى. فالشاعر بيلي كولينز تبنى مشروعا أطلق عليه اسم "شعر 180" ولا يزال مشروعه مستمرا إلى الآن بعد سنوات من انتهاء ولاية كولينز حيث لا يزال الطلبة الأمريكيون يستمعون في صباح كل يوم دراسي إلى قصيدة أمريكية معاصرة. والشاعر تد كوزر تبنى مشروع "الحياة الأمريكية شعرا" وهو أيضا مشروع مستمر إلى الآن، حيث يقدم كوزر في عشرات الصحف الأمريكية عمودا أسبوعيا يحتوي قصيدة يعتبرها "أمريكية المضمون" لأحد الشعراء الأمريكيين مع قراءة موجزة لها. ودونالد هول أقام سلسلة من الأمسيات الشعرية العابرة للأطلنطي جمع فيها بين الشعراء الأمريكيين والبريطانيين.
ويبقى أن هذا هو الاستثناء. فالأغلبية بين الأمراء استطابوا التفرغ لشئونهم. تشارلز سيميك مثلا قال حينما سأله بعضهم في العام الماضي عن طبيعة المشروع الذي سيتبناه: "لا شيء، سأبقى كما أنا في البيت وأكتب الشعر" (برغم أنه لا يكاد يبقى في بيته، فهو من أكثر الشعراء تنقلا في أمريكا للتدريس وإلقاء الشعر). ومثله كثيرون، آخرهم كاي رايت التي اختيرت مؤخرا أميرة لشعراء الولايات المتحدة. فقد سألتها صحيفتا نيويورك تايمز وواشنطن بوست هذا السؤال المعتاد، فقالت للأولى "إنني أريد أن أحتفي بمكتبة الكونجرس، لذلك ربما أصدر بطاقات عضوية فيها لكل الناس". وقالت للثانية "أظن أنني سآخذ على عاتقي أثناء فترة ولايتي مهمة منع الشعر الرديء من النشر". وبوضع الإجابتين هكذا متجاورتين، أتصور أن كاي ريان ستبقى كما هي في البيت وتكتب الشعر، وهذا في رأيي أفضل ما يفعله شاعر لنفسه.
كل هذا الحكايات و"الطرائف" أثارها إعلان كاي ريان أميرة لشعراء أمريكا.
لعل النفع الوحيد من هذا اللقب، ومن الجوائز الشعرية العديدة (بوليتزر، وليلي روث، وجوائز حلقة النقاد) هي أنها تمثل دليلا للتائه في بحر الشعر الأمريكي.
في برنامجه الشهير (الذي نسيت اسمه) على القناة الثانية بالتليفزيون المصري، استضاف الشاعر فاروق شوشة منذ سنوات بعيدة الكاتب والمترجم الكبير د. محمد عناني فكان من بين ما قاله، فعلق في الذاكرة إلى اليوم، إن في الولايات المتحدة الآن ما لا يقل عن خمسين ألف شاعر على قيد الحياة.
كان ذلك في بداية التسعينيات على الأرجح. وهذا الرقم ـ أي الخمسون ألفا ـ وإن بدا رقما مفزعا، إلا أنه لا يشكل في ظني أي قدر من المبالغة، فنحن حين نتحدث عن الولايات المتحدة ننسى أننا نتحدث عن أكثر من خمسين دولة يضمها اتحاد واحد. فلو جاءنا اليوم من يقول بأن في أمريكا من الشعراء الأحياء ضعف هذا الرقم لما حق لنا أن نندهش. ويكفي أن يجرب أي منا أن يبحث عبر جوجل عن الشعراء الأفرو أمريكيين، أو الأمريكيين الأيرلنديين، أو الأمريكيين اللاتينيين أو حتى الأمريكيين العرب. وسيجد من يفعل ذلك نفسه في تيه رائع (والرائع تعني المخيف أصلا). ووسط هذا الزخم، تصبح مهمة المترجم شاقة إلى أبعد الحدود.
ويبقى من المؤكد أن الجوائز ومظاهر التكريم المختلفة لا تصادف مستحقيها طول الوقت. ويبقى أنها تخطئ مستحقيها كثيرا. ويبقى أنني شخصيا ترجمت كتابا لبيلي كولينز، ضمنته نحو ثلاثين قصيدة اخترتها من بضع دواوين له. وكان ما قادني إليه إعلان لويز جليك أميرة للشعراء الأمريكيين.
فالتغطيات الصحفية لذلك الحدث أبدت إشفاقا كبيرا على جليك لخلافتها شاعرا له جماهيرية بيلي كولينز الذي تقلد إمارة الشعر دورتين متتاليتين، وهو أمر نادر الحدوث. بدأت أبحث عن شعر كولينز، ولم يخيب جوجل رجائي، فإذا بي أمام عشرات القصائد. وبدأت أترجم، ثم قررت التوقف عندما أكملت إحدى وثلاثين قصيدة برغم أن بيلي كولينز نفسه كان لا يزال يشجعني على ترجمة المزيد. وحين سألني أحد أصدقائي ـ وقد أعجبته القصائد ـ عن سر اكتفائي بهذا العدد، قلت له إني لست مستعدا لترجمة القصيدة نفسها أكثر من إحدى وثلاثين مرة. فبرغم أن كولينز شاعر جميل وبرغم أن قصائده جميعا تحقق قدرا كافيا من الجمال، إلا أنه نمطي إلى حد لم أستطع احتماله.
ولا أخفيكم أن كثيرا من الشعراء الأمريكيين احتجوا على تعيينه أميرا عليهم، ورشحوا بدلا منه شاعرا ميتا!!
ورجوعا إلى بريطانيا، ففيها في الآونة الأخيرة نوع من الإثارة يحيط بالمنصب الذي اتفقنا أنه "شاعر البلاط" لا "أمير الشعراء".
في مايو ويونيو الماضيين، اهتمت صحيفة الإندبندنت برسالة طريفة. ففي الثاني والعشرين من مايو كتبت عارفة أكبر مراسلة الصحيفة الفنيةُ تقول:
"منذ أن توج القصر الملكي جون درايدن شاعرا للبلاط في عام 1668، لم يحظ بهذا الشرف إلا الرجال، ابتداء بوليم ووردذويرث وحتى تيد هيوز (ولا أعرف لم لم تقل حتى آندرو موشن شاعر البلاط الحالي وخليفة هيوز). ولم تتقلد المنصب امرأة قط".
وتواصل عارفة أكبر قائلة إن منظمي أهم المهرجانات الشعرية في بريطانيا، ارتأوا أن انتظار تتويج شاعرة قد طال بما فيه الكفاية. فوجهت كلوي جارنر مديرة مهرجان ليدبري الشعري نداء حماسيا مطالبة بتعيين شاعرة للبلاط إصلاحا للخل المتمثل في تعاقب اثنين وعشرين شاعرا ذكرا على المنصب. وكتبت جارنر رسالة وجهتها إلى الملكة، وجوردن براون رئيس الوزراء، وديفيد كاميرون رئيس حزب المحافظين، وآندي بورنام السكرتيرة الثقافية، أشارت فيها إلى أنه لا يوجد في القواعد ما يمنع تعيين النساء في المنصب، وأن هناك شواعر مذهلات تنتمين إلى جميع الأجيال وهن يعشن ويكتبن في بريطانيا اليوم.
وقالت إنه برغم وجود شاعرات تماثلن في الأهمية أقرانهن من الشعراء، إلا أنهن تعرضن دوما للتجاهل، ودللت على ذلك بأسماء من بينها سيلفيا بلاث، زوجة تيد هيوز. وجرفتها الحماسة فقالت إن الشاعرات منذ سافو شاعرة الإغريق يمارسن الشعر، ويتعرضن للغبن، وإن في بريطانيا شاعرات عملاقات، وإذا كان من النساء في تاريخ بريطانيا ملكة، ورئيسة للوزراء، فلم لا تكون منهن شاعرة للبلاط.
كانت هذه الرسالة بداية حملة أعلنت عنها جارنر استباقا لخلو المنصب في العام القادم، وقد رد عليها متحدث باسم رئيس الوزراء قائلا إن "رئيس الوزراء ممتن لملاحظاتك التي ستؤخذ بعين الاعتبار في الوقت المناسب".
بالتأكيد سافو شاعرة كبيرة. وكذلك سيلفيا بلاث، ونضيف على من ذكرتهن جارنر إميلي ديكنسن الأمريكية وفسوافا شمبورسكا البولندية. ولكن، من أيضا؟ هناك أخريات بالتأكيد. وهن قليلات بالتأكيد أيضا، مقارنةً مع الشعراء العظام. ولكن من قال إن أمراء الشعراء أو شعراء البلاط هم دائما من عظماء الشعراء.
المشكلة في بريطانيا لا علاقة لها بالقيمة الشعرية الجمالية لمنجز الشاعر. وهي تقريبا كذلك في الولايات المتحدة وإن بصورة أخف. فأمين المكتبة يراعي أن يكون اختيار الشاعر رسالة يقول من خلالها مثلا: ها نحن نمنحها لامرأة، أو لأمريكي أسود، أو لمثلية، أو لمهاجر متجنس. وتختلف الرسالة في بريطانيا لاختلاف درجة انفتاح المجتمع، ولاختلاف طبيعته، ولكن يبقى أن تقليد المنصب يوجه رسالة.
ورجوعا إلى المواقف والطرائف، رشحت جارنر في حملتها بضع شاعرات تعتبرهن جديرات بالمنصب: كارول آن دوفي، وويندي كوب، ولافينيا جرينلو، وفلور آدوك، وروث بادل.
ثلاثة من هذه الأسماء قالت للإندبندنت ما يلي:
ويندي كوب: لا أريده. أنا شخصيا أراه منصبا عتيقا لا يعني أي شيء. هو ببساطة غير مهم. إنها فكرة إعلامية أن يكتب المرء قصائد للملكة. أندرو موشن نجح في أن يكتب قصائد للملكة دون أن يجعل من نفسه أضحوكة، ولكن حتى هو كان ينبغي أن لا يقبل المنصب.
فلور آدوك: بعيدا عن الأعمال الإضافية التي يقتضيها المنصب، الراتب ضئيل جدا. عمل كثير وشاق لقاء أجر زهيد. شاعر البلاط أمر جيد وتقليد مهم، طالما بقي بعيدا عني. لا يمكن أن أقبل المنصب، أنا أحب الحياة الهادئة، أفضل أن أضيع وقتي في زيارة أبنائي. ثم إنني حينما قررت أن أكون شاعرة، كانت كتابة الشعر مسألة شخصية لا عامة.
روث بادل: رأيي أن الشاعر الجيد ينبغي أن يرد بهذا: أنه ينبغي أن يبقى لشعره. غير أن هناك عوامل أخرى يمكن أن تكون ذات تأثير في القبول أو الرفض، كأهمية أن تقوم امرأة بتقلد هذا المنصب، ولكن ما يقلق هو أن المرء قد لا يقدر على كتابة ما يريد".
وهناك لافينيا جرينلو التي أبت أن تحدد موقفها فقالت للإندبندنت: لا أعرف، لم يعرض أحد المنصب عليَّ. ولكنني أرى من العار أن تكون المرأة مبعدة هكذا عن المنصب.
اثنتان إذن تخيبان سعي جارنر، وثالثة متذبذبة، ورابعة ملهوفة ولكنها تحفظ ماء وجهها. وتبقى كارول آن دوفي أقوى المرشحات في ظني وأضعفهن أيضا. هي الأقوى لأنها وسيمون آرميتاج أهم الأسماء في ساحة الشعر البريطاني اليوم، وأكثرها شعبية وحضورا في بريطانيا وخارجها. ولكن سيمون آرميتاج رجل، أما كارول آن دوفي فتعيش حياة تجعلها غير لائقة بالارتباط بالبلاط.
هي بداية مولودة في جلاسكو لأبوين من آيرلندا واستكتلندة، وهي شاعرة منفلتة في كتابتها التي تزخر بالكتابات الأيروتيكية (وذلك ما يجعل نشرها بالعربية صعبا للغاية)، وإلى الأيروتيكية تضيف كاورل آن دوفي قصائد سياسية أيضا تسخر فيها من شخصيات تواضع البريطانيون على احترامها احترام الرموز، وهي بعد ذلك كله منفلتة في حياتها على الصعيد الاجتماعي، حيث تعيش منذ عقود مع صديقة لها، وهي وإن كنت تشبه في هذا كاي رايت، إلا أن بريطانيا لا تشبه أمريكا.
كاي رايت شاعرة جيدة بالفعل، ولكن اختيارها لإمارة الشعراء الأمريكيين قد لا يكون إلا رسالة يؤكد بها الديمقراطيون ـ المسيطرون حاليا على الكونجرس ـ بعض مواقفهم الاجتماعية. وأتصور أن اختيارها سوف يمثل ضغطا كبيرا على البريطانيين عند اختيارهم شاعرا لبلاطهم الملكي، خاصة وقد حظي تقليدها إمارة الشعر الأمريكي باهتمام كبير في الصحافة البريطانية، حيث جدد الخبر الأحزان، وصب زيتا على النار التي تضرمها جارنر منذ شهور.
ثمة إثارة إذن يمكن أن نتابعها في عام 2009، وحتى ذلك الحين، يمكن أن نقنع بما لدينا من إثارة في منطقتنا العربية، بل ويمكن أن نكون أكثر إيجابية ونساهم في اختيار أمير للشعراء بإرسال المزيد من الرسائل النصية على الأرقام التي لا نحتاج طبعا من يذكرنا بها.
كلمة laureate مشتقة من الكلمة اللاتينية laureates وتعني "المتوج أو المكلل بالغار". أما تقليد إمارة الشعر فمأخوذ من تقليد روماني قديم كان يقضي بتكريم شخص (شاعر بالخصوص) لتحقيقه منجزا فائقا. وكانت علامة التكريم تتمثل في منح هذا الشخص إكليلا من أوراق الغار.
اللقب بالإنجليزية كما أسلفنا هو poet laureate، ومنير البعلبكي صاحب المورد يقترح لكلمة laureate (1) المكلل بالغار: الحائز على تقدير أو تشريف خاص لنبوغه في فن أو علم. وبخاصة شاعر البلاط الملكي. (2) مكلل بالغار. (3) ممتاز، وبخاصة من حيث الموهبة الشعرية.
ينتأ وسط هذه المعاني المقترحة اقتراحه "شاعر البلاط الملكي"، إذ يشير إلى اقتصار مرجعية البعلبكي على المملكة المتحدة وحدها. فهذه الترجمة إذن تصلح للإشارة إلى التقليد في بريطانيا، ولكنها لا تصلح في حالة الولايات المتحدة التي يرتبط الشاعر المتوج فيها بالبرلمان، بل بالمكتبة المنسوبة للبرلمان، لا ببلاط ما. كما لا يصلح أيضا للإشارة إلى أمراء الشعراء في الولايات والمدن الأمريكية (أحد الشعراء الأمريكيين سخر مرة من فكرة إمارة الشعر فأعلن نفسه "أمير شعراء شارعنا").
كل هذه التبريرات أسوقها للترجمة التي انتهيت إليها، وذلك كي لا يتكرر ما حدث معي منذ سنوات. كان د. أيمن بكر يقدمني لباحث أمريكي جاء إلى القاهرة. ولاحظت في تعريف أيمن اختزالا لـ "إنجازاتي" فبدأت أوضح له بالعربية طرفا منها، فكان من بين ما قلته إنني ترجمت شعرا لفلان الفلاني وهو أمير الشعراء الأمريكيين الآن. فبدا عليه استهجانه للقب، واستبعاده أن يكون لمثل هذا اللقب وجود في ثقافة أمريكا التي لم تعرف في تاريخها الملكية والإمارة. فبدأت أكلمه عن اللقب وحكيت له طرفا من تاريخه، وقلت له إن بعض المترجمين يؤثرون على "أمير الشعراء" ترجمة أخرى هي "الشاعر المتوج". فإذا كنت ترفض ترجمتي لعدم وجود إمارة في أمريكا، فإنني أرفض ترجمتهم لعدم وجود "تاج" هناك. بينما كان الباحث الأمريكي (الهدف المنشود من كل ذلك) مستغرقا في استيعاب الثقافة المصرية ممثلة في نرجيلة.
على أية حال، بعيدا عن الاختلافات في الترجمة، وبعيدا عن الأصل الروماني للقب أو التقليد، إمارة الشعر بدأت في المملكة المتحدة بإعلان القصر الملكي الشاعر جون درايدن شاعرا للبلاط عام 1668.
شاعر البلاط في بريطانيا هو الشاعر الرسمي للمملكة، يكلف بكتابة قصائد للبلاط وفي المناسبات الوطنية (من قبيل رأس السنة، أو حفلات الزفاف المكية). وشاعر البلاط ينال لقبه هذا مدى الحياة (أو هكذا كان الحال منذ عهد جون درايدن وحتى موت تيد هيوز سنة 1999، حينما غير توني بلير القاعدة في ذلك العام ليجعل مدة منصب شاعر البلاط محددة بعشر سنوات)، ويختاره الملك من بين قائمة من الشعراء المرشحين يرفعها رئيس الوزراء عند خلو المنصب بوفاة شاغله. ويجب ألا نغفل أن شاعر البلاط يحصل لقاء قيامه بهذه المهام على راتب هو عبارة عن ستمائة وثلاثين قنينة من الخمر الأسباني الفاخر.
بمهام كهذه، وأجر كهذا، يشق على المرء أن يعد الشاعر البريطاني "أميرا" ناهيكم عن أن يكون أميرا على "الشعراء". لذلك نؤثر في حالة المختارين من الشعراء البريطانيين أن نعتمد ترجمة البعلبكي ونعتبرهم شعراء البلاط.
أما في الولايات المتحدة، فالأمر مختلف. إذ إن أمير الشعراء في أمريكا ـ بحسب ما يرد على موقع مكتبة الكونجرس الإلكتروني ـ هو المستشار الشعري لمكتبة الكونجرس وهو حامي حمى النبض الشعري لدى الأمريكيين (الحقيقة أن الموقع يستخدم "مانع الصواعق" حيثما أستخدم أنا "حامي حمى"). وأمير الشعراء يعمل خلال فترة ولايته/ولايتها على زيادة وعي الأمريكيين وتذوقهم للشعر كتابة وقراءة.
"يقوم أمين مكتبة الكونجرس بتعيين أمير الشعراء لولاية تستمر من أكتوبر إلى مايو. ويعتمد أمين المكتبة عند تعيين الأمير على استشارة أمراء الشعراء السابقين، وأمير الشعراء الراهن، ونقاد الشعر المرموقين".
نشأ المنصب في الولايات المتحدة عام 1937 واستمر حتى عام 1986، وفي تلك الفترة كان شاغل المنصب يحمل لقب "المستشار الشعري لمكتبة الكونجرس" ثم زيد على لقبه "أمير الشعراء" بموجب قانون سنه الكونجرس في عام 1985 فأصبح اللقب هو "أمير الشعراء المستشار الشعري لمكتبة الكونجرس".
يتلقى أمير الشعراء في أمريكا راتبا سنويا مقداره خمسة وثلاثون ألف دولار يتم تدبيرها من خلال هبة قدمها آرتشر م. هنتنجتن. وفي مقابل ذلك، لا تطالب المكتبة أمير الشعراء بأكثر من إلقاء محاضرة سنوية وأمسية شعرية منفردة، كما أنه "عادة" ما يقوم بتقديم الشعراء في سلسلة الأمسيات الشعرية التي تقيمها المكتبة والتي تعد الأقدم في الولايات المتحدة حيث أنها مستمرة منذ أربعينيات القرن الماضي.
تقليل المكتبة للمهام الموكلة إلى أمير الشعراء يهدف كما يقول موقعها إلى منحه الوقت الكافي للاهتمام بمشاريعه الخاصة، سواء الكتابية، أو المشاريع التي يطلقها لتوسيع دائرة الشعر في أمريكا. وقد أثبتت هذه السياسة جدواها أحيانا، وفشلها مرارا.
أما عن النجاح، فيباهي موقع المكتبة بأن كل أمير للشعراء "يأتي بما يجدد التركيز المنصب على الشعر، فـ جوزف برودسكي (والبعض يترجمه إلى يوسف ويترك برودسكي مسكينا بلا ترجمة) جاء بفكرة تقديم الشعر في المطارات والمتاجر وغرف الفنادق." (كان يرى أنه إذا كانت إدارات الفنادق تضع في الغرف نسخا من الإنجيل فلم لا توضع دواوين أيضا؟) وماكسين كومين بدأت سلسلة من الورش الشعرية الشعبية المخصصة للنساء، وكانت هذه الورش تقام في مكتبة الكونجرس نفسها. والأفروأمريكية جويندلن بروكس كانت تلتقي بتلاميذ المدارس الابتدائية لتشجيعهم على كتابة الشعر. والأفروأمريكية أيضا ريتا دُف أتت بالكتاب ليكتشفوا تجربة الشتات الأفروأمريكية عبر عيون الفنانين الأمريكيين الأفارقة. وروبرت هاس نظم مؤتمر ووترشيد (المصب؟) حيث أتاح لروائيين وشعراء وقاصين فرصة تجميع رؤاهم عن الكتابة والطبيعة والمجتمع في بوتقة واحدة.
ونضيف إلى قائمة المشاريع التي يوردها موقع المكتبة مشاريع أخرى. فالشاعر بيلي كولينز تبنى مشروعا أطلق عليه اسم "شعر 180" ولا يزال مشروعه مستمرا إلى الآن بعد سنوات من انتهاء ولاية كولينز حيث لا يزال الطلبة الأمريكيون يستمعون في صباح كل يوم دراسي إلى قصيدة أمريكية معاصرة. والشاعر تد كوزر تبنى مشروع "الحياة الأمريكية شعرا" وهو أيضا مشروع مستمر إلى الآن، حيث يقدم كوزر في عشرات الصحف الأمريكية عمودا أسبوعيا يحتوي قصيدة يعتبرها "أمريكية المضمون" لأحد الشعراء الأمريكيين مع قراءة موجزة لها. ودونالد هول أقام سلسلة من الأمسيات الشعرية العابرة للأطلنطي جمع فيها بين الشعراء الأمريكيين والبريطانيين.
ويبقى أن هذا هو الاستثناء. فالأغلبية بين الأمراء استطابوا التفرغ لشئونهم. تشارلز سيميك مثلا قال حينما سأله بعضهم في العام الماضي عن طبيعة المشروع الذي سيتبناه: "لا شيء، سأبقى كما أنا في البيت وأكتب الشعر" (برغم أنه لا يكاد يبقى في بيته، فهو من أكثر الشعراء تنقلا في أمريكا للتدريس وإلقاء الشعر). ومثله كثيرون، آخرهم كاي رايت التي اختيرت مؤخرا أميرة لشعراء الولايات المتحدة. فقد سألتها صحيفتا نيويورك تايمز وواشنطن بوست هذا السؤال المعتاد، فقالت للأولى "إنني أريد أن أحتفي بمكتبة الكونجرس، لذلك ربما أصدر بطاقات عضوية فيها لكل الناس". وقالت للثانية "أظن أنني سآخذ على عاتقي أثناء فترة ولايتي مهمة منع الشعر الرديء من النشر". وبوضع الإجابتين هكذا متجاورتين، أتصور أن كاي ريان ستبقى كما هي في البيت وتكتب الشعر، وهذا في رأيي أفضل ما يفعله شاعر لنفسه.
كل هذا الحكايات و"الطرائف" أثارها إعلان كاي ريان أميرة لشعراء أمريكا.
لعل النفع الوحيد من هذا اللقب، ومن الجوائز الشعرية العديدة (بوليتزر، وليلي روث، وجوائز حلقة النقاد) هي أنها تمثل دليلا للتائه في بحر الشعر الأمريكي.
في برنامجه الشهير (الذي نسيت اسمه) على القناة الثانية بالتليفزيون المصري، استضاف الشاعر فاروق شوشة منذ سنوات بعيدة الكاتب والمترجم الكبير د. محمد عناني فكان من بين ما قاله، فعلق في الذاكرة إلى اليوم، إن في الولايات المتحدة الآن ما لا يقل عن خمسين ألف شاعر على قيد الحياة.
كان ذلك في بداية التسعينيات على الأرجح. وهذا الرقم ـ أي الخمسون ألفا ـ وإن بدا رقما مفزعا، إلا أنه لا يشكل في ظني أي قدر من المبالغة، فنحن حين نتحدث عن الولايات المتحدة ننسى أننا نتحدث عن أكثر من خمسين دولة يضمها اتحاد واحد. فلو جاءنا اليوم من يقول بأن في أمريكا من الشعراء الأحياء ضعف هذا الرقم لما حق لنا أن نندهش. ويكفي أن يجرب أي منا أن يبحث عبر جوجل عن الشعراء الأفرو أمريكيين، أو الأمريكيين الأيرلنديين، أو الأمريكيين اللاتينيين أو حتى الأمريكيين العرب. وسيجد من يفعل ذلك نفسه في تيه رائع (والرائع تعني المخيف أصلا). ووسط هذا الزخم، تصبح مهمة المترجم شاقة إلى أبعد الحدود.
ويبقى من المؤكد أن الجوائز ومظاهر التكريم المختلفة لا تصادف مستحقيها طول الوقت. ويبقى أنها تخطئ مستحقيها كثيرا. ويبقى أنني شخصيا ترجمت كتابا لبيلي كولينز، ضمنته نحو ثلاثين قصيدة اخترتها من بضع دواوين له. وكان ما قادني إليه إعلان لويز جليك أميرة للشعراء الأمريكيين.
فالتغطيات الصحفية لذلك الحدث أبدت إشفاقا كبيرا على جليك لخلافتها شاعرا له جماهيرية بيلي كولينز الذي تقلد إمارة الشعر دورتين متتاليتين، وهو أمر نادر الحدوث. بدأت أبحث عن شعر كولينز، ولم يخيب جوجل رجائي، فإذا بي أمام عشرات القصائد. وبدأت أترجم، ثم قررت التوقف عندما أكملت إحدى وثلاثين قصيدة برغم أن بيلي كولينز نفسه كان لا يزال يشجعني على ترجمة المزيد. وحين سألني أحد أصدقائي ـ وقد أعجبته القصائد ـ عن سر اكتفائي بهذا العدد، قلت له إني لست مستعدا لترجمة القصيدة نفسها أكثر من إحدى وثلاثين مرة. فبرغم أن كولينز شاعر جميل وبرغم أن قصائده جميعا تحقق قدرا كافيا من الجمال، إلا أنه نمطي إلى حد لم أستطع احتماله.
ولا أخفيكم أن كثيرا من الشعراء الأمريكيين احتجوا على تعيينه أميرا عليهم، ورشحوا بدلا منه شاعرا ميتا!!
ورجوعا إلى بريطانيا، ففيها في الآونة الأخيرة نوع من الإثارة يحيط بالمنصب الذي اتفقنا أنه "شاعر البلاط" لا "أمير الشعراء".
في مايو ويونيو الماضيين، اهتمت صحيفة الإندبندنت برسالة طريفة. ففي الثاني والعشرين من مايو كتبت عارفة أكبر مراسلة الصحيفة الفنيةُ تقول:
"منذ أن توج القصر الملكي جون درايدن شاعرا للبلاط في عام 1668، لم يحظ بهذا الشرف إلا الرجال، ابتداء بوليم ووردذويرث وحتى تيد هيوز (ولا أعرف لم لم تقل حتى آندرو موشن شاعر البلاط الحالي وخليفة هيوز). ولم تتقلد المنصب امرأة قط".
وتواصل عارفة أكبر قائلة إن منظمي أهم المهرجانات الشعرية في بريطانيا، ارتأوا أن انتظار تتويج شاعرة قد طال بما فيه الكفاية. فوجهت كلوي جارنر مديرة مهرجان ليدبري الشعري نداء حماسيا مطالبة بتعيين شاعرة للبلاط إصلاحا للخل المتمثل في تعاقب اثنين وعشرين شاعرا ذكرا على المنصب. وكتبت جارنر رسالة وجهتها إلى الملكة، وجوردن براون رئيس الوزراء، وديفيد كاميرون رئيس حزب المحافظين، وآندي بورنام السكرتيرة الثقافية، أشارت فيها إلى أنه لا يوجد في القواعد ما يمنع تعيين النساء في المنصب، وأن هناك شواعر مذهلات تنتمين إلى جميع الأجيال وهن يعشن ويكتبن في بريطانيا اليوم.
وقالت إنه برغم وجود شاعرات تماثلن في الأهمية أقرانهن من الشعراء، إلا أنهن تعرضن دوما للتجاهل، ودللت على ذلك بأسماء من بينها سيلفيا بلاث، زوجة تيد هيوز. وجرفتها الحماسة فقالت إن الشاعرات منذ سافو شاعرة الإغريق يمارسن الشعر، ويتعرضن للغبن، وإن في بريطانيا شاعرات عملاقات، وإذا كان من النساء في تاريخ بريطانيا ملكة، ورئيسة للوزراء، فلم لا تكون منهن شاعرة للبلاط.
كانت هذه الرسالة بداية حملة أعلنت عنها جارنر استباقا لخلو المنصب في العام القادم، وقد رد عليها متحدث باسم رئيس الوزراء قائلا إن "رئيس الوزراء ممتن لملاحظاتك التي ستؤخذ بعين الاعتبار في الوقت المناسب".
بالتأكيد سافو شاعرة كبيرة. وكذلك سيلفيا بلاث، ونضيف على من ذكرتهن جارنر إميلي ديكنسن الأمريكية وفسوافا شمبورسكا البولندية. ولكن، من أيضا؟ هناك أخريات بالتأكيد. وهن قليلات بالتأكيد أيضا، مقارنةً مع الشعراء العظام. ولكن من قال إن أمراء الشعراء أو شعراء البلاط هم دائما من عظماء الشعراء.
المشكلة في بريطانيا لا علاقة لها بالقيمة الشعرية الجمالية لمنجز الشاعر. وهي تقريبا كذلك في الولايات المتحدة وإن بصورة أخف. فأمين المكتبة يراعي أن يكون اختيار الشاعر رسالة يقول من خلالها مثلا: ها نحن نمنحها لامرأة، أو لأمريكي أسود، أو لمثلية، أو لمهاجر متجنس. وتختلف الرسالة في بريطانيا لاختلاف درجة انفتاح المجتمع، ولاختلاف طبيعته، ولكن يبقى أن تقليد المنصب يوجه رسالة.
ورجوعا إلى المواقف والطرائف، رشحت جارنر في حملتها بضع شاعرات تعتبرهن جديرات بالمنصب: كارول آن دوفي، وويندي كوب، ولافينيا جرينلو، وفلور آدوك، وروث بادل.
ثلاثة من هذه الأسماء قالت للإندبندنت ما يلي:
ويندي كوب: لا أريده. أنا شخصيا أراه منصبا عتيقا لا يعني أي شيء. هو ببساطة غير مهم. إنها فكرة إعلامية أن يكتب المرء قصائد للملكة. أندرو موشن نجح في أن يكتب قصائد للملكة دون أن يجعل من نفسه أضحوكة، ولكن حتى هو كان ينبغي أن لا يقبل المنصب.
فلور آدوك: بعيدا عن الأعمال الإضافية التي يقتضيها المنصب، الراتب ضئيل جدا. عمل كثير وشاق لقاء أجر زهيد. شاعر البلاط أمر جيد وتقليد مهم، طالما بقي بعيدا عني. لا يمكن أن أقبل المنصب، أنا أحب الحياة الهادئة، أفضل أن أضيع وقتي في زيارة أبنائي. ثم إنني حينما قررت أن أكون شاعرة، كانت كتابة الشعر مسألة شخصية لا عامة.
روث بادل: رأيي أن الشاعر الجيد ينبغي أن يرد بهذا: أنه ينبغي أن يبقى لشعره. غير أن هناك عوامل أخرى يمكن أن تكون ذات تأثير في القبول أو الرفض، كأهمية أن تقوم امرأة بتقلد هذا المنصب، ولكن ما يقلق هو أن المرء قد لا يقدر على كتابة ما يريد".
وهناك لافينيا جرينلو التي أبت أن تحدد موقفها فقالت للإندبندنت: لا أعرف، لم يعرض أحد المنصب عليَّ. ولكنني أرى من العار أن تكون المرأة مبعدة هكذا عن المنصب.
اثنتان إذن تخيبان سعي جارنر، وثالثة متذبذبة، ورابعة ملهوفة ولكنها تحفظ ماء وجهها. وتبقى كارول آن دوفي أقوى المرشحات في ظني وأضعفهن أيضا. هي الأقوى لأنها وسيمون آرميتاج أهم الأسماء في ساحة الشعر البريطاني اليوم، وأكثرها شعبية وحضورا في بريطانيا وخارجها. ولكن سيمون آرميتاج رجل، أما كارول آن دوفي فتعيش حياة تجعلها غير لائقة بالارتباط بالبلاط.
هي بداية مولودة في جلاسكو لأبوين من آيرلندا واستكتلندة، وهي شاعرة منفلتة في كتابتها التي تزخر بالكتابات الأيروتيكية (وذلك ما يجعل نشرها بالعربية صعبا للغاية)، وإلى الأيروتيكية تضيف كاورل آن دوفي قصائد سياسية أيضا تسخر فيها من شخصيات تواضع البريطانيون على احترامها احترام الرموز، وهي بعد ذلك كله منفلتة في حياتها على الصعيد الاجتماعي، حيث تعيش منذ عقود مع صديقة لها، وهي وإن كنت تشبه في هذا كاي رايت، إلا أن بريطانيا لا تشبه أمريكا.
كاي رايت شاعرة جيدة بالفعل، ولكن اختيارها لإمارة الشعراء الأمريكيين قد لا يكون إلا رسالة يؤكد بها الديمقراطيون ـ المسيطرون حاليا على الكونجرس ـ بعض مواقفهم الاجتماعية. وأتصور أن اختيارها سوف يمثل ضغطا كبيرا على البريطانيين عند اختيارهم شاعرا لبلاطهم الملكي، خاصة وقد حظي تقليدها إمارة الشعر الأمريكي باهتمام كبير في الصحافة البريطانية، حيث جدد الخبر الأحزان، وصب زيتا على النار التي تضرمها جارنر منذ شهور.
ثمة إثارة إذن يمكن أن نتابعها في عام 2009، وحتى ذلك الحين، يمكن أن نقنع بما لدينا من إثارة في منطقتنا العربية، بل ويمكن أن نكون أكثر إيجابية ونساهم في اختيار أمير للشعراء بإرسال المزيد من الرسائل النصية على الأرقام التي لا نحتاج طبعا من يذكرنا بها.
عن ملحق شرفات ـ
جريدة عمان ـ يوليو 2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق