الأربعاء، 27 أكتوبر 2021

عبد الرزاق قرنح ... قمر الضحى

قمر الضحى

عبدالرزاق قرنح



سمعت للمرة الأولى عن الخريطة من أحد أساتذتي. لم تكن تلك من المعلومات التي يفترض أن يلقننا إياها، لكنني أظن أنه كان يشعر بالضجر أحيانا مما يتحتم عليه أن يفعله، فينجرف في بعض الأحيان إلى مواضيع غير متوقعة. لم يكن معلمنا الدائم، برغم أنه كان معلما في مدرسة ابتدائية في البلدة وكانت له سمعة بأنه مثقف. كان اسمه مَعَلِّم حسن عبدالله، وكان قد انتقل حديثا لسكنى بيت مجاور لنا استأجر طابقه السفلي من جارينا، عم عبدالرحمان والست فاطمة. كنا نناديهما بعمي وخالتي بوازع من الاحترام. لم يكن لديهما أطفال، وكانا يقيمان في الطابقين العلويين من البيت فلم يلزمهما الطابق الأرضي. وكان عم عبدالرحمن معلما هو الآخر، ولكنه معلم أهم كثيرا. فقد كان يدرِّس في المدرسة الثانوية، حيث يجري التدريس كله بالإنجليزية، وكان قد درَس في كلية جامعة مكيريري في كمبالا. في ذلك الوقت، كان أغلب المعلمين في المدارس الثانوية أوربيين فكان لعم عبدالرحمن ما يشبه السحر من مطاولته أولئك الأسطوريين كتفا بكتف. لا بد أنه ومعلم حسن كانا يعرفان أحدهما الآخر من قبل، أو لعلهما درسا معا وهما صغيران.

كانت أمي هي التي اقترحت أن نذهب إلى معلم حسن. لم تكن من حاجة واضحة إلى درس خصوصي. فلم تكن حصص ضاعت علينا، أو تخلفنا، مثلما كان يحدث أحيانا حينما يصاحب التلاميذ آباءهم لزيارة أقارب أو حينما يمرضون. فكان يبدو حينذاك أن الأولاد لم يمرضوا لأيام قليلة، بل لشهور، وحين يرجعون إلى المدرسة يكونون متخلفين كثيرا عن الجميع، أو الجميع فيما عدا ذوي الرؤوس الصلبة الرافضين لتعلم أي شيء معتبرين ذلك شرفا وسمعة. ولا كان آباؤنا قد وقعوا على المطامح المهنية المرهقة لنا بما تستوجبه من دراسة إضافية، كما كان حال تلاميذ المدرسة الهنود الذين دأب آباؤهم على إرسالهم إلى دروس خصوصية منذ بواكير أعمارهم بعدما انتهوا إلى أنهم سوف يصبحون أطباء أو محامين أو عباقرة في الرياضيات.

ما كان ليخطر لأبويّ أن يتخيلا هذه الأمجاد لنا، ولا أتصور سببا أيضا كان يدعوهما إلى القلق على أدائنا الدراسي. فقد كان أخي الصغير (حاجي) ينجح في المدرسة بلا جهد يبذله، أو أن معلميه على الأقل كانوا يحبونه ويثنون عليه، وكان له كثير من الأصدقاء. كان يعقبني بعام، وبدلا من أن يتعرض لغطرسة المعلمين وأمرهم له بالاقتداء بي في الجد والاجتهاد، كنت أنا الذي يحثه المعلمون على التعلم منه وإظهار نزر من الذكاء. لقد كنت الكادح المجتهد الذي ينبغي شرح كل شيء له، والمتردد الشاكّ قبل كل وثبة. وأحيانا كانا الناس يسألون أينا الأكبر سنا.

أما عن أختنا رندة، فكانت قد التحقت بالمدرسة للتو، لكنها حينما سمعت أننا ذاهبان إلى بيت الست فاطمة لحضور درس خصوصي طالبت بالانضمام إلينا. فقد كانت الست فاطمة خالتها المفضلة التي أشبعتها تدليلا منذ أن كانت طفلة رضيعة.

لا أعرف ماذا كان رأي أبي في دروس العصر تلك. قال لي غير مرة إن عليَّ أن أبقي عيني مفتوحتين، وأن أكون أشد انتباها، وأحرص على نفسي. كان ذلك جزءا من الموشح المرهق الذي تحتم عليّ احتماله في المدرسة. كان يقول لي لا بد أن تكون أكثر انتباها للعالم. لكنه لم يتوقع من المعلم حسن أن يعلمني ذلك. وعلى أي حال لم أفكر في أسباب بعثنا إلى معلم حسن. خمنت أنها بدت لأمي فكرة جيدة، تظهر من خلالها عنايتها الأمومية بتعلمينا. وأبي لم يكن يماثلها دائما في حماستها بل لقد كان يشكو في بعض الأحيان من تفاهة بعض المعارف التي نرجع بها من المدرسة. فبماذا ينتفع أي امرئ بمعرفة أغنيات الإطفال الإنجليزية أو بالإنصات إلى التفاخر بمغامرات الجشعين؟ أما أمي فقد كانت المدرسة بالنسبة إليها هي المعرفة، برغم أنها هي الأخرى كانت لها أفكارها الخاصة عن النافع وغير النافع. فالإنجليزية والحساب نافعان، ما دام النجاح فيهما يؤهلنا للتقدم إلى المدرسة الثانوية. على أي حال، كان المعلم يعيش في بيت الجيران ويقال إنه قرأ من الكتب أكثر مما قرأ أي أحد في البلد، وكان لديه وقت فائض.

كنت أعرف معلم حسن قبل أن يصبح معلما لنا. لم يكن قد تكلم معي قط، لكن لو كان غريب سألني من ذلك الرجل لكنت ذكرت اسمه بلا تردد. كنت أعرف أيضا أنه يعزف على العود في فرقة أحيانا. ففي عام من الأعوام اشترى لنا أبي تذاكر لحضور حفلة عيد، ولم يذهب هو شخصيا إذ كانت الموسيقى عموما تتسبب له في الصداع، وأحسب أنه كان يرى الوجعي الغرامي في أغنيات الطربtarab  أمرا محرجا. كان معلم حسن ضمن الفرقة في تلك الليلة، وشأن بقية الموسيقيين، كان يرتدي سترة سوداء وربطة عنق فراشة، وهو زيٌّ ما كان أحد يرتديه في أي وقت آخر. كان محاكاة للفرق الموسيقية المصرية التي دأبت على الارتداء بتلك الطريقة تعبيرا عن حداثتها، والتي كان لها أثر هائل على الطرب سواء من ناحية الموسيقى أو الزي.

كانت في المعلم حسن صرامة. كان منغلقا ومرتابا، ويتكلم بصوت فيه حدة، ويمسك نفسه بطريقة ما عن الإساءة للآخرين. وكان يسير مطأطئ الرأس، ناظرا إلى أسفل، لا يحيي الناس إلا بتحية مقتضبة بل متوترة. وكان في هذا مغايرا لأغلب رجال حيِّنا الذين لا يكفون عن تحية بعضهم بعضا، فيعبرون الشارع أو يترجلون عن الدراجات للمصافحة، ويتكلمون ويضحكون فتعلو أصواتهم في الشوارع. وكانوا يجلسون في المقاهي في أواخر العصر وبدايات المساء، يتكلمون ويتناقشون وينمّون ويعرفون أخبار الدنيا. ففي ساعات الطراوة من النهار كان الرجال يعيشون في الشوارع بقدر ما يعيشون في بيوتهم. ولذلك السبب كان يحسن اجتناب بعض الشوارع. لم يكن معلم حسن يصخب في حديث أو يسرف في ضحك شأن بقية الرجال. ولا كان أبي يفعل، إذ كان يرى في تلك الوقاحة هوانا، فلم يكن يرفع صوته على أحد أو في أي أمر من الأمور. لكنه لم يحب شيئا مثلما أحب العروج على المقاهي لقضاء ساعات من الحديث في السياسة، أما معلم حسن فلم يكن يقضي فيها غير دقائق يحتسي فيها قهوته ثم يمضي إلى حال سبيله.

الآن فقط، إذ أرجع بأفكاري إليه محاولا وصفه، أستعيد تلك التفاصيل. لم أكد أنتبه إلى انتقاله لسكنى غرف البيت المجاور لنا. فقد كان الرجال يفعلون ذلك، يستأجرون غرفة سفلية ويعيشون فيها منفردين بأنفسهم. لعلهم كانوا يعملون في البلدة بينما تقيم عائلاتهم في الريف. وربما لم يكن في بيت العائلة متسع، لوجود كثير من الإخوة والأخوات، والعمات وأبناء العمومة، فيغص الهواء بالمشاحنات والمشاجرات. أو لعلهم كانوا يعيشون بمفردهم لأسباب معقدة، أو ليتنفسوا بمزيد من الحرية، أو بحثا عن أسلوب حياة يروق لهم.

أتصور أن تعليمات صدرت لأبي ليتولى أمر التفاصيل ويدفع ما اتفق عليه مع أبوي. ولعل ذلك الأمر أثار الشجار المعتاد. فقد كانت أمي شهيرة بلينها. فكان  الجيران والأقارب يستدرون دموعها بقصص شقائهم، فتعطيهم ما لم يكن ينبغي أن تعطيهم أو ما لا تقوى على إعطائه: أفضل ثوب كانجا عندها، أو حليها، أو عشاءنا. وكان رد فعل أبي يتراوح بين الغضب والضحك دون تصديق، لكن أمي لم تكن تملك ألا تفعل ذلك. ولم يخطر لي في حينه، لكنني لاحقا بدأت أتساءل إن كانت الغاية من تلك الدروس الخصوصية هي مصلحة معلم حسن بقدر ما هي مصلحتنا نحن الأطفال. على أي حال توجهنا في عصر أحد الأيام لحضور تلك الحصص.

كانت الغرفة التي يدرِّس لنا فيها معلم حسن في مقدمة البيت. ولها شباكان عليهما قضبان حديدية ويمتدان من الأرض إلى السقف. أحدهما في المقدمة والآخر في الجنب، وكانت الضلف الخشبية في كليهما تفتح باتساعها فيفيض على الغرفة نور العصر. وكان أثاثها أربعة كراسي صلبة بجوار الجدار ومكتبا صغيرا بجوار الشباك الجانبي رأينا معلم حسن جالسا إليه عندما وصلنا. بدت الغرفة أشبه بمكتب حكومي منها بصالة بيت، متقشفة بسيطة، وأرضيتها الخرسانية عارية، بلا حصيرة أو سجادة. وكان عوده معلقا على مشجب في الجدار.

كنت أحب رهبة مقابلة المعلمين الجدد مع انتقالنا في المدرسة من صف دراسي إلى التالي. ولكن عيني معلم حسن المنخفضتين وشاربه المحفوف كانا يضفيان عليه سمت الحزن والتخويف في الوقت نفسه، فخلعت صندلي على عتبة غرفته لحضور الحصة الأولى بينما ينتابني إحساس طاغ. كنا قد طولبنا بالمجيء ومعنا كتب التمارين المدرسية، فنظر معلم حسن إلى هذه الكتب بسرعة ونحن جالسون في أركان منفصلة من الغرفة التي أدخلنا إليها. ثم إنه حدَّد لكل منا تمارين مختلفة وقضى وقتا مع كل واحد فينا وهو يكافح في تمارينه. ولما تكلم، بدا صوته أجش مهزوزا كمن لم يستعمله لفترة. لم يكلم أحدنا الباقيين، ولا تبادلنا النظرات تقريبا. واستمر هذا الأداء المتوتر ثلاث حصص ـ وكنا نقصده مرتين في الأسبوع ـ وفي الرابعة، وصلنا لنجد ضلف الشبابيك السفلية مواربة للوقاية دون نور العصر. ووجدنا أيضا بساطا صوفيا وراء الباب فلعل النور الشديد والأرض الجرداء كانا مقصودين تحسبا للعبث، فلما تبين أننا مطيعون ومرعوبون تمام الرعب، سمح معلمنا بشيء من تلطيف الأجواء.

كانت أختي رندة قد انسحبت، باكية شاكية شقاءها بحس مأساوي عثرت عليه دونما قصد وما كان بوسع أمي أن تقاومها. لم تلجأ لتلك المأساوية قط مع أبي الذي كانت تأسره بعشق منها له يقابله عشق منه لها، لكنها كانت تعلم أن أمي لا تملك أن تقاوم دموعها وغضباتها. كنت أتساءل حتى في ذلك الوقت كيف ستعالج رندة الحزن حين يحل عليها في قابل حياتها، أم أنها ستكون قد تلاعبت به طويلا فلا يبدو لها عند حلوله إلا تفاهة. في عصر ذلك اليوم مضت في طريقها وقد سمح لها بالتوقف عن حضور الدروس الإضافية التي لم تكن لها على أي حال إلا عبثا، ولم تكن رندة تحتمل الحرمان من أي شيء.

بعد مرور وقت في حصة العصر، قرر معلم حسن أن يختبرنا في التهجِّي. وكنت أحب هذه الاختبارات لا لأنني كنت ماهرا فيها للغاية، ولكن لاستغراقها وقتا طويلا، ولحبي لدراما تبادل كتب التمارين وتصحيح عمل شخص آخر. كان حاجي ماهرا جدا في اختبارات التهجي، لكن هزَمَته، مثلا هزَمَتني، إحدى الكلمات التي امتحننا بها المعلم حسن في ذلك اليوم. تبين أنها Constantinople [القسطنطينية]. ابتسم معلمنا لجهلنا وقال، اسطنبول. كان يطلق عليها القسطنطينية قبل أن تصبح اسطنبول. جعلنا نكتب الكلمة على النحو الصحيح ونرددها بصوت عال مرات قليلة. حكى لنا أن المدينة سميت باسم امبراطور روماني عظيم، وإن الاسم يعني مدينة قسطنطين، ثم حكى لنا عن سقوط المدينة سنة 1453، وكيف قاوم المدافعون ببسالة، ولفترة طويلة، وكيف منعوا البحرية العثماية من دخول البسفور بإقامتهم سدا على مدخله، وكيف نقل السلطان محمد الفاتح سفنه برا بجرها على جذوع مدهونة بالزيت إلى البحر الأسود فاستطاع أن يستولي على المدينة من الخلف. حكى لنا معلمنا عن سقوط المدينة بوصفه نصرا ومأساة في آن واحد. وبعد ذلك صرنا نحضر كل حصة على أمل أن يضجر معلم حسن من الإنجليزية والحساب فينسل بنا إلى أحد عوالمه الحلمية المستنيرة.

لم يحك قصصه بالكثرة الكافية لأخي حاجي الذي بدأ يتغيب عن الحصص بعد أسابيع قليلة، لكن لا هو حكى لأمي ولا أنا حكيت. وكان معلم حسن يسأل عنه فأكذب عليه أي كذبة تبدو متماسكة. وكان يبدو عليه الارتياح لوجودنا نحن الاثنين فقط، فيكون أقل عبوسا، ويجلس إلى مكتبه ليقرأ بينما أنهمك أنا في أي واجب يكلفني به. وفي بعض الأحيان كان يتدرب على العود، لكنه يتوقف فور أن أبدي اهتماما، فتعلمت أن أطأطئ رأسي وأتظاهر بعدم الانتباه. كان الاستماع إليه وهو يعزف مبهجا بينما أنا متراخ في تنفيذ التكليف الرتيب الذي عهد به إليّ. كان يحتفظ بكتبه الشهيرة في غرفته الأخرى، لكن كان على مكتبه دائما كتاب في تلك الحصص، تحسبا للحظات تتوافر له للقراءة. كان يبتسم أكثر، ابتسامات حذرة مترددة يتبدل بها وجهه. وكان يخاطبني باسمي ويطرح عليّ أسئلة عن نفسي. أي رياضة ألعب؟ قال لي إنه في ما سبق كان سباحا متحمسا، لكن ذلك في صغره. ومنحني واحدة من ابتساماته حينما حكيت له عن مدى استمتاعي بالذهاب إلى المدرسة.

مع اعتيادي المعلم حسن وتخففه قليلا من صرامته معي، تعلمت كيف أستل منه قصصه البسيطة. كان البحر دائم الحضور في قصصه. ومن خلال ذلك حكى لي ذات يوم عن الخريطة. كنت قد لاحظت في أول يوم دخلنا فيه غرفته مطبوعة مؤطرة بالبني والذهبي على جداره. ولم يكن من زينة في غرفته الجرداء الحارة إلا تلك المطبوعة وصورة فوتغرافية لما بدا أشبه بتخرج دفعة دراسية. لفترة طويلة لم أستطع أن أتبين ما معنى مخطط الانتفاخات والأعلام ذلك. لقد كان عالمنا حافلا بصور كلها تقريبا مفهوم بدرجة ما وبرغم أنني لم أكن أعرفها على وجه اليقين فقد خمنت أن أغلبها يتعلق بإله هذا الشخص أو ذاك. ففي حانوت الخياط صورة رجل بدين له رأس فيل. وثمة نصوص بالأردو معلقة في أطر بدكان الحلاق، وصور نجوم وأقمار في أشكالها المتورمة المتنوعة. ومتجر الكتب الدينية كانت فيه صور لحصان مجنَّح وأخرى لسيوف منحنية متصالبة. وكانت التقاويم تعرض صورة امرأة ذات ثماني أذرع، ورجل ضخم اللحية، وبنايات هائلة وكلمات وأرقام بمختلف الأبجديات. فلم يكن لمطبوعة ذات نتوءات بنية وذهبية أن تثير القلق. خطر لي أنه في يوم من الأيام سوف يحكي لي عنها. وفي عصر يوم حار من أكتوبر، وسط الانهماك في فقرة كلفني بها، فتبين أنها مهمة لا تطاق، وجَّهته إليها. حملقت في المطبوعة في استغراق تام، مميلا رأسي إلى الجنب، ثم إلى الجنب الآخر، عسى أن أتبين معناها. وعلمت أنه كان يرقبني، فرجوت ألا يقاوم إخباري بأمرها.

سألني "أتعرف ما هذه؟"

كنت في ذلك الحين أحضر حصصه وحدي منذ بضعة أسابيع، فباتت تتاح لي بعض الحريات الصغيرة. نهضت واقتربت أكثر من الجدار. تمهلت أمام المطبوعة، ثم رأيت فجأة أنها خريطة أولية للعالم مقلوبة رأسا على عقب. وكان شكل أفريقيا هو الذي ألهمني الإجابة. قلت "خريطة. لماذا هي مقلوبة رأسا على عقب؟"

ابتسم سعيدا بفضولي. وقال "بتلك الطريقة كانوا يرسمون الخرائط في ذلك الوقت. لا أعرف السبب". كان رسام الخريطة يدعى فرا ماورو، وهو راهب عاش في جزيرة صغيرة في خليج فينسيا، ورسم خريطة للعالم دون أن يتحرك قيد أنملة من موضعه. لم أكن سمعت بفينسيا في ذلك الوقت ولا أعرف ما البحيرة، ولا أدرك ما الراهب. وقلت ذلك كله لمعلم حست فأرجع رأسه إلى الوراء لوهلة، مبتسما أمام ذلك الجهل المطبق. ثم حكى لي عن فينسيا وجزيرة مورانو التي عاش فيها فرا ماورو. تكلم عنهما وكأنهما مكانان عرفهما. أنصت كان فرا ماورو إلى ما حكاه المسافرون، ونظر في ما توافر له من مصادر، ثم أنتج خريطة للعالم كانت أدق من أي خريطة قبلها. خطر لي أنه لا بد أن يكون بفرا ماورو شبه قليل بمعلم حسن نفسه، برغم أن معلمي ما كان ليعرف كيف ينتج خريطة للعالم. لكنه شأن الراهب، كان شخصا يعيش في خياله، ويسافر في عقله. فقد كنت أعلم علم اليقين أن معلم حسن لم ير فينسيا قط. ولو فعل لعرفنا جميعا. ودعكم من فينسيا، لقد كنت لأندهش لو كان خرج من أُنجوجا. كان الناس يأتون علينا ويذهبون، ويسهل التعرف على المسافرين من ثقتهم في أنفسهم، واختيالهم الجلي، وحديثهم. وكان يسهل على المرء بالمثل أن يعرف من الذين لم يذهبوا قط إلى أي مكان، ومن أولئك كان معلم حسن، حتى لو كان كثير جدا من قصصه عن البحار.

في المرة التالية التي كلمني فيها عن الخريطة، حكى لي عن الأعلام الصغيرة فيها، والحاوية معلومات من مصادر كثيرة عن أماكن نائية. قال إنه لا يمكن قراءتها في تلك النسخة بسبب ضآلة حجم الخط، فضلا عن أن الكتابة عموما كانت باللاتينية التي لم يكن يجيد القراءة بها. تم تدارك تفسه وتذكر سبب وجودي هناك فأرجعني إلى تمرين القسمة الطويل الذي قاطعه.

لكنه لم يملك إلا أن يرجع إلى الخريطة، ففي المرة الثالثة التي كلمني فيها، حكى لي عن المكتوب في أحد الأعلام الصغيرة. كان عن سفينة رمت بها عاصفة إلى بحر الظلمات، حسب تسمية العرب للمحيط الأطلنطي. في صباح اليوم الذي أبحرت فيه من المكلا إلى الساحل الأسود، رأوا قمر الضحى شاحبا في السماء. كان على متن السفينة ركاب، نساء ذاهبات إلى أزواجهن الذين سبقوهن إلى هناك ورجال ساعون إلى نصيب من كعكة تلك الأرض الخضراء. قالت امرأة إن القمر الشاحب ذلك نذير شر. وقالت إن الجميع يعلمون بأس النذر، وإن الحكيم من انتبه. فلا تهملوا عمل ما لا بد من عمله. صاح فيها من سمعوا تلك الكلمات يطالبونها بالصمت، لكي لا تجلب عليهم النحس. ولكن بعد فوات الأوان وحضور النذير. بعد أيام قليلة في عرض اليم، عصفت بهم الريح فأبعدتهم بعيدا ولم يعد بوسهعم الرجوع إلى البر. كل ما كان بوسعهم هو التوغل إبحارا نحو الجنوب، راجين أن تتبدل الرياح وتتيح لهم الانعطاف إلى الغرب. ولما انعطفوا فعلا، أدركوا أنهم تجاوزوا كل البر، ونأوا إلى ما وراء رأس أفريقيا. ولم يكن أحد يعرف يقينا في تلك الأيام أن لأفريقيا رأسا. تخلى عنهم الحظ فلم يروا لأربعين يوما من شيء عدا الماء والهواء. وفقا لحسابات النهوذا [nahodha أي القبطان في السواحيلية] كانوا قد قطعوا ألفي ميل جهة الغرب، وباتوا على يقين من الدمار. ولما اعتدل الجو وخفت حدته، أداروا السفينة وبدأوا الرجوع في سبعين يوما. حملتهم التيارات الباردة ودفعتهم بمحاذاة سواحل عاصفة، إلى أن جرفتهم معجزة فإذا بهم وسط أرخبيل هائل في وسط المحيط. امتلأ الأفق كله بتلك الأرض. وفي ذلك الوقت لم يكن باقيا على متن السفينة حيا إلا خمس، والبقية ماتوا جوعا وعطشا ومرضا بمشيئة الله. ومن الناجين المرأة التي رأت في قمر الضحى نذير شر. أصابها الجنون خلال الرحلة، أو لعلها اصطنعت الجنون وقد ارتعبت من أن يرموها في الماء بعدما جلبت عليهم النحس. والأربعة الباقون كانوا بحارة، رجالا عركوا مصاعب البحر وألفوها. كانت تتكلم كثيرا عن ولد صغير تركته في عهدة جيران في المكلا، آسفة عليه، باكية مصيره. لم يعرف شيء مما جرى لأولئك الخمسة بعد وصولهم إلى نجازيدجا [من جزر القمر]، فذلك على الأرجح هو الأرخبيل الذي رسوا عليه، إلا أن أحدهم لا بد أن يكون روى قصة محنتهم تلك.

قال معلم حسن "لم تغب عني قط صورة تلك السفينة وركابها الفزعين وهم يبحرون من المكلا تحت قمر الضحى".

سألت "وهل كل ذلك مذكور في واحد من تلك الأعلام الصغيرة؟" فعبس معلم حسن. قلت إنني لم أكن أتوقع أن ينجو مهم أحد. مئة يوم وعشر في بحار عاصفة أمر يليق بالملاحم، فأي سفينة تلك التي كانت لتحتمل ذلك. قال السمبوق [sambuq]. كم كان على متنها من الركاب؟ ما الذي كانوا يأكلون؟ كيف أمكنهم البقاء طويلا على سفينة كتلك غير مجهزة إلا قليلا؟ لكن إن كان لم ينج منهم أحد، فكيف عرف الراهب فرا ماورو بتلك الأيام الأربعين في بحر الظلمات وأيام العودة السبعين؟ وتخيلوا لو أنهم لم يرجعوا قط وواصلوا الإبحار عابرين بحر الظلمات.

لكنني رأيت أن معلم حسن شرد وبات كأنما يضجر من أسئلتي المتوالدة. لعله كان ينتظر لقصته أثرا عليّ غير الذي رآه، فقدا بدا عليه الضيق بي. وعبس وأشاح بنظره. وقال: أحسن لك أن تكمل هذا التمرين قبل أن ترحل".

لم يطل كدر مزاجه كثيرا، فقبل أن تنتهي حصة عصر ذلك اليوم، كان قد عاود الكلام عن الخرائط: خرائط الصينيين والعرب للمحيط الهندي، خرائط المسيحيين لغرب آسيا التي كانت تجعل القدس دائما مركز العالم. أردت أن أسأله كيف عرف بتلك الأمور، لكنني لم أشأ أن أثير ضيقه من جديد. لا بد أن ذلك كان جزءا من التعليم الذي اشتهر به. وعند مغادرتي، أعطاني رسالة قصيرةطواها إلى مربع صغير ثنيت أطرافه لتحكم إغلاقه وقال لي في رقة، منخفض العينين "أعط هذه لعمتك مسعودة، لكن ليس أمام أحد".

لم تكن عمتي مسعودة عمتي حقا. كانت ابنة أخت أبي، وإذن فهي ابنة عمتي، برغم أن أبوينا كانا يتكلمان معهما كأنها أخت لهما. كانت قد جاءت لتعيش معنا قبل أشهر قليلة لأن زوجها طلقها. وكان أبواها مطلقين أيضا، فأبوها يعيش في غرفة سفلية يستأجرها، وأمها تزوجت بعده وسافرت إلى طنجة. وكان أبي أخا لأمها، وكانت الأم والابنة من زائرات بيتنا منذ أقدم ما في ذاكرتي. فكل بضعة أشهر يأتي شخص ليقيم ولا يبدر عنه ما يشي بالرحيل لأيام أو لأسابيع، فلما جاءت مسعودة كان مجيئها على ذلك النحو. كان معناه نظاما مختلفا، ونمائم جديدة، ووجبات ضيوف ـ ولو لفترة على الأقل ـ ثم انتظار الزائر أن يرحل لتسترد سريرك وتستعيد روتينك المعهود. لكننا كنا نحب مسعودة لأنها كانت تلعب معنا ونحن صغار، ولأنها كانت تقول دائما كلمات خبيثة وتسخر من الناس من وراء ظهورهم وأحيانا تتفوه بكلمات محظورة. كانت جميلة المنظر إلى درجة أن بشرتها الداكنة كانت تلمع، وحينما كانت تدخل الشارع، كان الرجال أحيانا يتمعَّنون فيها، لأنها لم تكن تغطي وجهها. لا بد أنها كانت في أوائل العشرينيات عند طلاقها، لكننا كنا نعرف بمشكلات في ما قبل الطلاق، فقد كانت تأتي لزيارتنا وتستدر دمع أمي سيولا بقصص عن عدوان زوجها، إلى أن عجز الزوج والزوجة عن التسامح مع أحدهما الآخر فانتقلت مسعودة إلى بيتنا إلى أن ترتب أمورها.

كنت أعرف ما أعطانيه معلم حسن لأعطيه لها. فما لرسالة تعطى لطفل كي يسلمها لقريبة سرا إلا أن تكون رسالة غرامية. حتى طفل في غبائي كان يعرف ذلك. وضعت الرسالة في جيب قميصي وخرجت دون أن أنظر إلى معلم حسن. رجعت إلى البيت لألقي كتبي ومن حسن الحظ أن حاجي لم يكن في البيت، وإلا لحكيت له بلا شك عن الرسالة، ولسارع يجري إلى أمي ليخبرها بكل شيء عنها. كنت بحاجة إلى قليل من الوقت للتفكير في ما يمكن أن أفعله. لو أعطيت الرسالة لمسعودة وكتبت ردا وأعطته لي لتسليمه لبت ألعب دورا كريها. لا أعرف كيف علمت ذلك، لكنني علمت أن أمري لو اكتشف، لنظر إليّ أبي باحتقار ولوبختني أمي طوال ساعات. لم أكن على يقين من سبب لذلك إلا أنه لم يكن يليق بمعلم حسن أن يكتب رسالة إلى عمتي مسعودة ولم يكن يليق بي أن أسلمها إليها. لو كنت أعطيت الرسالة لأمي، وهو ما كنت أميل إليه، لأعفيت نفسي من المسؤولية لها. كان بوسعها أن تقرر إما أن تسلمها إلى مسعودة، أو إلى أبي، أو أن تمزقها. أخفيت الرسالة في كيس المخدة وذهبت لأرى إن كان شيء ما يجري ويمكن أن أشارك فيه.

فكرت أن أسلم طريقة هي أن أدعي البراءة، وأسلم الرسالة إلى مسعودة بأكبر قدر أستطيعه من العفوية، وكأنما لا أعرف مطلقا أن في الأمر أي شيء محظور. لكنني في النهاية خربت الأمر كله. بعد العشاء، جلست أمي ومسعودة في الصالة تثرثران بينما انسحب أبي إلى غرفة نومه ليقرأ أو ليستمع إلى المذياع. في ذلك المساء، رأيت مسعودة جالسة وحدها لوهلة فقررت أن تلك هي فرصتي. ذهبت إلى غرفة النوم وأخذت الرسالة من كيس مخدتي وسارعت إلى الصالة، وكان ذراعي نصف ممدود إلى مسعودة، التي نظرت إلي مندهشة مباغتة، حين سمعت صوتا من ورائي وعلمت أن أمي رجعت. سحبت ذراعي وحاولت أن أغلق يدي على الرسالة.

قالت أمي وهي تمد يدها فتمسك معصمي "ما هذا؟" ناولت الرسالة إلى مسعودة قبل أن تطالها أمي، فسلمتها بالطريقة الوحيدة التي نهيت عن اتباعها. استلتها مسعودة من يدي، ووضعتها في جيب فستانها. أعتقد أن كلتيهما عرفت أنني سلمت للتو رسالة غرامية من رجل، وكدت أسمع عقليهما يعملان ويخلصان إلى الاستنتاجات. سألتني أمي "من الذي أعطاها لك؟"

بعد لحظة، بدأت مسعودة تبتسم. مدت يدها في جيب فستانها وفتحت الرسالة. اتسعت ابتسامتها وهي تقرأ، ولما انتهت من القراءة ضحكت. ضحكة ساخرة لا تجيدها إلا النساء. لا أعرف كيف أصفها، لكنني سمعتها من بنات وأنا مار بهن في الشارع، فتشعرني أنني أسخف بشري على وجه الأرض. تلك هي الضحكة التي ضحكتها مسعودة على رسالة معلم حسن.

في ذلك الوقت كانت أمي تمسكني من طوقي ولم يكن الهرب ممكنا. "من الذي أعطاها لك؟" وقد خمنت فحواها من ضحكة مسعودة. ولمّا لم أرد، قرصتني أمي بشدة في مؤخرة رقبتي ونطقت اسم معلم حسن دونما تردد. جلست أمي وهي لم تزل تمسك بي. وسألت مسعودة "ماذا يريد؟"

هزت مسعودة كتفيها مبتسمة. "كلام فارغ. أتتخيلين؟ من التي تريد أن تكون على صلة ببائس مثله، هو وكتبه؟ كيف يجرؤ. لقد فقد عقله".

ثم مزقت الرسالة مرة، ومرتين، ورمت المزق تحت قدميها. نظرة الاحتقار التي ارتسمت على وجهها وهي تفعل ذلك أنزلت عليَّ الغم، وكأنني أنا الذي فعلت هذا عامدا في معلم حسن. أرخت أمي قبضتها على طوقتي وشعرت أنها توترت. كان دأب أمي أنها تحب معرفة القصة كاملة، وكانت مغرمة بالتفاصيل. أرادت أن تعرف إن كان معلم حسن قد قال لي قط أي شيء لا يليق قوله، أو لمسني، وما الذي كان يعلمني إياه، وما الذي حدث بالضبط في عصر ذلك اليوم، وما الذي قاله وهو يعطيني الرسالة. وبين السؤال والسؤال ضربات تشجيع من أمي وإضافات ساخرة من مسعودة التي كانت قد أوصدت الباب لكي لا يقاطعنا أحد. حينما حكيت لأمي عن الخريطة، والسفينة التي أبحرت في قمر الضحى والبلاء الذي حل عليها، خفت قبضتها على طوقي، وكأنني في النهاية أوضحت لها أمرا.

لم يسمح لي بالرجوع ثانية إلى معلم حسن، وحينما كنت أصادفه في الشارع وألقي عليه السلام كان يرد بهيبته المعتادة، لكنه لم يسألني لماذا توقفت عن حضور الحصص. تركت مسعودة بيتنا بعد أيام قليلة من الرسالة لتذهب إلى أمها في طنجة. ويوم رحيلها، أمسكت ذقني بيمناها وقالت "أتعرف ما الذي كان في تلك الرسالة؟ كلام فارغ. كلمات من أغنية قذرة أو من السحر الذي يقرأه في كتبه. انتبه لنفسك. وانتبه لما تأخذه من الناس".

وبعد أشهر قليلة حكت لي أمي ما كان يعرفه الجميع عداي. قبل سنين كثيرة غرقت أسرة معلم حسن كلها في البحر خلال رحلة من ممباسا إلى نجازيدجا. لم ينج إلا أبوه الذي تركته أمه عند الجيران إلى أن يتعافى من الحمى. ومات ذلك الأب بعد ذلك وهو صغير جدا، وتزوجت أرملته رجلا بعده وانتقلت إلى جنوب الجزيرة. ومعلم حسن يعيش وحيدا منذ أن كان في صباه، وهذا لا يمكن أن يكون خيرا لأحد. قالت والدتي إن فقدانه أهله جميعا عكر عليه صفو حياته كلها.

قلت إن عنده كتبه.

قالت وما نفع الكتب. لقد أمرضته الوحدة.

انتقل معلم حسن من الغرفة المستأجرة بعيد رحيل مسعودة. لا أعرف إن كانت أمي قد قالت شيئا للست فاطمة  لكنني ما كنت لأندهش لو علمت أنها فعلت ذلك. أعتقد أنها خشيت من تعريض أبنائها لرجل لا يتورع أن رسالة لسيدة محترمة. دخلت امتحانات القبول في المدرسة الثانوية بعد شهر من ذلك، وفاجأت نتائجي الجميع. قال أبي إنني ينبغي أن أعرف إلى أين انتقل معلم حسن وأذهب إليه وأشكره، فخمنت أنه ربما لم يطلع قط على حلقة الرسالة المرصودة كلها.

 

عن مجلة وسافيري، عدد 26، رقم 2، يونيو 2011

نشرت الترجمة في جريدة عمان أكتوبر 2021

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق