السبت، 17 نوفمبر 2018

فتيات المصنع ... كفاح نساء مصر من أجل حق العمل


فتيات المصنع
كفاح نساء مصر من أجل حق العمل
ليزلي تي تشانج

لا تكاد تعمل واحدة في مصنع مصري للثياب برغبة منها في ذلك. إنما هن مراهقات يدخرن مهورهن dowries [هكذا في الأصل، والمقصود لـ"تجهيز أنفسهن"] وسوف يستقلن بمجرد أن يتوافر لهن القدر الكاف من المال. بعض النسوة الأكبر سنا مطلقات يعلن أبناء. والمتزوجات منهن يكن في حاجة ماسة إلى المال فيسمح لهن أزواجهن على مضض بالعمل. ولم تكن رانيا تندرج في أي من تلك الفئات. فقد كانت متزوجة، وتعيش بعيدا عن زوجها، حينما حدث قبل ثماني سنوات أن بدأت العمل في مصنع دلتا للنسيج Delta Textile Factory  بمدينة المنيا، على بعد مئة وستين ميلا جنوبي القاهرة. ولأنها كانت منفصلة عن زوجها ياسر فما كان له أن يعرف بأمر عملها. يبدو أن التعاسة تأتي معها بحرية ما، ولكن ذلك أمر لم تتعلمه رانيا بعد. كانت في الثانية والعشرين من العمر، بوجنتين حمراوين ترك فيها حب الشباب آثاره، وشفتين ممتلئتين، وحجاب صوفي أسود يلف وجهها في دائرة صغيرة فتبدو أصغر مما كانت عليه.
في ثاني يوم لرانيا بالمصنع وجهت المديرة الرومانية الأمريكية إلينا سؤال إلى العاملات: "من منكن تريد العمل في مراقبة الجودة؟". ولم تكن رانيا تعرف ماذا تكون مراقبة الجودة، لكنها اجترأت برفع يدها. كانت إلينا هي أول أجنبية تلتقي بها. علمت رانيا كيف تكتشف كل مشكلة محتملة في سروال داخلي رجالي. لو إن إحدى الساقين أقصر بميلليمترات، أو الغرز المحيطة بملتقى الساقين غير مستوية، فقد يرفض العميل الطلبيّة ويتكبد المصنع آلاف الدولارات. وتكونت لدى رانيا مقدرة غير طبيعية على إبقاء خط الإنتاج مستمرا مع اكتشافها الأخطاء بمجرد وقوعها تقريبا. وبعد سنتين من التحاقها بالمصنع، رقِّيت إلى مشرفة، لكنها لم تنس يوما إحساس العاملة الجديدة.
 كانت مقدرة رانيا على العمل أسطورية، فهي بـ 100 راجل مثلما يقول المصريون. وكان المصنع يقدم جوائز شهرية لأكثر العاملات إنتاجية، فحظي الخط الذي تشرف عليه بالمركز الأول مرات أكثر من قدرتها على الإحصاء، وتكدست في خزانتها بالبيت أطقم أدوات المائدة وغلايات الشاي التي فازت بها، بلا نفع لها برغم وفرتها. كانت لديها مقدرة على جذب الانتباه وفتح مواضيع الحديث. فكان المسؤولون وعملاء المصنع غالبا ما يسألون عنها في زيارتهم. في زي المشرفات الأحمر، والشبشب الفضي، والبنطال الأسود الفضفاض (وكانت المرأة الوحيدة في المصنع التي ترتدي البنطال)، كانت رانيا تتحرك في طابق الإنتاج وكأنها في البيت، ولقد كانت بمعنى من المعاني كذلك حقا.
في صيف 2016، عقد مسؤولو الشركة اجتماعا للعاملين وأعلنوا أنهم بصدد تعيين أول مدير إنتاج محلي للإشراف على مجموعة مكونة من عشرة خطوط تجميع. وكان شاغل ذلك الموضع دائما شخصا أجنبيا، ولكن جميع الحاضرين في الاجتماع استداروا على الفور ناظرين إلى رانيا. وكان إيان روس ـ الرئيس التنفيذي للشركة في مصر ـ قد قال لرانيا بالفعل إنها مرشحة للوظيفة. وحذرها ألا تثير مشكلات مع بقية المشرفات، التي كانت تتشاجر معهن في بعض الأحيان.
فقالت رانيا بهدوء "أنا لا أفتعل أي مشكلات" واستشعرت في نفسها الإثارة والفخر. عقدت العزم على أن تري الجميع أنها قادرة أن تكون أول امرأة تتولى إدارة الإنتاج في صعيد مصر.
أحرزت مصر شيئا من التقدم على صعيد المساواة الجندرية في السنوات الأخيرة. فالبنات والأولاد يلتحقون الآن بالمدارس بأعداد متساوية، بل إن عدد خريجات الجامعة أكثر من عدد خريجيها. والنساء يتأخرن في الزواج وينجبن من الأطفال أقل مما كن ينجبن قبل عقدين. ولكن هذه المكتسبات لم تدفع المرأة في سوق العمل. ففي مقابل كل امرأة عاملة، هناك أربع يلزمن البيوت. كما أن نسبة النساء في قوة العمل بقيت ثابتة على مدار عقدين، بل لقد تراجعت النسبة في بعض الفئات مثل فئة خريجات الجامعة. وقد قدَّرت دراسة للبنك الدولي في 2004 أنه لو عملت النساء في الشرق الأوسط بمثل معدلات أندادهن في مناطق أخرى من العالم، فإن متوسط دخل الأسرة سيرتفع بمقدار خمسة وعشرين في المئة، وهو ما يكفي لإخراج أسرة كثيرة من حالة الفقر. غير أن البنك قدَّر أنه في ظل معدل الزيادة الحالية في توظيف النساء فإن المنطقة سوف تحتاج مئة وخمسين سنة للحاق بقية العالم.
ترجع مقاومة توظيف النساء في كثير من أجزاء الشرق الأوسط إلى أفكار تتعلق بكرامة الرجل. فعمل المرأة كثيرا ما يعد علامة على عجز الزوج عن التكفل برعايتها. ومن أشهر آيات القرآن آية تقول إن "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم". والزواج يستلزم مسؤوليات واضحة ومتكاملة: فالرجل يرعى زوجته وهي في المقابل تطيعه. بل إن خضوع الزوجة منصوص عليه في القانون المصري. فالمرأة التي تهجر بيت الزوجية أو تعمل بغير إذن من زوجها "ناشز" ـ أي متمردة ـ وتقد حقها في النفقة.
وثمة عراقيل أخرى تقف في وجه النساء الراغبات في العمل. إذ تعزف كثير من النساء عن السفر بعيدا عن البيت في وسائل المواصلات العامة، خوفا من التحرش الجنسي، ولا يفضلن قضاء أيامهن في أماكن عمل أو محلات صغيرة فيكن على احتكاك بزملائهن الرجال في العمل أو الغرباء، ويفضلن العمل في وقت مبكر، والرجوع إلى البيت في الوقت المناسب لإعداد الغداء لأزواجهن. "الأمر لا يتعلق بالأجر، بل في الحقيقة بظروف العمل" مثلما قال لي راجي أسعد الاقتصادي في جامعة مينيسوتا والذي يدرس العمل والتنمية. "فلو تحققت ظروف العمل، فإن جماعات من النساء جاهزات للعمل. أما إذا لم تتحقق، فلن يكون مستعدا لذلك إلا القليلات للغاية".
في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته عندما كانت سياسات عبدالناصر تضمن توظيف جميع خريجي الجامعة، كانت النساء يلتحقن بقوة العمل بالملايين. لكن القطاع العام الذي لا يزال يوظف أكثر من نصف النساء العاملات ـ إدارايت وموظفات وممرضات ومعلمات ـ يتقلص منذ عقدين. ووظائف القطاع الخاص التي تستوجب في الغالب ساعات عمل طويلة وتقدم مزايا قليلة ليست جذابة بالقدر نفسه للنساء. لقد أنشأت الصين والهند قطاعات تصنيع ديناميكية تسيطر عليها العاملات، أما صناعات مصر ذات النمو المرتفع ـ مثل النفط والسياحة والمعمار والنقل ـ فهي بالدرجة الأساسية مجالات عمل للرجال.
لقد كان على كل امرأة تقريبا ممن قابلت في مصنع دلتا للنسيج أن تقنع أبا أو زوجا ليسمح لها بالعمل هناك. وكلما تعبت امرأة أو كان لها طفل مزعج، ففي البيت غالبا من يكلمها في التقاعد. وماذا تفعل المرأة حين لا يكون من يعترض طريقها هو القانون أو الحكومة بل أكثر الناس حبا لها؟
***
حينما كانت رانيا فتاة، كانت تفكر أن تصبح ضابطة شرطة أو طبيبة في يوم من الأيام. لكنها تزوجت بدلا من ذلك قبل أن تبلغ العشرين شأن جميع الفتيات في قريتها. كان والداها قد تطلقا وهي طفلة صغيرة، وسافر والدها للعمل في العراق. والطلاق شائع في المجتمعات المسلمة ـ وكان منتشرا بحسب بعض الدارسين انتشارا واسعا في العصور ما قبل الحديثة ـ لكن القوانين والأعراف المحلية الخاصة بالطلاق تحابي الرجال وتعاقب النساء. كانت رانيا في الثانية عشرة حينما تزوجت والدتها مرة ثانية، وصار على رانيا أن تترك البيت لأن القانون ينزع حضانة الأبناء من حاضنهم إذا تزوج مرة ثانية. تنقلت رانيا بين بيوت أقارب عدة خلال سنوات دراستها الإعدادية فلم يسمحوا لها بالذهاب إلى المدرسة وجعلوها تعمل في محلاتهم المختصة ببيع مواد البناء. "أرادوا تحطيمي" كما قالت رانيا.
بعد سنوات قليلة، رجع والدها من العراق. وذهبت رانيا لتعيش معه هو وزوجته الجديدة مستأنفة دراستها في مدرسة ثانوية صناعية. ولكن زوجة أبيها قهرتها وأشعرتها أن وجودها غير مرغوب فيه. في السادسة عشرة تزوجت رانيا بياسر بإصرار من أبيها. لم تكن تحبه، ولكنها ارتاحت للخلاص من زوجة أبيها. وفي زفافها ارتدت ثوبا برتقاليا لامعا ورسمت عينيها بكحل كثيف. وتظهر في بعض صور الزفاف شرسة، وفي بعضها فزعة، وفي أكثرها محملقة في الكاميرا. ولم يسمح لوالدتها بحضور العرس لأن العادات المحلية تمنع المطلقة أن تدخل بيت زوجها السابق.
في السنوات التالية، أنجبت رانيا وياسر طفلين، ولكن الزواج لم يكن سعيدا قط، وكانت رانيا ترجع في بعض الأحيان إلى بيت أبيها لشهر في كل مرة. وفي إحدى هذه المرات بدأت تعمل في المصنع.
 تقع قريتها "صفط الشرقية" على بعد ثمانية أميال جنوبي المنيا على طريق أسوان الغربي الزراعي. عندما زرتها للمرة الأولى اندهشت لما وجدت ياسر ينتظر مترجمي وإياي في مدخل الحارة المفضية إلى بيتهما. بدا بصفة عامة وسيما ـ داكن العينين منضبط الشارب ـ مرتديا زيا رياضيا رماديا فضفاضا وشبشبا. كانت رانيا قد أخبرتني أنهما متخاصمان فخمنت أن يكون قد تصالحا.
جلسنا على أريكة في الصالة. بقيت رانيا مشغولة في أثناء زيارتي ـ في تفصيص البازلاء وتقشير الجزر ونتف ريش بطتين ذبحتهما في ذلك الصباح وفي القلي والشي. وجلس ياسر في ركن يلعب إحدى ألعاب الفيديو على كمبيوتر مكتبي عتيق. وظهرت أمه وأخته، كل على حدة، ليتكلما معي. وكان الجيران يتسللون ويحملقون.
ولما صرنا وحدنا أخيرا قالت رانيا بصوت خافت "زوجي تزوج زوجة ثانية".
وبمثل هدوئها سألت "وكيف ترين هذا؟"
هزت رأسها. "صعب". وكان وجهها مشدودا، وعليه تعبير وجع.
أشارت رانيا إلى السقف. "تعيش في الطابق الأعلى. وهي تجلس في الغرفة المجاورة مع أمها وأبيها".
اسم الزوجة الثانية أسماء. تزوجها ياسر بينما كانت رانيا مقيمة في بيت أبيها، واكتشفت ذلك بالصدفة حينما رجعت في زيارة للقرية. بعد ذلك رجعت إلى البيت، من أجل أولادها في المقام الأكبر، واكتشفت أن ياسر وأسماء قد استوليا على جميع أثاثها. وهما الآن مقيمان في الطابق الثاني من بين العائلة ومعهما ابنهما الصغير ووالدا ياسر. بينما تعيش رانيا في الطابق الأرضي مع ابنها وابنتها.
على مدار الأمسية الطويلة انتظرت الزوجة الثانية أن تنزل لتقابلني. ولم أدر كيف سيقدمها ياسر، وماذا سأقول أنا،  وكيف سيكون رد فعل رانيا. ولكن الزوجة الثانية لم تظهر قط، ولم يذكر أحد اسمها. كان واضحا أنها تجتنبنا لأن رانية ليست على وفاق معها. كما بدا أيضا أن رانيا وياسر لم يتصالحا على الإطلاق.
في آخر تلك الليلة، سارت رانيا وياسر معي في الحارة إلى الطريق الرئيسي خارج البلدة. كان جمع من قرابة خمسين رجلا وولدا قد احتشدوا لمشاهدتي، فدفعني ياسر في بيت مجاور طلبا للأمان.
نظر صاحب البيت ـ وهو شيخ نحيل الوجه طويله غير منتظم اللحية ـ إلى رانيا فقال له ياسر "زوجتي".
قال الشيخ "يقول الجميع إنك تزوجت الثالثة، وإنها أمريكية".
ضحك الحاضرون في الغرفة. لم تفه رانيا بكلمة، وبقي وجهها خاليا من التعبير، لكنني تذكرت تعبير وجهها وهي تخبرني أن زوجها تزوج مرة ثانية. كان ذلك قد حدث قبل سنة تقريبا، ولكن المذلة كانت لم تزل حية في ذهنها. ولم يكن الأمر بالنسبة لأهل القرية إلا طرفة يتناقلها الرجال ممن لا يعرفونها.
***
في صباح لطيف من ابريل 2016، توقف ميني باص تابع لمصنع دلتا للنسيج في قرية "بني مهدي"، على مسافة نصف ساعة جنوبي المنيا. والمنطقة من أفقر المناطق في البلد. كان محمد حنفي مدير الموارد البشرية في المصنع وفاطمة متولي مديرة منظمة نسائية غير حكومية قد جاءا لتوظيف نساء للعمل في مصنع الشركة الجديد في المنطقة الصناعية بالمنيا.
تلاصقت اثنتان وعشرون امرأة على أرائك في صالة أحد بيوت القرية. وشرعت فاطمة متولي ـ التي استعان بها مصنع دلتا لتوظيف العاملات ـ تتكلم فقالت "إنني أرى في عيونكن أنكن تردن فعلا الاستقلال والعمل وكسب المال لأنفسكن. هل سمعت أي واحدة منكن عن مصنع دلتا؟"
مصنع دلتا الذي يقوم بتصنيع الثياب والملابس الداخلية لعلامات تجارية مثل تومي هيلفيجر وكلفين كلاين هو مصنع مملوك لرجل أعمال إسرائيلي أمريكي مقيم في تل أبيب. في عام 1996 أقامت الشركة أول مصنع لها في مصر كعلامة على الصداقة العربية الإسرائيلية. وعلى مدار السنين تطور ذلك الاستثمار إلى عملية اندماج بين ستة مصانع  تقوم بالغزل والصبغ والقص والحياكة، أما تكوين الصداقة فأمره عسير. برغم أن مصر وقعت معاهدة سلام مع إسرائيل في عام 1979 فإن أغلب المواطنين العاديين رافضون لإسرائيل. لذلك يخفض فرع دلتا المصري من نسبة عمالته اليهودية، ولا تعلم العاملات به من الذي يمتلكه. أو ذلك ما قيل لي ـ فقد سمحت الشركة لي بمقابلة العاملات والكتابة عنهن بشرط ألا أوجه إليهن سؤالا عن ملكية الشركة.
واصلت فاطمة متولي "نحن كنساء لا نشعر إطلاقا باستقلالنا ما لم نخرج للعمل، نشعر أن لنا قيمة ومجتمعا وأن لنا خيارات في الحياة".
أوضح محمد حنفي شروط التوظيف. تعمل النساء ثماني ساعات في اليوم، مع استراحة غداء لمدة نصف ساعة، لستة أيام في الأسبوع. سيكون أول راتب للعاملة ستمئة وخمسين جنيها مصريا في الشهر ـ وهو ما يعادل في وقته ثلاثة وسبعين دولارا. توفر الشركة النقل المجاني والتأمين الصحي. واستدار إلى لابتوب وجهاز عرض وبدأ يعرض صورا فوتغرافية على جدار الغرفة ـ فبدت صور النساء الجالسات في خطوط التجميع الحديثة شاحبة وغائمة على الجدار الحجري الصلب.
قال فاطمة متولي إن "المصنع جميل" بينما النساء يشاهدن ويغمغمن. "يشبه المصانع التي تشاهدنها في التليفزيون. فيه كراسي، وكل شيء فيه آلي. كل واحدة لها زي موحد، والجميع نساء، كما ترين" ووعدتهن قائلة "حينما ترين هذا في الحقيقة ستجدنه أجمل من الصور".
جاءت الأسئلة سريعة وكثيفة. طالبت النساء بإجابات واعترضن على سياسات الشركة وتكلمن بصوت مرتفع فطغا صوت بعضهن على بعض. وبدأت حرارة الغرفة ترتفع. وبدا من الصعب أن يصدق أحد أن أولئك النسوة الجريئات فقد قضين حيواتهن كلها في البيوت.
قالت امرأة ترتدي حجابا أسود مؤطرا بالذهبي "لو أن امرأة لديها أطفال في الحضانة، كيف تترك بيتها في السادسة والنصف صباحا؟"
قالت فاطمة متولي في ظل اعتراض الكثيرات على مواعيد فتح الحضانات إن "على كل واحدة أن ترتب حياتها وتضبط وقتها".
هل نؤجر على فترة التدريب؟
والمعاملة؟ لأن البعض يسيئون معاملتنا.
منا من لم يعملن من قبل. لو أن امرأة لا تعرف كيف تدخل الخيط في الإبرة، هل سيصرخون فيها؟
ماذا لو أنني حامل في الشهر السادس؟
تكلمت بعد ذلك مع نادية محمود، وهي ربة بيت في الحادية والعشرين من العمر، ترتدي النقاب الأسود وهي التي سألت عن الحمل. كانت مقيمة في البيت منذ ثلاث سنين ولم يسبق لها العمل، وكانت مصرة على العمل في دلتا. قالت لي "سأحاول أن أقنع زوجي الليلة، ثم سأعمل حتى ألد".
لم يحضر الاجتماع أي رجل من القرية، لكنهم أصحاب القرارات بشأن التحاق زوجاتهن وبناتهن بالعمل. صاحت فاطمة متولي "من منكن توافق على العمل وسوف ترجع الآن إلى البيت لتسأل زوجها؟" فرفعت ثلاث عشرة امرأة أيديهن.
وقفت امرأة ترتدي عباءة وردية طويلة وقالت "انا سأذهب الآن. سأذهب لأسأل زوجي وأرجع حالا".
سألت فاطمة متولي "هل يحدث أن يغضب عليك الأزواج لإثارتك المشكلات؟".
قالت "نعم، أقابل رجالا يكونون في غاية التجهم: ’لماذا تتكلمين مع زوجتي؟ لماذا تزيدينها وعيا؟ نحن لا نريد أن تعمل نساؤنا. نريدهن أن يلزمن البيوت’".
قالت لي "نحاول أن نلعب اللعبة بذكاء، فلا نكلم النساء عن حقوقهن، بل نتعامل مع احتياجاتهن. نقول ’أنتن بحاجة إلى كسب المال لتساعدن أزواجكن، وترعين أسركن، وبيوتكن’". ولكن فاطمة متولي وهي تتكلم مع نساء قرية بني مهدي لم تلزم هذا النهج البرجماتي. كانت النساء جميعا يواجهن مصاعب اقتصادية ـ ومن أجل ذلك حضرن ـ لكن فاطمة متولي استهدفت مشاعرهن. افترضت أنهن راغبات في الخروج من البيت لمقابلة أشخاص جدد، ولتغيير حياتهن.
في الصباح التالي توقف ميني باص تابع لدلتا مرة ثانية في بني مهدي. واستقلته أكثر من دزينة من النساء. كلهن معا، كانت منظمة فاطمة متولي قد وظفت ثلاثمئة امرأة من قرى محيطة بالمنيا للانضمام إلى قوة العمل في مصنع دلتا. ولو تحققت الظروف الصحيحة، كما قال لي الاقتصادي راجي أسعد، فسوف تلتحق النساء جماعات بالعمل.
***
في السابعة  والنصف من صباح ثاني أيام رمضان لعام 2016، غاصت رانيا في تيار الإنتاج. كانت تسير مسرعة ذهابا وإيابا غبر خطي تجميع، أحدها كان تابعا لها والآخر تابعا لمشرفة أنهت تدريبها للتو. وطلب المصنع من رانيا الإشراف على كلا الخطين اختبارا لقدراتها الإدارية. وأضاف رمضان صعوبة إلى الاختبار. فعلى مدار الشهر تعمل العاملات جميعا بدون أكل أو شرب لسبع ساعات ونصف الساعة بلا انقطاع. كان ذلك هو الأسبوع الأول من يونيو وكان المتوقع أن تصل درجة الحرارة إلى مئة وتسعين درجة [فهرنايت].
صفقت رانيا مثل معلمة تطلب من التلميذات أن يولينها انتباههن. "أين عايدة؟ هيا بنا. ياللا" وبدأت قرقعات آلات الخياطة الناعمة تتعالى مع هدر نظام التهوية العميق مع صوت تلاوة القرآن من مكبر صوت.
في الثامنة واثنتين وخمسين دقيقة وقعت أولى حوادث اليوم: فقدت عاملة وعيها. مالت الشابة إلى الخلف في كرسيها بأحد أجناب المصنع وأحاط بها جمع من العاملات. ولما وصلت رانيا، كانت الدموع تنهمر من عينيها. مسحت رانيا دموعها بطرف طرحتها.
"أنت، إنك تخيفينني" كذلك همست رانيا لامرأة تحرك الهواء بسجل الإنتاج على المرأة فاقدة الوعي.
كانت العاملة التي فقدت وعيها مستاءة بسبب نقلها من خط رانيا. وكانت واقعة إغمائها ـ المفتعلة في الغالب ـ محاولة دراماتيكية لتغيير قرار المصنع.
في التاسعة والنصف، صعدت رانيا لحضور الاجتماع الصباحي وتلقت الهدف المحدد لليوم وهو ستمئة قطعة من السراويل الرجالية الداخلية. وفي العاشرة وإحدى وثلاثين دقيقة جاءت إليها في الطابق الأرضي امرأة باكية في عباءة طويلة سوداء.
سألتها رانيا "لماذا تبكين؟ هل أساء إليك أحد؟"
قالت المرأة "تعبت".
"ما المشكلة؟"
"تعبت".
على مدار اليوم، ضبطت رانيا عاملة أوشكت أن تخلط بين أشرطة طلبيتين مختلفتين، ووقعت عيناها على ألف شريط من أشرطة الباركود كانت ضائعة وقد انفصلت عن كومات العمل، واحتارت في السبب الذي أدى إلى عدم تطابق سيقان السراويل الخاصة بعاملة. لكن خياطة الثياب في مصنع مصري ليست علما دقيقا. فثمة دائما قطعة قماش لم يقصها شخص القص السليم فوجب على شخص آخر أن يصلح خطأه، وثمة دائما من يكون مريضا، أو شيء وضع في غير موضعه، أو شيء بحاجة إلى إصلاح. والمشرفة الجيدة هي التي لا بد أن تقنع العاملات بالتكيف مع هذه العيوب الكامنة في النظام وتحقق مع ذلك أهدافهن.
بين 2004 و2006، قضيت بعض الوقت في تغطية صحفية لعمل فتيات في مصانع صينية. والعمل هناك يجري على نحو مباشر: رؤساء يصدرون التعليمات وعمال يطيعون. أما العمل في دلتا فيعتمد على شبكة من العلاقات الشخصية. فالمشرفات ينخرطن في مفاوضات أو يستملن العاملات لإنجاز المهام، والعاملات يمتثلن إما بدافع الولاء أو يرفضن بدافع الغضب. وحالات الإغماء، ومباريات الصراخ، والبكاء، والانفجارات العاطفية ـ وتلك هي الأدوات التي تستعملها النساء في بيوتهن التي ليس لهن فيها حول ولا قوة، وهي الأدوات التي أتين بها إلى المصنع الحديث. وكثيرا ما قالت لي رانيا إن مفتاح تحفيز العاملات هو نيل محبتهن.
في الحادية عشرة أدركت أن خطها متأخر لأن أفضل خياطة للمطاط في فريقها كانت في إجازة. والغياب يكثر في رمضان ـ خمس وأربعون في المئة من عاملات دلتا في المنيا لم يحضرن إلى المصنع في ذلك الشهر بسبب احتياج أسرهن إليهن في البيت. طلبت رانيا من امرأة اسمها دعاء أن تحل محل خياطة المطاط لبضعة أيام، وكانت دعاء قد رقِّيت حديثا إلى مشرفة فلم ترق لها فكرة التقليل من مرتبتها ولو ليومين تصبح فيهما خياطة على آلة المطاط.
قالت "حاضر. لكن لن أجلس إلا إلى آلة تعجبني".
قالت لي رانيا في هدوء "لاحظي هذا. ستكثر الآن طلباتها، ولا بد أن أصبر عليها".
مضت دعاء في جولة متهادية في الطابق، تبحث عن آلة خياطة مطاط تستوفي معايرها، ورانيا تتبعها. وأخيرا وافقت دعاء أن تعمل في خط رانيا. وجلست رانيا أغلب العصر وراء دعاء تساعدها في فرز الغرز في القطع التي تحتاج إلى إعادة الشغل. ولم تكن مرغمة على ذلك ـ ففي نهاية المطاف هي المشرفة ـ ولكنها بتلك الطريقة أعربت لدعاء عن امتنانها. وحينما غادرتُ المصنع قبل ساعة من موعد الإغلاق، كانت رانيا لا تزال جالسة منكفئة على قطعة قماش، تصحح في صبر أخطاء ارتكبتها أخريات.
عمل الخط التابع لها ساعتين بعد موعد الإغلاق في ذلك المساء، وتلك نتيجة مفاوضة أخرى، لأنه ليس بوسع المشرفات أن يرغمن أحدا على العمل لوقت إضافي. وحققت العاملات هدفهن المحدد بإنتاج ستمئة سروال داخلي، وحافظت رانيا على مكانتها بوصفها المشرفة رقم واحد في مصنع دلتا للنسيج ليوم إضافي.
***
اشتهرت مصر في العالم القديم بحرية نسائها. فقد كتب المؤرخ الإغريقي هيرودوتس أنه "ليس المناخ المصري وحده هو المميز في ذلك البلد وليس النيل وحده هو المختلف سلوكا عن بقية الأنهار، بل المصريون أنفسهم ... يناقضون تماما الممارسات الشائعة بين الناس. فالنساء على سبيل المثال يرتدن الأسواق ويتاجرن بينما الرجال يجلسون في البيت ينسجون".
قبل أربعة آلاف سنة، كانت للنساء مثل حقوق الرجال القانونية، فكان لهن من الحرية أكثر مما لغيرهن من نساء العالم القديم في أماكن أخرى. كان بوسع المرأة أن تعيش مستقلة، وتتعاقد على زواجها بنفسها، وتشتري الأرض وتبيعها، وترفع دعوى طلاق، وترث أملاكها لمن تشاء. وعلى جدران المقابر الفرعونية، ترسم النساء وهن ينسجن القماش، ويبعن الخضراوات في السوق، ويرتدن المعابد. بل قد تحكم المرأة وتصر فرعونا ـ فحتشبسوت قادت مصر لفترة رخاء طويلة في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، ونفرتيتي شاركت في الحكم زوجها أخناتن. لكن كثيرا من تلك الحريات تبدد بعد الاستعمار اليوناني لمصر في القرن الرابع قبل الميلاد.
برزت النساء في صدر الإسلام الذي جاء إلى مصر سنة 640، ويمثل القرآن نصا تقدميا في عصره إذ يؤكد المساواة بين الرحل والمرأة في القيمة الروحية والالتزامات. لكن فيه آيات أيضا تعلي قيمة الرجال على النساء. (فشهادة الرجل القانونية بشهادة امرأتين، والأبناء يرثون ضعف ميراث البنات). وعلى مدار الزمن فسر القضاة والأئمة ـ وكلهم من الرجال ـ الإسلام تفسيرات تؤكد وضعية الدرجة الثانية للمرأة، وتخفف من وقع رسالة المساواة الجندرية. فإذا بممارسات من قبيل حجب المرأة وعزلها تكتسب القداسة وإن لم يأمر بها القرآن.
وتبين أبحاث حديثة درجة مدهشة من التنوع في مدى الحرية التي عرفتها المسلمات في الماضي. فقد احتج فقيه القرن الثالث عشر ابن الحاج على نساء القاهرة ممن كن يعرضن أجسامهن للشمس على ضفاف النيل أو يثرثرن مع الرجال، وفي عام 1438 أصدر السلطان بيبرس Sultan Barsbay  مرسوما يحظر على النساء ارتياد الشوارع والأسواق. (وتراجع عنه في غضون أسبوعين). وفي كتاب "الزواج والنقود والطلاق في المجتمع الإسلامي في القرون الوسطى Marriage, Money and Divorce in Medieval Islamic Society" يبين المؤرخ يوسف رابوبورت أن كثيرا من نساء القرنين الثالث عشر والرابع عشر بل أكثرهن كن يعملن بأجر كبائعات وتاجرات ومصففات شعر وقابلات وعاملات نسيج. وقد اندهش رحالة بريطاني زار القاهرة في مطلع القرن التاسع عشر حينما رأى النساء في الجامع الأزهر، وهو الجامعة الدينية الرائدة في العالم العربي. فكتب أنه "خلافا للأفكار شائعة الانتشار في أوربا، فإن قسما كثيرا من الحشود الرائحة والغادية تتألف من النساء ممن يمشين بلا قيود من أي نوع يكلمن بعضهن بعضا ويختلطن بحرية بالرجال".
وأنهى العصر الحديث كثيرا من تلك الحريات. في مصر، ذات الاقتصاد حديث العهد بالتصنيع والذي يستهدف تصدير المنتجات إلى أوربا، تم التقليل من أهمية الصناعات المنزلية التي كانت توظِّف النساء بأعداد كبيرة. ولم يكن مسموحا لغير الرجال بالعمل في المصانع التي تعمل بطاقة البخار وتلقي التدريب على الآلات المتقدمة. وتسبب الاستعمار ـ الفرنسي أولا ثم البريطاني ـ في توجيه المجتمع وجهة محافظة. فاتسعت ممارسة حجب النساء وعزلهن وحرمت قوانين الأحوال الشخصية النساء من حقوق كن ينعمن بها من قبل. وبمرور الوقت انطمس تراث متنوع وحيوي من إسهام المرأة في الحياة العامة. وبات الناس يتصورون أن النساء كن دائما يعشن في ظل قيود صارمة.
والمجتمع المصري في كثير من الحالات مجتمع محافظ، يشك في العالم الخارجي وتأثيراته. فالشابات اللاتي يخرجن للعمل لا بد أن يثبتين لذويهن أنهن لم يزلن بنات ملتزمات وربات بيوت ممتازات، ومسلمات تقيات. ولقد تم الاحتفاء بثورة 2011 باعتبارها لحظة نصر نسائي، إذ ثارت النساء والرجال فيها معا، لكنها فشلت في إحداث تغيير داخل المؤسسات الأكثر ميلا إلى المحافظة، وهي الأسرة المصرية. فيظل الأبناء الراشدون يراعون رغبات آبائهم، والزوجات يطعن أزواجهن، وإن اختلفن معهم. وقد تخرج المرأة إلى العالم، وتجد عملا، وتكسب مالا، وتكتسب مهارات ما كان ليخطر لها أن تمتلكها. ولا تتغير مكانتها في البيت ووضعها فيه على الإطلاق إذا لم تقدِّر أسرتها تلك الأمور.
***
مع ارتفاع رانيا في هيراركية المصنع، خاضت معارك ومنافسات مع غيرها من المشرفات. فشاهدتها في يوم من نوفمبر 2016 وهي تتجادل مع زميلات عديدات حول غيابات العاملات، والكراسي الضائعة، وأرقام الإنتاج التي سجلت على نحو خاطئ في الكمبيوتر. وفي نقطة ما اشتبكت في صياح متبادل مع رئيسة قسم التعبئة وتدعى أسماء. كان في الجدول جلسة تدريبية وكان على كل قسم أن يبعث موظفة، وبعثت رانيا إحدى العاملات مع أسماء بدون تنسيق مسبق معها. وغياب عاملة قد يؤثر سلبا على الإنتاج فكانت المشرفات يتساومن على العاملات مساومة ربات البيوت في السوق.
أنا لن أعطيك ولا واحدة! عندك ثلاث بنات وليس لدي بنت واحدة!
طيب، انت من دانشواي!
أتقولين إنني من دانشواي؟
ولا أحد يعرف أين دانشواي هذه، ولا لماذا تعد نسبة واحدة إليها إهانة على الفور.
وفي الوقت نفسه كان مصنع دلتا يتحول إلى قصة نجاح مصرية. إذ تباطأ انسحاب العمال وازدادت الإنتاجية، وتوسعت الشركة لمصنع ثان من شأنه مضاعفة حجم العمليات في المنيا. وبدأت المحافظة تستعمل تجربة دلتا في اجتذاب مزيد من المستثمرين الأجانب.
في عصر يوم من أغسطس 2017، بعد سنة من إخبار رانيا بأنها مرشحة لمنصب مدير الإنتاج، كنت أنتظرها عند بوابة المصنع الرئيسية. ورآني محمد حنفي ـ مدير الموارد البشرية في المصنع ـ وهو في طريقه إلى الخروج.
سأل "من تنتظرين؟"
قلت "رانيا".
قال "لقد انتهت. ستحصل على راتبها، واليوم يومها الأخير".
ذهلت "ماذا؟ رانيا المشرفة؟"
قال محمد حنفي "كانت تثير مشكلات كبيرة في المصنع. سأحكي لك عنها لكن ليس الآن".
وأخيرا ظهرت رانيا، وقد بدا عليها الكدر. اتهمها المصنع بالتسبب في صراعات، ولكنها كانت تحاول إنقاذ عملها بدعم من مسؤولة في المصنع.
في الصباح التالي قابلت محمد حنفي فقال ثانية إن رانيا كانت تتسبب في المشكلات.
قال "كانت ترغم بنتين في خطها على إجراء مكالمات سكس مع سائق".
"إجراء ماذا؟"
"مكالمات سكس".
كان المصطلح قد دخل ـ بالإنجليزية ـ إلى العامية المصرية قبل سنوات عديدة عندما سجِّلت مكالمة هاتفية لرجل وهو يتباهى على امرأة بقدرته الجنسية. انتشر التسجيل عبر يوتيوب، وأصبح المتصل نجما في مواقع التواصل الاجتماعي. بل لقد حظي بالعمل لوهلة في التمثيل، فظهر في إعلانات وتمثيلية تليفزيونية أذيعت في رمضان.
بحسب ما قال محمد حنفي، أمرت رانيا امرأتين تعملان في خطوطها أن تجري مكالمات سكس مع سائق في الشركة لم تكن تحبه. وسجلت رانيا المكالمات لابتزازه في المستقبل. بدا الأمر تافها، ولكنه أخاف المسؤولين في دلتا. فالمرأتان اللتان أجريتا المكالمات كانتا مسلمتين، والسائق كان مسيحيا. وفي 2011، في موقع آخر من المنيا، تعرض مسلمان للقتل وتعرضت بيوت ومحلات مسيحيين للحرق بعد اختلاف بدأ على مطب في طريق.
قال لي محمد حنفي إن رانيا كان قد بدأت مؤامرات أخرى على أشخاص لا تحبهم. فحفزت عاملتين على التقدم بشكوى ضد مدير تزعمان فها أنه ارتكب انتهاكات لفظية. وصوّرت عاملة و جالسة بجوار سائق، في دليل مفترض على سوء سوكها. (بدا أن الجنس والتسجيلات هما سلاحاها المختاران). قال محمد حنفي إنه ومدير المصنع حذرا رانيا وأنذراها بالفصل لو استمرت في القيام بمثل ذلك.
اعترف أن رانيا كانت مشرفة جيدة. قال لي "أعرف أن رانيا تعيش حياة صعبة في البيت، ولكن عقلها ليس سليما. فالشخص الطبيعي لا يفعل ما تفعله. كل الأمور القذرة في المصنع، كانت منخرطة فيها".
غالبا ما كانت رانيا تتكلم عن المصنع كأنه عائلة، فهي مثل الأم لعاملاتها، أو أنها كسبت ولاءهن من خلال الحب. ولكن ديناميكيات الأسرة المصرية قد تكون مسمومة. غالبا ما تعيش أجيال عديدة تحت سقف واحد، وأفراد الأسرة لا يمكنهم الحديث بصراحة حول أسباب تعاستهم. والمشاجرات التافهة تتحول إلى عداوات تمتد لأسابيع أو شهور. ومنذ أن كانت رانيا في عقدها الثاني وهي تنتمي إلى ثلاث أسر. فمن جانب أمها، استغلها أخوالها، ومن جانب أبيها استبدت عليها زوجته. وفي أسرتها هي الخاصة، خانها زوجها واتخذ لنفسه زوجة ثانية محيلا إياها إلى أضحوكة الحي. وفي كل حالة تعرضت للأذى والمذلة ممن كان أقوى منها. فلا عجب أن لعبت رانيا بمثل تلك القواعد حينما وجدت نفسها في موقع السلطة.
***
في نوفمبر 2017 زرت رانيا مرة أخرى في البيت. لم تكن قد التحقت بعمل بعد فصلها من دلتا قبل ثلاثة أشهر. عملت لفترة في تربية الدجاج لبيعه، لكنها عدلت عن ذلك بعدما لم يدر الكثير. وحاول ياسر مرات عديدة في زيارتي أن يبيع لي تحفا أثرية.
أنكرت رانيا اتهامات المصنع لها. قالت إن محمد حنفي يكرهها لأنها كانت تقف في وجهه دفاعا عن العاملات. قالت إنه كان يحقد عليها لنجاحها، وكان يلفق الحكايات ليطردها. كانت ترجو أن تلتحق بمعمل ملابس ينتظر افتتاحه في السنة الجديدة. حينما سألتها إن كانت قد تعلمت شيئا من صراعاتها الشخصية في دلتا قالت "في المصنع الجديد سأكون أكثر يقظة وأفتح عيني وأنتبه لأي شخص يتآمر عليّ".
بعد العشاء، لمحت أسماء، الزوجة الثانية، وهي تترك طفلها الصغير في رعاية ابني رانيا قبل أن تختفي من جديد. كان للولد محمود وجه مستدير وشعر بني فاتح مفلفل. قالت رانيا "شكله وحشن حلقوا له شعره المفلفل على أمل أن يبدو أجمل، لكن بلا فائدة".
بعد ذلك بكى الولد حينما قضم قطعة دجاج حارة فصاحت فيه رانيا "يا غبي". وعندما عبث في زر مسجل وخلعه أزاحته رانيا بذراعها إلى جانب وقالت له مرة أخرى "يا غبي".
كانت قد تصالحت مع زوجها وبات مسموحا لأسماء أن تظهر في الطابق الأرضي. أي أن الكبار في البيت كانوا قد تدبروا أمرهم وأصبحوا متحضرين تجاه بعضهم بعضا. وبات واضحا أن رانيا قررت أن تنفس عن شقائها في محمود البالغ من العمر عاما واحدا، أي أضعف أفراد الأسرة.

نشرت نسخة سابقة من هذه المادة محتوية على وصف غير دقيق لمعاداة السامية في مصر.
كاتبة المقال هي مؤلفة كتاب "بنات المصنع: من القرية إلى المدينة في الصين إذ تتغيرFactory Girls: From Village to City in a Changing China". تعمل على تأليف كتاب عن النساء العاملات في مصر.
عن مجلة: ذي نيويوركر ـ 15 نوفمبر 2018


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق