الأربعاء، 27 أكتوبر 2021

ما تعلمته وأنا أصطاد البشر

 

ما تعلمته وأنا أصطاد البشر

إيان فريتز

لم يكن الصيد جزءا من طفولتي. أقرب ما كنت إليه حين علَّمني عمي أنا وأخي التصويب ببندقية 0.22 على شبابيك بناء متداع في أرضه بجورجيا. علَّمنا كيف نضع كعب البندقية في باطن الكتف لكي لا نجفل من ردة الفعل (وإن بقينا نجفل، فقد كان بوسعي أن أحلف أن كتفي انخلعت)، وكيف نركِّز على المشهد المواجه لا على الهدف، وكيف نضغط برقة على الزناد لنطلق النار. استطعنا نحن الاثنين بنصف علبة من الذخيرة أن نقضي على شباك واحد. وهذا ما كان قد خطَّط له. كان البناء يقع في مؤخرة أرضه، وليس من ورائه إلا الغابة، ففي حالة إخطائنا الهدف (وهو الأرجح بوضوح)، فما كان لينجم أذى عن الرصاص الطائش.

لم أتعلَّم فعليا الصيد إلا كبيرا. تعلمت كم يقتضي من الصبر، ومدى أهمية الهدوء، وكيف أن المرء لو سمح للأدرينالين بالسيطرة عليه، فيحتمل أن يفقده هدفه. تعلمت إن إخطاء الهدف عيب، يقارب العار، وأن براعة المرء في التصويب مفخرة له. وتعلمت أن أعد قتلاي، وأتأكد من تسجيلي لهم، ليعرف الآخرون بمنجزاتي ويحتفون بها.

تعلمت ذلك كله في تدريباتي بالقوات الجوية. وتعلمت ذلك كله حتى يتسنى لي اصطياد البشر. وحينما أطلقت الولايات المتحدة في التاسع والعشرين من أغسطس صاروخا كان يفترض به إيقاف هجمة لتنظيم داعش خراسان على مطار كابول في أثناء انسحابنا ـ ثم تبين أن في الأمر خطأ أسفر عن مصرع عشرة مدنيين ـ فهذا ما كانت تفعله: اصطياد.

لم أقم قط بتشغيل طائرة آلية، لكنني اصطدت من أعلى، من طائرات مقاتلة، على ارتفاع آلاف الأقدام من سطح الأرض. كنت في القوات الجوية متخصصا لغويا في التشفير، مكلفا بتحذير الطائرات التي أكون على متنها وكذلك القوات المتمركزة على الأرض من الأخطار. والتحذير من الأخطار يتخذ أشكالا كثيرة، لكنه كثيرا ما يفضي إلى تصفية مصدر الخطر. وقد يعني هذا في بعض الأحيان أن أكون جزءا من فريق قتل، عضوا في طاقم مؤلف من كثيرين يسهمون جماعيا في موت. في بعض الأحيان كنت أؤكد فقط المعلومات فيتسنى إصدار الأمر بإطلاق النار. وأحيانا كنت أصدر الأمر. فلا أعرف إن كانت أعمال القتل تلك تخصني كلها، لكنني أعرف أنني أنا أخصها كلها.

مثل مسؤول تشغيل الطائرة الآلية في التاسع والعشرين من أغسطس، كنت أصطاد لساعات في كل مرة، جامعا المعلومات، باحثا عن هدف، راجيا أن يخرج من مخبأ. وفي جميع تلك المهام، كنا لا نكاد نعثر على هدفنا، حتى يلزمنا تصريح بالاشتباك. في بعض الأحيان كان لا بد أن يأتي ذلك التصريح من عقيد في قاعدة على بعد مئات الأميال، في جبال أفغانستان. وفي أحيان أخرى، كان عليه أن يأتي من المتحكم في الهجمة النهائية المشتركة أي الشخص الموجود على الأرض يتعرض للاستهداف والموكول إليه سلطة قتل من يهددونه.

وفي ظاهر الأمر تقتضي هجمات الطائرات الآلية تصريحا هي الأخرى. ولقد كان يروق لإدارة أوباما القول بأن كل ضربة بطائرة آلية تحتاج إلى موافقة من البيت الأبيض. وهذا غير صحيح. فخلال فترتي في القوات الجوية، لم يكن يلزم الضوء الرئاسي الأخضر إلا لضربات الطائرات الآلية في أماكن معينة ـ مثل الصومال واليمن وفي بعض الأحيان باكستان. أما الضربات في أفغانستان فتأتي الموافقات عليها من مستوى أدنى كثيرا.

أود أن أعرج للحظة على مسألة لغوية تتعلق بـ"ضربة الطائرة الآلية". الضربة strike هي الهجمة، هي الغارة، هي استعمال القوة. كلمة تبدو هينة. اسم الصاروخ الذي استعمل في التاسع والعشرين من أغسطس هو هيلفاير [أي نار الجحيم]، وهو أبعث من كلمة "الضربة" على الخوف، لكن هذه المصطلحات باتت جزءا من الحياة الحديثة فبتنا متمرسين على الخوف الذي كان يفترض بها أن تبعثه.

في إحدى المهام، حلقت فوق أفغانستان، وتم إطلاق هيلفاير على مبنى. وبعدما هدأ الغبار، مضى المتحكم في الهجمة المشتركة النهائية إلى داخل المبنى ليقيِّم حجم الضرر. ولما فتح اللاسلكي ليخبرنا بما حدث، كان يضحك بشدة حتى عجز عن الكلام، لكن أمكنه في النهاية أن يتلفظ بوصف ما رآه.

"يا زميل، ساق الرجل التصقت في الجدار".

الظاهر أن صاروخ هيلفاير مزق رجلا إلى أشلاء، وأن حرارة الانفجار صهرت ساقه فلصقتها في المبنى المجاور.

في التاسع والعشرين من أغسطس، أجاز شخص، أو على الأرجح بضعة أشخاص، إطلاق أحد هذه الصواريخ في منتصف مدينة، فقتل سبعة أشخاص. ولا أعرف إن كان آرمين أم آيات أم بنيامين أم فيصل أم فرزاد أم مليكة أم سمية قد انتهت ساقه أو ساقها ملتصقة بجدار.

يرد في سجلاتي بالقوات الجوية أنني قتلت 123 شخصا، مصنفين رسميا باعتبارهم "123 ع ق ف ق EKIA متمرد" (أي عدو قُتل في اشتباك). قد يبدو الرقم كبيرا، لكنني أؤكد لكم أنه ـ في ما يتعلق بأفغانستان ـ ليس كذلك. في حدود معلوماتي لم يكن من أولئك أطفال. والرجال الذين أتذكر قتلهم بوضوح، أي الذين أمكنني أن أراهم وأسمعهم قبل اتخاذ قرار أنهى حياتهم، كانوا بوضوح كذلك: رجالا. راشدين. وأغلبهم كانوا ناشطين في محاربة قوات التحالف. لكن بعض الذين قتلتهم، ولم نتمكن من رؤيتهم بوضوح، ربما بالفعل كانوا أطفالا، ولو وفقا للتعريف الغربي الحديث للطفل باعتباره كل من يقل عمره عن 18 سنة. هل كانوا أعداء؟ وحين قتلتهم، هل كانوا في قتال؟

في حدود معلوماتي لم تقم الحكومة الأمريكية قط بتحديد معلن لمعيار الذكر البالغ سن العسكرية. تقول بعض المصادر إنه 16 أو أكبر، والبعض يقول 15، لكن في الواقع، خلال القتال يكون الذكر البالغ سن العسكرية هو كل من يمثل تهديدا. وهذا التعريف ليس منافيا للمنطق: فلو أن شخصا يهددك في منطقة حربية، فإن محاولتك النيل منه قبل أن ينال منك هي رد فعل منطقي. وفي الأمر أيضا فرصة مضافة هي فرصة تحويل الأطفال إلى رجال. ووفقا لنظام العد الذي استعملته إدارة أوباما في الفترة التي خدمت خلالها، كان كل ذكر يلقى مصرعه في ضربة يعد مقاتلا.

يحكي مكتب الصحافة الاستقصائية قصة مختلفة، مستعملا رياضيات مختلفة. فيورد أنه منذ 2015، شهدت أفغانستان وحدها 13072 ضربة. ويقدر المكتب مصرع ما بين 4000 و10000 شخص في هذه الضربات، وأن ما لا يقل عن 300 منهم مدنيون. ويقدر أن ما بين 66 و184 من الـ300 كانوا أطفالا. وأنا واثق أن بعض أولئك الأطفال كانوا ذكورا من بالغي سن العسكرية وكانوا مقاتلين نشطين. وهذا يحدث. فبوسع الصبية الأفغان أبناء الخامسة عشرة من العمر أن يطلقوا الكلاشنكوف شأن أي راشد. لكن هذا هو الاستثناء، لا القاعدة، فأغلب الطالبان رجال كبار.

لم يكن الأطفال السبعة المقتولون في التاسع والعشرين من أغسطس ينتمون إلى هذه الفئة. ونعرف الآن أنه لم يكن أحدهم، أو أحد الراشدين الثلاث الذين لقوا مصرعهم أيضا في الضربة، مرتبطا ولو من بعيد بالعدو. لا، هؤلاء الناس قتلوا بسبب مزيج شيخوخي من الخوف والإيمان.

حينما نتخذ القرار بتنفيذ تلك الضربات، نتخذه بناء على ما نسميه "المعلومات، الاستخباراتية"، ولكن معلوماتنا الاستخباراتية هذه كثيرا ما تعتمد اعتمادا مفرطا على خوفنا من العدو وإيماننا ببراعتنا في الصيد. فقد أقنعنا أنفسنا بأننا نعرف الصالح من الطالح ونعرف من الذي يستحق الموت. ونثق في أننا لا يمكن أن نخطئ الهدف. وحينما يحدث لا محالة أن نخطئ، فلا بأس، نعترف بخطأنا ونتعهد بأن نكون أكثر حذرا. لكننا نعرف، في أعماقنا، أن الغايات تبرر الوسائل. ونؤمن من كل قلبنا بأن معلوماتنا الاستخباراتية جيدة للغاية، وأسلحتنا بالغة الدقة، ومهمتنا بالغة النبل، وأن كل من يقع وسط إطلاق النار أو يوقعه هيلفاير إنما يستحق ذلك. حتى الأطفال.

ولست من دعاة السلام السذج الزاعمين بأننا لا ينبغي أبدا أن نقتل أي شخص دون أن نكون واثقين مئة في المئة من تدبيره لقتلنا. فأنا أفهم تماما مدى ندرة تحقق هذا المستوى من التيقن، وقد نلت حصتي العادلة من قتل الناس دون ما يقارب اليقين من أن موتهم سوف ينقذ حياة أي أحد. وأفهم أيضا أن المعرفة الدقيقة، في مدينة يقطنها ستة ملايين نسمة، للشخص الذي لا يخطط فقط لتفجير قنبلة أخرى تحصد أرواح مئتي إنسان لكنه يعتزم أيضا أن ينفذ مهمته خلال اليومين التاليين مسألة عسيرة إلى أقصى حد. وأعتقد أن تأكيد الجنرال مارك مايلي بأن هذه الهجمة نفذت لأنه "في بيئة ديناميكية شديدة الخطورة، كان للقادة المتمركزين على الأرض سلطة مناسبة ويقين معقول بأن الهدف كان صالحا".

لكن ربما ينبغي أن نطلب ما يزيد عن اليقين المعقول، فذلك الشرط يقتضي قمع الشك المعقول. نعم، كانت المخاطر كبيرة ـ أكبر مما كانت عليه لوقت طويل. لكن هل إطلاق صاروخ هيل فاير البالغ وزنه مئة رطل والبالغ وزن رأسه عشرين رطلا والقادر على إذابة السيقان ولصقها في الجدران ـ داخل مدينة سيكون أمرا يستحق التنفيذ لو أننا لا نعرف حقا من الطرف الذي يتلقاه؟

ولككم خائفون. نحن أمة خائفة إلى أقصى درجة. خائفون من المراهقين. خائفون من الرجال إذ يطلقون الرصاص في الهواء في الأعراس. خائفون من خوفنا، ناجحون أتم النجاح في الشعور بالرعب، لدرجة أن المعلومتين الأساسيتين اللتين اعتمدنا عليهما للمضي قدما بهذه الضربة هما أن سائق المركبة المستهدفة ربما تكلم مع أشخاص في ما نعتقد أنه منزل داعشي آمن، وأنه كان يقود تويوتا كورولا بيضاء، وهي من أكثر السيارات شيوعا في أفغانستان. وحينما تكون خائفا مثل خوفنا، يكون أي شخص خطرا، حتى وأنت تقرر ذلك من غرفة تحكم على بعد سبعة آلاف ميل.

لا زلت لا أعرف الكثير عن الصيد، لكن هذا ما علمتني إياه الحكومة: حينما تصطاد بشرا لحساب جيش الولايات المتحدة، فما من موسم محدد للصيد، وما من رخصة تنتهي صلاحيتها، وما من حد أقصى لعدد الفرائس المسموح به. ولا داعي للانشغال بتقليل معاناة الأهداف المشروعة، ولا حاجة إلى القتل النظيف. وفي حين أن من يتعرضون للضرب بالصدفة قد يمثلون أهمية على المستوى الرسمي، فحينما يكون الخيار بين حياة أمريكي واحد وأي عدد من الآخرين، فلتنفذ الضربة، وإن ظللت بقية حياتك تتساءل عن عدد من قتلت من الأطفال.

لقد اعترف البنتاجون بالخطأ الذي ارتكبناه في التاسع والعشرين من أغسطس وأعلن خططا لإجراء مراجعة للضربة الفاشلة لتحديد "الدرجة التي تحتاج إليها سلطات الضربة وإجراءاتها وعملياتها في المستقبل وما إذا كان ينبغي تعديلها". أرجو أن يؤدي هذا التحقيق إلى تغيير. وأود لو أعتقد بأن أمريكا سوف تنفذ قدرا أقل من هذه الضربات  في المستقبل. لكن الحقيقة هي أن لدي يقينا معقولا بأن هذه المراجعة، شأن أخريات قبلها، لن تغير شيئا.

 

كاتب المقال خدم في القوات الجوية في الفترة من 2008 إلى 2013

نشر المقال في ذي أطلنطيك بتاريخ 6 أكتوبر 2021، ونشرت الترجمة في جريدة عمان 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق