السبت، 2 يوليو 2016

يوميات لص كتب ... رودريجو فريسان

يوميات لص كتب
رودريجو فريسان



1
مر عليّ وقت لم يكن ينقضي فيه يوم دون أن أسرق كتابا. ولم يكن ذلك لعدم امتلاكي المال، بل لأن المال لم يكن يكفي قط لشراء كل الكتب التي نحتاج أن نقرأها، أو التي تعجبنا، فنمسك بها، ونربت عليها، مدركين أنها صارت لنا، أنها ملكنا نحن ولم تعد ملكا لهم.
2
ونعم، كان ثمة حس روبن هودي في سرقة الكتب من متاجر الكتب في بيونس آيرس التي ولدت فيها وتعلمت القراءة.
كنت ابنا لأبوين ينتميان إلى الطبقة المتوسطة العليا. متعلمان، ويحظيان باحترام بالغ كل في مجاله. أبوان كانا يحضران لي الكتب في أعياد ميلادي ولا يترددان في إعطائي نقودا لأشتري المزيد منها. ولكنني، بطبيعة الحال، كنت أجد مجموعتي صغيرة جدا ومثيرة للشفقة بالمقارنة مع أرفف متاجر الكتب الضخمة المكدسة بانتظام شديد.
ومنذ أيام قرأت أن "سرقة الكتب هي أكثر أشكال السرقة أنانية".
وإنني أختلف.
سرقة الكتب في واقع الأمر أدب بقدر ما هي رياضة. فنحن حينما نكتب أو نقرأ، فإننا نجلس، أو نستلقي، بدون أدنى حركة تقريبا. في حين أننا عندما نسرق الكتب، تتحرك عضلات عقولنا وفقا لأتم أشكال التناغم والتوافق اتساقا مع عضلات أبداننا. ونحن حينما نسرق الكتب، نفكر ونفعل، وبمعنى من المعاني، نقرأ ونكتب.
وأنت إذ تسرق كتابا تكون شخصا وشخصية في الآن نفسه.
3
هناك نوعيات كثيرة من لصوص الكتب ترونها ابتداء من "مغامرات أوجي مارش" لـ صول بيلو وحتى "التحريون الهمج" لـ روبرت بولانيو. علاوة على قراء ملاعين لا حصر لهم ممن يسرقون كتب السحر من فرط تأثرهم بأهوال كتابات إتش بي لافكرافت. وهناك أيضا حالات راقية ومعقدة مثل جو أورتن الذي كان يأخذ الكتب من المكتبات العامة، فيبدل أغلفتها وصفحات فهارسها، ثم يعيدها إلى المكتبة وقد تغيرت إلى الأبد.
وإن بقيت أفعال جميع تلك الشخصيات أو الأشخاص باهتة ودون المستوى مقارنة بأفعالنا نحن. ذلك أنه من المستحيل على الآخرين ـ وإن كانوا مكتوبين بصورة أفضل وبحرفية أعلى ـ أن يشعروا بنوع التوتر الذي ينتاب المرء في لحظات ما قبل السرقة، أو في دقيقة النشوة التي تعتريك بعد السرقة، حينما تكتشف مرة أخرى أنك خرجت، وابتعدت، دون أن يتم الإمساك بك في تلبسك. ذلك أنه نوع من التوتر محال تصويره.
4
كان العصر الذهبي في حياتي المهنية كلص للكتب في السنوات من 1980 إلى 1985. في ذلك الوقت لم تكن هناك أنظمة إنذار إلكترونية أو قوائم محوسبة بالكتب. لم يكن ثمة شيء موصول بأسلاك الكهرباء، كل شيء كان فنيا إلى أقصى حد.
ولا تسألوني عن الطريقة، فلا يمكن أن أقولها، إذ بعد دخول مسرح الجريمة واختيار الضحية، كنت أشعر أنني فيزيقيا واقع في غياهب جو أو هالة تحيلني خفيا عن أعين مسئولي البيع في المكتبة. شيء ما من غير هذا العالم كان يمكِّنني أن أفعل أي شيء أود أن أفعله، وأن آخذ كل ما بي رغبة إليه. لم يكن يهم في شيء مدى ضخامة الكتاب، أو كم يبلغ ثمنه. هو موجود ليصير لي، ليستولي عليه أكثر الناهبين غراما، لينتقل على بساط سحري إلى غرفتي. لكي لا تلمسه من بعد إلا يداي.
تجيء على المرء لحظة، فإذا به ـ لا إراديا أو ربما بوازع من ميكانيزم دفاعي ـ ينزع إلى أن يمنطق المعجزات عساه يقدر أن يستدعيها كيف يشاء. هكذا قلت لنفسي: لعلك يا ولد من جملة المصطفَيْن، نعم، هكذا أنا، ولكن عليَّ ألا أهدر موهبتي أو أهينها في سرقة كتب لا تكون فيها منفعة لي أو تكون غير لازمة لتصنع مني الكاتب الذي أود أن أصير إليه.
وبالطبع، قلت لنفسي على الفور إن الكتب كلها لازمة، وجديرة من ثم أن تحظى بشرف السرقة.
5
وهكذا تراكمت لديَّ تدريجيا مآثر أستعيدها اليوم بحزن وعجب، وكلها جميعا مرتبطة بصور من شبابي.
سرقت على مرأى ومسمع من الجميع ترجمة لجيمس جويس، هائلة الحجم، ذات غلاف مقوى، عليها توقيع ريتشارد إلمان.
وذات صباح شتائي كامل الأوصاف، تحديت شخصا كان في ذلك الوقت صديقا عزيزا ومنافسا شرسا، ولص كتب شرها، في اختبار نهائي.
تمركزت وإياه في نهاية شارع أفينيدا كورينتس ببيونس أيرس، وهو شارع كان شهيرا باصطفاف عدد من متاجر الكتب، ولا تزال فيه إلى الآن، فيما أتصور، وإن كنت أكتب هذا وأنا بعيد للغاية. وحددنا الهدف: كل منا يأخذ جانبا من الشارع ـ وكنا من قبل قد وزعنا الجانبين بناء على قرعة بعملة معدنية ـ ويسرق أجزاء البحث عن الزمن المفقود السبعة لمارسل بروست بترتيب نشرها.
وأجدني مرغما على القول بأنني نجحت فيما فشل هو، وأن صداقتنا لم تصر من بعد على ما كانت عليه من قبل.
6
مع الوقت، طورت بطبيعة الحال تكتيكات أرقى وأكثر تعقيدا من مجرد إخفاء الكتاب في المعطف. وكان أفضل هذه التكتيكات من حيث النتائج هو الذي يتمثل في اختيار كتاب للسرقة، والانزواء به في ركن هادئ من المتجر، حيث أكتب إهداء إلى نفسي، ثم أعود إلى البائع وأريه الكتاب قائلا إنني "تلقيته هدية"، وأسأل إن كانت لديهم نسخة أخرى منه، وأسأل عن الثمن وأقول "أوه، إنه باهظ الثمن، الأفضل إذن أن أعيره نسختي"، وأخرج من المحل وفي يدي نسختي من أعمال سكوت فيتزجيرالد القصصية الكاملة ("الكاملة" كلمة تثير شهية اللصوص أكثر مما سواها) وقد صارت ملكا لي بصورة شرعية. وأحيانا، حينما يكون الكتاب من تأليف كاتب يعيش على مقربة، لم أكن أتردد في أن أمهر الإهداء بتوقيعه مع عبارات مودة وامتنان.
7
وبطبيعة الحال، وأكثر من مرة، كانت الأمور تسوء في بعض الحالات، إذ يتبدد عني الستار الذهبي الواقي في اللحظة الأخيرة فيكون عليَّ أن أهرب جاريا عبر الشارع يطاردني الموظف أو الموظفون.
أتذكر هروبي وفي جيب سترتي الداخلي رواية "الساعة البرتقالية"، إذ انعطفت إلى شارع، فوضعت بعض النقود على طاولة، ودخلت سينما كانت تعرض "قراصنة السفينة الضائعة".
كنت قد رأيته بالفعل مرات عديدة، فكنت أحفظه عن ظهر قلب، ولكن كان ثمة شيء ملائم تماما وشعريٌّ في فكرة أن يكون لص محترف للكنوز الأثرية هو ملاذ سارق كتب، هكذا فكرت ساعتها، حسب ما أعتقد الآن.
8
حين أعيد النظر في الأمر أجد الآن أن واقعة "الساعة البرتقالية" كانت بداية النهاية.
ظللت لفترة بعدها مستمرا في سرقة الكتب. ولكنني لم أعد أستمتع بها مثلما كنت. بت أقل ثقة في نفسي.
بعد فترة قصيرة نشرت مجموعتي القصصية الأولى، وفي معرض للكتاب ـ ومعارض الكتب هي أحب الملاعب الأولمبية إلى قلوب لصوص الكتب ـ كانت لحظة التجلي، لحظة أن رأيت طفلا يسرق أحد كتبي، ثم يمده إلي طالبا توقيعي. فكتبت على أول صفحة: "إلى س الذي منحني فرحة أن أرى من يسرق ليقرأ كتابا ألفته".
نظر الولد إلى الإهداء ثم ابتسم وهو يمنحني نظرة امترج فيها الاعتزاز بالخجل. اعتزاز أكثر، خجل أقل.
عرفت في تلك اللحظة أنني انتقلت إلى الجانب الآخر، دونما فرصة للرجوع. وأنني، مثل أليكس في الساعة البرتقالية، ولسوء الحظ، كنت قد شفيت شفاء لا مرض منه.
الترجمة من الأسبانية إلى الإنجليزية بقلم نتاشا ويمر
عن مجلة جراناتا

نشرت هذه الترجمة قبل سنين في ملحق شرفات أو جريدة عمان أو أي مكان آخر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق