الأحد، 23 فبراير 2014

هل للشعر وظيفة اجتماعية؟

هل للشعر وظيفة اجتماعية؟*

ستيفن بيرت:
ما الوظيفة الاجتماعية للشعر؟ حسن، وما الوظيفة الاجتماعية للتمريض. وللسباكة والنجارة؟ مهما يكن ظنكم بالذين يصلحون لكم أنابيبكم، فإنكم لا تكادون تعرفون شيئا عما يحصلون لقاءه على مقابل مادي، ولماذا يقدّر الدافعون لهم خدماتهم. قد تظن شاعرة ما أنها تعرف مثل هذه الأمور عن الشعر، ولكن ضعوا شاعرين أو أكثر (ناهيكم عن النقاد) في غرفة، وسيتبين لكم أن ما تسمونه معارفهم ما هي إلا آراء أو مسلَّمات متصادمة، برغم أن صفة "الاجتماعي" ـ بوصفها نقيض "الفردي" ـ تنطوي على أرضية ما من الاتفاق والاشتراك في شيء ما. (من الأسباب التي تدعونا إلى البحث عن "وظيفة اجتماعية" للشعر برغم غياب مثل هذا الاتفاق، هو أن من يعيشون منا على الشعر ـ سواء عبر تعليم الآخرين كيف يكتبون المزيد منه، أو عبر الكتابة عنه ـ هم غالبا يشعرون بالذنب من جراء ما يحصلون عليه من مقابل مالي).
بالمقارنة مع الشعر نجد أن قليلا من الأنشطة الإنسانية ـ في أمريكا على الأقل ـ هي التي تتم ممارستها على نطاق واسع على الرغم من غياب إجماع ضمني على السبب الذي يجعلنا نمارسها، وعلى ما فيها من نفع، وعلى الوظيفة التي تضطلع بها. فعندما تقرؤون كثيرا من الشعر المعاصر، يتبين لكم أن وظيفة الشعر الاجتماعية المزعومة أو المعلنة، السافرة أو الكامنة، تتباين تباينا كبيرا بتباين الشعراء أنفسهم. فشعر "راي أرمانتروت" على سبيل المثال يسعى إلى القيام بوظيفة اجتماعية وأحيانا يبدو متلهفا على القيام بها، قد نحدد هذه الوظيفة بأنها تجذير التفكير التشككي. وهذه وظيفة اجتماعية لأنها "خدمة للمجتمع" أو لأنها نتاج "سياسة اجتماعية". أما شعر "جيمس ميرل" فله وظيفة اجتماعية بمعنى "المناسبة الاجتماعية": إذ يحاول أن يطرح ـ وغالبا ما يكون ذلك في مواجهة الفناء أو الاكتئاب أو الأمراض البدنية ـ  إحساسا بأن للشاعر أصحابا يضحكون لنكاته، ويشاركونه إحساسه بالأشياء، ويستجيبون له بشكل من الأشكال. ويتساءل الشاعر الراحل "جيمس ميرل"، وهو صاحب قصيدة "بورتريه شخصي"، عما إذا كان شعره قد يصل إلى أبعد من هذه الدائرة الاجتماعية الضيقة. إن كلا الشاعرين يريدان أن يقولا شيئا عن المجتمع، وكلاهما يريدان القيام بشيء قد نسميه "اجتماعيا" بغية تخيل أو إنتاج إحساسٍ ما بأن ثمة علاقة تتجاوز الحميمية الثنائية [بين الشاعر الفرد والقارئ الفرد]، ولكنهما برغم وحدة الغاية، يختلفان فيما يقومان به وفي سبب قيامهما به. ولكي يكون لكلامنا في الوظيفة الاجتماعية للشعر نفع، علينا أن نحدد أي شعر نعني، أو شعر من الذي نعني.

ديزي فريد:
إن من يتحدثون عن النفع الاجتماعي للشعر غالبا ما يركزون على المضمون. فيتصورون مثلا أن الشعر ينطق بالحق، أو يقدم العزاء. وتلك رؤى تصيبني بالغثيان، وتمثل خيانة للشعر. فلو أنكم تدخلون القصائد زحفا على أيديكم وأرجلكم، كما سمعت ذات يوم شاعرا شهيرا يقول، فإنكم بذلك لا تقصدون الشعر. لو أنكم تفعلون ذلك، فلعل بروزاك Prozac  أنفع لكم.
وظيفة الشعر الاجتماعية لا تأتي مما يعنيه، بل مما هو إياه. ونفعه يتمثل في أنه يزعزع شِبه الحياة التي يعيشها الأمريكيون والتي تقوم على الشراء ومشاهدة التليفزيون. وليست لمضمون القصيدة أهمية كبيرة في هذا الغرض.
إنني أقرأ عبارة "الوظيفة الاجتماعية" في سياق سياسي. فثمة الكثير من الأشياء التي ينبغي أن تحدث في هذا البلد، مثل محاكمة جورج بوش، أو تأميم قطاع الصحة العامة، أو تقنين الاتحاد المدني بين أبناء الجنس الواحد،  أو إعادة القوات إلى الوطن الآن. وليس بوسع الشعر أن يفعل شيئا من هذه المهام. قصيدة "آن وِنترز" "قناة الطاحون" التي تدور عن العمال في وسط منهاتن تحوي وصفا فاتنا للمشهد في المدينة: عمال، طقس، إضاءة، سيارات المدراء الفارهة، حافلات الموظفين. ومع أن الموضوع والحمولة السياسية واضحان وجذابان، إلا أنه ليست للمضمون علاقة كبيرة بالسر في استثنائية هذه القصيدة.
أهي قصيدة مفيدة؟ إنني أحب الشعر السياسي، فهو يعترف بأن السياسة جزء من الحياة. ما من شك أن الكثيرين منا في هذه اللحظة التاريخية جياع إلى قصائد تستهدف الخارج، وليس الذات وحدها أو حتى ما يبدو صنفا آخر من النرجسية، قصائد تمثل تحولا عن التعبيير الطليعي اللغوي الذي لا يمثل أكثر من رد فعل (أجوف بالتبعية). ولعل جرائم أمريكا تدفع الشعراء إلى الرجوع إلى العالم. ولا أقول إن الأمر اختياري. ففي نهاية المطاف سيصبح هذا الرجوع ضرورة سياسية.
ولكن الشعر الحساس للسياسة ليس أنفع من غيره من الشعر لسمة أصيلة فيه. فالشعر الوحيد الذي الذي ليست له وظيفة اجتماعية هو ذلك الذي يطالبنا في التفكير في الألف والباء والتاء، أو الذي يطلب تحميسنا، أو الذي يخبرنا بأن العالم رائع. أما ذلك الصنف من الشعر الذي يكتب ليرفع من معنوياتنا مثلا بعد 11/9، فهو تزييف موال للمؤسسة، لأنه يجعلنا ندثر رؤوسنا في أغطيتنا ونستسلم للنوم.
وأود أن أسجل هنا أنني أشعر بالذنب بسبب ما أحصل عليه من مقابل مادي للشعر، انتهى.

ميجور جاكسون:
وظيفة الشعر هي أن لا تكون له وظيفة أكثر من بنيته ووجوده في العالم. ولهذا السبب، فإن الشعر يجعل كل شيء (ولاشيء في الوقت نفسه) يحدث، لا سيما في مجتمع استهلاكي ميال إلى تعيين قيمة كل شيء بدءا من الراقصات المبتذلات وحتى المعلمين. وسواء كان الشعر شهادة، أو وسيطا نعظّم به لغة الفرد وأفكاره، أو مخزنا لتجاربنا الجمعية، أو حيزا نقوم فيه "بتنقية" اللغة، فإن الشعر شأن كل الإبداعات الخيالية يضفي مسحة سماوية على المشروع الإنساني. تلك وظيفة الشعر الاجتماعية.
عسى ألا يكون ذلك  قد بدا تمرينا على الغموض. ولو كان بدا لكم كذلك، فلأضف إليكم غموضا آخر: إن واحدا من أهداف الشعر الأساسية هي أن ينير جدران الغامض والمبهم والعصي على القول. أظن أن الشعر ينبغي أن يُدرَّس لا بوصفه منتِجا للمعنى، وإنما بوصفه فرصة لتعلم التعايش مع الشك وغيبة اليقين، أو كوسيلة للعيش في اللامحدد. إن تعريف النوع البشري يتم في عمقه من خلال جيشان العقل الإنساني، ولكنني أظن أن ثمة داعيا قويا للعودة إلى عنصري الروع والدهشة. فهذا الموقف ضروري لصتحنا المشتركة.
إنني أحاول أن أعلم طلبتي الحد الأقصى لما يمكن أن يحدث أثناء قراءة قصيدة. فلو حدث أن نجحت موسيقى القصيدة وبقية استراتيجياتها فإن الذات القارئة تتلاشى لتتماهى في هوية المتكلم، أو في الموقف النفسي للقصيدة. وما أن يضفي قارئ ذاته على ميكانزمات القصيدة حتى يضمها إليه ويحولها في ذاته. وذلك الطقس يزيد الإنسان إنسانية ويحقق له التوحد مع الفن. ولو أن كلامي يبدو مثل الأحلام المغرقة في الجموح، إلا أنه ليس سوى إيمان بقوة الشعر التي تنفث في قلمي الروح فيتحرك، سواء دُفع لي مقابل مادي أم لم يُدفع.

إميلي وارن:
على طريقة الكلمات المتقاطعة التي يعدها الشهير "ويل شورتز"، دعوني أستخلص من أجوبتكم هذا السؤال: "كلمة من ثلاثة أحرف، تشير إلى فن ليس له نفع عام، اللهم إلا النفع الذي يحدده كل ممارس لهذا الفن. يمكنكم أن تفصلوا مضمونه عن استخداماته، واستخداماته تتمثل في زعزعة الثقافة الاستهلاكية والذهاب بالناس إلى غموض اللامحدود".
يبدو كما لو أنكم تقولون إن أفلاطون لم يكن ينبغي أن يقلق بشأن الشعراء. فهم طردوا أنفسهم من الجمهورية، بتخليهم عن دورهم كصارخين بالنحيب والوعيد. لن يفسدوا الشباب، لا سيما الجنود، الذين حذرهم أفلاطون من الشعر خشية أن يذكرهم بخوفهم القذر من الموت. لقد أصبح الشعراء اليوم أشبه بالجنود، فلديهم ـ في نهاية المطاف ـ وظائف يؤدونها لقاء أجر، ولكنهم لا يؤدونها لحساب الجمهورية بل لحساب العالم الذاتي الذي استوعبهم ولم يطردهم.
هل تتباين وظيفة الشعر الاجتماعية هذا التباين الشاسع بحيث يمتنع علينا إطلاق أي تعميم بشأنها؟ ما الذي يمكن أن يقال فيصدق في متشكك ينشد اليقين في قصيدة لـ "راي آرمانتروت"، أو سباك يبحث في موقع ياهو عن نخب شعري يلقيه يوم زفافه، أو شخص على عجلة من أمره يريد في الشعر ملاذا من وظيفة مضنية، أو سجين في جوانتانامو محرم عليه القلم والورق فينقش قصائدبالحصى  على أكواب من الفلين؟
سأخاطر بإجابة: الشعر يربط العزلة إلى العزلة. والشعر تجسيد لمفارقة بشرية مركزية: وهي أننا نوجد ذواتٍ منفردة، غير أنه لا سبيل إلى تعرفها إلا عبر علاقاتنا. فالقصيدة تخلق حضورا محتملا ماديا وعاطفيا وثقافيا بحيث نلتقي بأنفسنا في استجاباتنا لها. وهذا اللقاء، الذي يحدث داخل اللغة، هو الذي يحفظ عزلتنا ويوسعها ويشير في الوقت نفسه إلى ما بينها وبين العزلات الأخرى من روابط. إن الشعراء المهرة من أمثال "وَلْت ويتمان" و"لانجستُن هيوز" و"آدرِيَن رِتْش" يطرحون ما تتردد أصداؤه وسط  الجماهير ويغير من شكل علاقاتنا الاجتماعية ومن ثم وعينا الفردي والجمعي على السواء.
وقصيدة "قناة الطاحون" لـ "آن ونترز" دليل نصي على هذا. فكيف يتسنى ألا تكون لمضمونها أهمية؟ كيف لا ترتبط في الذهن بصفرة وجوه العاملات في حافلة المساء، وبصيص الأمل الذي لديهن في أن يكون قد بقي لهن من ذواتهن نصيب، برغم ما يلقين من إهدار، وما ينفقن في خدمة العمل من ساعات؟
نقول لأنفسنا
قناة الطاحون لن تأخذ كل ما فينا.
لن تطحن كل ما فينا.
سنُبقي لأنفسنا فضلة من الماء
ـ شأن ما نبقي لأنفسنا من أنفسنا ـ
لكي تنعكس عليها السماء.
ولكننا لن نبقي شيئا
(هكذا تقول راكبة الحافلة لنفسها)
فلا شيء يفيض في الحقيقة من العمل.
لقد أخذوا الماء كله لقناة الطاحون.
هل ستنتهي هذه القصيدة نهاية سقيمة؟ كلا. هل تكشف آلام البشر ومنبع أوجاعهم؟ نعم. أهذه هي المقدرة التي ستعيننا ـ أفضل مما يفعل السلاح والدولار ـ على عبور هذا الزمن العصيب؟ قطعا.

ستيفن بيرت:

ليتني كنت مفرط التفاؤل مثل "إميلي وارن" بشأن نطاق قالبنا الفني، ولكنني عاجز عن أن أفهم، أو غير قادر أن أصدق حجتها. هل ثمة وظيفة يمكن أن نصفها بـ "الاجتماعية" بالمعنى المعتاد للكلمة، وظيفة تقوم بها كل القصائد الجيدة، والقصائد وحدها (وليس غيرها مثل الأعمال النحتية مثلا)؟ إميلي تقول نعم، تقول إن "الشعر يربط العزلة إلى العزلة" ويخلق "وجودا" من خلال تأمله "نلتقي بأنفسنا" وأنفس قراء وكتَّاب آخرين.

هناك بالقطع قصائد كثيرة ـ بل يمكن القول إن كل القصائد الجيدة ـ لها هذا الأثر. وكذلك الكثير من الأشياء والأحداث التي ليست بقصائد. ألا يوجد منطق في القول بأنه عبر إقامة بيوت ذات بيئة إنسانية، من خلال العمل الشاق بالمطرقة والمسامير من ناحية، ومن خلال تأمل الفقر من ناحية أخرى، يمكن لي أن ألتقي بنفسي فأعرف كلا من المجتمع ونفسي؟ ماذا عن قراءة رسائل جدة جدتي الغرامية، وقراءة التواريخ الشفوية لـ "ستَدْس تيركل"، وتأمل منحوتات "طائر في رحلة" لـ برانكوزي"؟ إن تجربة مشاهدة الفن البصري العظيم في حضور آخرين (كما في المتاحف)، هي أشد وضوحا في الربط بيننا وبين غيرنا من القراءة الصامتة لشعر لم نلتق قط بكتابه؟
الشعر إذن يربط بين عزلاتنا، ويمكننا من مقابلة أنفسنا، التي تكتسب ـ ويا للمفارقة ـ من خلال اللغة وحدها بعدا اجتماعيا. إن فهمنا هذا ـ الذي قد نصفه بأنه فهم رومانتيكي متأخر ـ للشعر (والذي بمقتضاه تكون القصائد كلها في حقيقتها غنائية) يجعل من هذا الربط بين العزلات من خلال اللغة وحدها غايته الرئيسية: ويصبح الشعر هو هذه الطريقة في استخدام اللغة لتحقيق هذا الهدف (وليس الكشف مثلا أو الإقناع).
لو أن ذلك ما تعنيه إميلي فإنني أقبل قضيتها، ولكن مع الدفع باعتراضين. الأول هو أن هذا فهم محدد تاريخيا، إذ إنه يصف الكثير من القصائد المهيبة، لكنه يستبعد الكثير ـ وهذا أقل ما يمكن قوله ـ من الاستخدامات الكثيرة الرائعة للشعر (ومنها على سبيل المثال سوناتا ميلتُن ضد البرلمان الإنجليزي في القرن السابع عشر) والاعتراض الثاني هو أن قصائد إميلي تبدو ذات حس "اجتماعي" لو أن كلمة "اجتماعي" تعني كل تجربة أو خاصية يشترك فيها شخصان أو أكثر، سواء كانوا أصدقاء أم أغرابا، أحياء أم أمواتا. وبغير ذلك تعجز القصيدة عن الربط ـ كما تربط الكثير من القصائد ـ  بين العزلات، وعن إقامة روابط بين القراء الذين لا يعيشون في نفس المجتمع بل في نفس البلد. ولو أننا نستخدم مصطلح "الاجتماعي" بمعنى أكثر تقليدية وتحديدا ليعني على سبيل المثال "كل ما يتعلق بمجتمع بعينه في إجماله" أو "كل ما يتعلق بجماعة كبيرة من البشر"، فحينئذ لن تكون هناك وظيفة اجتماعية تشترك فيها كل القصائد الجيدة.

ديزي فريد:
ماذا عن قرار يعتبر السباكين وغيرهم من البشر "العاديين" قراءَ مجهولين للشعر؟ يتصادف بالطبع أن تقرأ الآنسة "عادية عادي" الشعر كما يقرؤه غيرها. كل ما آسف له في الحقيقة هو أن كثيرا من الشعراء لا يعرفون شيئا عن تركيب المراحيض، ولا أستثني نفسي. من السهل أن نتحدث عن "هؤلاء" ممن يمثل لهم الشعر نفعا. إذ إن "هؤلاء" هذه نادرا ما تتضمنـ "نا".
يبدو أن "إميلي وارن" تذهب إلى أن المضمون هو الذي يجعل القصائد نافعة. وعلى أهمية المضمون ـ لأن الشعر ليس بلعبة شكلية على أية حال ـ إلا أنه لا يجعل القصائد نافعة. الجودة هي التي تفعل ذلك. "قناة الطاحون" قصيدة جيدة ومفيدة لأنها تقدم في لغة استثنائية مظهرا من مظاهر الوضع البشري، وليس مجرد حزمة من الحلول الزائفة التي ترتاح لـ "الوجوه المصفرة". على إيميلي أن تعيد قراءة الأبيات التي استشهدت بها لو أنها تظن أن هذه القصيدة تتعلق حقا بعمال ينشدون أن يبقوا لأنفسهم فضلة من أنفسهم. إن الشاعرة في الحافلة، وكلنا في الحافلة، كلنا في قناة الطاحون.
لم أستطع أن أفهم لماذا يطالَب الشعر ـ وحده تقريبا بين جميع الفنون ـ بأن يكون أكثر من نفسه. بعض الناس يكرسون أعمارهم لفن الأغنية. يتعاملون معه بجدية متوجهين إلى جمهور محدود دون أن يشغلوا أنفسهم بهاجس ما ينطوي عليه فنهم من نفع أو بمحدودية جمهورهم. ولا نجد من يقول "أيتها السوبرانو، اجعليني اكثر ارتياحا، أيها التينور، ساعدني على فهم المشكلات المجتمعية".
أما الشعر فهو فن رفيع ولكنه في الوقت نفسه ديمقراطي: غير باهظ الثمن، سهل الحمل، قابل للنسخ، سريع الاستهلاك (باستثناء الملحمة والشعر بالغ الصعوبة)، لا يتطلب أكثر من إجادة القراءة والكتابة للمشاركة فيه. وإذن فقد يكون جيدا أن يحمل الشعر هذا العبء الإضافي، حتى وإن كان معنى ذلك أن يمثل الشعر للناس ضرورة أكبر من ضرورة القصائد، وأن ينزع الناس إلى الاهتمام بما يحدث على الصفحة. ولكن ذلك لا يفسر سبب سيول المطالب التي غالبا ما يقدمها خبراء الشعر واسعو الثقافة. إنني أستبعد أن يكون أغلب الشعراء ـ الجيدين منهم والسيئين، والسياسيين وغير السياسيين ـ ينفذون هذه المطالب في عملهم. فلماذا نعمم هذه المطالب على الشعر؟
كذلك يزعجني سيناريو إميلي الرومانتيكي الخاص بسجناء جوانتانامو. إنني لا أزدري شعر الشهادة، بل بالعكس. فن الشهادة ضرورة. ولكننا يجب أن نعي لاستخدام شعر الشهادة بوصفه كليشيه لانتصار الروح الإنسانية بما يمثل رشوة لأنفسنا فتكون أكثر ارتياحا وهي تشاهد ضحايا حكومتنا. فالغرض من الشعر ليس أن يقول قراء الطبقة الوسطى الآمنون "مساكين! يمرون بظروف صعبة. الحمد لله أنني أصوت للديمقراطيين".

ميجور جاكسن:
تتساءل "ديزي فريد" عما يجعل الشعر ينادَى للقيام بواجب، فلماذا "يطالب بأن يكون أكثر من نفسه" لا سيما في لحظات الأزمات السياسية والوطنية. إن ذلك هو نفس الضيق الذي عبر عنه الشعراء المستاؤون من سماعهم للمراثي المكتوبة في ضحايا 11/9، أو القصائد التي تلقى في افتتاح حدث ما، أو من شاعرة شهيرة تكتب بنفسها أبياتا على بطاقة تهنئة. لماذا نرى نحن الشعراء في مثل هذه الوظيفة للشعر شيئا مؤسفا؟ ألأنها اجتماعية أكثر مما ينبغي؟
اسألوا الشاعر الذي يعزف عن قبول المشاركة في حفل زفاف، أو جنازة، أو مسيرة سياسية، اسألوه أن يقارن هذه المهمة بالقصائد التي تنشأ من احتياجه الغامض أو الخاص. هذه القصائد تنشأ عن رغبة ثانوية بالمقارنة، وإن تكن ملزمة. وقد تُحدث على سبيل المثال حركة إيقاعية للجسد على الصفحة، أو تكتشف أهمية القبض على صورة. ولكنها على الأرجح لن تعني أبدا في المجال العام مثل ما تعنيه القصائد التي يكون فيها للمضمون أهمية قطعية.
أما ما أختلف فيه مع "ديزي فريد" فهو أنه لو كان لدى القصيدة ما تقوله، وتقوله بطريقة جيدة، فسوف تبقى هذه القصيدة في الذاكرة. على الرغم من أن ما يمنح القصيدة أهميتها وثقلها ـ أي اللغة الاستثنائية والصور الأخاذة والغنائية العالية ـ  قد يبقى غامضا على الشخص العادي. أما بالنسبة للآنسة "عادية عادي" فقد تكون أقل اهتماما مما تتصورين بقصائدك الجياشة بالمشاعر. فللقصيدة عند الآنسة "عادية" قيمة وغرض لأنها تقول شيئا ذا معنى بالنسبة لها.
لا بد أن يعترف أغلب الشعراء بأنهم سيبتهجون إذا رأى مجتمعهم الصغير المكون من أصدقائهم وأقاربهم أن لهم "وظيفة"، وأنهم الصوت الذي يعبر عن حياتهم في الشعر، ويعطي وجودا أكبر لأفكارهم وتجاربهم، تماما مثل المنشدين الرواة في غرب أفريقيا. إن المرء لا يتمنى على الشعراء إلا أن يعوا بما يطالَب به الفن الذي يمارسونه، والذي طالما انطوى على تجسيد لرؤية اجتماعية. غير أن ما ظللنا ننبته ربما منذ عهد الرومانتيكيين هو رؤية للذات، إما في وحدتها ورومانتيكيتها المفرطة، أو في انحصارها وتمزقها، وبالتالي حداثيتها. في حين أن شعراء مثل "مايا أنجيلو" و"بيلي كولنز" والشعراء ذوي العقلية الأكثر تسيسا مثل "آدريان ريتش" و"سونيا سانشيز" والفلسطينية الأمريكية "سهير حماد" يتجاوزون الجمالية المجردة ويتحدون النظريات المتفق عليها بين الشعراء الأنانيين الذاتيين الذين يكدحون في بضع مقاطع من الشعر الحر. على المستوى الشخصي، أرى أن التهكم من هؤلاء الشعراء وازدراءهم أمر معتاد ومثير للغثيان وإن يكن هينا في هذه الندوة.

إميلي وارن:
بعد أربعة وعشرين ساعة من السفر، أعود إلى بيتي في سياتل وأنا لا أكاد أرى ما أمامي، فيطفو أمام عيني عنوان "إطلاق نار على مكاتب يهودية فدرالية يسفر عن مقتل شخص وإصابة خمسة آخرين"، وبإحساس عال بالترقب، أتوقف عن القراءة. هل المعلم الذي يدرس لي التلمود ميت أم مصاب؟ هل بينهم شخص أعرفه؟ لم يتم الإفصاح عن أسماء. في الصباح التالي تقوم إسرائيل بقصف قرية لبنانية فيموت أكثر من خمسين شخصا معظمهم نساء وأطفال. الحقيقة أننا "كلنا في الحافلة" كما تقول ديزي. وما من شك في أن شخصا ما هنا أو في مخبأ في شمال إسرائيل أو جنوب لبنان سوف يعود إلى الشعر ليتلو أبياتا منه في جنازة، أو ليبث الحماس في نفوس مروَّعة أو مجتمعات ممزقة.
إن ميجور جاكسن يتساءل: لماذا يدعى الشعر لأداء الواجب في الأزمات؟ إننا نقرأ كثيرا من الشعر المكتوب تعبيرا عن القهر في بلاد أخرى ([تشيسلاف] ميلوش، [آنا] أخماتوفا، [محمود] درويش، [بول] تسيلان) أو حتى لشعراء أمريكيين يكتبون عن القهر (كقصيدة "خيال قاسٍ" لـ "كورنليوس إيدي" مثلا)، وهو شعر نصفه ـ  بقدر ضئيل من التهكم في الغالب ـ بأنه شعر "سياسي".
إن قصائد مثل "قناة الطاحون" تفتح أعيننا على الظروف الاجتماعية التي تشكل علاقاتنا، وتعيننا لغتها على الاستيعاب والفهم والإحساس بالظروف والعلاقات، بغض النظر عن إزعاجها، أو إمكانية عمل شيء لتغييرها. ولكن هذه الإمكانية، وهذا الأمل، هو تحديدا الذي يجعل للشعر أهمية شيك الراتب.
تنتهي "قناة الطاحون" بكلمة "الملح" (ولكن هبة الطحان أو لعنته/هي ما نسيه رب لا يزال يحرك طاحونة الملح/ليملأ البحر بالملح). طعم الملح هو تماهينا مع تعب العمال وحقيقة أن حيواتنا الفردية تقوم على هذا الملح. وعلى مدار القرون ـ كما تقول القصيدة ـ يقيم هؤلاء العمال الكاتدرائيات، يمارسون الفن. وعمل الشاعر، هبته أو لعنته، هي أن يحكي قصة شخص ليست له قصة إلا قصة العلاقات. لقد كتب [بول] تسيلان يقول "أنا إياك/ لو أني أنا إياي).
ولكن هل جميع القصائد تفعل هذا؟ أتفق مع "ستيفن بيرت" في أننا لو اشترطنا للشعر مسبقا غرضا أخلاقيا واحدا، لو كتبنا وفقا لنموذج، فإننا نصادر على إمكانية أن تعالج كل قصيدة سؤالا تثيره ظروف معينة. وأيضا إذا رفضنا تشابك العلاقات مصرِّين على الذات المعزولة المتشظية للوعي الحديث، فسنبقى أسرى ذواتنا محدودين بها، ويقينا سنبقى عاجزين عن الرد على سؤال المرأة الواقفة مع أخماتوفا في السجن تسألها "هل بوسعك وصف هذا؟".

ستيفن بيرت:
أوضِّح لديزي فريد أنني كنت أقصد ما يفعله السباكون (أي تركيب الأنابيب)، وليس السباكين أنفسهم، أو ما يقرؤونه. (وكان يمكن أن أستخدم بدلا من السباكين مترجمي لغة الإشارة أو أطباء التخدير). فالسباكون والمترجمون وأطباء التخدير يفعلون ما يسهل علينا وصفه وفهمه وما نحتاج إليه. في حين يصعب تعريف الشعر ـ وبقية الفنون ـ في نقاط محددة تبين نفعه، على عكس السباكة أو ترجمة الإشارات أو التخدير. وأظل أصر أن الشعر غير قابل للتعريف في ضوء الوظيفة الاجتماعية مطلقا، حتى وإن كانت رؤى الذات لدى أغلب الشعراء الحديثين (وهنا أتفق مع إيميلي وارن) تنطوي على مفارقة احتوائها مجتمعات العزلة، فتكون اجتماعية من ناحية، ومناهضة للمجتمع من ناحية أخرى.
ربما لا يطلب أحد من السوبرانو أن تبرر عملها في ضوء المنفعة السياسية الظاهرية، ولكن مؤلفي الأوبرات يواجهون منذ القدم بمثل هذه المطالب. فقد واجه ديميتري شوستاكوفيتش (وأحيانا كان يحاول أن يلبي) مطالب الواقعية الموسيقية السوفييتية. وكانت نظريات ثيودور أدورنرو الاجتماعية (والمناهضة للمجتمع) تطالب المؤلفين الموسيقيين، والكتاب بحماية "ذات الوعي الحديث المتشظية المعزولة" من الدعاوى الزائفة للكلية الاجتماعية الفاسدة.
لا أرغب في الإصرار على هذه الحماية، أو في إنكار وجود وظائف اجتماعية للقصيدة. أنا فقط أقول إن القصائد المختلفة تؤدي وظائف مختلفة، والقصائد الجيدة (مثل "قناة الطاحون") تؤدي العديد من الوظائف مجتمعة. ولو أن ثمة حقائق مطلقة في الوظائف الاتصالية للقصائد ـ حقائق توجد في جميع القصائد الجيدة وليس قناة الطاحون وحدها ـ فستكون هذه الحقائق أكثر إطلاقا من أن تكون اجتماعية، ولكنها ستبقى قادرة على أن تكون حمولة للاتصال الذي يقوم بين شخصين في وقت ما، سواء التقيا وجها لوجه، أم فصلت بين الشخصين، أي الكاتب الحقيقي والقارئ الضمني آلاف السنين. من الأسباب الوجيهة لقراءة قصائد من زمان أو مكان بعيدين هو أنها تأخذنا من مجتمعنا، وتبين لنا مبلغ عدم اجتماعية الأفكار والمشاعر الخاصة بمجتمع معين أو المكتوبة عنه أو المكتوبة له.

ديزي فريد:
لم لا نقدم محصلة مؤلفة من الأجزاء؟
1 ـ تاريخيا. الزعم بأن الرومانتيكيين كانوا غير مهتمين بالسياسة أو المجتمع (مايك جاكسن) هو زعم قابل للدحض بمجرد قيام أي قارئ بالاطلاع على شيلي أو بايرن أو بليك.  ولو أن وظيفة الشاعر قبل الرومانتيكيين كانت تتمثل في النطق باسم المجتمع، فقد انتقل الرومانتيكيون إلى التكلم إلى المجتمع، والنطق باسم الفرد، الذي قد يكون أيضا فقيرا أو مقهورا. لقد كانوا ثوريين معارضين لنظام.
2 ـ لغويا. الاستخدام ليس الوظيفة. الحرب والسلام كتلة ضخمة من الورق. أنا نفسي استخدمت ثقلها، بعد قراءتها طبعا. وظيفة الحرب والسلام أكبر بكثير من استخداماتها الكثيرة. وكذلك الشعر. غالبا ما تكون القصائد الرديئة أقدر على المداواة والإقناع والاحتفال من القصائد الجيدة. إذ إنها تخلو من ذلك الغموض الخصب الذي سماه كيتس بـ "المقدرة السلبية"، ولذلك تفشل هذه القصائد شعريا. خذوا مثلا على ذلك قصائد 11/9 الرديئة والتي "استأت" منها شخصيا. فالرومانتيكية المنحطة في هذا الكم الهائل من القصائد الرديئة هي بمثابة استعراضات لمدى حساسية الشاعر. وهذه الاستعراضات قد تكون نافعة من الناحية العاطفية أو السياسية، ولكن منذا الذي يحتاج إليها؟ فهذه المراثي لا تصدق إلا على تجارب فردية مستقاة من مشاهدة التليفزيون، ولكنها تعجز عن إثارة هذا السؤال: لماذا يقتلنا هؤلاء الناس؟ في حين أن قصائد 11/9 الجيدة هي التي ترى في أمريكا ضحية ومذنبة. أما أنا فعلى قناعة أن شعر المواساة المكتوب في 11/9 قد قدم الدعم ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ لإدارة بوش. إن شعر المواساة بالنسبة للشعر هو مثل الأفلام الإباحية بالنسبة للسينما. فللأفلام الإباحية استخداماتها، والتي قد يكون بعضها إيجابيا، ولكن لا يوجد من يخلط بينها وبين الفن الذي يتناول الحب. ولكن الفارق بين منتجي المواساة ومنتجي الإباحية هو أن منتجي المواساة نادرا ما يكونون واعين بانحطاط ما ينتجون. عار عليهم.
3 ـ شعريا. القصائد العظيمة لا تندرج دائما في الفئات الجاهزة: تذكروا هجائيات مارشال البذيئة، وغنائيات ديكنسن ضد السياسة، وأناشيد باوند على الرغم من فاشيتها المقيتة، وكيف أنها جميعا تمثل شعرا عظيما. كما أن أربعتنا نكتب قصائد، وقد يحدث لأحدنا أن يبدأ (وإن لم يحدث هذا لي قط) بنية أن يكون نافعا، ولكن القصيدة عند نقطة معينة، تبدأ بفرض مطالبها علينا بدلا من العكس. وتلك لحظة الشعر، والقصائد توجد إشراكا للقراء في هذه اللحظة. ولذلك فإنني أرى تركيزنا على النفع شيئا غريبا: أفهذا مبلغ علمنا بالشعر؟ لماذا نقوم بتحييد أنفسنا من فعل القراءة؟
4 ـ مُتْعَوِيًّا. الشعر بهجة. وأنا جادة فيما أقول. في قصيدة "الللازورد"  يصر كيتس على أن في الوجود الإنساني فرحا بجانب ما فيه من مأساوية. نعم هناك معاناة فظيعة، فجميعنا منتهون إلى الموت. ولكن، على اللازورد المنقوش، عندما
يتساءل امرؤ عن أنغامه الحزينة
تبدأ الأصابع المصقولة في العزف
والعيون
العيون القديمة اللامعة
تمتلئ بالبهجة.

ميجور جاكسون:
تسيء ديزي فريد فهم قراءتي لتورُّم الأنا في الشعر الرومانتيكي والتي يتبين من أي قراءة عابرة للتاريخ الأدبي أنني استلهمتها من إليوت وغيره من النقاد المناهضين للرومانتيكية. ولنواجه الحقيقة: لو كان ثَوريّو القرن التاسع عشر أحياء اليوم، لما وجدوا وظائف ولعاشوا مغمورين. كانوا على الأرجح سينتهون في مستشفيات الأمراض العقلية بسبب ما يخايلهم من رؤى متصلة بالمجتمع أو بالخرافات، وكان أحدهم على الأقل سيُتهم بالإرهاب والتعاطف مع الإرهاب لما يقوله ضد الدولة وما يعلنه من معتقدات لامسيحية.
إن الشعراء الثوريين حقا يُحرَمون من مكانتهم عند تناول أعمالهم ـ لو تم تناولها ـ في الصحافة، لسبب قد يتعلق بالحجة البالية الخاصة بغياب القيمة أو تواضع القيمة الجمالية في شعرهم. وما "جون ياو" و"نيكي فيني" إلا مثالان للشعراء الذين يكتبون شعرا "يحتضن التجربة الإنسانية بكل ما فيها من تعقيد" فلا تلقى دواوينهم إيماءة احترام من مجلة "شعر POETRY". وحتى حينما تلقي المؤسسة الضوء على شاعر بعد وفاته كما حدث لـ"جون جوردان" التي لم يعان شعرها قط من النرجسية البغيضة، فإن إلقاء الضوء يكون بمثابة مناصرة وإنصاف أكثر منه تقييم جمالي.
ما لمسته أيضا في هذه الندوة هو التهكم المزري من قدرة الشعر على التأثير في حياة الناس بل ومسئوليته عن ذلك. لو أن جمهور القراء يجد سلوى أو ينشد "مقاما عابرا وسط التشوش" ولو أن الشعر يمده بذلك، فلماذا نعده شعرا فاشلا؟ هل صارت المداواة حكرا على الأدوية الموصوفة؟
إن قيمة جميع القصائد وأهميتها تتحدد جزئيا من خلال السياق التي تتم قراءتها فيه وطبيعة الجمهور الذي يتلقاها. ذات يوم أتاني أحد العاملين في الخدمات الاجتماعية بعد أمسية شعرية وشكرني على كتابتي لقصيدة ما، قائلا "إنه يدير لقاء أسبوعيا لمجموعة من الرجال المتورطين في انتهاكات جسدية، ويفتتح كل لقاء بقصيدتي". لا أعرف طبعا إن كانت هذه القصيدة سـ "تعيش"، ولكن كان جزاء رائعا لي أن أشعر انها كانت "نافعة" في شيء يتجاوز ما كتبته لأجلها. لقد تحدثت إلى كثير من الشعراء الذين مروا بتجارب شبيهة، وثمة إجماع على عبقرية اللحظة التي يكتشف فيها المرء إلى أي مدى يمثل الفن والجمال عنصرين حقيقيين في حياة البشر. إن بوسع الشعر أن يكون ذا أثر مباشر في العالم. وعلينا ألا نحط من شأن هذه المقدرة، مهما كان الثمن المالي الذي نحصل عليه.

إميلي وارن:
أفحمنا ستيفن بيرت. غير أن  زعمه بـ "عدم إمكانية تعريف الشعر في ضوء أي وظيفة اجتماعية" اللهم إلا أنه يمثل "حمولة للتواصل بين شخصين" يبدو زعما ضيق الأفق أو غير محكم بما يكفي. فثمة طابور طويل من الشعراء والمفكرين الذين أنتجوا أطروحات عظيمة بشأن الاستخدام الاجتماعي للشعر. بيرت يبدو كما لو كان يكدس ألوانا وأصنافا متباينة من الشعر في سفينة شحن واحدة، نائية عن العالم ومحمية منه في عرض بحرها الخاص.
في المقابل، يزعم "إمرسُن" أن "الشعراء محرِّرون"، ويتصور أن القصائد قادرة على تغيير الواقع لكشفها عن قوانينه الحاكمة، وتلاعبها بهذه القوانين. وقد كتب يقول إن البصيرة الشعرية "لا تأتي بالدراسة، بل بأن يوجد العقل حيثما يرى، بسلوك الدرب الذي تسلكه الأشياء، ومن ثم جعل هذه الأشياء شبه شفافة أمام غيرها". وقد وصف إمرسن ما يتدفق في الأشياء بأنه النار التي تنفثها أجسامنا وقصائدنا. وذلك "لأنها ليست مجرد تفعيلات، وإنما حجة تفعيلية تجعل القصيدة والفكر محملة بالمشاعر بل حية شأن روح نبتة أو دابة، وتجعل لها بنيتها الخاصة التي تزين الطبيعة بشيء جديد عليها".
ويقول إمرسن إن الشعراء يوجِدون علائق جديدة، و أشكالا جديدة في العالم. ونحن حينما نجعل من أنفسنا أشياء شبه شفافة، فإنها تصبح قابلة للفهم والتغير. وبذلك يتسع واقعنا الاجتماعي ليحتوي علائق وحقائق كانت مجهولة أو مقموعة. لقد كتب تسيلان يقول إن "القصائد تولد معتمة" لأن اللغة "مكتظة بالعالم".
فهل تقوم الفنون والأعمال الأخرى بهذه الوظيفة؟ نعم، بالطبع، ولكن الشعر بالذات خبير في مساعدتنا على خوض التجربة، ومن ثم فهم علاقاتنا والاحتفاء بها، والحزن عليها، ولعنها والتفلسف فيها. إن حقيقة مرور هذا التبادل الشعري للطاقة (على حد تعبير روكسيير) بين شخصين لا تعني انتهاءه بينهما. فالشعراء لا يعرفون على أي نحو ستستخدم قصائدهم في المستقبل. هاوسمان لم يكن يعرف أن واحدة من قصائده سوف تتردد على ألسن من يعانون أهوال الحرب العالمية الأولى.
إن بوسع الشعر أن يقفز على الوصلات التي تربطنا بالعالم، فيغيرنا ويغير العالم. ولو أننا هجرنا ذلك الاستخدام، فسوف يتحول الشعراء إلى مجرد مجموعة من الاختصاصيين المحصورين في جيتو خاص بهم، يتكلمون لغتهم الخاصة، ويصممون مبتكرات معقدة تقنيا تحمينا من أولئك الذين لا يزالون يبحثون عن تلك القوة الصانعة للحياة.

*نشرت هذه الندوة في الموقع الإلكتروني لمجلة POETRY الأمريكية في 28 ديسمبر سنة 2006، ولعل هذه الترجمة نشرت في شرفات بعد ذلك بأيام أو أسابيع



·     ستيفن بيرت أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة هارفرد، من أعماله "فن السوناتا"
·     ديزي فريد شاعرة أمريكية من أعمالها "تم اعتقال أخي من جديد"  و"لم تكن تقصد أن تفعلها" 
·     ميجور جاكسن: شاعر أمريكي من أعماله "الشركة القابضة"
·     إيميلي وارن شاعرة أمريكية، من أعمالها "معماري الظل" و" طريق ورقة الشجر".


  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق