الثلاثاء، 16 يوليو 2019

حميمية النقد .. هذه هي التفكيكية


حميمية النقد .. هذه هي التفكيكية
حوار مع جاياتري تشاكرافورتي سبيفاك
حوار: ستيف بولسن

الآن تبدو أيام التفكيكية الصاخبة أثرا غامضا من بقايا عصر آخر، عفا عليها الزمن مثلما عفا على قصَّات الشعر الضخمة والسراويل الفضفاضة. غير أن دافعها الجوهري ـ وهو فصم العلاقة بين النص والمعنى، ونقد الانحيازات الخفية في التراث الفكري الغربي ـ كامن في عمق الحياة الأكاديمية الحديثة حتى ليبدو من اليسير نسيان مدى الإثارة التي كانت عليها الحركة في يوم من الأيام. وفي هذا العام جدَّدت مطبعة جامعة جونز هوبكنز الجدال العام حول مكانة التفكيكية، من خلال إصدارها طبعة الذكرى الأربعين المنقحة من كتاب جاك دريدا "في علم الكتابة" [Of Grammatology] الذي يعد من نصوص التفكيكية الأساسية. يقدم هذا الكتاب ترجمة حدَّثتها مترجمة الكتاب الأصلية جاياتري تشاكرافورتي سبيفاك.
سبيفاك اليوم نجمة في سماء المجال الأكاديمي، باحثة غزيرة الإنتاج ومؤسِّسة مشاركة لمعهد الأدب المقارن والمجتمع في جامعة كولمبيا. حينما بدأت العمل على ترجمة بحث دريدا للمرة الأولى، كانت سبيفاك أكاديمية مغمورة في منتصف العشرينيات من عمرها، "بنتا آسيوية صغيرة" على حد قولها، تحاول الإبحار في عالم الأكاديميا الأمريكية الغريب. وكانت أبعد المترجمين احتمالا لذلك الكتاب. فهي لم تدرس الفلسفة دراسة منتظمة، ولم تكن الإنجليزية أو الفرنسية لغتها الأم، ومن ثم فقد كان مشروعا جريئا ـ بل أقرب إلى منافاة العقل ـ أن تترجم مثل هذا العمل المعقد في النظرية الرفيعة. وهي لم تترجم الكتاب وحسب، بل وكتبت له دراسة تمهيدية قدمت من خلالها دريدا لجيل جديد من الباحثين في الأدب.
في العقود التالية، انطلقت سبيفاك في العديد من المهن المتمايزة. فأصبحت باحثة ماركسية نسوية رائدة ثم ساعدت في إطلاق الدراسات ما بعد الكولونيالية بمقالتها التأسيسية: "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟ [Can the Subaltern Speak]. لكن سبيفاك ليست مجرد مثقفة في برج عاجي. فقد أنشأت مدارس ابتدائية للطلبة الأميين في بلدها الأم الهند، ومارست التدريس فيها طوال عقود. ولقد أمكنها، بطريقة ما، أن تدرِّس النظرية النقدية لطلبة الجامعة في إحدى جامعات النخبة الأمريكية مع قيامها بتدريس التمكين الديمقراطي للطلبة القرويين في غرب البنغال. فقلما اندمجت النظرية والتطبيق في شخص واحد بمثل اندماجهما فيها.
هي الآن في أواسط السبعينيات، ولم تزل مفكرة عالمية الحضور مشغولة البرنامج. وقد تحدثت إليها بعيد سفرها إلى لاجوس وقبل ارتباطاتها بمحاضرات في لندن وباريس. فاستعرضنا في حوارنا نطاقا عريضا من المواضيع، بدءا بصداقتها مع دريدا وقصة أسرتها المأساوية التي كانت بمثابة شرارة البداية لاهتمامها بالتابعين، أو مسؤولية المثقفين عن أزمة العلوم الإنسانية.
***
ـ أصدرت للتو طبعة الذكرى الأربعين لكتاب دريدا "في علم الكتابة". لماذا نحتاج إلى تنقيح ترجمة هذا الكتاب؟
ـ حينما ترجمته، لم أكن أعرف من يكون دريدا ولا أي شيء عن فكره. فبذلت قصارى جهدي لتقديمه وترجمته وشاعت المقدمة بحق، وهو ما أشعر بامتنان كبير له. لكن الآن، بعد عمر من العمل مع دريدا وفيه، يمكنني أن أقول المزيد لقرائي عن هذا المفكر الاستثنائي، ومن هنا إضافتي للخاتمة. هو نوع من التقدير لحياة قضيت أكثر من كونه تقديرا لمصادفة نص جديد عظيم.
ـ هل تغيَّر فهمك لكتاب دريدا على مدار العقود الأربعة المنصرمة منذ ترجمتك إياه للمرة الأولى؟
ـ هذا ما تبيّن. حينما بدأت، لم ألحظ مدى انتقاد الكتاب لـ"المركزية الأوربية" Eurocentrism  لأن الاصطلاح لم يكن شائعا في عام 1967 بمثل شيوعه الآن. كان دريدا يهوديا جزائريا، ولد قبل الحرب العالمية الثانية، وكان بالفعل يواجه الفلسفة الغربية من الداخل. كان رجلا فذًّا ينظر إلى المركزية الأوربية. لا أعتقد أنني قبضت على ذلك الجانب مثلما أفعل الآن. أفهم كذلك خطًّا ساريا لديه لا يتعلق فقط بالطريقة التي ينبغي أن نقرأ بها، بل وبالطريقة التي ينبغي أن نحيا بها ، وهو ما لم يكن واضحا لي بالقدر ذاته وقتها. كما أنني أيضا صرت أعرف عن هيجل قدرا أكبر قليلا مما كنت أعرف في ذلك الوقت، وهو ما مكّنني من إقامة بعض الصلات.
ـ إذن أنت ترين هذا الكتاب نقدا للفلسفة الغربية بالدرجة الأساسية؟
ـ هذه هي التفكيكية أصلا، أليس كذلك؟ هي ليست تقويضا وحسب. بل وبناء أيضا. هي حميمية نقدية، لا نأي نقدي. يتكلم المرء فعليا من الداخل. هذه هي التفكيكية. لقد قال أستاذي بول دي مان ذات مرة لناقد عظيم هو فريدريك جيمسون، "ليس بوسعك يا فريد أن تفكِّك إلا ما تحب". لأنك تفككه من الداخل، بحميمية حقيقية. فكأنك تقلبه. وذلك نوع من النقد.
ـ ما الذي كان يحاول دريدا تفكيكه؟ كيف كان يحاول تفسير الفلسفة الغربية في ضوء جديد؟
ـ كان التركيز منصبا على ما يهيمن طوال قرون بدون تغير. لقد أُقصِيَت جماعات بأكملها بسبب تأسيس هيمنة لخطاب معين. كما أنه قال أمرا بالغ القوة عن الشفاهية الأفريقية: بوسعهم أن يتذكروا لسبعة أجيال ماضية، أما نحن فقد فقدنا هذا القدرة. إذ تحل "الكتابة" محل الخامة المادية المعروفة بـ"الذاكرة". ودريدا يربط هذا بفرويد. فما كان يقوله إذن هو: انظروا إلى الواقع بحذر. فالواقع مشفّر بحيث يتمكن آخرون ـ وإن لم يكونوا حاضرين ـ من فهم ما نقوله. ولقد نظر إلى كيفية قمع هذا في التراثات الفلسفية.
ـ بدأت العمل على ترجمة "في علم الكتابة" في أواخر الستينيات. كنت باحثة مغمورة في ذلك الوقت ودريدا كان إلى حد كبير مجهولا في الولايات المتحدة. كان الكتاب تنظيريا رفيعا، شديد الصعوبة، لا تزال قراءته تمثّل تحديا. ما الذي جعلك ترغبين في مشروع مضن كذلك؟
ـ شوف، أنا لم أكن أعرف من يكون دريدا على الإطلاق. كان عمري خمسة وعشرين عاما، أستاذة مساعدة في جامعة أيوا سنة 1967، وأحاول أن أبقى على اطلاع من الناحية الفكرية. فكنت أطلب كتبا من الكتالوج تبدو لي غير عادية بما يدعوني إلى قراءتها، وهكذا طلبت الكتاب.
ـ إذن قرأته في أصله الفرنسي ثم فكرت أنه ربما ينبغي أن تصدر له ترجمة إنجليزية؟
ـ لا، لا. تمكنت من قراءته ثم فكرت أنه كتاب استثنائي. كان ذلك قبل الإنترنت، فلم يقل لي أحد أي شيء عن دريدا. أستاذي لم يكن قد قابل دريدا حينما غادرت كورنيل، فلم أكن أعرف فعلا من يكون. وفكرت "طيب، أنا شابة أجنبية ذكية، وهذا كاتب مجهول. ولن يبرم أحد عقدا معي لتأليف كتاب عنه، فلماذا لا أجرِّب ترجمته؟ وكنت قد سمعت في حفل كوكتيل أن مطبعة جامعة مساتشوستس تنشر ترجمات، فبعثت إليهم رسالة استفسار شديدة البراءة في أواخر 1967 أو مطلع 1968، وقالوا لي لاحقا إنهم رأوا رسالتي شديدة الشجاعة والعذوبة ففكروا أن يمنحوني فرصة. [تضحك] أمر في غاية السخافة، لكن هذا ما حصل.
ـ بدايات شديدة البساطة لكتاب أصبح في عداد الكلاسيكيات.
ـ يعني، أصابتني الدهشة. عليك أن تضع نفسك مكاني. لم تكن الإنجليزية أو الفرنسية لغتي الأولى ولم أكن رحلت عن الهند إلا في عام 1961. ومقدمتي جاءت متواضعة لأنني لم أكن درست الفلسفة أصلا.
ـ وهي مقدمة طويلة للغاية. مقدمتك لكتاب دريدا توشك أن تكون في ذاتها كتابا.
ـ ذلك ما أدرجته في عقدي، لأنني في الأصل كنت أريد تأليف كتاب عنه. فأدرجت في تعاقدي أنني لن أقوم بالترجمة ما لم يتح لي أن أكتب مقدمة ضافية بطول دراسة. كنت في منتصف العشرينيات حينما كتبت الرسالة. وهي الآن تملؤني إحساسا بالخجل والحرج.
ـ هل كنت على اتصال كبير بدريدا نفسه وأنت تعملين في الترجمة؟
ـ لا. لم أكن أعرفه على الإطلاق. لم أقابله إلا في عام 1971. ولم أعرفه إلى أن جاءني قائلا بالفرنسية "جو مابل جاك دريدا" [Je m’appelle Jacques Derrida]، فكدت أموت.
ـ لكنني أتصور أن معرفتك به توثقت بعد ذلك.
ـ نعم، صرنا صديقين. كنا حليفين. فاهم، من الأشياء التي فهمها ـ أكثر ربما مما كنت أفهمها أنا في تلك المرحلة ـ هو معنى أن تكون امرأةٌ فتاةً أسيوية لا تجيد الفرنسية كثيرا وتطلق هذا الكتاب في العالم بطريقتها الخاصة، مبتعدة به كثيرا عن زمرة الفلسفة الرفيعة في أوربا. كنت أخرج وإياه لتناول الطعام ـ كان داكن البشرة، يهوديا من سفرديم الجزائر ـ وكان الناس يحسبونه هنديا، وأنا هندية والبصمة الثقافية واضحة عليّ، وفي بعض الأحيان أرتدي الساري، فتصبح نكتة ويقول "نعم، أنا هندي". كان يفهم جمال موقف هذه الشابة التي لا هي حاصلة على دكتوراه فرنسية ولا هي متحدثة أصيلة بالفرنسية، ولا حتى الإنجليزية، وتقدم نصه، وليس ذلك لأنها تتعبد في شخصه، بل وهي لا تعرف من يكون أساسا. كانت تقدم نصه لبقية العالم فتتناوله بقية العالم. كان في ذلك الموقف شيء شديد الجاذبية بالنسبة له.
ـ ولدتِ في كلكتا قبل سنوات قليلة من تقسيم الهند. هل نشأت في أسرة مثقفين؟
ـ نعم. أمي تزوجت وهي في الرابعة عشرة، وأخي الأكبر ولد وهي في الخامسة عشرة من عمرها. أبي ولد في قرية في سفوح الهيمالايا في الأرض المعروفة الآن ببنجلاديش، وسط مجتمع لا يرتدي أهله الثياب إلى أن يبلغوا السادسة أو السابعة. فقط يرتدون حلقة معدنية حول خصورهم. وما كانوا يرتدون الدهوتيس dhotis إلا عند التحاقهم بالمدرسة. وفي الشتاء كانوا يلتفون حول النار واضعين أغطية على أكتفاهم. غير أن أولئك الناس كانوا مثقفين، وعاشوا في ما بعد حياة مثقفين وأنشأوا أبناءهم على حياة العقل. أب مناصر للنسوية وأم نسوية. كانت تنشئة استنثائية. أدين بكل شيء تقريبا لأبويّ.
ـ هل كان للتقسيم الذي شقَّ البلد إلى الهند وباكستان أثر على أسرتك؟
ـ يعني، كنا نفكر فيه أيضا بوصفه الاستقلال. استقلال وسمه هول التقسيم. كان التقسيم إذن هو الثمن الذي أكرهنا على دفعه. المهم أنه ترك أثرا على أقاربي أكثر من أثره على أسرتي المباشرة لأن أبي كان قد هرب من بنجال الشرقية المعروفة حالية ببنجلاديش. حينما أبلى حسنا في امتحان التخرج في المدرسة الثانوية، قال له أبوه "آه، أنت إذن تستطيع مواصلة الدراسة في عاصمة المقاطعة" وكان أبي أشد طموحا، فبدون تذكرة، هرب إلى كلكتا سنة 1917. ولدت أنا في كلكتا. لكن تأثير التقسيم على حياتنا تمثل بالطبع في أعمال الشغب الرهيبة التي أحاقت بكلكتا بسبب أعمال القتل في عام 1946 والمجاعة المصطنعة سنة 1942 وما بعدها. تلك الأمور أثَّرت علينا بحق. وما كاد اللاجئون يبدأون في التوافد حتى أصبحت أمي ـ وكانت في تلك الفترة قد أصبحت عاملة اجتماعية مرموقة ـ تغادر البيت في الخامسة صباحا متجهة إلى محطة السكة الحديدية للمساعدة في إعادة تأهيل اللاجئين. وتلك بعض الأمور التي وسمت طفولتي.
ـ لا بد أنك أيضا شهدت تحويل المسلمين إلى دخلاء.
ـ وهذا بالطبع يتنامى حاليا في الهند. في عام 1947، وكان عمري خمس سنوات، فكنت أصغر من أن أستشعر الفارق بين الهندوس والمسلمين نظرا لنشأتي في مكان شديد الانفتاح على الآخر. ولكن الأمر كان محيطا بنا من كل جانب. في أعمال الشغب بين الهندوس والمسلمين التي كانت شديدة الغرابة، فحتى ذلك الحين كان يسود منذ قرون نوع من التعايش المتوتر. فلمَّا بدأ ذلك في حيِّنا، صرنا نسمع الله أكبر ثم هارا هارا ماهاديو فنعرف أن شخصا قتل. ونشهد إراقة الدم. لكنني كنت صغيرة جدا ولم يكن في الموطن فارق يذكر على أساس الطبقة أو الدين أو أي شيء. كان طلبة أبي المسلمون شديدي الدعم لدرجة أن يأتوا إليه في ثياب هندوسية ويطلبون منه ألا يرد على الهاتف مساء. أبي شخصيا كان رجلا معاديا للعنف. كان يفتح بيتنا الصغير ويقف في الشرفة مع رجال المسلمين بينما النساء والأطفال بالداخل ويقول "ما دمت حيًّا، لن يمسكم أحد". لم نكن نفكر في الفارق كثيرا. كنا كأطفال نرى أنفسنا بشرا متماثلين.
ـ حصلت على درجتك الجامعية في الهند. كيف أتيت إلى الولايات المتحدة؟
ـ تخرجت في جامعة كلكتا، وكنت أعمل على الماجستير. كان عمري ثمانية عشر عاما فقط ولم يكن لي أب ـ فقد مات وأنا في الثالثة عشرة ـ وعلمت أنني لن أحصل على الدرجة الأولى لأنني كنت محررة لمجلة شديدة الانتقاد للجامعة. فاقترضت نقودا وسافرت بتذكرة ذهاب فقط وثمانية عشر دولارا لا غيرها في جيبي. لم أرد الذهاب إلى بريطانيا لأنني كنت لأضطر إلى الحصول على الماجستير مرة ثانية ولأنني كنت أنتمي إلى أول جيل من ما بعد الاستقلال. فكان هذا سبب مجيئي إلى الولايات المتحدة. التحقت بكورنيل، لأنني لم أكن أعرف غير أسماء هارفرد وييل وكورنيل، وظننت أن هارفرد وييل أعلى من مستواي كثيرا.
ـ أنت اليوم معروفة كواحدة من مؤسسي دراسات ما بعد الكولونيالية. هل من رابط بين هذا العمل وعملك المبكر في التفكيكية وترجمة دريدا؟
ـ كما تعلم، أنا لم أكن قط جزءا من زمرة النظرية الفرنسية. وبوصفي دخيلة على التفكيكية كنت أقرب إلى مبشِّرة صغيرة بتلك الصرعة. ولقد تم استيعاب التفكيكية بشدة، لدرجة أنني عجزت يقينا عن إقامة روابط بيني وبينها. أمّا عالم ما بعد الكولنيالية فجاء في ما يشبه لحظة من لحظات السيرة الذاتية التي يمر بها أغلب أبناء الطبقة الوسطى من المهاجرين إلى الحواضر ـ مثل إدوارد سعيد، إذ تفكر قائلا "لقد مورس علي الاستشراق". في عام 1981 حينما طلب مني قسم الدراسات الفرنسية في جامعة ييل أن أكتب عن النسوية الفرنسية وحينما طلبت مني مجلة كريتكيال إنكويري أن أكتب عن التفكيكية، سألت نفسي: كيف تهيأ أن أكون هذه السلطة على المواد الفرنسية؟ فانعطفت لكي أفكر بطريقة مختلفة. ومن ثم تحولت إلى الانخراط في ذلك الجزء من التفكيكية الذي ينظر إلى ما يجري إقصاؤه عند تأسيسنا للأنظمة. ذلك الجزء من التفكيكية الذي قال إن خير سبيل للتقدم هو النقد الذاتي العنيف. وذلك الجزء من التفكيكية الذي قال إنك لا يجب أن توجِّه التهم إلى ما تقوم بتفكيكه. بل تدخل إليه. هل تتذكر الحميمية النقدية؟ تدخل إلى النص إذن وتحدِّد اللحظة التي يعلّمك فيها كيف تقلبه وتستعمله. فباتت تلك جزءا من طريقتي في الحركة. بوضوح شديد، كان ثمة رابط بيني وبينها. ولكن الشيء الوحيد الذي لم أفعله قط هو تطبيق النظرية. فالتنظير في ذاته ممارسة. يدخل إليك. تتغير طريقتك في التفكير ويظهر هذا في عملك. وذلك ما حدث.
ـ مقالتك المنشورة سنة 1985 بعنوان "هل يمكن أن يتكلم التابع؟" أصبحت نصا مؤسِّسا في دراسات ما بعد الكولنيالية. هل يمكن أن توضحي ماذا تعني كلمة "التابع"subaltern؟
ـ تشير الكلمة إلى من لا يصدرون الأوامر، إنما يتلقونها وحسب. وهي مأخوذة من أنطونيو جرامشي الذي جعل من الكلمة تيارا. كان ينظر إلى الناس ممن ليسوا فعليا من الطبقة العاملة أو ضحايا الرأسمالية. كان ينظر إلى الناس الواقعين خارج ذلك المنطق لأنه هو نفسه كان من سردينيا التي كانت خارج إيطاليا الشمال العليا. لكن "التابع" أيضا يعني أولئك الذين لا يملكون أسباب الاتصال ببنيات المواطنة. وأنا الآن أتكلم عن الهند اليوم، حيث يتألف أضخم قطاعات الناخبين من الأميين الريفيين من غير ملاك الأرض. هؤلاء قد يصوتون، لكنهم لا يملكون أسباب الاتصال ببنيات المواطنة. فأولئك هم "التابع".
اكتشفت أن خالة أمي شنقت نفسها سنة 1926 حين كان عمرها سبعة عشر عاما لأنها كانت تنتمي إلى جماعة معادية للإمبريالية. لم يكن بوسعها أن تقتل، فقتلت نفسها. لكنها انتظرت أربعة أيام إلى أن حاضت حتى لا يتصور الناس أنها قتلت نفسها بسبب حمل آثم. بفعلها ذلك أرادت أن تقول إن النساء ليسوا مجرد شيء يخص الرجال. هل يمكنك أن تتخيل كم صعب عليها الانتظار؟ هكذا تكلمت مع جسمها.
ـ فقتلت نفسها على سبيل العمل السياسي؟
ـ نعم، على سبيل العمل السياسي، لأن ذلك هو ما تفعله حينما لا تقوى على تنفيذ اغتيال. فتقتل نفسك. أعني، أنا شخصيا لا أفهم هذه الأمور، لكننا قرأنا ما يكفي من دوستويفسكي وقرأنا ما يكفي من كفاح الإمبريالية في الهند لنعرف أن هذه الأمور كانت تحدث. وكانت مراهقة، وانتظرت، لأن السبب الوحيد الذي كان يدعو المراهقات في أسر الطبقة الوسطى إلى شنق أنفسهن هو الحمل الآثم. تركت رسالة إلى جدتي. سمعت القصة من أمي، ولكنني لم أقل في المقالة إن المرأة كانت خالة أمي. بوصفها تابعة، فهي تقع تماما خارج تلك البنيات، ولذلك تكلمت مع جسمها، ولكن لم يكن من الممكن الاستماع إليها. والقول بأن التابع لا يمكنه أن يتكلم هو كالقول بأنه لا وجود للعدالة.
ـ فحتى إذا تكلمت، لا يسمعها أحد.
ـ في الواقع يصدق هذا على الجماعات التابعة. لقد ابتعدت عن طبقتي الخاصة وأجندتي الخاصة حينما بدأت أتعلم ماذا يعني التابع. ودخلت جماعات تابعة في الهند، حيث توجد مدارسي. هؤلاء ناس أنكر عليها أسلافي من طبقة الهندوس حق العمل الفكري لمئات السنين. وأرى بصفة يومية أنهم حتى حين يتكلمون، لا يكون مسموحا لهم بالكلام على نحو يمكننا فهمه على الفور. بعض الناس يمارسون تجاههم الخير الإقطاعي، والإحسان إليهم، لكن هذا لا يغيِّر أيَّ شيء. إنني أدرِّس منذ ثلاثين سنة، ولكن الأمر بدأ حينما شرعت أسأل نفسي، هل ينبغي أن أكون مجرد خبيرة في النظرية الفرنسية؟
ـ من الأشياء الفاتنة في مسيرتك المهنية أنك ترتدين قبعتين. فأنت أستاذة مشهورة في جامعة كولمبيا، وفي الوقت نفسه ظللت ترجعين إلى الهند طوال عقود للعمل مع الطلبة الأميين في المدارس الريفية. ما الذي تفعلينه في تلك المدارس؟
ـ أدرِّب المعلمين من خلال تدريسي للأولاد. أريهم قدر استطاعتي كيفية تدريس مناهدج الدولة. أحاول أيضا أن أستنبط طريقة للتدريس تغرس فعليا بديهيات الديمقراطية في العادات الذهنية لدى الأولاد الصغار لأنه ما من معنى للكلام عن تلك البديهيات. ليست هذه هي الطريقة التي ينبغي بها تعليم الصغار، إنها أشبه بالكتابة على الأسمنت الطري. وهذا أمر عمله بالغ الصعوبة. وهو تحد هائل لأن هذه عقول دمِّرت على أيدينا. هؤلاء ناس ليس لديهم شيء. لذلك أحاول تدريب المعلمين من خلال تعليم الأطفال. أّذهب إلى هناك ثماني مرات أو تسعا في السنة لكنني أهاتفهم مرتين في الشهر. بالأمس فقط كان بعض المعلمين يتكلمون عن الصعوبات التي يواجهونها مع مشرفيهم. كلهم من أهل المنطقة. وكنت أقول لهم "تجمَّلوا بالصبر. انظروا فقط إلى كمِّ المتاعب التي واجهتها على مدار السنين وأنا أحاول الكلام بطريقة تنفذ فيكم فعليا". هو إذن تحدٍّ مهم.
ـ تعليم الأمِّيين يعني في العادة تلقين أساسيات القراءة والكتابة، لكنك تتكلمين عن شيء أعمق من ذلك. تتكلمين عن الديمقراطية وتعليم الأولاد الصغار مساءلة السلطة.
ـ أساتذتي أيضا هم من أهل هذا المجتمع. وهم في الغالب من غير ملاك الأرض. أعني أن إجادة مبادئ القراءة والكتابة والحساب ليست بالشيء الكبير في ذاتها، خاصة لو أن التعليم المتاح تعليم شديد الرداءة. أقدِّر بالطبع إجادة مبادئ القراءة والكتابة والحساب. ومع ذلك، عرفت اثنين أو ثلاثة من الأميين في هذا المجتمع على مدار السنوات الثلاثين الماضية ممن استطعت أن أتكلم معهم كلامي مع أنداد مثقفين لأنهم لم يتعرضوا لتدمير التعليم الرديء.
ـ وكأنك تقولين إن التعليم الحقيقي هو بتعريفه ممارسة أخلاقية.
ـ الأخلاقيات إلى حد ما شيء لا يمكن تعليمه لأن الأخلاقيات لا تقتصر على عمل الصواب. تذكر أن الديمقراطية نظام سياسي وليست نظاما أخلاقيا. النهج الديمقراطي الأساسي تجاه أبناء القاع هو أن نتذكر أننا لا نرسل أبناءنا إلى المدارس لمجرد إجادة مبادئ القراءة والكتابة. وهذا يعلمني الكثير عما أفعله في القمة. أنا في كولمبيا لا أقوم بتدريس جنوب آسيا. فلست موجودة هناك لجلب أخبار أصيلة من محل ميلادي. أنا مستوربة[1] لذلك أقوم بتدريس المواد الإنجليزية والفرنسية والألمانية لطلبة دكتوراه من نيويورك. وهذا أقرب ما تبلغه من القمة! وأبعد ما يكون من مجرد "إجادة مبادئ القراءة والكتابة". ثم إن لديَّ أولئك الأميين معدومي الأرض من بلد يفترض أنه البلد الديمقراطي الأضخم في العالم. هي تجربة جيدة أن أرى كيف يمكن أن أعمل ديمقراطيًّا في كلا الطرفين.
ـ لكنني حينما أنظر إليك مهنيا، يبدو أن هناك مفارقة عميقة. أنت تدرّسين لطلبة الدكتوراه في كولمبيا، حيث تعتبرين من أعلى قساوسة نظرية الأدب، تدرِّسين كتبا تنظيرية رفيعة مثل "في علم الكتابة" لدريدا. ولكنك أيضا ناشطة منخرطة في هذه المدارس المخصصة للطلبة الأميين والتي تبدو منقطعة الصلة بعالم النظرية الرفيعة. هل ثمة رابط فعليا بين العالمين؟
ـ نعم، ثمة رابط، لو أنك تتكلم عن تلك الحقبة في فرنسا عندما كان الناس يفكرون في النظرية أو في جرامشي داخل زنزانته. أنا أيضا تأثرت كثيرا بروزا لوكسمبورج التي كانت تؤمن بالدولة. ولكنني لا أطبق النظرية حينما أدرّس فعليا في هذه المدارس أو أدرّس في كولمبيا. الأمر كما لو أنني رُميت في الماء وأتعلم العوم. لم يزل ينتابني الرعب كل مرة قبل أن أذهب إلى الفصل. ولكن المهم أنني بعد ذلك، حينما أفكر في التجربة، أرى كيف تأثرت النظرية بما تعلمته من التدريس وأي جزء من النظرية يبقى لأن التنظير أيضا ممارسة. وهذا شيء لم نستطع تعليمه لطلبتنا في القمة.
ـ هل تعتقدين أن للنظرية أثرا سياسيا فعليا على مشكلات العالم الواقعية؟
ـ شوف، لقد كنت أدرِّس ماو بالأمس في محاضراتي لطلبة الدراسات العليا my graduate seminar. لم أكن أدرّس الكتاب الأحمر الصغير. كنت أدرّس كتاباته الثقافية ـ كتابات مزارع هونان ثم "عن التناقض" وأيضا "عن الممارسة". يصعب كثيرا أن تستفيد بماو في الولايات المتحدة. وكهندية يصعب ذلك أيضا في بعض الأحيان لأننا منافسون. لكن لا بأس. المثقف موجود لكي يسائل هذه الأفكار الجاهزة. ولكننا كنا نرى ما الذي يفعله في هيجل وبالطبع كنا ننظر أيضا إلى النص الصيني. إنني أتعلم الصينية الآن منذ ست سنوات أو سبع ولكن صينيتي بالطبع غير جيدة. ولكن الطالب الذي كان يلقي بحثه هو في واقع الأمر إنجليزي نشأ في هونج كونج ثم بدأ دراسات الصينية الحديثة شديدة الانتقاد لوضعه في هونج كونج. فكنا ننظر معا إلى مقالته الاستثنائية "عن التناقض". ماو لم يقرأ هيجل إلا من خلال لينين وما إلى ذلك. وجرامشي نفسه تكلم عن المثقف الجديد بوصفه مقنعا دائما. فحتى حين لا يعرف المرء أنه ينظِّر، فإنه ينظّر. ولو أنك تعمّم وتتكلم مع جماعات، فأنت تنظِّر. يستحيل في واقع الأمر أن تفكر بدون أن تنظّر بطريقة أو بأخرى. لا أعتقد أن المرء ينبغي أن يصبح شديد الاقتناع بامتياز النظرية في ذاتها بحيث يفرض النظرية، ولكنني أعتقد أن هذا ما حدث. أصبحت النظرية أشبه بشيء منبتّ الصلة تماما بكل شيء في حين أنها ليست منبتَّة. هي جزء من العالم.
ـ ما قولك في الانتقاد الشائع بأن لدينا كل هؤلاء المثقفين الجامعيين الذين يقومون بعمل شديد التنظير ويعتقدون أنهم راديكاليون ولكنهم فقط في أبراجهم العاجية بلا تأثير على قضايا العالم الواقعية؟ هل لهذا الانتقاد أي ثقل بالنسبة لك؟
ـ أنا أنتقدهم بمثل انتقاد أي ناشط على الأرض. وإنني أعتقد حقا أنهم بحاجة إلى صدمة واقع توقظهم. فهذا في الواقع ليس مجرد برج عاجي. أنا أيضا عضو في لجنة الأجندة العالمية للقيم في المنتدى الاقتصادي العالمي. وأذهب إلى هناك لأن هذا هو عملي الميداني. لا يصغي لي أحد، لكنني حريصة أشد الحرص على المداخلة. ومن المؤكد أن زملائي هناك ودودون. تحت رادار معين، العالم مجهول بالنسبة لأولئك الناس الطيبين. وإذن نعم، أنا أنتقد بشدة من يتقدمون للمساعدة بدون فكرة عما تتطلبه القدرة على الفهم. في القاع، أول الحقوق هو حق الرفض. هذا ما أقوله لطلبتي في القرى. أقول "أنا عدوتكم. أنا طيبة وأبواي طيبان، ولكن جيلين فقط لا يمحوان آلاف السنين".
ـ لماذا تقولين إنك عدوتهم؟
ـ لأنني من طبقة الهندوس. أنا من طبقة القمة. نحن من جعلنا أولئك الناس منبوذين. نحن من أنكرنا عليهم حقوق العمل الفكري لكي يبقوا في خدمتنا، ولكي لا يتعلموا إلا العمل اليدوي. الأمر لا يكفيه مجرد قولك "انظروا، أبواي طيبان، وأنا طيبة". أطرح عليهم أيضا مثل هذه الأسئلة لأنني أمارس معهم الزراعة البيئية، فأكون جالسة أسفل شجرة تين مع الكثير والكثير من المزارعين الفقراء عديمي الأرض وأقول لهم "كم عدد الطبقات؟" ولأنهم يعرفون أنني لا أؤمن بالطبقات فإنهم لا يعرفون ماذا يقولون. ولا أجيبهم مطلقا، كما لا أجيب الأسئلة التي أطرحها في فصول كولمبيا، وإذا بصوت يقول "اثنتان" فأقول "تمام، فما هما؟" ويقول الشخص إنهم الأغنياء والفقراء. فأقول له "جيد، تعال إليّ، انظر لي". وطبعا أنا بالقياس إليهم ثرية ثراء لا يصدَّق، أليس كذلك؟ أقول "فقط لا تنس أنني ثرية وأنت فقير. فلسنا في جماعة واحدة على الإطلاق". وهذه هي صدمة الواقع التي لا بد أن يتعرض لها المرء، بدلا من تلك الأعمال الخيرية السخيفة حيث يعطي امرؤ الكثير من المال، ولكنه لا يعلِّم قط كيفية استعمال المال. المال بالنسبة لك ولي مختلف تماما عنه بالنسبة لشخص لم ير مالا قط. فصدمة الواقع ليست لازمة فقط لليساريين الذين يدرِّسون في الجامعات. بل هي لازمة على نطاق أوسع كثيرا.
ـ عندي سؤال أخير. ثمة الكثير من اللغط حول حالة العلوم الإنسانية في هذه الأيام. غالبا ما نسمع أنها تمر بأزمة. هل تعتقدين أن هذا صحيح؟
ـ نعم. العلوم الإنسانية تعرضت للتتفيه. ليست بقرة حلوبا. لقد كتبت إلى نائب رئيس جامعة تورنتو حين كانوا يغلقون قسم الأدب المقارن وقلت له "انظر، نحن نظام رعاية الصحية الخاص بالثقافات. وليس بوسعك أن تجري قياسات أخلاقية بتقنيات إدارة المعرفة. عليك أن تطهو الروح ببطء". نحن الآن في وقت الغداء. نحن المدرِّبون في جمنازيوم العقل. ليس بوسعك أن تمرن جسمك بالذهاب إلى مكان ما للتعلم السريع، التعلم السهل. وبالمثل، لا يمكنك أن تصنع عقولا جيدة فقط بالتعليم السريع. ومن ثم فنحن أنفسنا الذين سمحنا بتعرضنا للتتفيه. لقد قضيت عمري في محاولة جعل الناس يفهمون أننا ينبغي أن نتكلم عن مدى نفعنا بدلا من استسلامنا للتعريفات الخاصة بكيفية جعل أنفسنا نافعين من خلال الرقمنة الكاملة وما إلى ذلك. علينا ألا نسمح بتتفيه الإنسانيات. فأنت إذا لم تدرب الروح، فلن يتسنى استعمال العالم الرقمي على النحو الصحيح. وليس بوسعي أن أسهب أكثر في هذا الحوار القصير لكنني أرجو أن يأتي يوم يتاح فيه حوار أطول حول هذا الموضوع.

نشر هذا الحوار في لوس أنجلس رفيو أوف بوكس، ونشرت ترجمته في حلقتين بجريدة عمان في 14 و15 يوليو 2019



[1]  ترجمة مقترحة ل Europeanist أي الباحث في الحضارة الأوربية، قياسا على مستشرق orientalist ومستعرب Arabist

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق