وهم التحقق
هايان شرارة
في أول قراءة شعرية
حضرتها، وكانت في حانة بديترويت، سمعت شاعرا يقدِّم نفسه بإيجازه أوهامه عن حياة
الشعر، قال: "كان لديَّ انطباع بأن النساء سيكنّ أكثر". وضحك الجميع
لنكتته، حتى الحضور من النساء.
ما الذي كنت أتوقعه
أنا من الشعر؟
كنت لا أكاد أعرف
كيف أكتب قصيدة، ناهيكم عن معرفتي بما كان يمكن أن تقدِّمه لي القصائد ـ إن كانت تقدِّم
أي شيء ـ بعد كتابتها. بدا أن اعترافي بأنني شاعر يحقِّق لي الأثر المعاكس بالضبط.
ففي قليل من المواعيد الغرامية التي حظيت بها في مطلع العشرينيات من عمري كانت
إجابتي بأنني "أكتب الشعر" على سؤال "في أي شيء تعمل؟" عادة
ما تثير سؤالا آخر: "أنت مثليٌّ إذن؟"
"هل تعتقدين
أن كل الشعراء مثليُّون؟"
"لا، ولكن
لبسك لطيف أيضا"
"فهل تعتقدين
أن كل الشعراء الذين يلبسون ثيابا لطيفة مثليّون؟"
"ولكنك أيضا مرتّب".
"فهل تعتقدين
...؟"
وكان بوسع ذلك أن
يستمر إلى ما لا نهاية، لولا أن المواعيد لحسن الحظ كانت تنتهي قبل ذلك، بكثير.
على الرغم من أنني
لم أسجِّل قط قائمة ملموسة، لكنني كنت أتخيل بالفعل أشياء يجب أن تأتي من الحياة
الشعرية. فقد كنت أحسب حينما كنت شاعرا صغيرا جدا، لسبب ما ـ لعله عدم النضج أو
الافتقار إلى الخبرة بالحياة ـ أن "التحقق" معناه الوصول إلى الحياة
والعمل في مدينة نيويورك فتتيح لي المدينة ـ عبر الخاصية الإسموزية وحدها ـ حسبما
كنت أفترض، أن أكتب أفضل قصائدي.
في تلك الفترة من
حياتي، لم أكن ذهبت إلى نيويورك إلا مرة من قبل، حينما كنت في الثالثة عشرة، ولم
أكن عشت وحدي بعد، ولم تكن لديَّ وظيفة أو سبب (كالدراسة الجامعية مثلا) للذهاب
إلى نيويورك. غير أن صورة كانت في رأسي (صورة الشاعر في المدينة)، وفي المدينة كان
لي عمّ يعيش هناك وعرض عليّ أن أقيم في شقته إلى أن أعثر على وظيفة فأستطيع أن
أعيش وحدي. أتذكَّر أن نفسي حدثتني بأنه ما أصعب العثور في مدينة نيويورك على شقة
لائقة في حدود الطاقة.
حزمت ثيابي في
حقيبة، وبعد إحدى عشرة ساعة، وعلبتي سجائر، وحفنة أكواب قهوة ورقية، عبرت جسر جورج
واشنطن إلى منهاتن.
لكن عمي لم يكن يعيش
في المدينة. فلكي أصل إلى شقته، كان عليَّ أن أعبر جسرا آخر، هو جسر كوينزبورو،
إلى أستوريا في كوينز، وهو حي للطبقة العاملة يمر به القطار السريع وتكثر فيه
المطاعم والمقاهي اليونانية ومغاسل الثياب عند كل منعطف. كنت أعرف أنه يعيش في شقة
من غرفة واحدة. لا يهم، بوسعي أن أرى سماء منهاتن من شارع استوريا. لكنّ ما لم أكن
أعرفه، وما اكتشفته حينما فتح لي الباب فهو أن عمِّي كان يشرك في شقته ذات الغرفة
الواحدة أربعة رجال آخرين، كلهم من الشرق الأوسط وكلهم يعملون في الولايات المتحدة
بتأشيرات مؤقتة، فيخرجون كل صباح، على أقدامهم لبيع القمصان والجينزات من حقائب
يحملونها لرواد الحانات، وأندية التعرّي، وصالونات التجميل. وعندما يحلُّ الليل،
وينتهون من ترتيب بضائعهم لليوم التالي، ويحصون ما معهم من نقود، يحيلون
"غرفة المعيشة" إلى غرفة نوم
مؤقتة. ومن حسن الحظ أن عمي أشركني معه في غرفة نومه.
كان الرجال
يتناقشون طيلة الوقت، عادة في السياسة والدين. وكانوا دائمي الصراخ في بعضهم بعضا،
وأوشكوا في بضع مرات على تبادل اللكمات، وحدث ذات ليلة أن صفع أكبرهم أصغرهم بسبب
إساءته إلى بلده. ومع أنهم لم يتشاجروا معي قط، ولم يناقشوني قط في السياسة أو
الدين، فقد كانوا يكرِّرون سؤالي، بل لقد سألني
كلُّ واحد منهم، كيف بالعقل أتوقع أن أكسب لقمى عيشي من العمل شاعرا؟ ولم يحدث قط أن وجدت لديّ إجابة جيدة
أجيبهم بها ـ أو أجيب نفسي.
كانت الشقة مزبلة
من جميع الأوجه الممكنة. فكانت فيها مشكلة فئران. وكانت في الأرض حفر. والمنظر
الذي يطل عليه شباك غرفة النوم جدار، والمنظر الذي يطل عليه شباك المطبخ جدار آخر.
ويحدث عدة مرات في اليوم، لأسباب مجهولة، أن يمتلئ حوض الاستحمام بماء وسخ أسود،
وأحيانا وأنا فيه. والجارة المقيمة في الشقة المقابلة، وهي أم عزباء، لم تكن تتوقف
عن الصياح في أبنائها بالنهار، وتشغيل فاجنر بصوت رهيب في الليل.
كنت أهرب إلى
المدينة كلما سنحت لي فرصة، وفي المترو، كنت أنتبه إلى عادات القراءة لدى بقية
الركاب. إن لم تكن جريدة بين أيديهم، فروايات خفيفة في العادة، أو سير ذاتية، أو
كتب في التنمية الذاتية، وكتب كيف تنجح في أن تكون. لا أتذكر أنني رأيت على
الإطلاق أي شخص منغمس في قراءة كتاب شعري. أنا نفسي كنت أقرأ الجريدة في الغالب،
بحثا عن إعلانات الوظائف أولا، ثم الأخبار، فتتركني هذه أو تلك في العادة أقل من
متفائل.
كنت أمشي كثيرا،
كذلك، كثيرا لدرجة أن فقدت من وزني عشرين رطلا في أول شهرين. وكنت أمشي لأن ركوب
المترو، وإن يكن رخيصا، إلا أنه يكلف نقودا، وكنت لم أزل أبحث عن وظيفة. كان لديّ تصوّر
بأنه سهل عليّ كشاعر أن أعثر على وظيفة في التحرير أو النشر، أو حتى في متجر كتب على
الأقل. تقدَّمت بطلبات التحاق بعشرات الوظائف، فلم يصلني ردٌّ على الإطلاق. فكنت
أمشي. كنت أمشي وأمرّ بمطاعم شهيرة أنيقة وبوتيكات (هل يتسوّق الشعراء من تلك
الأماكن؟) وأمرّ ببيوت قديمة أنيقة وبنايات شاهقة يحتل واجهاتها البوّابون (فهل
يقيم فيها شعراء؟) وكنت أمشي إلى أن أتوقف عن الالتفات إلى ما يحيط بي، وأتوقف عن
ملاحظة ما أمر به في مشيي مكتفيا بالمشي وحده. وحينما كان يجهدني المشي، كنت أجلس
على أرائك الحدائق، فأدخن السجائر، وأشاهد الحمام يلتقط من الأرض (فهل بمثل هذه
الطريقة يصيب الجنون بقية الشعراء؟)
ولتلبية احتياجاني،
كنت أقترض من أبي، وأبيع بعض ممتلكاتي، وأستدين ببطاقات الائتمان، وأخيرا عثرت على
وظيفة: بيع شجر الكرسماس على أحد الأرصفة في الجانب الغربي من المدينة. فكان السؤال الذي كثيرا ما يطرح عليَّ هو "أيُّ
نوع من الشجر هذا؟" فأجيب دائما بقولي إنه "شجر كرسماس".
وكان ثاني أكثر
الأسئلة شيوعا مما أسمعه هو "هل تتكلم الإنجليزية؟" فكان ردّي عليه
دائما هو مجرد فم مطبق، إلى أن حدث ذات ليلة باردة مطيرة أن طرح عليّ ذلك السؤال
رجل وامرأة جميلان في ثياب جميلة فأجبتهما بأنني شاعر.
"بأي
لغة؟"
"بالإنجليزي،
بـ ... أم الإنجليزي".
فكان ردهما
"طيب بع لنا شجرة لو سمحت، أوكيه".
ثم رجعت إلى البيت،
في كوينز، فقوبلت بأسوأ موسيقى حدثت على الإطلاق، ثم فتحت الباب لأجد نصف دزينة من
الرجال وقد علا شخيرهم.
وأهم من ذلك كله
أنني على مدار تلك الشهور لم أكتب قصيدة. ولم يبال بهذا كائن.
فكففت عن محاولة
التحقق في المدينة كشاعر. ولما صرت عاجزا عن احتمال أسبوع آخر من فاجنر والشجارات
على الله والأسئلة عن قدرتي على الحديث بالإنجليزية، حزمت متاعي ورجعت إلى
ديترويت.
وبعد قليل من لعق
الجراح، ألقيت على المرآة نظرة قاسية، مواجها الفاشل الماثل أمام عينيّ: لقد كشفتْ
لي عن حدودي، لقد فضحتني أمام نفسي فضحا لا كنت أعهده ولا كنت مهيأ له، وجعلتني
أتوصَّل إلى فهم آخر لفكرة "التحقق". وسرعان ما قبلت أن علاقة
"التحقق" بأهداف محدَّدة وملموسة أقل من علاقته بفكرة القدرة على احتمال
الأهداف (تحققت أم لم تتحقق) والعيش بها بكرامة ومنطقية، فبدأت أرى
"التحقق" سعيا لا غاية، بدأت أراه السعي نفسه، الرحلة، بل الرحلات، لا
نقطة الوصول.
وبغض النظر عما
يعنيه "التحقق" لك (أهو الشهرة أم الثروة أم الاحترام والإعجاب أم
الصداقات أم العلاقات التي تقدِّرها، أم وظيفة تستمتع بها، أم ليلة من النوم
الهانئ)، فما من مفرٍّ من الفشل. أو هذا على الأقل ما بتُّ مؤمنا به ـ ولك أن تؤمن
بما تشاء ـ أما أنا فمصرٌّ على هذا. والفشل من التجارب التي تحدِّد معنى أن تكون
إنسانا، وكتابة القصائد أيضا بالنسبة لي، وبالنسبة للبعض منا، ممارسة يومية تحدِّد
معنى إنسانيتنا. فالقصائد في نهاية المطاف، بالنسبة لي أنا على الأقل، ليست سوى
هذا: المرور بشيء ما (بتجربة أو بفكرة أو باللغة ذاتها) بهدف مَنْطَقَتِها،
وفهمها، حتى لو عجزت عن تحقيق ذلك الهدف، حتى لو فشلت، فالرحلة هي المهمة.
رجعت إلى نيويورك،
وكانت المرة الثانية أطول قليلا. لم يكن الأمر سهلا، يصعب القول إنه كان أيسر
قليلا في واقع الأمر، ومع ذلك تدبَّرت أموري بصورة أفضل. وأنا مقتنع أنني نجحت
نوعا ما لأنني اكتستب معرفة كافية بنفسي، معرفة منقّحة بمعنى نفسي. ومع أنني لم
أكتب شعرا كثيرا في أثناء محاولتي الأولى للتحقق في نيويورك، فقد تعلمت الكثير عن
معنى كوني شاعرا، ونتيجة لذلك تغيَّرت. في المرة الأولى كان لدي تصوّرٌ بأن
"التحقق" يعني الانتهاء من بعض البنود في قائمة: النشر في هذه الجريدة
أو تلك، الفوز بجائزة عن كتاب، الحصول على بعض التكريمات المرموقة، والقدرة على
الزعم بطريقة أو بأخرى بأن لعملي تأثيرا على غيري، وأفضل من ذلك كله، والعلامة
القصوى على التحقق هي اليقين (المستحيل) بأنني حينما لا أكون موجودا، ولا يكون لي
دور واضح، سوف أظل مقروءا، ومهمًّا في نظر الناس، ومذكورا بينهم. وهذه كلها ليست
بالأمور السيئة، ولا أقول إنني بالضرورة قد تخليت عنها. فهي باقية، لكن ليس بوصفها
توقعات منتظرة، إنما هي في أفضل الحالات آمال، لكنني لم أعد أنظر إليها باعتبارها
مراحل ضرورية في حياة الشعر. ولا أعتمد عليها لأعرف إن كنت نجحت أم لم أنجح في
التحقق. باتت فكرة التحقق تبدو لي أكثر من ذي قبل أمرا ليس من شأن الشاعر، فهي قد
تحدث فارقا على المدى القصير، ولكنها على المدى البعيد، وهو المهم في نهاية
المطاف، مشكلة شخص آخر، ومن ثم لا ينبغي أن تقلقنا مطلقا.
* نشرت المقالة في
موقع مؤسسة الشعر الأمريكية بتاريخ 12 مارس 2018.
* هايان شراراة
شاعر أمريكي ولد لمهاجرين لبنانيين، عاش في ديترويت، ودرس اللغة الإنجليزية في
جامعة ولاية وين، وحصل على الماجستير في العلوم الإنسانية من جامعة نيويورك
ودكتوراه الأدب والكتابة الإبداعية من جامعة هاوستن.
نشرت المقالة في
موقع مؤسسة الشعر الأمريكية ونشرت الترجمة اليوم في جريدة عمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق