في ظل حكم السيسي تسلك
القاهرة مسارها الخاص
مصر أولا
فورين أفيرز في 4 يناير
2018
بقلم: مايكل وحيد حنا ـ
دانيال بنايم
في نوفمبر 2017 أصدر ولي العهد السعودي محمد بن سلمان
أمرا متهورا بعزل إيران من خلال إرغام
رئيس وزراء لبنان سعد الحريري على الاستقالة أثناء زيارة الأخير إلى الرياض. كان
ولي العهد يعتمد على دعم حلفائه العرب السنة، لولا أن امتنع عن تقديم ذلك الدعم بلد
عربي بارز واحد. فبدلا من مساندة مصر لولي نعمتها الإقليمي الأساسي، سارعت
بالاصطفاف مع الجهود الفرنسية الرامية إلى التوسط وصولا إلى حل دبلوماسي، فاستضافت
الحريري في القاهرة مناصرة رجوعه إلى لبنان رئيسا لوزرائه. ركز موقف مصر على
"أهمية الحفاظ على استقرار لبنان وإعلاء المصالح الوطنية اللبنانية"،
خارجة بذلك خروجا واضحا على مساعي الرياض الأخيرة الرافعة لشعار "إما معنا أو
ضدنا" في محاولتها لإعادة ترتيب الشرق الأوسط وفقا لموقفها الحاد من طهران.
لم يكن الحريري أول زوار القاهرة رفيعي المستوى الذين
يثيرون قلق رعاة مصر الأقدمين: ففي 11 ديسمبر، قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
بزيارة البلد لإبراز عمق الروابط بين مصر وروسيا، بما في ذلك اتفاقية محتملة تردد
أنها تتيح للطائرات الحربية الروسية استعمال القواعد العسكرية المصرية، على الرغم
من شراكة الخمسين بليون دولار الدفاعية الممتدة منذ أربعة عقود بين مصر وواشنطن.
قد يكون هذا الاستقلال سببا في شعور أولياء نعمة القاهرة
الأجانب بالإحباط، لكنه لا ينبغي أن يكون مدهشا. فنزوع البلد إلى سلوك مساره الخاص
كان سمة دائمة في سياسة البلد الخارجية منذ يوليو 2013 ـ على أقل تقدير ـ حينما
أطاح انقلاب عسكري مدعوم شعبيا بالرئيس محمد مرسي التابع للإخوان المسلمين. وفي ظل
الرئاسة الجديدة لعبدالفتاح السيسي، عملت القاهرة بصورة تدريجية على صياغة عقيدة
جديدة في السياسة الخارجية قائمة على التزامات أيديولوجية بمناهضة الإسلاموية،
واحترام الأفكار التقليدية والرجعية في الغالب مما يتعلق بالسيادة وعدم التدخل،
والتأكيد الوطني الجريء على حرية مصر في التحرك داخل الإقليم. وهذه المبادئ في جملتها
تمضي بمصر بعيدا عن حلفائها التقليديين باتجاه مستقبل أكثر استقلالا وأقل طمأنينة.
رؤية جديدة للعالم
تكمن جذور سياسة مصر الخارجية الجديدة في انتفاضة 2011
التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس حسني مبارك. وكانت مصر في ظل قيادة الرئيس جمال
عبدالناصر في منتصف القرن الماضي هي الزعيم السياسي والثقافي للعالم العربي، كما
كانت قوة بارزة على المسرح العالمي. أما مبارك فحوَّل البلد على مدار سنواته حكمه
الثلاثيين تقريبا إلى عميل موثوق فيه ويمكن التنبؤ إلى حد بعيد بمواقفه وحليف مقرب
للولايات المتحدة وشركائها من أمثال العربية السعودية، وإن يكن عميلا وحليفا تنقصه
الدينامية والنفوذ الإقليمي.
غير أن رحيل مبارك أثار الأسئلة حول ذلك الموقف. فبرغم
أن هموم السياسة الخارجية كانت ثانوية بالقياس إلى القضايا الداخلية التي تسببت في
الانتفاضة، تضمنت مطالب المتظاهرين فكرة أولية عن استرداد الكرامة الوطنية التي
اتسعت لتشمل مجال السياسة الخارجية وبقيت حاضرة طوال فترة تحول مصر المضطرب.
خلال السنوات الأولى من مرحلة ما بعد مبارك، تجادلت النخبة
المصرية وأفراد من الشعب حول كيفية استرداد استقلالية بلدهم في تصرفاته وتنويعه
علاقاته بالخارج. فاتسمت فترة رئاسة مرسي الممتدة طوال عام ـ على سبيل المثال ـ
بزيارات لبكين وموسكو. وكان هذا التوجه في السياسة الخارجية في مرحلة ما بعد
الانقلاب ثمرة جزئية لاحتياحات ملحة اقتصادية وسياسية وأمنية، يأتي على رأسها
محاربة مصر للإسلاميين وعجز موازناتها. ثم إنه حدث على مدار السنوات القليلة
الماضية ـ مع ما شهدته مصر من استقرار جزئي في الحياتين الاقتصادية والسياسية في
ظل حكم السيسي ـ أن تطورت هذه النزعات المشتتة تدريجيا لتصبح رؤية متماسكة.
العنصر الأول والأهم في هذه الرؤية هو معاداة
الإسلاموية. فقد باتت المعارضة الصارمة الحماسية للإخوان المسلمين وشتى فروعها هي
المبدأ الحاكم لنظام السيسي وهي حاليا السمة الأكثر همينة على الحياة السياسية
المصرية. وبرغم أن نظام السيسي لا يزال يستهدف جميع أشكال التعبير السياسي
والمعارضة، فإنه لا يزال يركز أيضا بصورة خاصة على الإخوان. وفي سياق الجهود المبذولة
لمحو المنظمة، لجأت الحكومة إلى القمع واسع النطاق، وحظر الإخوان، وحبس عشرات
الآلاف من أعضائها والمتعاطفين معها، والانخراط في عنف مباشر للقضاء على إمكانية
أي حشد مستقبلي.
ولا تتوقف حملة مصر المناهضة للإخوان على حدود مصر،
فالقاهرة ترى الجماعة خطرا عابرا للوطنيات، وتسعى إلى الضغط على الجماعات التي
تعتبرها تابعة للإخوان في ليبيا وقطاع غزة بهدف إضعافها. (وليست تحركات مصر
الأخيرة لتحسين علاقاتها مع حماس ـ وهي الفرع الفلسطيني من الإخوان ـ إلا استثناء
نادرا وبرجماتيا يشذ عن عدائها المعتاد والدائم للإسلام السياسي). كما أن مصر
ماضية في معارضتها الصلبة لاتخاذ العملاء المقاتلين الإسلامويين وسيلةً في أيٍّ من
صراعات المنطقة، حتى أن مسؤولا حذَّر أحد كاتبي المقال في حوار معه من
"المستنقع" الخطر الذي قد يفضي إليه هذا النهج في سوريا. هذه المعادة
للإسلاموية أفضت بمصر إلى الوقوف بهدوء في صف حكومة الرئيس بشار الأدي وداعميه
الروس لاشتراكهم مع مصر في رؤيتها السوداوية للإسلاموية السنية والإيمان
بالاستقرار المستمد من القمع السيادي، بدلا من الانضمام إلى الجهود ذات القيادة
السعودية الرامية إلى دعم القوات المتمردة للإطاحة بالأسد.
ثاني التزامات مصر في ظل حكم السيسي يتمثل في ارتباط
بالاستقرار المستمد من سيادة الدولة. ففي حين يتدخل جيران مصر بهدف إعادة صياغة
المنطقة وفقا لخطوط طائفية أو إسلاموية، جاء انخرطا مصر في هذا الصدد بوصفها ربما
أبرز اللاعبين في الشرق الوسط دفاعا عن الوضع الراهن. وبمكن تبين أولى لمحات هذا
التوجه في تعاملات مصر مع العراق في أثناء صعود الدولة الإسلامية إذ دعم السيسي
صراحة رئيس الوزراء الشيعي العراقي نوري المالكي. وبرز دور مصر تماما في ظل ظهور
العربية السعودية كقوة تغيير غير متوقعة في لبنان وسوريا واليمن. لقد كانت سياسة
المملكة الخارجية النازعة إلى التغيير والتعديل إلى حد كبير تخدم منافستها مع
إيران، في حين رفضت مصر اتباع السعودية في خطها المتشدد، متجنبة أي شيء يتجاوز
المشاعر المعتادة المعادية لإيران ومقاومة الاستقطاب الطائفي الذي تسبب في اضطراب
المنطقة على مدار السنوات الأخيرة. فلم تنته مصر من توتراتها القديمة مع إيران كما
لم تستعد علاقاتها الدبلوماسية الكاملة معها. كل ما في الأمر أنها رفضت الانجذاب
إلى الصراع الإقليمي.
غير أنه في تراتب مصالح السياسة الخارجية، يبقى ارتباط
مصر بسيادة الدولة تاليا لأجندتها المعادية للإسلاموية. فحينما يتعارض هذان
المبدآن تعارضا مباشرا، فإن معادة الإسلاموية تعلو على جميع الاعتبارات الأخرى.
ويتضح هذا في كل من الأزمة المستمرة مع قطر (التي يواجه حكامها ذوو السيادة حصارا
بقيادة سعودية ودعم مصري سببه الأكبر هو دعمها السابق للإسلامويين) وفي فوضى
الصراع متعدد الجوانب في ليبيا (حيث يخوض الشريك الذي اختارته مصر لتأمين حدها
الغربي وهو الجنرال حفتر حربه الوحودية ضد الإسلامويين والذي أعلن ذات يوم أن
"ليبيا بحاجة إلى سيسي").
دور مصر الصائب
ثالث وآخر الالتزامات الكامنة وراء حسم مصر واستقلالها
الجديد هو الوطنية المستعادة الرامية إلى إعادة البلد إلى دورها الصائب في المنطقة
وفقا لما يراه تاريخها وزهوها. على الرغم من أن هذا يفضي في بعض الأحيان إلى
المغالاة في الوطنية، مثلما تبين في
نظريات المؤامرة المعادية لأمريكا والارتياب في الأجانب الذي يسيطر على الصحافة
المصرية، فقد أبرز رغبة مصر في اكتساب أهمية في الشؤون الإقليمية. كما أثمر أيضا
شكا كاسحا ـ يعززه بعض المسؤولين المصريين بانتهازية ـ في أن بعض القوى الخارجية
لا يسعى إلى مجرد إنهاك مصر، بل وإلى السيطرة عليها وإثارة القلاقل فيها. وقد أساء
هذا إلى جميع أولياء نعمة مصر وأكثرهم سخاء، وهو ما أدى إلى توترات دبلوماسية
جسيمة لا مع الولايات المتحدة وحدها، بل ومع إيطاليا وروسيا والعربية السعودية
والإمارات العربية المتحدة أيضا.
في السنوات التالية ل2011، تحدث قادة مصريون ـ من بينهم
السيسي ـ صراحةً عن الحاجة إلى التركيز على معالجة التحديات الداخلية، ولكن هذه
التصريحات كانت غالبا ما تختفي أمام إحساس مصر الدائم والمتضخم بدورها، ومن ذلك
القناعة الخاطئة والمنتشرة بأنه ما من صراع إقليمي كبير أن يحل بدون القاهرة. هذه
الرؤية السائدة بين المصريين والنخبة الحاكمة (وإن يكن السيسي أكثر واقعية) ترجع
إلى حجم مصر وما كان لها في الماضي من مركزية وهيمنة ثقافية في العالم العربي. غير
أن هذه الآراء في الحقيقة ليست لها إلا
علاقة محدودة بقوة مصر ونفوذها الفعليين. فمنذ فترة ازدهار مصر قبل خمسين سنة، حين
لم يكن ينازعها منازع في زعامة العالم العربي، انتقلت قوة الشرق الأوسط وثروته
شرقا إلى اقتصادات دينامية مثل إسرائيل وتركيا والدول النفطية كالسعودية وملكيات
الخليج، وإيران. هذه الدول قادرة (وإن يكن بدرجات متفاوتة) على استعمال ثروتها
وقونها العسكرية وشبكات وكلائها الإقليميين استعراضا لقوتها بطرق لا تستطيع مصر
بكل بساطة أن تستعملها. صحيح أن الجغرافيا تقول إن مصر مستمرة في لعب دور مهم في
ليبيا وغزة، لكن القاهرة سعت في غيرهما إلى جعل ضعفها النسبي عملة دبلوماسية ـ
فربطت نفسها على سبيل المثال بمبادرات دبلوماسية ساعية إلى لعب دور الوسيط بين
الفصائل الإقليمية المتنافسة، مثلما فعلت في الأزمة اللبنانية.
ليس من المحتمل أن تكوِّن مصر كتلة إقليمية كبيرة رابعة
بجانب الكتلة الانتقامية بقيادة السعودية، والكتلة الخاضعة للسيطرة الإيرانية،
والكتلة التركية القطرية المناصرة للإسلامويين، ولكن قد تسمح المنطقة بنشوء كتلة
رابعة. لقد وهن صوت مصر في الصراعات الإقليمية، وبات البلد ساحة صراع للسيادة
الإقليمية أكثر منه منافسا مستقلا. ولكن تبقى السياسات الداخلية المصرية نموذحا يتبعه
آخرون اتباع العميان، كما حدث حينما كان صعود الإسلامويين وسقوطهم في مصر هو الذي
حدد المزاج في المنطقة كلها ـ ورفص القاهرة تبني خط السعودية المتطرف أفاد
المصريين وحدد طريقا إلى سياسة إقليمية أقل طائفية.
مصر اليوم بصفة خاصة مثال للحدود التي قد يواجهها محمد
بن سلمان إذا ما سعى ـ كزعيم للعرب السنة ـ إلى إملاء أوامره السياسية على
الآخرين. فقد ظهرت هذه الحدود على أجلى نحو في ربيع 2015 حينما رفضت مصر دعوة محمد
بن سلمان المفاجئة للانضمام إلى تحالف عربي سني لمحاربة الحوثيين في اليمن. ومثلما
قال مسؤول مصري رفيع المستوى لأحد كاتبي المقال "هذه مصر، لا يمكن أن يتصل
بنا أحد في الثالثة ليلا وينتظر منا أن ندخل معه حربا في الصباح". صحيح أن مصر
قدمت إسهامات محدودة ومتأخرة للتحالف العسكري العربي لكنها إلى حد بعيد بقيت بعيدة
عما تبيَّن أنها حرب كارثية مكلفة.
إلى أين تمضي القاهرة
منذ 2013، وهنت روح مصر الاستقلالية بسبب الحاجة الماسة
إلى الشرعية الدولية والمعونة الأمنية وحاجتها فوق ذلك كله إلى عشرات بلايين
الدولارات من دول الخليج الثرية (التي تمتلك "الفلوس زي الرز" على حد
تعبير السيسي الذي لا ينسى). غير أنه في حين سعدت مصر بالشيكات الأجنبية، كثيرا ما
رفضت النصائح الخارجية، سواء أجاءت من واشنطن أم من أبوظبي. ويبقى أن ثمة الآن
عددا من الظروف التي قد تمنح زعماء البلد من الثقة ما يكفي لمواصلة نهجهم الاستقلالي.
أولها، بدلا من التعرض لضغوط مستمرة من الولايات المتحدة
بشأن حقوق الإنسان، تلقى السيسي إقرارا تاما وعناقا في البيت الأبيض من الرئيس
الأمريكي دونالد ترامب. حققت إصلاحات مصر الهيكلية المدعومة من صندوق النقد الدولي
أيضا قدرا من الاستقرار الاقتصادي، على الرغم من التضخم والبطالة. كما أسهم الحصار
سعودي القيادة لقطر والاضطراب العنيف الذي أعقب الانتفاضات العربية في تراجع واسع
النطاق للجماعات الإسلاموية بما هيأ المسرح لإصلاح العلاقات المصرية السعودية
المتوترة سابقا. ولعل الأهم أن مصر تفترض أنها أضخم من أن تفشل، وحتى هذه اللحظة
يتحرك حلفاؤها بناء على هذا الافتراض. ربما لأن كثيرا من جيرانها يعانون الاضطراب
والعنف، فإن خطوات مصر الخارجة على الأعراف لم تفض إلى أي انقطاعات دبلوماسية. بل
تكيَّف شركاء مصر وبقوا كارهين لتحدي القاهرة في هذا المنعطف الحساس.
وأخيرا سوف تعتمد محاولة مصر لاسترداد بروزها الإقليمي
على قدرة السيسي على دعم سلطته داخليا. فلكي تستعرض مصر قوتها في الخارج، سيكون
عليها أن تحقق المزيد من الاستقرار وتضمن قاعدة اقتصادية وسياسية وأمنية بالداخل،
على أن يتضمن ذلك إصلاحات غير قليلة لفتح المجال أمام القطاع الخاص بدلا من أن
يبقى عبء تجديد مصر واقعا على كاهل الحكومة وحدها.
غير أنه كلما أوغلت مصر في طريقها المنفرد، صعب عليها
التصالح مع التناقض الكامن في قلب السياسة الخارجية المصرية المعاصرة: فمن ناحية تسعى
مصر إلى الحفاظ على تحالفها التقليدي مع الرياض وواشنطن، إذ تتلقى المال من الأولى
والسلاح من الثانية. ومن ناحية أخرى، ترفض مصر باطراد أن تتبع خط السعودية
الإقليمي مطمئنة إلى روسيا، فاتحة ـ فيما يحتمل ـ قواعدها لمنافس الولايات المتحدة
الجيواستراتيجي في المنطقة. وإن استمرت مصر في اتباع هذه السياسة ذات المسارين فقد
تطرح الرياض أو واشنطن في مرحلة ما على القاهرة خيارا أصعب. وإلى أن تفعل أي منهما
هذا، تبقى مصر واثقة وهي تختبر حدودهما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق