الأربعاء، 6 ديسمبر 2017

حرب مصر على الكتب

حرب مصر على الكتب
إلى أي مدى يذهب عبدالفتاح السيسي لقمع المعارضة؟
مجلة ذي أطلنطيك ـ 4 ديسمبر 2017
بقلم: فريد ي فريد

أتى على مصر وقت كان تلاميذ المدارس يترددون فيه على مكتبة الكرامة في حي دار السلام القاهري المزدحم الفقير باحثين فيها عن مهرب من عنت حياة العشوائيات وتلوثها، أو عن مجرد مكان آمن يؤدون فيه واجباتهم المدرسية. لكن عاما تقريبا قد مضى الآن وباب المكتبة المعدني القرمزي المتهالك مغلق: ففي ديسمبر من عام 2016، أغارت قوات الأمن المصرية على المكتبة وثلاثة فروع لها لاعتبارها أماكن محرضة على الفتنة.
بني هذا التقدير الحكومي في المقام الأكبر على عمل مؤسس تلك المكتبات، جمال عيد، محامي حقوق الإنسان ذي الصوت الجهير المرح. فبعد ثورة مصر المنكوبة في 2011، استعمل جمال عيد ماله الخاص في إقامة المكتبة وخمس مكتبات مماثلة لها، مطلقا عليها اسم الكرامة، أي dignity  بالإنجليزية.
في يوم غارة دار السلام، حرص جمال عيد وجماعة من المتطوعين على منع الأطفال الغاضبين من رمي الحجارة على قوات الشرطة. وخشية التعرض لمزيد من الانتقام، قرَّر إغلاق الفروع الثلاثة الأخرى. و بقيت المواقع الستة مغلقة على مدار العام الماضي، ولم يُسترَد من الشرطة إلا جزء من الكتب.
يقضي جمال عيد أيامه حاليا في الدفاع عن المصريين المسجونين بدون وجه حق. وبوصفه أحد أشهر نشطاء حقوق الإنسان المصريين (إذ يحظى بمتابعة قوية من مليون شخص على تويتر)، فقد منع من السفر خارج مصر منذ فبراير في العام الماضي، كما تعرضت ممتلكاته وأصوله للتجميد. وقد قال لي إن "الدولة معادية لحقوق الإنسان ولأي صوت مستقل. وأنا أفهم هذا المنطق. لكن ما يؤلمني بحق هو استهداف المكتبات على وجه التحديد، فما الداعي إلى ذلك" وهي تخدم آلاف الأطفال، "وفي هذا إيذاء لهم".
هذا المنطق هو المحرك للنظام القمعي التابع للجنرال الذي تحول إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي بعدما أطاح بالرئيس الإسلامي محمد مرسي في يوليو 2013. في أول الأمر وعد السيسي باستقرار سياسي ورخاء اقتصادي. ولكن وعوده تلك بقيت وعودا لم تتحقق، وثمة بوادر على وهن قبضته على السلطة: إذ أظهر استطلاع للرأي أجري العام الماضي هبوطا بنسبة 14% في الرضا الشعبي عنه بعد تقليله الدعم وارتفاع التضخم بصورة فائقة.
ومع اقتراب الانتخابات في 2018، لجأ السيسي إلى قمع المعارضة وتقوية جهاته الأمنية وتركيبته العسكرية الصناعية لضمان ترشحه دونما معارضة. فبات كلما طال بقاؤه في السلطة، يزداد عنفا في استعمال جهازه الأمني الهائل في حملته على السياسيين المعارضين، ومنهم الإخوان. في الوقت الذي يحذِّر فيه المحللون من أنه لو استمر في تركيزه على القمع لا على الاقتصاد فإن مصر مقبلة على انفجار.
لقد كان شهر نوفمبر شهرا عبثيا، حتى بالمعايير القمعية التي يتبعها النظام الحالي. فسوف تمثل شيرين عبدالوهاب، وهي مطربة مصرية شهيرة وواحدة من المحكَّمين في النسخة العربية من برنامج ذي فويس للمواهب، أمام القضاء في ديسمبر لإطلاقها نكتة عن التلوث الشديد  في نهر النيل. كما منعت السلطات أيضا عرض فيلم "حادثة هيلتون النيل" في مهرجان سينما محلي. يحكي الفيلم الحائز على جائزة صندانس للأفلام الروائية الطويلة قصة تحقيق في مقتل مطربة بملهى ليلي في فندق هيلتن النيل متعمقا في أحشاء نخبة القاهرة السياسية الفاسدة. ولم يقدم منظمو المهرجان تبريرا لمنع العرض إلا "الظروف الخارجة عن إرادتنا". وفي الأسبوع الماضي أغارت الشرطة على دار عرض كانت تعرض الفيلم.
لكن لا يبدو أن ثمة ما يزعج كوادر الحكم في مصر أكثر مما تزعجها الكلمة المكتوبة. فقد شهدت الفترة الأخيرة سلسلة من قرارات الحظر والحجب، تضمنت حجب مئات من صفحات الإنترنت بما يؤكد ما أطلق عليه خالد فهمي الأستاذ بجامعة كمبريدج والمؤرخ غزير الإنتاج للشرق الأوسط بـ "لحظة الأزمة الخطيرة" التي حولت فيها قوانين طوارئ الدولة الاستبدادية عملا بسيطا كالقراءة إلى مخاطرة. "إن حرية الصحافة وحرية تدوال المعلومات ... مكونات جوهرية لأي نظام ديمقراطي. لكن النظام وفئات كثيرة في المجتمع لا ترى الأمر على هذا النحو، بل يرون العكس بالضبط. يرون أننا في أوقات الأزمات لا بد أن نكون متحدين وحدة مطلقة" بحسب ما قال لي فهمي.
في 23 نوفمبر حكم على جمال عبد الحكيم ـ الناشط السياسي اليساري في حرمه الجامعي ـ بالسجن لخمس سنوات بموجب قانون مكافحة الإرهاب لحيازته نسخة من "القيمة والسعر والربح" لكارل ماركس عند اعتقاله من منزله في وقت سابق من العام الحالي. وكانت قوات وزارة الداخلية قد أغارت قبل ذلك بأيام، أي في 19 نوفمبر، على دار ميريت للنشر بوسط القاهرة، وهي الدار التي تساند الكتاب الشبان وتمثل ملاذا للثوريين، واعتقلت أحد المتطوعين موجهة إليه تهمة حيازة وبيع كتب غير موثقة [بأرقام إيداع]. وتلك هي أحدث نماذج المكتبات ومتاجر الكتب التي أغلقت خلال الشهور الأخيرة. فقد أرغمت "البلد" ـ وهي متجر كتب يساري تتردد عليه نخبة القاهرة الأدبية ـ على إغلاق أبوابها في نوفمبر. كما صودرت أصول "ألف" ـ وهي سلسلة متاجر كتب تجارية ـ في وقت سابق من ذلك الشهر للارتياب في صلات مالكها بالإخوان المسلمين.
لقد سعت مصر في ظل العديد من حكامها المحدثين ـ لكن بصورة أكبر في الوقت الراهن ـ إلى تقديم نسخة مستساغة، ومحافظة في الوقت نفسه، من الإسلام يمكن أن تتقبلها الجماهير. والسيسي يفضل الإسلاميين المحافظين القابلين للسيطرة على المعارضين العلمانيين ـ لا سيما الكتاب ـ ممن يهددون حكمه. وهو يعمل مع السلفيين المغالين في المحافظة تحقيقا لأهداف سياسية قريبة المدى، مع الترويج في الوقت نفسه لدى الحكام الأجانب للقتال الذي يخوضه في سيناء ضد التمرد الذي اجترأ كثيرا.
وتبقى الرقابة أداة محورية في منهج السيسي تجاه الإسلام. وفضلا عن ملاحقة الإخوان المسلمين، يعتقل آلاف الشباب وغيرهم ممن يعتبرهم من المعارضين. فأثمرت حملته الصارمة القاسية أكثر من أربعين ألف سجين من مختلف الاتجاهات السياسية. فالكتاب والمعارضون يمثلون ـ وفقا لعقلية الأمن أولا التي يتبناها نظام السيسي ـ خطرا غير هين: إذ أن لديهم القدرة على تحريض الشعب على مساءلة سياساته.
والهيئة العامة للكتاب، وهي دار النشر التابعة للدولة، مثال راسخ لهذا المنحى الأيديولوجي. فقد قالت لي سهير المصادفة رئيسة المشاريع الثقافية والنشر إن "الكتاب الذي أنشره لا بد أن يخلو من أي أفكار تفضي إلى العنف". وأنكرت انتشار الرقابة في مصر، وبدلا من ذلك، تغنَّت بتراث مصر الأدبي المجيد بالمقارنة مع كتّاب مصر الشبان الذين يمليون اليوم إلى التجريب. وأضافت "أنا أيضا ضد نشر الكتب المسؤولة عن اللحظة الحضارية الخربة التي نعيشها في مصر. فهذه الكتب مكانها الرصيف".
يرى أحمد ناجي ـ الروائي المصري الحائز على جائزة نادي القلم الدولي PEN والعالق خاليا في شرك قانوني كفكاوي/ ـ أن مصر واقعة في مستنقع مرض ثقافي، لكنه يرى ذلك من وجهة نظر مختلفة. كان فصل من روايته الناجحة "استعمال الحياة" ـ التي صدرت ترجمتها الإنجليزية في نوفمبر من العام الحالي ـ قد نشر في أغسطس 2014 في الجريدة الأدبية التابعة للدولة والتي يعمل هو فيها. واعتبر ذلك الفصل داعرا بالقدر الذي انتهى به إلى السجن في 2016، وبالقدر الذي أثار الذعر الأخلاقي بما فيه من كلمات ذات حمولة جنسية.
قضى ناجي عاما في السجن لـ"خدشه الحياء العام" بروايته الدستوبية dystopian  وعاميته الجنسية الفجة التي توحي في وقت واحد بالتهكم وبعدم الاكتراث ـ مثله هو نفسه إلى حد كبير. وقد أطلق سراحه من السجن. يقول لي بابتسامة متكلفة "لعلهم سجنوني لأنني سوقي". وهو يشعر بالإحباط لعجزه عن مغادرة مصر بسبب حكم مؤجل بالحبس لمدة سنتين لا يزال معلقا على رأسه.
خالد فهمي متفائل بأن فترة القمع الراهنة تفرز بالفعل بذور فضاءات للمقاومة الجادة. "فبين القراء بالفعل من يتلقون الكتب ويشتبكون معها على نحو أكثر صحية ونقدية [من ذي قبل]. ربما لم يزدد قراء الكتب عددا، لكنهم ازدادوا عمقا".Top of Form
Bottom of Form




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق