الثلاثاء، 23 أغسطس 2016

آدم إرليتش ساكس ... ثلاث قصص وحوار

الفلاسفة

آدم إرليتش ساكس


نظامنا

قضى فيلسوف عمره يتأمل طبيعة المعرفة إلى أن تهيأ أخيرا لكتابة خلاصة ما توصل إليه. تناول ورقة بيضاء وقلما. لولا أنه لاحظ وهو يرفع القلم رعشة بسيطة في يده. وبعد ساعات شُخّصت حالته بأنها اضطراب عصبي عضلي بدأ على الفور في إتلاف جسده، وإن لم يبد ظاهريا، بحسب ما قال الطبيب، أن له تأثيرا على عقله.

فقد القدرة على استعمال عضلاته واحدة بعد واحدة، بدءا من أصابع يديه، ثم قدميه، ثم ذراعيه، ثم ساقيه. وسرعان ما لم يعد قادرا إلا على أن يهمس في وهن ويحرك جفنه الأيمن. وقبيل فقدانه تماما للقدرة على الكلام، صمَّم مع ابنه نظام مساعدة يمكنه فيه من خلال تحريك جفنه أن يعبر عن حروف اللغة.

ثم صمت الفيلسوف.

شرع هو وابنه في تأليف كتابه عن المعرفة. كان الأب يرمش بجفنه الأيمن أو يجفل به، فيدوّن الابن حرفا. كان التقدم بطيئا بصورة استثنائية. فبعد مضي عشرين عاما كانا قد كتبا مائة صفحة. ثم حدث ذات صباح أن تناول الابن القلم، فلاحظ في يده رعشة بسيطة. وشخصت حالته أيضا بنفس اضطراب أبيه العضلي العصبي، فقد كان وراثيا بطبيعته، وبدأ يفقد القدرة على استعمال عضلاته هو الآخر. وسرعان ما لم يعد بوسعه إلا أن يهمس بوهن ويحرك لسانه. وصمم هو وابنه نظاما يمكنه فيه من خلال طرق أسنانه بلسانه أن يعبر عن حروف اللغة، وبعدها صمت هو الآخر.

واستمرت الكتابة، ولو أن الإيقاع البطيء بصورة لا توصف قد صار أبطأ. كان الجد يرمش ويجفل بجفنه الأيمن، فيطرق الابن بلسانه على أسنانه، ليدون الحفيد حرفا. وبعد مضي عشرين عاما أخرى، كتبوا عشر صفحات أخرى في طبيعة المعرفة.

وذات صباح لاحظ الحفيد رعشة بسيطة في يده. عرف على الفور معناها. لم يبال حتى بالحصول على تشخيص. كانت العضلة الأخيرة المتبقية له هي حاجبه الأيسر، وبرفعه أو خفضه كان يمكنه أن يعبر عن الحروف لابنه. ومرة أخرى تضاعف بطء الإيقاع. وتضاعفت احتمالات الخطأ. ثم أصيب ابنه، وابن ابنه، وابن ابن ابنه، ثم ابن ابن ابن ابنه، وهو أبي.

تكدسنا في غرفة المرض الوراثية. معتمة، باردة، نبقي ستائرها مغلقة وحرارتها منخفضة بسبب حساسيتنا الوراثية للضوء ونفورنا الوراثي من الحرارة، وليست للأمرين في واقع الأمر علاقة باضطرابنا العضلي العصبي الوراثي. قد يحاول شخص السعال فلا يستطيع. أجلس إلى المكتب في انتظار الحرف التالي، الذي قد يستغرق وصوله شهورا. يرمش الفيلسوف بجفنه الأيمن أو يجفل، يطرق ابنه بلسانه على أسنانه، يرفع ابنه حاجبه الأيسر أو يخفضه، يمص ابنه شفته العليا أو السفلى، ينفخ ابنه أحد منخاريه، يرمش جدي بجفنه الأيسر أو يجفل، يطرق أبي بلسانه على أسنانه، وأنا أدون الحرف. خلال الإحدى عشرة سنة الماضية دونت ما يلي: م م م ف ه م و م م  مممم ا ا ا ا ا م م م م م م م م م و و م م م م م م و م م م م م م م م و م م م م م م.

بم نخرج من هذا؟ لعل الفيلسوف فقد عقله. لعل هناك عطلا في نظامنا القائم على الرمش والإجفال والخلجات وتحريك اللسان على الأسنان ومص الشفاه الذي ينتقل به الحرف من رأسه إلى قلمي. لعلي ـ ومن المؤكد أنني لا أستبعد هذا ـ فقدت عقلي: ربما لا أرى مهما حرك أبي لسانه على أسنانه إلا حرف الميم والواو بين الحين الآخر. أو لعل نظامنا يعمل بمثالية، وعقل فيلسوفنا يعمل بمثالية، ونظرية المعرفة لديه تصل إلى الصفحة التي يقصدها بالضبط ولكنني ببساطة لا أمتلك الأدوات اللازمة لفهمها. هذا أيضا لا يمكن استبعاده.

هناك حرف الآن قادم في الطريق. الشيوخ الآن يعبسون ويمصون، يجفلون ويطرقون، يرمشون وينفثون. ابني هنا ليشاهد، ينظر بإشفاق وفزع، ولا يزال لا يعرف ما علاقة كل هذا به. يكره التواجد في هذه الغرفة. يمكنكم أن تروا بأي لهفة في نهاية اليوم يقبل أسلافه ثم يتقدمني في سباقنا إلى الصالة.




قبعات

 

دأب ابن الفيلسوف والمتصوف الراحل بيريلمان الذي كان يكتب سيرة أبيه أن يقول في حلقاتنا الدراسية الأسبوعية الارتجالية إنه يرتدي قبعتين: قبعة ابن بيريلمان وقبعة كاتب سيرته. وكنا نعتبر قوله ذلك من قبيل الاستعارة إلى أن قال لنا طالب جامعي كان يستأجر شقة في الجهة المقابلة من الشارع إنه كان يرتدي قبعتين فعليا: فقبعة ابن بيريلمان هي قبعة فريق بوسطن ريد سوكس، وقبعة كاتب سيرته الذاتية قبعة بُنِّيَّة ذات حافة. كان في بعض الليالي يرتدي قبعة ريد سوكس، وفي بعضها يرتدي القبعة البنية ذات الحافة، وفي ليال أخرى يراوح بين الاثنتين، بسرعة شديدة.

ذاع الخبر، ولم يمض وقت طويل حتى طرق رئيس القسم باب مكتب ابن بيريلمان. حثَّه رئيس القسم على الخروج في إجازة، إذا سمح، من أجل مصلحته.

قال ابن بيرلمان بنظرة عليمة "بيل، هل لهذا علاقة بالقبعتين؟"

اعترف رئيس القسم بالقلق.

قال ابن بيريلمان وهو يلمس معصم رئيس القسم  "لا تقلق عليّ يا بيل. أنا لست مجنونا، إلى الآن على الأقل. والقبعتان لهما غرض وظيفي محض".

كان يعرف أن الأمر سخيف، ولكن القبعتين كانتا تساعدانه على الفصل بين دورين متعارضين، دور الابن الحزين على أبيه أولا، وثانيا دور الباحث الساعي إلى الفهم، والتأريخ، والنقد، نعم النقد، بأكبر قدر ممكن من البرود، لأفكار أبيه. قبل أن يخطر له نظام القبعتين، كان يعيش حالة من توبيخ الذات المستمر: فحينما يفكر في بيريلمان تفكير الابن في أبيه، كان الباحث في شخصيته يأخذ عليه نقص الموضوعية، وحينما يفكر في بيرلمان تفكير الباحث في موضوعه كان الابن في شخصيته يأخذ عليه نقص الوفاء.

ووضعت القبعتان حدًّا لذلك كله. كان حينما يضع قبعة ريد سوكس، يجد من إحكامها على رأسه ومن رائحتها الأليفة تأثيرا بروستيا. فيرتد إلى مدرجات حديقة فينواي بجوار أبيه، ويغمره الحنان على أبيه والشفقة، والاحترام، والحب، والقبول بعيوبه قدر قبوله بفضائله. كان يود أن يبيد أولئك الأكاديميين الذين ينالون من أبيه وينحر رقاب من يسعون إلى فهمه بوصفه نتاج بيئته. ذلك كان تأثير قبعة ريد سوكس. أما تحت ثقل القبعة البنية، وتحت حافتها الرزينة، يتسنى له أن ينحي تفانيه الطفولي ويفحص فكر أبيه بالتشكك اللازم لمؤرخ ثقافي. حقق في أصالة أفكار أبيه، وتعقب نسبها، ودقّق في اتساقها الداخلي، وتمعن في افتراضاتها وحدودها.

قال ابن بيريلمان ضاحكا "أنا معترف يا بيل أنه نظام غريب. أن يتأثر ما يجري في رؤوسنا بما يجري فوق رؤوسنا. ولكن في حالتي، ليس الأمر على هذا النحو" وهزَّ كتفيه "الأمر يساعدني على التقدم. لا أسائله".

مضى رئيس القسم وهو في غاية السرور، بل التأثر. وذاع خبر أن ابن بيريلمان ليس مجنونا بل عبقري.

في حلقتنا الارتجالية التالية، قال ابن بيريلمان إنه يرتدي "أربع قبعات". فهو ابن بيريلمان، وكاتب سيرة بيريلمان، ومحاور بيريلمان الفلسفي، ومنفذ وصية بيريلمان.

في الصباح التالي، نقل الطالب الجامعي لنا أن قبعتين جديدتين، رياضية سوداء وقلنسوة يهودية بنفسجية، قد دخلتا في المناوبة. افترض مما رآه أن تكون القبعة السوداء قبعة منفذ الوصية والقبعة البنفسجية قبعة المحاور الفلسفي. كان ابن بيريلمان يقضي أغلب أمسياته المبكرة متنقلا في هدوء بين قبعة ريد سوكس والقبعة ذات الحافة. وفي نحو الثامنة مساء، تنفرد به القبعة اليهودية إلى ما بعد التاسعة. ومن ذلك الوقت إلى منتصف الليل يراوح ما بين الطاقية اليهودية وقبعة ريد سوكس والقبعة البنية ذات الحافة. ثم ينهى الليلة بنحو خمس وأربعين دقيقة من الراحة النسبية في القبعة السوداء.

قال ابن بيريلمان وهو يمس معصم رئيس القسم "أنا بخير يا بيل. كيف أستدعي ذكريات أبي في دقيقة وأدرس شؤونه الضريبية في اللحظة التالية؟ مستحيل، ما لم أضع فعليا القبعة السوداء. في دقيقة أتذكر إحساس حمله لي على كتفيه، وفي التالية أهاجمه تأويله الفريد لكانط؟ القبعة البنفسجية. من علَّمه هذا الكانط الغريب، ومتى؟ القبعة البنية".

بحلول موعد جلستنا التالية، كانت لدى ابن بيرليمان ستة عشر قبعة. ابن بيريلمان، وكاتب سيرته، ومحاوره الفلسفي، ومنفذ وصيته، ومسؤول بيرلمان الإعلامي، ووريث عرش بيريلمان، وخادم بيريلمان، والمتعصب لبيريلمان، وماحي بيريلمان، ووريث بيريلمان الفلسفي، ومنتقد بيريلمان، وأمين مكتبة بيريلمان، وحامل جينات بيريلمان، وجندي مشاة بيريلمان، وخائن بيريلمان، ودوبلير بيريلمان. اثنتا عشرة قبعة جديدة انضمت إلى المخزون، بينها بيريه، وعصابة، وقبعة قش صغيرة، وقبعة مكسيكية.

وبطبيعة الحال أصابنا القلق. صارت مساءات ابن بيريلمان الآن، بحسب ما يفيد به الطالب الجامعي، تداخلات لا تنقلات. فلم يكن شيء يبقى على رأسه طويلا. ولكن الواقع، حسبما كنا نفترض، كان كفيلا بأن يضع آجلا أم عاجلا حدًّا لجنونه. فليس هناك إلا كثير جدا من أنواع القبعات، تماما كما أنه ليس هناك إلا الكثير للغاية من العلاقات التي قد تقوم بين أب وابنه. وفي وقت ما، سوف يستنفد ابن بيريلمان إما القبعات أو العلاقات، وكان عقلنا يميل إلى القبعات، وبعدها يعود إلى صوابه.

لكن سرعان ما ظهرت علاقات لم نضعها في الاعتبار، وقبعات لم يسبق أن سمعنا بها. كان مخزنَ نكات بيريلمان القديمة عن اليهود، ومقلد صوت بيرلمان، ولابس سترة بيرلمان، وآخر الممارسين الأحياء لأسلوب بيرلمان في التزلج على الجليد، ومتجاوز بيرلمان، وضحية بيرلمان. ارتدى قبعة ثلاثية الزوايا من القرن الثالث عشر، وطاقية، وقلنسوة حاسيديمية مدورة، وعمامة أفغانية بريشة طاووس مغروسة بين طياتها.

بنهاية فصل الخريف الدراسي علمنا أنه لا بد من القيام بشيء ما. انفجارة القبعات والعلاقات لم تتوقف. أدركنا أن ابن بيريلمان لو ترك وشأنه سيظل يقسم علاقته بأبيه إلى ما لا نهاية، وسيشتري قبعة لكل شريحة علائقية متناهية الصغر. وفي نهاية المطاف، سوف يحول علاقته بأبيه ـ وهي بطبيعتها شيء بسيط ـ إلى شيء لانهائي التعقيد، وبالتوازي مع ذلك تتزايد مجموعة قبعاته بلا حدود، فينتهي به ذلك إلى تدمير نفسه. كنا ندرك أن نزعته التحليلية، ومجموعة القبعات الهائلة الناجمة عنها، سوف تمحوانه محوا.

وهكذا، ذات صباح، في محاولة لإنقاذ ابن بيريلمان من نفسه، تسللت مجموعة من الطلبة الجامعيين وكبار أعضاء هيئة التدريس في الكلية، بمباركة من رئيس القسم، إلى شقته (أثناء حضوره مؤتمرا عن بيريلمان)، ووضعنا جميع القبعات في أكياس قمامة ـ مائة وثمان وعشرين قبعة في اثني عشر كيس قمامة ـ وأخرجناها من هناك.

ولكن لا بد أننا في دواخلنا كنا نعرف أننا نعالج العرض، لا السبب. وبالأمس قضى ابن بيريلمان نهاره وليله ـ بحسب مخبرنا هناك ـ مرتديا قبعة زنتها عشرة جالونات لا يعرف أحد بعد أي شيء عن ارتباطاتها الأبوية.




آلة زمن المجنون

 

في أكثر ليالي السنة برودة، نقل مجنون إلى مركز بوسطن الطبي بلسعة برد من الدرجة الثالثة. كانت الشرطة قد عثرت عليه أسفل جسر مشاة، عاريا في علبة كرتونية، وقد كتب على الصندوق بقلم عريض أسود كلمتا "آلة الزمن".

الغريب أن المجنون المصاب بلسعة البرد كان في غاية الابتهاج.

قال للطبيب النفسي المكلف بحالته، إنه، حتى وقت قريب، كان أذكى شخص في التاريخ، فهو أذكى من أينشتين ("وإن يكن بقليل") ومن نيوتن ("وإن يكن بقليل"). لكن ذكاءه التاريخي كان لعنة.

قال لطبيبه النفسي إن "القدرة على الإدراك الفوري لطبيعة كل شيء الحقيقية أمر رهيب فعلا". أصابه الضجر وشعر بالوحشة. ففي اللحظة التي يبدأ فيها فكرة، يصل إلى منتهاها المنطقي. "وجاءت لحظة" كما قال "لم يبق فيها ما يمكن التفكير فيه. بينما الجميع وراءنا واقفون عند أولى المبادئ والافتراضات والمسلمات".

كان قد نظر في أعوص مشكلات الفلك فحلّها على الفور. في مايو، انتهى من الميتافيزيقا. وانتقل إلى طبيعة الزمن، راجيا أن تلهي عقله لأسابيع قليلة على أقل تقدير، لكنها كشفت عن نفسها له في عصر يوم واحد. فعاد من جديد يشعر بالضجر والوحشة. وقرر صنع آلة زمن.

سأله الطبيب النفسي مشيرا إلى العلبة الكرتونية التي رفض المجنون التخلي عنها "هذه التي هناك؟"

"تلك" قال المجنون بابتسامة غريبة "مجرد علبة كرتونية".

قال إن آلة الزمن الحقيقية بديهيا أكثر تعقيدا بكثير، وبديهي أيضا أنها مصنوعة كليا، أو بصورة شبه كلية، من المعدن. لفترة خفَّفت عنه الضجر. زار الماضي القريب، ثم المستقبل القريب، ثم الماضي البعيد، ثم المستقبل النائي. سعى دائما إلى رفقة أقرانه العباقرة. ناقش الجاذبية مع جاليليو والطفو مع أرشميدس. أخذ فيرمات إلى المستقبل القريب وأكل كعك المستقبل فوجده "أكثر امتلاء، ودسامة، بكثير" من كعك الحاضر بحسب شهادة المجنون. قابل أحد أهم مفكري المستقبل النائي، وهو مخلوق زاحف هائل لا يمكن نطق اسمه ورجع به لمقابلة لويس الرابع عشر المعروف بملك الشمس. فكان اللقاء، حسبما قال المجنون، "غريبا بصورة لا تصدق".

وسرعان ما تكلم المجنون مع كل شخص يستحق الكلام معه، ورأى كل جدير بالرؤية، وفكر في كل جدير بالتفكير، إلى أن استولى عليه الضجر من جديد والإحساس بالوحشة. حتى صحبة العباقرة لم تكن كافية، فأدرك أن الضجر باقِ معه طالما بقي لديه هذا الذكاء التاريخي الهائل. وكان الانتحار هو المخرج الوحيد. قرر أن ينتحر عن طريق مفارقة: بأن يرجع إلى الزمن ويقتل جده، وهذه استحالة منطقية كما لا يخفى علينا جميعا ـ حسبما قال ـ لأن قتله جده يعني أنه لن يولد هو نفسه، وهو ما يعني بدوره أنه لن يستطيع الرجوع في الزمن ليقتل جده. فمن شأن هذا الأمر أن يكون مثيرا، حسبما قال. علاوة على أنه سوف يغتال الرجل الذي نقل إليه هذا الذكاء التاريخي الرهيب الهائل.

ضبط المجنون آلة الزمن على برلين سنة 1932، وهناك كان جده رساما تعبيريا واعدا. تجسَّد في استديو جده حاملا مسدسا. حكى للطبيب النفسي أن جده صرخ "ناين [أي: لا بالألمانية] رافعا ريشته، فرفع هو المسدس قائلا "ناين". سارعت جدته داخلة وهي تقول "ناين" فأطلق الرصاص على صدر جده قائلا "ناين، ناين"، وخرّ الرسام التعبيري الواعد ميتا. لكن المجنون لم يختف، والكون، حسبما قال، لم ينفجر من الداخل.

ألم تحدث مفارقة إذن؟

بينما سارعت جدته الباكية إلى جده الميت، لاحظ المجنون انتفاخا صغيرا في بطنها. فأدرك، أنها كانت حبلى بالفعل، حسبما حكى للطبيب النفسي.

في تلك اللحظة تلاشى المجنون من الاستديو وتجسد عاريا أسفل جسر المشاة في علبة كرتونية مكتوب عليها "آلة الزمن". آلة الزمن الحقيقية راحت. للحظة شعر بالارتباك. ثم اتضح كل شيء وضوحا بشعا. لقد ولد أبوه، لكنه ولد يتيم الأب، فمضت حياته شقية لا ميسورة. وبدلا من أن يصبح عالم رياضيات، أصبح باني أسقف يعمل يوما ويتعطل عشرة. وابنه، المجنون، لم ينشأ في بيئة ثقافية. وبنبرة رضا قال للطبيب النفسي، إنه بدلا من أن يصبح عبقرية تتجاوز الحدود، أصبح غبيا، بل وفيه شيء قليل من الجنون. وبديهي أنه في هذا الكون البديل كان عاجزا تمام العجز عن صنع آلة زمن حقيقية فاعلة.

صاح المجنون في جذل "انظر إليها الآن، علبة كرتونية!".





آدم إرليتش ساكس: أكتب الجنون حفاظا على العقل
حوار: ويلينج ديفيدسن




ـ قصة "الفلاسفة" المنشورة لك في هذا العدد تمثل جزءا من كتاب أكبر عنوانه "اضطرابات موروثة" يصدر في مايو القادم. الكتاب، شأن قصة "الفلاسفة" يتناول الآباء والأبناء، إذ عادة يتحطم الأبناء عن غير قصد بسبب الآباء. ما البذرة التي أثمرت هذا الكتاب؟ كيف هي علاقتك بأبيك؟ وهل تتابعت القصص واحدة تلو الأخرى، أم تطورت الثيمة ببطء؟
ـ الثيمة كانت حاضرة منذ البداية، لكن العثور على الشكل استغرق بعض الوقت. في البداية حاولت أن أكتب رواية تقليدية عن الآباء والأبناء. كنت أبدأ بالأب والابن في تركيبة مفارقة، كما في هذه القصص، ثم أجعل الابن يتجه إلى أبيه، بطريقة واقعية، ويقول شيئا ما، على إثره تتهاوى الرواية. وفي الصباح التالي أبدأ من الصفر، بتركيبة مفارقة تختلف اختلافا رهيفا، وإذا بشخصية تمضي إلى أخرى لتقول شيئا تتهاوى على إثره الرواية. وبقيت على هذا الحال سنين عديدة كنت أشعر فيها أنني مجنون، وربما كنت أبدو كذلك. وأخيرا أدركت أنه بدلا من تمثيل سيكولوجيا العلاقة تمثيلا مباشرا، واقعيا، وهو ما كان واضحا أنني لا أجيده، ولا أستمتع به، يمكنني أن أسمح بظهور هذه السيكولوجيا بشكل غير مباشر من خلال المجاورة بين عشرات من التركيبات المفارقة، التي تظهر كل منها منفردة وتدور بحسب منطقها الخاص.
علاقتي بأبي عظيمة! العلاقات الفاشلة بالنسبة لي أكثر إثارة من بذرة الفشل الكامنة في كل علاقة، جاعلة التواصل محالا، وجاعلة رأس كل واحد منا سجنا له.
ـ هناك إغراء رياضي في هذه القصص: من الممكن النظر إليها بوصفها تنويعات على ثيمة واحدة. بصورة ما، هناك صيغة ثابتة فيها، صيغة ثابتة بالمعني الجيد للصيغة الثابتة. هل كانت هناك نماذج بالنسبة لك، أعمال أكثر تجريبية من الأدب الرسمي؟ هل مررت بمرحلة كنت تكتب فيها أدبا أكثر واقعية قبل أن تنصرف عن ذلك؟
ـ نعم، نماذج كثيرة. فأنا يجذبني الأدب الذي يبدو أنه مؤلف وفقا لمنطق غامض يكشف عن نفسه، لا وفقا لسلسلة نقاط من الحبكة. مثل كافكا. وكذلك التحليل المفاهيمي المخبول لتوماس بيرنهارد، والغرابة الصارمة لدى دانيال خارمس، والمساعي العبثية عند جريت هوفمان. بورخيس، بيكيت، كالفينو، كلايست. وأحدث من هؤلاء، ليديا ديفيس، ودونالد آنتريم. كان في ذهني أيضا تكرارية وتبادلية كوميديا الاسكتشات والفلسفة وكتب الأطفال.
ـ من السمات التي تجعل القصص بالغة الجودة، في رأيي، أنها تجمع بين الاتزام بالعمل وفق صيغة ثابتة مع خفة دم حقيقية واستمتاع بصوت الكتابة. كيف ضمنت أن لا تكون القصص مجرد تمرينات؟
ـ في القصة كما أحبها، ينتابني أشعر أن النجاح في إعمال منطق الكتاب مهم بطريقة ما لاستمرار سلامة الكاتب العقلية. بالنسبة لي، كالفينو وبورخيس، وهما من هما، يكونان في بعض الأحيان متزنين ومحكوميْن ـ شديدي التعقل ـ مقارنة بكافكا أو بيرنهارد في أفضل حالاتهما. أعتقد أنني ـ شأن بعض الرومنتيكيين البالين ـ أريد من كتَّابي أن يترنحوا طول الوقت على حافة الانهيار. على أي حال، من عيوبي الكثيرة، أنني أعقل مما ينبغي، فحينما كانت قصة تفشل، وهو ما كان يحدث كثيرا، فتتحول إلى ما يشبه رسما إيضاحيا لفكرة ما أو سخرية منها، كنت أتعامل معها باعتبارها تمرينا. وهذه هي القصص التي حذفتها من الكتاب، وإن كنت متأكدا أن بعضها قد بقي فيه.
ـ هل تشعر أنك انتهيت من مسألة الوراثة؟ ما الذي تحب أن تعمل عليه لاحقا؟
ـ نعرف جميعا تلك الحيل الكوميدية القائمة على تكرار نفس النكتة إلى أن تصبح مملة، ثم تنال دفعة أخرى فتبدأ في الإضحاك من جديد. أرجو أن تكون مهنة الكتابة شيئا من هذا القبيل. بمعنى: أنا لست متأكدا أنني أنتهيت من مسألة الوراثة بعد. لكنني أبحث عن شكل جديد.

نشر الحوار والقصص في يناير 2016 بمجلة ذي نيويوركر، ونشرت ترجمتها جميعا اليوم في شرفات


يرجع الفضل في تعريفي بالكاتب وكتابه الجديد إلى استعراض الكاتبة "منصورة عزالدين" لكتابه في عدد أخبار الأدب للأسبوع الحالي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق