الجمعة، 19 أغسطس 2016

ما جرى لطالب مسلم في كمبريدج 1816

ما جرى لطالب مسلم في كمبريدج 1816
نايل جرين
قبل مائتي سنة، وصلت إلى لندن أول مجموعة من المسلمين للدراسة في أوربا. كانوا مبعوثين من أمير إيران ومهمتهم هي استعراض العلوم الجديدة الناشئة من الثورة الصناعية.
بينما استقر الطلبة المسلمون الستة الأوائل في نزلهم اللندني في الشهور الأخيرة من عام 1815، كانوا ممتلئين بالإثارة من المجتمع الجديد الذي رأوه حولهم. حشود من النساء والرجال تجتمع ليلا في "بيوت النظارة" حسب تسميتهم لمسارح المدينة. كان في لندن طنين هزيمة نابليون الأخيرة في ووترلو قبل شهور قليلة والعلوم الجديدة [ulum-i jadid] التي بعث الطلبة لاستكشافها بدت معروضة في كل مكان، فلم يكن أقلها السفن البخارية التي كانت تحمل الناس في نهر التيمز.
ميزرا صالح
وفيما تغدو الأسابيع أياما، بدأ الغرباء الستة يدركون حجم مهمتهم. لم تكن لديهم مؤهلات مميزة، ولا علاقات بالوسط الأكاديمي الصغير آنذاك، وما كانوا يجيدون اللغة الإنجليزية. وفي ذلك الوقت لم يكن هناك قاموس فارسي إنجليزي ليكون عونا لهم.
ورغبة منهم في تعلم الإنجليزية، واللاتينية التي ظنوا خطأ أنها لم تزل اللغة الأساسية للعلم في القارة، استعان الطلبة بكاهن يدعى المبجل جون بيسيت. حكى لهم بيسيت ـ خريج أكسفورد ـ عن مؤسستي إنجلترا التعليميتين. وعندما تتلمذ اثنان من الطلبة بعد ذلك على يد عالم الرياضيات الموسوعي أولينثوث جريجوري، تأسست لهم روابط أقوى مع الجامعتين، نظرا لأن جريجوري كان قد قضى من قبل سنين بائع كتب ناجحا في كمبريدج. ووضعت خطة لتقديم واحد على الأقل من الطلبة هو ميزرا صالح إلى أحد الأساتذة عسى أن يكون مسؤولا عن مساعدة الأجانب على الدراسة في إحدى كليات كمبريدج.
حدث ذلك قبل وقت طويل من السماح للكاثوليك بالدراسة في جامعات بريطانيا، فكان وصول مسلم إيراني (سيكون لاحقا مؤسس أول صحيفة في إيران) إلى كمبريدج سببا في إثارة كبيرة.
الأستاذ الذي وقع عليه الاختيار لاستضافة صالح كان يدعى صمويل لي من كلية كوينز. ويبدو أن صمويل لي كان مرشحا غريبا لمساندة الطالبان الشاب [وكلمة الطالبان بالفارسية تعني الطلبة أصلا قبل أن تعني الجماعة الإرهابية اصطلاحا ـ المترجم]. كان إنجيليا متدينا، متفانيا في قضية تحويل العالم الإسلامي إلى المسيحية. وبجانب عدد من الزملاء في كلية كوينز، من بينهم عائلة فين النافذة، كانت له صلات وثيقة بجمعية التبشير الكنسية التي تأسست في عام 1799 لتصبح بسرعة مركزا لحركة التبشير في كمبريدج.
غير أن هذه الأجندة بالتحديد هي التي جعلت صمويل لي شديد الانجذاب إلى الطلبة. ولم يكن ذلك لأن في اعتناق صالح للمسيحية خلاصا لروح إضافية. بل لأن صالح ـ بكونه مثقفا متحدثا للفارسية ـ قد يساعد الأستاذ في مهمته العظيمة، أي ترجمة الإنجيل إلى الفارسية، وهي اللغة التي كانت شائعة الاستعمال في ذلك الوقت في الهند أيضا، شأن شيوعها اليوم في إيران. انتهز صمويل لي الفرصة. ودعي صالح إلى كمبريدج.
وحسبما تكشف يومياته الفارسية، أحب صالح الأستاذ حبا جما. فبرغم أن ذريته سوف تتذكره بوصفه المستشرق الأكبريدجي [أي المنتمي للجامعتين المرموقتين] الذي ارتقى إلى المكانة الرفيعة لأستاذ كرسي ريجيوس للغة العبرية، إلا أن نشأته كانت شديدة التواضع. فقد ولد صمويل لي في قرية صغيرة في شوربشير لعائلة من النجارين، وتدرب في مراهقته على النجارة، وخلال رحلة بحثية لي من كاليفورنيا زرت قرية لونجور التي ولد فيها صمويل، والتي لا تزال إلى اليوم قرية نائية لا يمكن الوصول إليها إلا عبر طريق ضيق مختبئ وسط الشجيرات. في كنيسة القرية أسعدني أن أجد الأحرف الأولى من اسم جد صمويل النجار ريتشارد لي منحوتة في مقاعد صنعها لأهله في القرية.
قبل مائتي سنة، لم يكن أحد يعرف أن صبيا قرويا مثل صمويل لي سوف يصبح أستاذا في كمبريدج، لكنه كان عبقريا في اللغات فأهلته تلك العبقرية لنيل رعاية أحد نبلاء المنطقة. ولما كان صالح أيضا باحثا شابا طموحا في طور الإعداد، فقد أحب صمويل لي العصامي وسجل قصة حياته في يومياته الفرسية بنبرة الإعجاب.
برعاية من صمويل لي، استطاع صالح أن يقيم في كلية كوينز، ويتناول طعامه في القاعة مع الأساتذة من أمثال وليم ماندل وجوزيف لي. وفي ذلك الوقت كان عميد الكلية هو الفيلسوف الطبيعي إيزاك مايلنر، المناظر الشهير والكيميائي الشهير أيضا. لا شك أن صالح كان يستمتع بالعشاء جالسا إلى تلك المائدة الرفيعة، ولكن الوقت الذي قضاه في كمبريدج لم يكن كله قصفا. كان يقوم بجولات دراسية في المكتبات لا سيما مكتبة رين في كلية ترينيتي حيث يقوم تمثال لإسحق نيوتن الذي اعتبره صالح في يومياته "الفيلسوف المالك لعيني إنجلترا ومشعلها".
في مقابل انفتاح عالم كمبريدج المغلق له، ساعد صالح صمويل لي في العمل على الإنجيل الفارسي. بل لقد كتب له رسالة توصية عند ترشيحه للمرة الأولى لتولي كرسي أستاذية ريجيوس. ولا تزال الرسالة محفوظة في أرشيف الجامعة.
من يوميات صالح، ورسائل لي وأرشيف الجامعة، تنشأ صورة ثرية للعلاقة الغريبة التي نشأت بين مسلمين أجانب وكلية كانت في ذلك الوقت أشد كليات كمبريدج مسيحية.
لقد كانت الجامعة مجرد واحد من أماكن كثيرة زارها صالح وزملاؤه الطلبة أثناء سنواتهم الأربع في إنجلترا، سعيا إلى ثمار العلم في عصر التنوير. ولئن كان اللقاء بين "الإسلام والغرب" غالبا ما يحكى في ضوء العداوة والصراع، فإن يوميات صالح تقدم مجموعة مواقف مختلفة ـ منها التعاون والمحبة والإنسانية المشتركة والحفاظ على صداقة غير متوقعة مع لي المسيحي الإنجيلي. ويوميات صالح ـ التي كتبت في إنجلترا في وقت كتابة روايات جين أوستن ـ تمثل شهادة منسية وتذكرة مفيدة بلقاء إنساني بين الأوربيين والمسلمين في فجر العصر الحديث.

كاتب المقال أستاذ التاريخ بجامعة كاليفورنيا في لوس آنجلس. أحدث كتبه بعنوان "حب الغرباء: ماذا تعلم ستة طلبة مسلمين في لندن جين أوستن (2016)

نشرت الترجمة اليوم في جريدة عمان 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق