الثلاثاء، 3 نوفمبر 2015

ميلاد القصة النيويوركرية

ميلاد القصة النيويوركرية*
جوناثن فرانزن










جوناثان فرانزن
كان عقد الخمسينيات من القرن العشرين عقدا أساسيًّا في تطور قصص المجلات الأمريكية. ففي وقت أسبق من ذلك القرن، كان يوجد قدر هائل من المجلات التي يمكن أن يعيش الكتاب من أمثال كاترين آن بورتر وإف سكوت فيتزجيرالد حياة معقولة من بيعهم القصص القصيرة لها. ثم حدث في وقت لاحق من القرن أن برزت مجلة ذي نيويوركر، فكان نشر قصة على صفحاتها هو الكأس المقدس للكتاب الناشئين، هو الاعتماد النهائي لهم. ولم ينته القرن إلا وقد استولت المجلة لنفسها بصورة جوهرية على السوق التجاري للقصة القصيرة.
حدث أيضا في الخمسينيات من القرن العشرين أن نشأت "القصة النيويوركرية"، وبصورة مفاجئة، بوصفها جنسا أدبيا متميزا. والذي كان يجعل من قصةٍ قصيرةٍ قصةً نيويوركرية هو أن تكون مكتوبة باهتمام، ومن خلال نثر حافل بعلامات الترقيم، وأن تحتوي على فقرات طوال من الوصف المادي، وأن تتسم بالدقة والرصانة اللتين تفضيان إلى نوع من الفراغ الشعوري السلبي، أو هو نوع من الإيحاء بإحساس ما دونما تحديد لطبيعة هذا الإحساس بالضبط أو تسمية له، وأن تكون شخصياتها متعلمة تنتمي إلى العرق الأبيض  وتعرض القصة لمكابداتها آلام الثراء وكآبة الحياة في الضواحي، أو ما في علاقات الزنا من نشوة أو حزن، وأهم ما كان يجعل من قصةٍ قصيرةٍ قصة نيويوركرية هو الخاتمة الأسلوبية المميزة، التي تبدو لك إما منحرفة انحرافا أنيقا أو خجلة محبطة، بحسب ذائقتك. وخارج مقر مجلة ذي نيويوركر، كان يشاع عن محرري القصة فيها أنهم يحذفون روتينيا الفقرة الأخيرة من أي قصة يقبلونها للنشر.
ذروة "القصة النيويوركرية" تزامنت بدقة شديدة مع تولي وليم شاون الذي خلف هارولد روس في منصب المحرر سنة 1952 وظل كذلك حتى سنة 1987، حتى ليمكن تسميتها بدلا من القصة النيويوركرية بـ "القصة الشاونية". القصة الوحيدة الموجودة في هذا الكتاب من فترة روس هي قصة "الذوق" لـ رولد دال، والمكتوبة على نحو أقدم وأكثر تقليدية. تدور أحداث القصة في حفل عشاء يقيمه سمسار حديث العهد بالعمل في الأوراق المالية، ولا يزال يمكن التعرف عليها وتلقيها في يومنا هذا، ولكن مقدمتها الجليلة وخاتمتها تنتميان إلى الزمن الذي كانت تقدم فيها قصص المجلات نوعية التسلية الشعبية التي باتت تعد اليوم حكرا على التليفزيون. وجاء عقد  الخمسينيات فوضع حدًّا لذلك، بظهور القصة النيويوركرية، وتركيزها على براعة الجملة ورفضها للنهايات المحكمة أكثر مما ينبغي، وهو ما يمكن فهمه جزئيا بوصفه انسحابا أمام ضغط التليفزيون التجاري، ونكوصا إلى مناطق لا تصل إليها الميديا البصرية.
في عقد الخمسينيات، ولوقت طويل، لم تكن مجلة ذي نيويوركر تعرِّف قصصها بوصفها قصصا. كان اسم الكاتب لا يظهر إلا في نهاية النص، مكتوبا بالحروف الكبيرة لكن بحجم صغير، بمثل الطريقة التي كانت تظهر بها أسماء الصحفيين والنقاد في المجلة. وما بدأ ـ على سبيل الاحتمال ـ بوصفه اصطناعا من هارولد روس، أصبح شعارا تعرِّف المجلة نفسها من خلاله: للكتابة الأدبية الصدارة، أما اسم المؤلف ونرجسيته ففي النهاية. وعلى الرغم من أن القصة القصيرة في تلك الأيام كانت في العادة تتصدر المجلة في اعتزاز (بدلا من مواراتها قرب النهاية كما هو الحال اليوم) فقد كان عدد القصص يتفاوت من عدد إلى آخر، ويترك للقارئ أن يحدد أي النصوص التي بين يديه قصة خيالية أم مادة حقيقية.
وإذن فقد كان الاحترام الذي توليه المجلة لكتّاب القصة ـ والمتمثل في الإيحاء بأن ما يعنيها في نص هو براعته من جملة إلى جملة، لا جنسه الكتابي، أو ثقل المادة التي يحتويها ـ جزءا مما جعل مجلة ذي نيويوركر المكان الذي يحلم كل كاتب قصة أمريكي شاب بالنشر فيه.
وكانت القصة النيويوركرية نمطا بطبيعة الحال، ونمطا ظالما لا محالة، فقد نشر شاون عشرات من القصص الشتيتلية [ربما نسبة إلى مدينة shtetl  اليهودية في شرق أوربا] لـ آي بي سينجر وقصص الريف الأيرلندي لفرانك أوكونور، وخصَّص أغلب أحد الأعداد لرواية "بيضاء الثلج" التجريبية لدونالد بارتليم الذي كان غير معروف في ذلك الوقت. ولكن القصة النيويوركرية كما ظهرت في الخمسينيات هي التي أصبحت نموذجا للكتاب الناشئين إذ بدت مفتاح الدخول إلى المجلة، وبحلول سبعينيات القرن الماضي كان النموذج قد سيطر إلى حد إثارة السخرية منه والنكوص عليه. فظهرت قصص كثيرة للغاية عن مكتئبي الضواحي، وقصص كثيرة جدا عن البيض الموسرين، فيها الكثير للغاية من الوصف، ولا يكاد يحدث فيها أي شيء. والكثير للغاية من النثر الجميل المكتوب لأجل النثر الجميل، والقليل للغاية من الانفتاح على الطاقات الأميل إلى الخشونة. وماذا عن تلك النهايات؟ ظل ذلك الأسلوب يتكرر ويتكرر إلى أن تدنّى حتى صارت عرفا باليا. وبعد أن تقاعد شاون، وأصبح باب القصة في المجلة مفتوحا للجميع، ومن ثم أكثر تعددية، بدأت القصة النيويوركرية أشبه بقالب رفيع متقاعد، وذكرى لعهد بائد كان لدى مشتركي المجلة  فيه الوقت والصبر على قراءة قصص سينمائية طويلة وبطيئة ولا يحدث فيها شيء يذكر.
جون تشيفر
من الدال إذن أن نقرأ قصة "الزوج الريفي" لجون تشيفر المنشورة في المجلة سنة 1954. فنحن مدينون لتشيفر، أكثر مما نحن مدينون إلى "الرجل ذي السترة القطنية الرمادية [لصالسون ويلسن  The Man in the Gray Flannel Suit" بصور الخمسينيات المنتمية إلى الثقافة الرسمية: الآباء العاملون في منهاتن، قطارات الذاهبين إلى العمل، ورق الشحر في الخريف على مروج الضواحي، الأمهات الشابات المشغولات، الحرب الملقاة عمدا إلى النسيان، جلسات الشراب. لقد كان تشيفر ـ بالتوازي مع جون أبدايك وآن بيتي ـ هو كاتب "القصة النيويوركرية" المثالي.
تجري أحداث "الزوج الريفي" في ضاحية هادسن لاين الغنية، وتتناول زيجة مضطربة لأسباب غامضة، وفيها كثير من فقرات الوصف الدقيق، ولها نهايتها المفاجئة. فحتى لو لم تكن قرأتها من قبل سيبدو لك عند قراءتها أن هذه ليست القراءة الأولى. ولكنك لم تقرأها، لأن تشيفر كان كاتبا حقيقيا، كاتبا تشرَّب  اللعبة. فحتى وهو يطبِّق وصفة القصة النيويوركرية في عام 1954، كان يخرج على حدود النمط، مستغلا هذه الحدود بتركه شخصيته تخرج عنها، فيبرر بذلك ضمنيا الوصفة نفسها.
الشخصية الرئيسية في القصة هي شخصية فرانسيس ويد، الذي يذكّرنا ظاهريا بـ وولتي ميتير في قصة جيمس ثيربر المنشورة في المجلة قبل عقد كامل: الرجل المنتمي إلى الطبقة الوسطى، المدجن في بيته، الحالم بالمغامرة. لكن قصة ثيربر، وإن تكن مكتوبة بطريقة فاتنة ودافئة ومتعاطفة، لا تعدو نسخة نثرية طويلة للغاية من رسم كاريكاتيري ظهر في نيويوركر في الثلاثينيات، فالطرافة رقيقة ومعتمدة على إرث الافتراضات الثقافية المعتاد. وكانت تلك الجرعة من الطرافة لا تزال شائعة في كاريكاتير سنة 19ا لذي نشر بجانب "الزوج الريفي" ـ وفي إحدى تلك الرسمات تتسبب زوجة في انبعاج سيارة زوجها ـ ولكن كاتب القصة تشيفر كان يسجل مستوى مختلفا تماما من تعاسة الضواحي. ففي حين كان وولتر ميتي ينتظر زوجته في مسكنة وهو يتخيل البطولات، فإن فرانسيس ويد ينجو من هبوط اضطراري ويتأمل في الاغتصاب. إن ما يمكن أسفل قشرة حياته غير المشبعة كأب زوج ليس فنتازيا. إنما هي فوضى حقيقية، ويبدو أن خالق ويد يعرفها معرفة حميمية. وصف تشيفر الحذر التهكمي لجيران ويد والحياة الأسرية يبدو أقرب إلى أناشيد العذاب. أكثر شخصيات القصة جاذبية كلب أحد الجيرن، يدعى جوبتير، لا يعترف بحدود، ويترك الدمار دائما من ورائه. تذكرنا قصة "الزوج الريفي" بالسبب الذي أصبحت به  "القصة النيويوركرية" مسيطرة إلى هذا الحد. ففي بلد يقوم من حرب ليدخل في حروب أخرى، ويعيش في ظل تهديد نووي، في انتظار دائم لاضطرابات اجتماعية واسعة النطاق، ما من صرخة يمكن أن تفي ورطة الطبقة الوسطى الأمريكية حقها.
جون أبدايك
في الوقت الذي كان تشيفر وأبدايك يصنعان فيه نموذج القصة النيويوركرية الأساسي الجديد، كانت تزدهر تنويعات إقليمية أخرى. فلدينا في هذا الكتاب قصة "لا مكان لك يا حبيبي" لـ إيدورا ويلتي والتي تتألف بالكامل من وصف لا تعرف حتى شخصيتا القصة (ولا أسماء لكليهما) ما الذي تفعلنه بداخله. "في جنوب نيو أورليانز، كان هناك فيض غزير من الحشرات على كلا جانبي الطريق السريع الخرساني، لكنها لم تكن منضمة في أسراب، بل هي كالفرق الموسيقية المنفصلة تعزف جميعا في وقت واحد". مسافة بعيدة إذن عن أرض تشيفر، ولكني مستوى الكتابة نفسه ليس كذلك. كان ويلتي هو الصوت القصصي الأثير لدى ذي نيويوركر من الجنوب، ميفيس جالانت ذات العيون الملونة والمقيمة في باريس، هارولد برودكي هو المصدر الفريد للمعلومات من جبهتي سان لويس وقمة جبل النرجسية. ويظهر فلاديمير نابوكوف ظهورا كريما، بالفصل الافتتاحي الرائع من روايته بينين تأكيدا لوضعيته كأستاذ عظيم للبراعة اللغوية وذكريات الطفولة. نادين جورديمر هنا أيضا، تكتب عن الظلم في جنوب أفريقيا عبر مفارقة تبلغ قسوته حدَّ الإيذاء.
وأخيرا، وفي نهاية العقد، يهب فيليب روث على المجلة  بقصته المبكرة "المدافع عن العقيدة". مفككة الكتابة، مفتقرة إلى الوصف الحي، خطية الحبكة، غير غامضة النهاية. "المدافع عن العقيدة" هي أقل القصص نيويوركرية في هذا الكتاب. هي قصة تتعجل الوصول إلى مكان ما، لأن كاتبها نفسه كان في عجلة من أمره. كان فيليب روث قد اكتشف مخزنا هائلا لم يمسسه أحد من الوقود القصصي، وكان قد عثر في نفسه على القدرة على تحرِّي الصدق فيما يخص التجربة اليهودية الأمريكية، وكراهية الذات، والولاءات القبلية فتوالت قصصه كما لو كانت تنبعث من داخل نافورة صاروخية. وحتى في الفترة التي كان يكتب فيها لنيويوركر، كان منحناه يمضي به بعيدا عنها إلى فضاءات الرواية الأكثر اتساعا. كانت قصة "المدافع عن العقيدة" انفجارة استثنائية لا تضيء وحسب الاتجاه الذي سوف يتخذه القص الأمريكي في الستينيات بل وتضيء ضمنيا أمزجة كتابة الخمسينيات الكثيرة كما عند ميلر وكيرواك وفلانري أوكونور والتي لم تكن ممثلة في المجلة. هي بيان بحيوية القص في الخمسينيات الذي يمكن أن نغفل عن الكثير منه ويبقى لدينا مع ذلك ما هو ساطع البريق.


* مقدمة كتاب حديث الصدور بعنوان "الخمسينيات: قصص عقد من الزمن" وهو أنطولوجيا من القصص والقصائد المنشورة في مجلة ذي نيويوركر، صدرت المجموعة حديثا ونشرت المقدمة في المجلة. نشرت ترجمتنا اليوم في ملحق شرفات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق