الخميس، 26 يونيو 2014

أسئلة غبية

أسئلة غبية

تيم باركس


 
لماذا يطرح الناس أسئلة غبية؟

في مهرجان أدبي وجدت من يعرِّفني بالكاتب الفرنسي "فريدريك فيرجر"، ولم يكن اسمه مألوفا لي وهو ما أرجَعه إلى أنه لم ينشر غير رواية واحدة، لكنها وصلت إلى قائمة جائزة جونكور القصيرة في ذلك العام. ولما كان واضحا أنه في منتصف الخمسينيات من العمر، فقد اندهشت وسألته كيف بدأ تلك البداية المتأخرة. أوضح أنه سبق أن جرَّب كتابة الروايات في مطلع العشرينيات، لكنها لم تلق قبولا لدى الناشرين، فقضى الجزء الأكبر من حياته في تدريس الأدب إلى أن قرر المحاولة من جديد، وهذه المرة صادفه النجاح. كانت قصة غير عادية. سألته كيف تمضي ندواته في المهرجان فقال بخير، لولا أن الجمهور في نهاياتها يطرح أسئلة غبية.

"مثل؟"

"مثل سبب كتابتي رواية واحدة فقط برغم أنني في الرابعة والخمسين".

يشكو أغلب الكتّاب ممن يحضرون ندواتهم. أو بالأحرى من الأسئلة التي يطرحونها. ولا شك أننا نحتاج إلى الجمهور لنشعر بأهميتنا، ولنجد أسبابا لطرح كتبنا. وحينما نجد المقاعد ممتلئة نقول إن الجمهور جيد، ونشعر بالحماس، لا سيما إذا هم أبدوا علامات اهتمام ونحن نقرأ. وبخاصة إن هم ضحكوا في المواضع التي ينبغي أن يضحكوا فيها. "ثم يأتي أوان الأسئلة فإذا هم لا يسألون إلا عن حياتك الشخصية" بحسب شكوى "كارولين لامارش". تجلس لامارش بجواري في فعالية لتوقيع الكتب. والفرنسيون يتبعون سياسة معطلة للإنتاج تقوم على إجلاس الكتّاب ساعات وسط أرفف الكتب في مخيمات خانقة تحسبا لاحتمال أن يريد شخص شراء كتاب والحصول على توقيع مؤلفه. وهكذا نبدو في معارضهم أشبه بقرويين ذهبوا ببقولهم إلى السوق، الأمر الذي يجهز على أساطير كاريزما الكتَّاب ومواهبهم الغامضة، وهي الأساطير ذات النفع التجاري الأكيد. ومع ذلك، يوفر لي هذا الظرف وقتا لفحص أغلفة روايات لامارش. يبدو من شكلها أنها تدور حول الحب والجنس والعنف. وتبدو هي سيدة مثيرة للاهتمام، فأود لو أطرح عليها أسئلة عن حياتها الشخصية، لكنني أخشى أن أبدو غبيا.

في سيارة متجهة إلى المطار أجلس وحيدا في المقعد الخلفي، بينما اثنان أمامي، أحدهما من منظمي المهرجان والآخر كاتب، وهما يدردشان بالفرنسية. أنظر إلى صورة الكاتب في كتيب المهرجان وأجد أن اسمه هو لوي فيليب دالمبير، وأنه  من بورتو برينس. ثم أجد أن روايته " Ballade d’un amour inachevé " [موال الحب الناقص] "تتناول زلزالي أكيلا وهاييتي اللذين وجد الكاتب نفسه في غمارهما". تقع أكيلا في منطقة أبروزو بإيطاليا، وهذه منطقتي، فأطرح بالإيطالية سؤالا ويتبين أن دالمبير يتكلم الإيطالية بطلاقة، وزوجته من أكيلا، وزوجتي بيسكارا القريبة للغاية.  يثير اهتمامي بكلامه عن وجوده في المدينة في الأيام التالية للزلزال، ومسألة الكتابة عن التجربة أم الامتناع عن ذلك، وهل يكتبها سيرة أم رواية. وما حدث أنه في ثنايا تفكيره في ذلك سافر إلى هاييتي فوقع أثناء زيارته لها زلزال ثان. سألته كيف كانت ندوته فقال "جيدة، لولا الأسئلة الغبية بعدها".

يكفي. آن الأوان أن نتساءل عما لو كان أولئك الذين يأتون للاستماع إلينا ونحن نتكلم عن كتبنا يطرحون بالفعل أسئلة غبية، أو أسئلة غير التي ينبغي طرحها. ولماذا يصمم الكتاب كل هذا التصميم على قصر كلامهم وتركيزه في حدود رواياتهم، وكأنما ثمة قطيعة لا استمرار بين الكتابة والحياة؟

من بين المشكلات أنه من الصعب أن يقول أحد كلاما مفيدا وممتعا عن الكتب في أمثال هذه الظروف. فالكاتب يصل إلى خيمة فيها أكثر من مائة مقعد، نصفها ممتلئ. ويكون ثمة مقدمٌ للندوة ربما قرأ الكتاب أو لم يقرأه، فيعرض نسخة محفوظة من حياتك محورها الرئيسي هو السن والببلوجرافيا والجوائز. وتعرض روايتك عرضا عاما: بعض عناصر الحبكة، وإشارة إلى الثيمة أو الرسالة. وبينما تستمع إليه تستولي عليك هذه الفجوة الهائلة بين الكثافة والتعقيد، بين السِّفْر الذي سطَّرته بيمينك، وهذا الاختزال العنيف.

في الوقت نفسه، تكون وسط الجمهور مجموعة صغيرة قرأت الكتاب، فأي شيء يقال لهم هو بالقطع أقل مما يعرفونه أصلا. وهناك مجموعة أخرى لم تقرأ لك حرفا فهي بالقطع ليست أدرى بك من المجموعة السابقة. وهناك من قرأوا كتبا أخرى لك لكنهم لم يقرؤوا هذا الكتاب فهم يجاهدون للتوفيق بين ما يسمعون وبين ما يعرفون من قبل، وهو ما يكون شديد السهولة، لو أنك تكتب روايات شديدة التماثل، ولكنه يقارب المحال لو أنك تكتب روايات شديدة الاختلاف في ما بينها. وفي حالتي، فإن روايتي الحالية تتناول عزلة للتأمل، لكنهم ربما قد قرأوا الرواية التي تتناول زوارق الألب، أو الرحلة الرامية إلى تقديم التماس للبرلمان الأوربي.

النهج الوحيد المنطقي هو قراءة جزء صغير من الرواية نفسها. وصوت الكاتب، ووضعيته، وأسلوبه، ولغته الجسدية، وهو يقرأ الفقرات الافتتاحية من قصة، وبرودته أو دفؤه، وحياؤه أو سخريته، وجهامته أو طرافته، كل ذلك يحدث انطباعا قويا. ولكن مهرجانات كثيرة في أوربا لا تشجع للأسف على القراءة، خشية أن تطيل وتسهب إلى الأبد فتضجرهم إلى حد البكاء. وفي أفضل الحالات قد يقرأ الشخص الذي يقوم بتقديمك فقرة أو اثنتين. وبينما يفعل ذلك تكون أنت جالسا، حائرا، لا تعرف لماذا اختار هذه الفقرة بالذات من بين جميع الفقرات، مذهولا من خطئه الفادح في التقاط نبرة الكتاب. إنه لم ينصت بالمرة إلى الكتاب. وانطلاقا من قناعة بأنك سوف تلقى سوء التقدير وسوء الفهم، تشرع في "شرح" مسهب مطول لكتابك، فكرته المبدئية، الأمثلة التي ألهمتك إياه، النسيج المعين الذي كنت تنشده، ولكنك وأنت تفعل هذا كله، تكون واعيا أنه كله غير صحيح. فالمسألة برمتها كانت شديدة المراوغة والتعقيد. وينصت الجمهور بأوجه جامدة، لا تدري من ضجر أم من تعاطف. وأخيرا يقول مقدم الندوة إن الوقت حان لطرح الأسئلة. وترتفع يد، وتسأل امرأة متقدمة في العمر: هل سبق لك شخصيا أن ذهبت إلى معتزل بوذي؟ ولو كان هذا حدث، فهل توصينا بهذا؟"

فهل هذا سؤال غبي؟ أم لا؟

أغلب من يحضرون هذه الندوات قراء مدربون. ومن المؤكد أنهم سبق أن حضروا ندوات. فهم ليسوا بلهاء. ولا بد أنهم فهموا منذ وقت بعيد أنه لا يكاد يوجد شيء مهم يمكن قوله عن كتاب في فعالية من هذا النوع. ويعرفون أن الرواية بالغة الاتساع والتعقيد، وأن تشابك العقول الذي يحدث إذ يلتقي الروائي والقارئ على الصفحة هو أمر شديد الحميمية والمراوغة فلا يمكن تناوله في أربعين دقيقة علنية فيها أجهزة صوت بائسة وفيها دخول وخروج كل لحظة.

فما الذي جاء بهم؟ استمتاعهم بالكتاب، إقبالهم على القراءة، فضول تركته فيهم تجربة قراءته، مثلا. يريدون أن يفهموا لماذا تترك فيهم الكتب هذا الأثر العميق. ربما يشعرون بوجود فائض من المعنى، يتجاوز متع الرواية الواضحة فهم يريدون أن يضعوا أيديهم عليه. شيء ما خطر لهم ولا يمكن الإمساك به وإيعازه إلى شيء مما في الصفحات. باختصار، هناك لغز يريدون أن يفهموه، وهذا اللغز هو أنت. أو هم يفهمون أنه أنت. يشعرون أنهم إن عرفوا المزيد عنك، وعن الكتَّاب بعامة، فقد يريح هذا عقولهم، ويقصر مهمتها على تجربة القراءة. ربما.

وأنت، من جانبك، تعلم علم اليقين أنه ما من انقطاع بين هذا الكتاب وبين حياتك. ستتكلم عن الكتاب كما لو كنت مسيطرا على إبداعه، ولعلك كذلك بدرجة ما، ولكن من وراء ذلك ومن قبله منطقة خلفية من التجارب والأحداث لم تكن لك سيطرة عليها. فما كان لك أن تكتب هذا الكتاب بالذات لأنك أمهر أو أوسع خيالا ممن عداك، بل لأنك أنت. ولقد قيل الكثير في طبيعة الخيال غير المحدودة ولكن الحقيقة البسيطة هي أنه لا يمكن لمن ليس [الروائي الأمريكي دون] ديليلو أن يتخيل ما يتخيله ديليلو، وديليلو لا يمكن أن يتخيل ما يتخيله [الروائي الأمريكي فيليب] روث، ولعله لا يريد. فالحدُّ إذن لهذا الخيال اللامحدود هو أنت. هذا الكتاب كتابك. وممن كان له أن يأتي إلا منك؟

"هل تعتقد أن انتقالك إلى إيطاليا غيّر من طريقة تفكيرك؟"

"هل من المفيد لك ككاتب أنك مترجم أيضا؟"

"هل تقرأ زوجتك كتبك، ولو صح هذا، فكيف تراها؟"

ليس بين هذه الأسئلة ما هو موجَّه مباشرة إلى الرواية التي تتكلم عنها. لكن على المرء أن يسلِّم أنه لو كان يعرف الإجابات، لأمكن أن يتعلم منها شيئا. إنما يصوب الجمهور أسهما في الظلام، يتلمَّس علاقة بين الشخص الجالس على المنصة والجو المعين في الروايات. جو مزعج. جو مشجع. أم هو مزعج مشجع، وطريف أم كئيب عمدا؟ ولماذا؟ من أنت، حتى تقدم ما تقدمه؟ هذا ما يجول في أذهانهم. ولعل المفارقة هي أن هذا الغامض عليهم غامض عليك أنت أيضا. لكنك ربما في محاولتك لإجابة أسئلتهم، وفشلك في هذا لا محالة، تحكي لهم من حيرتك وإحباطك، أو من سخريتك وسحرك، أكثر ربما مما بسطته في كتابك.

 

نشرت أصلا في  مدونة نيويورك رفيو أوف بوكس ونشرت الترجمة في مجلة الدوحة عدد يونيو 2014

 

·       تيم باركس (1954 ـ ) روائي بريطاني، يقيم في إيطاليا، وهو من الكتاب الثابتين في "نيويورك رفيو أوف بوكس".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق