الثلاثاء، 3 ديسمبر 2013

إيتالو كالفينو ... علينا أن نحرق هذه الرسائل

علينا أن نحرق هذه الرسائل



قدمت جريدة ذي نيويوركر في الفترة من 13 إلى 17 مايو  2013 سلسلة مقتطفات من كتاب "رسائل إيتالو كالفينو 1914 ـ 1985" الذي ترجمه إلى الإنجليزية "مارتن ماكلالين". فيما يلي مقدمة كتبها للمجلة ناقدها "مايكل وود" ثم رسائل من كالفينو إلى صديقه "يوجينيو سكالفاري" وقد كتبت هذه الرسائل حينما كان كالفينو شابا في الجامعة وفي الجيش. كان سكالفاري أقرب أصدقائه إليه في الدراسة، وهو الذي أصبح فيما بعد محررا لمجلة "لسبريسو" ومؤسسا لجريدة لا ريبوبليكا اليومية.
***
كان إيتالو كالفينو يتحرى التكتم فيما يتعلق بحياته وحيوات الآخرين، ولا يثق كثيرا في نفع السير الذاتية. كان يفهم أن العالم الذي نعيش فيه مؤلف ـ في أغلبه ـ من علامات، وأن العلامات قد تكون أفصح من المعلومات. هل ولد في سان ريمو  في ليجويرا؟ لا، بل ولد في سنتياجو دي لاس فيجاس في كوبا، ولكن بما أن "الميلاد في مكان غرائبي ليس دالا في ذاته على أي شيء" فقد سمح لعبارة "ولد في سان ريمو" بالظهور مرارا وتكرارا في التعريف به. كانت تلك الكذبة ـ خلافا للحقيقة ـ تقول شيئا عنه ككاتب، وعن "عالمه الإبداعي" (في رسالة بتاريخ 21 نوفمبر 1967)، و"عن البيئة والأفق اللذين ... شكّلا حياته" (5 ابريل 1967).
معنى هذا أن خير السير الذاتية قد تعد خيالا، وكان كالفينو يميل إلى اعتبار مجمل أعمال الكاتب سيرته الذاتية التي قد يحتاج إليها أي شخص. وهو في رسائله لا يكف عن الرجوع مرارا وتكرارا إلى ضرورة الانتباه إلى النص الأدبي الفعلي لا إلى المؤلف المتخيَّل.
ولكن في حالة كهذه، ما الذي نفعله برسائل كاتب كهذا، وما الذي نفعله بقراءتنا لها؟ نحن من ناحية، فيما أخشى، نتجاهل تحذيره وتفريقاته الواضحة، ونتلصص على خصوصيته. فهذه الرسائل لم تكتب لنقرأها نحن. نحن نرى "ذلك الرجل الشاب"، بحسب ما يصف كالفينو نفسه في سابق أيامه (26 مايو 1977) بكل افتتانه الأدبي الجامح، ونرى دراساته الفاترة في الزراعة، ومخاوفه من الخدمة العسكرية، ثم رحيله بعد ذلك للانضمام إلى الثوار. نراه وهو يرجع من الحرب شيوعيا سافرا ولكنه لا يزال أسلوبيا بارعا متنوعا. تعرض الرسائل للقاءاته مع الكاتبين "إليو فيتوريني" و"سيزر بافيس" اللذين كانا يعنيان له الكثير للغاية، ونتعرف على كثير من الأفكار التي كان يتبادلها مع أصدقاء ونقاد. يسافر إلى روسيا وأمريكا، ويدوّن تفاصيل انطباعاته، يستقيل من الحزب الشيوعي، يواصل العمل في دار نشر أيناودي بتورين. يتزوج الأرجنتينية "إيثر سنجر" وينجبان بنتا هي جيوفانا التي تظهر في رسائله سعيدة متيقظة ومقاومة للتعليم بصورة مثيرة للإعجاب ("إنها تتكلم ثلاث لغات ... ولكنها لا ترغب أن تتعلم القراءة والكتابة" (الأول من مارس 1972). ينتقل كالفينو إلى باريس، ثم روما، المدينة التي أقسم "ذلك الرجل الشاب" يوما ألا يطأها بقدمه. ثمة رسائل رقيقة إلى باحثين وطلبة، ومراسلات إشكالية مع أشخاص من قبيل "بيير باولو بازوليني" و"كلاوديو ماجريس". "يكتشف" كالفينو الكاتب الصقلي "ليوناردو سياسيا" ويعرب بوضوح عن إعجابه بـ "كارلو إمليو جادّا"، ويفكر في فيلم مع ميكلانجلو أنطونيوني، ويتعاون مع بيريو في أوبرا.
وثمة لحظات دراماتيكية، برغم عرضها الهادئ.  فهو يؤرخ رسالة إلى صاحبه "يوجينيو سكالفاري" بـ "أولى ليالي الحظر الذي فرضه الألمان" (12-13 سبتمبر 1943)، ويبعث رسالة إلى أبويه من أحد مخابئ الثوار، وفي رسالة أخرى يشير إلى اعتقال أبويه "رهينتين" ثم إطلاق سراحهما ("أوشك أبي أن يُضرب بالنار أمام عيني أمي") (6 يوليو 1945). كالفينو غارق طول الوقت في السياسة الإيطالية. لدينا رسالة استقالته من الحزب الشيوعي الإيطالي (الأول من أغسطس 1957). ويكون شاهدا على أحداث مايو 1968 في باريس. يفكر في السجون البرازيلية، والشعراء الفلسطينيين، وحرب فييتنام. وفي كوبا يلتقي بـ تشي جيفارا.
ومرة تلو مرة نرى كالفينو القارئ الشره: في شبابه يلاحق إبسن وريلكه والأدب الغربي كله فيما يبدو، موليا اهتماما خاصا للكتاب الإيطاليين المعاصرين من شتى الأشربة، وناقدا غزير الكتابة يقرأ الكتب "ليكتب عنها على الفور" حسب ما يقول (16 يناير 1950)، ورجلا قضى الشطر الأكبر من سني نضجه يعمل محررا في دار نشر. لقد صدرت مجموعة من رسائلة حاملة عنوانا بالإيطالية هو I libri degli altri  أي "كتب الآخرين" وهي عبارة مستلة من ملاحظة عابرة ورقيقة لكالفينو "لقد قضيت من الوقت مع كتب الآخرين أكثر مما قضيت مع كتبي". وأضاف "لست نادما على هذا". وربما لا يكون من قبيل الصدفة أن يتوقف ذلك القارئ الشره في بعض الأحيان عن الكتابة، ويتساءل عما لو كان انتهى ككاتب، وعما إذا كان التوقف الراهن سوف يدوم. وتؤكد أعماله الأخيرة، المكتوبة بما هي عليه من براعة، على انتباهه المتزايد والمتعاظم إلى ما لا يمكن قوله.
لا يستولي الكاتب المبدع على المراسلات حسب ما يمكن أن نتوقع. فثمة استثناءات مثيرة للاهتمام، ولكن بصورة إجمالية لا يمكن اعتبار الرسالة تمرينا على الكتابة القصصية أو المقالية. وأخيرا، ونظرا لأنه لا يفكر فينا، فهو لا يضع نصب عينيه الأحيال التالية، مثلما فعل أندريه جيد والكثير للغاية من كتّاب الرسائل المحدثين. فهو يعيش الحاضر غير منشغل بإقامة المستقبل.
هذه الجوانب قد تشكل من ثم مفاجأة للقارئ الذي يأتي إليها من القصص والروايات فيفتقد فيها للوهلة الأولى البراعة والتعقيد واللعب. ولكني لا أقول إن قراءة هذه الرسائل عمل يخلو من الطرافة (ففيها الكثير للغاية من اللحظات المرحة الساخرة) أو أن في كالفينو هنا جلالا ورزانة، ولا أنا أقول إن الرسائل جادة ـ خلافا للأعمال القصصية. ولكن إحساس التواصل المباشر، من رجل شديد الواضح حيال حزمة من الأمور، ما تعقد منها أو بسط، مختلف تمام الاختلاف عن التوتر الفني في أعمال كالفينو القصصية بل وفي كثير من مقالاته. في فنه، كانت الطرافة والسخرية سبيلين لتأمل مصاعب العالم، جنبا إلى جنب مع الاعتماد على السلامة العقلية وعلى الأدوات المنطقية في عالم الجنون. في إحدى الرسائل يقول كالفينو "إنني أؤيد المحاكاة البهلوانية للواقع المعاصر" (18 يناير 1957). والبهلوانات في الغالب تعساء، شديدو التعقل، لكن علاقتهم بالواقع غير مباشرة أو مستقيمة. ولتمثل كتابة كالفينو جزءا من مشروع أدبي عظيم قائم على الإلماح والإشارة، ورسم الأشكال والصور العصية على النسيان، لا على إعطاء معلومات وتقديم شروحات وتفسيرات. وكالفينو في رسائله ينبئ أكثر مما يبين ما يعنيه، بنجاح عظيم، ومؤثر في أغلب الأحيان.
مايكل وود
***

إلى يوجينيو سكالفاري
تورين في 10-11 مايو 1942
ردا على الرسالة، والقصيدة المرفقة بالرسالة
وعلى البطاقة البريدية التي أعقبت الرسالة والقصيدة

صديقي
ها نحن نعد الأيام التي تفصلنا عن الرجوع إلى الوطن. اللعنة على هؤلاء الأساتذة الذين لا يسمحون لك بالذهاب حتى تنتهي الأيام الأخيرة، كل تلك المعامل المستمرة طوال شهر مايو، كل هذا العمل العسكري. امتحاناتك أنت تبدأ في الخامس عشر؟ امتحاناتنا نحن ربما قبل ذلك بكثير، لكنها تستمر حتى نهاية يونيو. لعابي يسيل يا أخي لمجرد التفكير في كل تلك الحوارات المتخمة بالعصارة التي ستجري بيننا عندما نلتقي من جديد.
[...] قرأت قصيدتك. أنا الآخر، لو تتذكر، كتبت قصيدة هرمسية في شبابي الأول. أعرف ذلك الشبع الهائل الذي يحققه المرء بكتابة قصيدة هرمسية. لكن مشاركة القارئ هذا الحماس أمر آخر. ذاتية جدا الهرمسية هذه، فاهم؟ وأنا أرى الفن تواصلا. يفتح الشاعر نفسه، يحاول أن يدوِّن ما رأى وأحس، ثم يدفع بذلك إلى الآخرين بحيث يفهمونه. ولكنني لا أستطيع أن أفهم هذه الأشياء: هذه الأحاديث عن الأنا واللاأنا والتي أتركها لك. نعم، أفهم أن هناك صراعا للتعبير عما لا يمكن التعبير عنه، هذا نمطي في الفن الحديث، وهذه كلها أشياء لطيفة، لكنني ...
نرجع إلى قصيدتك، هناك الكثير من الأشياء الجيدة، ولنكن واضحين إزاء هذا، بل إنها قد تكون رائعة في نوعها، أنا في نهاية المطاف لست خبيرا. الجهود التي يبذلها القارئ الدءوب لقراءة شعرك ومحاولة إعادة بناء الحالة الذهنية التي أثمرته هي جهود تلقى جزاءها ممثلا في عدد من الأحسايس الواضحة المتوهجة، وبعض الصور البارعة. فضلا عن أن الفكرة جيدة وجليلة بالمقارنة مع كثير من العبث الأونجاريتي والمونتالي والمتشبه بالحداثي. حسن، إنني أدرك أنني أكيل لك أطنانا من المجاملات بعدما بدأت بقولي لك إنك كتبت الكثير من اللغو.
أتعرف فيم أفكر؟ أننا ونحن في مراحيض المدرسة كنا نقول "أنا أرى السبت أحمر، والثلاثاء أخضر، والخميس كيف تراه؟" كنا عن غير قصد نضع أسس الفن الحديث. فماذا يكون الفن الحديث إذا لم يكن السعي إلى اقتناص الغامض، المعنوي، المستعصي على التعبير، من الأحاسيس؟ ماذا يكون الفن الحديث، أضيف، إلا ركام الهراء الأجلّ وسط كل ما ظهر على كوكب الأرض؟
أنا رجل منظم، مثل الخطوط الواضحة، أنا برجوازي عتيق الطراز. قصصي ملأى بالمعلومات، لها بداية ونهاية. وهي لهذا السبب لن تصادف أي نجاح لدى النقاد، ولن تحتل مكانا في الأدب المعاصر. أكتب الشعر حينما تكون لدي فكرة أحتاج فعلا إلى إطلاقها، أكتب لأتيح منفذا لمشاعري، وأكتب بالقافية لأنني أحبها طم طاطا طم طم طاطا طم، لأنني بلا أذن، ولأن الشعر بلا قافية أو تفعيلة يبدو أشبه بالحساء بلا ملح. وأكتب (واسخروا مني أيها الجبناء! اجعلوا مني مسخرة أمام الناس) أكتب ... سونيتات ... وكتابة السونيتات مملة، عليك أن تجد قوافي، وعليك أن تكتب تفعيلات ومقاطع فلا تمر وهلة إلا وقد نال منك الضجر ومن ثم ترى درجي يفيض بقصائد قصيرة ناقصة. سأرسل لك واحدة مكتملة. قاضيك
بايييي
***
إلى يوجينيو سكالفاري ـ روما
فلورنسا في7/3/43

رفيقي
مع انتهاء امتحان فبراير، أعيش أياما خالية من المتعة تقريبا، وموحشة، ولكنها محتشدة ومفيدة. أقضي جزءا كبيرا من وقت الفراغ المتبقي لي بعد ما يستولي عليه الثنائي الكريه schola atque militia  [المدرسة والخدمة العسكرية] في زيارة فلورنسا كأي سائح مخلص، حاملا في يدي دليل النادي السياحي. ما يتبقى لي من وقت أقسمه بين القراءة والمعارض والمحاضرات. أمس كان صاحبنا جاكوبي يلقي محاضرة عن ضرورة التراجيديا، ولكنني بسبب الواجبات العسكرية لم أستطع أن أذهب فأستمع إليه، وأسفت لذلك يا أخي، لأنني كنت أود لو أتكلم معه. المسألة أن المسرح الوطني لم يرسل إلى المسارح التجريبية إلا عنوان مسرحيتي، إضافة إلى الاسم والعنوان. ولذلك لم أقم بترتيب أي شيء بنفسي، وسأبقى لوقت طويل في انتظار أن يطلبوا السيناريو. وعليه، ولو أننا نحينا جانبا حقيقة أنني لا أرغب أن تكون لي أية علاقة بعد بـ "كومديا الشعب" ـ عليّ أن أبقي في ذهني أنه بفرض أنني طوال هذا العام ـ لسبب أو لآخر ـ لم أتمكن من كتابة أي شيء لطيف، فإن شعاع النور الضئيل الذي بات يضيء اسمي سوف يتبدد ويتعين عليّ أن أبدأ مرة أخرى من الصفر. فلو أن لديك نسخة من المسرحية وسنحت لك فرصة أن تتكلم مع هؤلاء الناس فاطلب منهم أن يلقوا نظرة عليها، وتكون أسديت لي معروفا. ولو الأمر مزعج (وأدرك أنه بالنسبة لي أنا أمر مزعج، فما بالك به حين تفعله لشخص آخر)، فليس عليك إلا أن تقول لي ذلك وسأرسل المسرحية بنفسي إلى فاسيلي (فقط أرسل لي عنوانه). العرض الذي قدمته بخصوص مجلة N. O.  مليء بالمداهنة، لكن نظرا للطبيعة المالية لهذه المداهنة، أعتقد أنني سوف أرفض عرضهم: ثم إنني لا أزال أجهل بكثير من أن أكتب مقالات. أما عن نتاجي من القصص القصيرة، فإن الصيف الشهير ذا الإنتاج الفائق تلته أزمة إنتاجية استمرت سنين.
بدأت العمل على مسرحية جديدة: فليبو والكون Filippo and the Universe. ولكنني أشك أن تكتمل.
جميع الأفكار التي تدور في رأسي في الوقت الراهن تتعرض لظاهرة غريبة: ففيما أعمل عليها محاولا باستمرار أن أصل بها إلى الكمال من وجهة النظر الفلسفية، تبقى في حالتها الأولية، لصيقة بلا أمل بجانبها الدراماتيكي والفني. والفكر في إبداعي له اليد العليا على الخيال.
وأمر آخر: توقف عن القول بهذه النبرة المستهينة بأن المقالات الاقتصادية لا تثير اهتمامي. فأنا أدرس، وأنا مهتم بهذه الأشياء أيضا. فلو أنك تريد الاحتفاظ بمقالاتك لنفسك فأمسكها عليك، (إذ أنني أتصور في ضوء تزايد غزارة إنتاجك أنك تنفق ثروة في نسخ هذه المقالات وعلى طوابع البريد).
[...] تسري شائعات بأنه سوف يتم استدعاء فصل 24 بطلبته في ابريل. إلى اللقاء. بالنسبة لي الصورة سوداء: من المؤكد أنني سوف أرسب في امتحان الترقي إلى رتبة الرقيب، نظرا لأنني سأكون عائدا من التدريب العسكري ومن ثم لن أكون جاهزا. سأبقى عريفا طول حياتي، التي أحسبها سوف تكون قصيرة، بحسب ما إذا كانوا يعتزمون أن يرموني إلى الجبهة حالا. في ظل وجود هذه النوعية من المستقبل أمام ناظري، فإن رؤيتي للوضع كله لا يمكن أن تكون موضوعية ولك أن تتصور في أي اتجاه تولي مطامحي.
[...] قرأت "مسرحيات البحر" و"الإمبراطور جونز" لـ أونيل (في طبعة شبه نادرة أصدرها فراسينيلي في تورين). تمكنت أخيرا من "خرق" أنوية مسرح أونيل واكتشاف الآلية التي تحدد مسارات جميع مسرحياته التي تبدو ظاهريا شديدة التفاوت: إنه التناقض بين التحكم الذاتي والغريزة، بين إيمرسن وفرويد، بين الطهرانية وقوى الحياة، كل هذا بجانب رؤية للعالم شديدة المأساوية والتشاؤم هي التي تنقذها من الاتهام بالرومانتيكية الذي قد يتعرض له موقف من هذا النوع. الآن أجده يسيرا بالنسبة لي وأستطيع أن أضعه بجوار إبسن وبيرانديلو كواحد من عظماء كتاب المسرح. (تخيل فقط أنني تمكنت من تذوق "حِداد يصير إلكترا") [...]
إيتالو
***
إلى يوجينيو سكالفاري ـ روما
سان ريمو 19 مارس 1943
الآن لا أريد أن تبدأ في إثارة غضبي، أسألك وإجازات عيد الفصح سوف تكون فيما بين 20 ابريل و10 مايو: لماذا ترغب في المجيء إلى سان ريمو في أول ابريل؟ أنا لا أزال في فلورنسا ولمدة شهر، من 20 مارس إلى 20 ابريل. وبعدها في سان ريمو بصفة مستمرة حتى الامتحانات. يبدو لي أنه إذا لم تكن لديك ارتباطات، فبوسعك أن تختار لوجودك في سان ريمو وقتا يتزامن ولو في بضعة أيام مع وجودي هناك. ومع ذلك، في داهية. أنت لست الوسيم الذي أشتاق شوقا إلى لقياه. وقبل أن أنسى: هذا هو عنواني c/o De Ponti, II Via de’ Cerchi ـ وكف عن أن تكتب لي "سأرسل لك كذا، وأرسل لك كيت" ثم لا ترسل أي شيء.
أبعث لك، في المقابل، نماذج من تجاربي القصصية الجديدة (وهي ليست نماذج لمجلة N. O.  ولكنها ربما تكون مناسبة لمجلة R. F.  وأمثالها). هي رؤية للبشرية وقد انحدرت إلى أدنى مستويات منحناها الهابط، البشرية بوصفها جحر نمل، لا يحتفظ فيه بفرديته العتيقة إلا كل ذي ذاكرة مشوشة. وهي أيضا نفاية. فإن رأيت أنها لم تعجبك، أو أنك لا تريد أن تفعل بها أي شيء، فأرجعها إليّ.
[...] باسكال:  أمس فقط اكتشفت من جياني، مبعوثه الخاص إلى تورين أن تصريح إجازته لم يضع، وأنه سوف يتقدم عما قريب للالتحاق بالصف الأول لدراسة الزراعة، وهو في الوقت الراهن لا يفعل أي شيء عدا أنه يحب ماريا كاميلا في صمت. جياني: يقوم برحلات قصيرة إلى تورين دون أن يخبر أحدا. جيوفاني: يحيلون حياته إلى جحيم مما لا يخفى عليك. ميليو: تجده لوهلة في أكوي، لوهلة في سان ريمو، معجب بـ لابرا المزمومة (ملتصقة الشفتين). ... دينتوني: ملازم ثان في ساليرنو. أنا: فل الفل، وأنت؟
ثم يأتي الدور على تشيخوف. تقول وما علاقته؟ وتقول إني جننت. لأن مسرح تشيخوف هو مسرح الوضعية الحداثية، والمفهوم المأساوي للكون الذي لا غرض له، والبشر الذين لا تلقى "لماذا"ـتهم أجوبة ويحاولون إخفاء لا غرضية الوجود بالزائف من المثاليات. هذا مسرحي (ومسرحك). وأسلوب عمله، أسلوبه الذي يجعل مسرحه تقريبا غير قابل للأداء المسرحي ومدوِّخا، ذلك أيضا جزء من هذه الحداثة يؤخذ حتى أقصة توابعه مفضيا بدقة إلى الواقعية القذرة  في أقصى وضعيتها: أي الانطباعية. فيما بعد هذا الحد، يستحيل المضي قدما: ستكون هناك ردود أفعال، أشكال من المثالية في الفلسفة، من التعبيرية في الفن، ولكنها ستكون محض مخدرات، أشياء تقام في الخواء، إن ما تعانيه شخصيات تشيخوف من عذاب إنما هو ماثل في تفكيرنا لأنه عذاب لا ينتهي ولا حل له.
[...] بما أن رحلتك إلى فلورنسا انتهت، فأنا في انتظارك. ولو بقيت معي فلوس بعد عودتي فسوف أحضر إلى روما: سيكون الأمر ممكنا جدا من زاوية القطارات، أما بالنسبة لي، فأنا واثق أنه لن يبقى معي نقود، ولو حدث، سأفضّل أن أشتري بعض الكتب.
إيتالو
***
إلى يوجينيو سكالفاري، روما
سان ريمو5/6/43
أوضح لو سمحت:
ما كل هذا الهراء الذي تعطيه لي بخصوص الفن النقي والفن غير النقي؟ كأننا لم نعرف بعضنا جيدا ولم نناقش هذا الموضوع أبدا. كأنك لم تعرف يوما من يكون إيتالو كالفينو، ما يريده، وما يقوله. انس أي ندم: لقد كان فني وسوف يبقى دائما اجتماعيا مع محاولتي أن يبقى فنا بقدر المستطاع، تماما كما في شعر أونجاريتي حيث هناك دائما مقولة أخلاقية حتى في أقصى غنائيته: "مدورة بما يكفي لتعذيبي tonda quel tanto che mi dà tormento ". الطريف أنك منذ عام تقريبا كنت تكتب لي رسائل ملتهبة عن ضرورة التفات الفن للطبيعة الاجتماعية فأرد عليك برسائل أشد حرارة أقول فيها ما لا يعلمه إلا الله. علينا بجد أن نحرق هذه المراسلات.
على أية حال، أنا زهقت من كتابة القصص. وأبدأ حاليا في العمل على تطوير أسلوب، وقد تكون هذه بادرة جيدة، بعدما حاكيت أساليب الآخرين كثيرا، يمكنني الآن أن أحتمل محاكاة نفسي لوهلة. وعموما القصص التي أرفقها لك مع هذه الرسالة هي القصص الأخيرة. (من بينها واحدة لم أجد وقتا لطباعتها على الآلة الكاتبة ولعلها لا تستحق ذلك أصلا). افعل بها ما تشاء، لك حتى أن تمزقها. لكن احرص على القصة التي تدور حول لعبة الـ tip-cat. إنني أبعثها إليك والسلام، برغم أنني لا أعتقد بإمكانية نشرها. واحذر: لأن جاروني وحده هو الذي قد يراها متسقة مع السلطات ذات الشرعية الدستورية. لو تبين أنها غير قابلة للنشر، فلا تعط القصة الأخرى أيضا لـ N. O.، فهي لا تستحق ولا حتى قصة واحدة، ربما تعطيها لـ جيجليوزي، ولا تشغل بالك بمكافأة النشر. وما قصدك أنها بالية على مستوى الشكل؟ أتعرف كم تعبت في صقلها، كلمة كلمة، وصولا إلى هذا الأسلوب البسيط الخام غير المتكلف؟
[...] ها هنا أيام مثالة للاستحمام تتناوب علينا مع أيام ملبدة بالغيوم. كلنا مرعوبون من الامتحانات. ذهب باسكال إلى الريف ولن يرجع قبل يوليو. وهناك عصابة جديدة تتشكل بزعامة فيردون ولانيرو. أعتقد أنهم يريدون التعاون معنا. لكن هذا لن ينفع. ماريسا مرتبطة ارتباطا شديدا بكتبها. روزيتا كثيرة الخروج إما وحده أو بصحبة رجل.  جدتي شأن كل العجائز.
اراك عما قريب،
وإلا ففي أغسطس.
اكتب لي.

المايسترو
***


إلى يوجينيو سكالفاري ـ روما
سان ريمو 6/7/45
عزيزي يوجينيو
كنت بدأت أعتقد أنك مِتَّ بعدما لم أتلق منك أي رد على الرسائل العديدة التي بعثتها إليك، منذ التحرير إلى الآن، ثم وصلتني قبل أيام بطاقتك البريدية. كلنا أحياء، أنت، حيثما أنت، لن تفهم قط كيف مرت علينا هذه الفترة، وكيف يتحتم على كل من مر بها أن يعتبر نفسه محظوظا. وإن لي الحق أكثر من أي شخص آخر في أن أقول هذا، لأن حياتي على مدار هذا العام كانت عبارة عن دوامة من المغامرات: كنت طوال تلك الفترة مع الثوار، ومررت بسلسلة من الأخطار والآلام، عرفت السجن والهروب، وكم من مرة كنت فيها على شفير الموت. لكنني سعيد بكل ما فعلته، بثروة الخبرات التي تكدست لديّ، حتى أنني كنت أتمنى لو أنني مررت بالمزيد. لقد شرحت في رسالة سابقة مغامرتي بالتفصيل، وإنني حزين فعلا لضياعها. والآن أنا منهمك في الصحافة والسياسة. أنا شيوعي، كامل الاقتناع، ومتفان تماما في قضيتي. غدا أذهب إلى تورين لإنهاء التعاون بيني وبين جريدة أسبوعية هناك. لكنني راجع سريعا وسوف يسرني أن أراك. كنت أتخيل أن تصبح طلقة في حزب الفعلPartito d’Azione  [الاشتراكي] أو ما يماثله، ولكنني فزعت لما عرفت أنك قضيت كل تلك الفترة مع الأناشيد الرعوية. جميع أصدقائنا القدامى لا يزالون أحياء. لم يكلل أحدهم نفسه بالمجد، إلا جياني الذي يحسب له أنه قضى سنة في الجبال يعمل قوميسار لمجموعة جاريبالديني. أما الآن فهو غارق حتى أذنيه في انتقاد كل الناس وكل الأشياء: كان من قبل عنده حزب واحد يكيل له النقد، الآن عنده خمسة أحزاب أو ستة يشوهها! سِلفيو ظل طوال كل تلك الفترة حبيس المستشفى. باسكال ـ الذي رجع للتو ـ في قلعته. ميليو كان يقوم بتنظيم قوات بادوجلياني الصيف الماضي. وما "العصابة" إلى تذكرة بالأيام  الخوالي.
سان ريمو في حالة فوضى حقيقية بعد القصف الجوي والبحري المستمرين. أمس واليوم ذهبت إلى بيتك، لكن أحدا لا يرد. ومكتوب على الباب “Minaglia”. يبدو البيت من الخارج متضررا بشدة، لكنه غير محطم.
سلّم لي على أبويك، أما أبواي أنا فيرسلان إليك أطيب التحيات. هما أيضا رأيا الكثير يا أخي: كل منهما تعرض للاعتقال لمدة شهر واعتبر رهينة، وأبي كان على وشك أن يعدم بالرصاص أمام عيني أمي.
أراك قريبا، اكتب لي.
إيتالو
يتبع

نشرت هذه الترجمة في شرفات صباح اليوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق